التفسير المنير - ج ٢٧

الدكتور وهبة الزحيلي

لأن معاقبة العصاة المجرمين ، وتنعيم المتقين من فضله ورحمته وعدله ولطفه بخلقه ، وكان إنذاره لهم عن عذابه وبأسه مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي وغير ذلك.

أنواع نعم الله على المتقين في الآخرة

ـ ١ ـ

وصف الجنات

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١))

الإعراب :

(ذَواتا أَفْنانٍ ذَواتا) تثنية (ذات) التي أصلها (ذوية) فتحركت الواو وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفا ، فصارت (ذوات) إلا أنه حذفت الواو من الواحد للفرق بين الواحد والجمع. ودل عود الواو في التثنية على أصلها في الواحد.

(مُتَّكِئِينَ) حال منصوب من المجرور باللام في قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) أي ثبت لهم جنتان في هذه الحال ، أو عامله محذوف أي يتنعمون.

٢٢١

(كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) : في موضع نصب على الحال من (قاصِراتُ الطَّرْفِ) وتقديره : فيهن قاصرات الطرف مشبهات الياقوت والمرجان.

البلاغة :

(وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ) جناس ناقص أو جناس الاشتقاق ، لتغير الشكل والحروف. (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) إيجاز بحذف الموصوف وإبقاء الصفة ، أي نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن.

المفردات اللغوية :

(لِمَنْ خافَ) لكل من خاف ، بأن كفّ عن المعاصي واتبع الطاعات ، والأصل في الخوف : توقع مكروه في المستقبل ، وهو ضد الأمن. (مَقامَ رَبِّهِ) قيامه بين يدي ربه للحساب ، فترك معصيته ، أي خاف الموقف الذي يقف فيه العباد للحساب ، أو قيامه على أحواله واطلاعه عليه. (جَنَّتانِ) روحانية وجسمانية. (أَفْنانٍ) أغصان جمع فنن كطلل ، أو أنواع من الأشجار والثمار ، جمع فنّ. (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) حيث شاؤوا في الأعالي والأسافل ، قيل : إحداهما التسنيم ، والأخرى السلسبيل.

(فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ) من كل نوع من أنواع الفاكهة. (زَوْجانِ) صنفان أو نوعان : رطب ويابس. (فُرُشٍ) جمع فراش للنوم والراحة. (بَطائِنُها) جمع بطانة وهي القماش الرقيق الداخلي. (إِسْتَبْرَقٍ) ما غلظ من الديباج وخشن ، أي الحرير الثخين ، والظهائر : من السندس. (وَجَنَى) ثمر. (دانٍ) قريب التناول ، يناله القائم والقاعد والمضطجع.

(فِيهِنَ) أي في الجنتين وما اشتملتا عليه من الفرش والقصور والعلالي والحور ونحوها أو في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى (الثمر). (قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن المتكئين من الإنس والجن ، لا ينظرن إلى غيرهم ، وهن من الحور أو من نساء الدنيا. (لَمْ يَطْمِثْهُنَ) لم يمسسهن أو لم يفتضهن ، وفيه دليل على أن الجن يطمثون. (إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) لا من الإنس ولا من الجن.

(كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ) في صفاء الياقوت أو في حمرة الوجه ، والياقوت : الحجر الأملس الصافي المعروف. (والمرجان) هو الخرز الأحمر ، أو صغار اللؤلؤ والدر في بياض البشرة وصفائها ، وتخصيص الصغار لأنهن أنصع بياضا من الكبار. (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ) في العمل. (إِلَّا الْإِحْسانُ) في الثواب ، وهو الجنة.

٢٢٢

سبب النزول :

نزول الآية (٤٦):

(وَلِمَنْ خافَ ..) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق ، وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ابن حيان في كتاب العظمة عن عطاء : أن أبا بكر الصديق ذكر ذات يوم القيامة والموازين والجنة والنار ، فقال : وددت أني كنت خضراء من هذه الخضر ، تأتي علي بهيمة تأكلني ، وأني لم أخلق ، فنزلت : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ).

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى ما يلقاه المجرمون : المشركون وأمثالهم من الكفار والفجار العصاة من ألوان العذاب الأخروي ، ذكر هنا ما أعدّه الله عزوجل للمؤمنين المتقين الذين يخافون ربهم في السر والعلن من أنواع النعيم الروحي والمادي في الجنة ، من قصور ، ورياض غنّاء ، وبساتين خضراء ، وأنهار جارية ، وفواكه متنوعة ، وفرش حريرية ، ونساء حسان كالياقوت صفاء ، واللؤلؤ أو الدر بياضا ، بسبب ما قدموا من صالح الأعمال. والخلاصة : أنه لما ذكر أحوال أهل النار ، ذكر ما أعدّ للأبرار.

التفسير والبيان :

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي ولمن خشي الله وراقبه ، فهاب الموقف الذي يقف فيه العباد بين يدي الله للحساب ، وحسب الحساب لإشراف الله تعالى على أحواله ، واطلاعه على أفعاله وأقواله جنتان : روحية وجسمانية ، أما الروحية فهي رضا الله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة ٩ / ٧٢] وأما الجسمانية فهي متع مادية كمتاع الدنيا وأسمى ، بسبب أعماله

٢٢٣

الصالحة. فبأي نعم الله تكذبان أيها الثقلان ، فإن نعيم الجنان لا مثيل له ، فضلا عن الخلود والدوام فيه ، ولا مانع أن يعطي الله جنتين وجنانا عديدة.

والصحيح ـ كما قال ابن عباس وغيره ـ أن هذه الآية عامة في الإنس والجن ، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا.

أخرج البخاري ومسلم وأصحاب السنن إلا أبا داود عن أبي موسى الأشعري قال : «جنان الفردوس أربع جنات : جنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء ، على وجهه ، في جنة عدن».

وأخرج ابن جرير والنسائي عن أبي الدرداء : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ يوما هذه الآية : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت : وإن زنى وإن سرق؟ فقال : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت : وإن زنى وإن سرق؟ فقال : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال : «وإن رغم أنف أبي الدرداء».

ثم وصف هاتين الجنتين ، فقال : (ذَواتا أَفْنانٍ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي ذواتا أغصان نضرة حسنة ، تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة ، أو ذواتا أنواع من الأشجار والثمار ، فبأي نعم الله تكذبان يا معشر الجن والإنس ، فإن هذا الجمال وهذه النعمة لمما يحرص عليها العقلاء.

(فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي في كل واحدة من الجنتين عين جارية ، فهما عينان تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان ، فتثمر من جميع الألوان. قال الحسن البصري : إحداهما يقال لها : تسنيم ، والأخرى السلسبيل. فبأي نعم الله يحدث التكذيب؟ فتلك حقيقة قطعية ، ونعمة عظيمة.

٢٢٤

(فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي في الجنتين من كل نوع يتفكه به ومن جميع أنواع الثمار صنفان ونوعان ، يستلذ بكل نوع منهما ، أحدهما رطب والآخر يابس ، لا يتميز أحدهما عن الآخر في الفضل والطيب خلافا لثمار الدنيا ، بل فيهما مما يعلم وخير مما يعلم ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. فبأي شيء من هذه النعم تكذبان يا إنس ويا جن؟ قال ابن عباس : ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء ، يعني أن بين ذلك بونا عظيما ، وفرقا واضحا.

وبعد ذكر الطعام ذكر الفراش ، فقال :

(مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ، وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي إن أهل الجنة يضطجعون ويجلسون ويتنعمون على فرش بطائنها (وهي التي تحت الظهائر) من إستبرق (وهو ما غلظ من الديباج ، أو الديباج الثخين) قال ابن مسعود وأبو هريرة : هذه البطائن ، فكيف لو رأيتم الظواهر؟ وقيل لسعيد بن جبير : البطائن من إستبرق ، فما الظواهر؟ قال : هذا مما قال الله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة ٣٢ / ١٧]. وقال ابن عباس : إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم ، فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله.

وثمر الجنتين قريب التناول منهم متى شاؤوا وعلى أي صفة كانوا ، كما قال تعالى : (قُطُوفُها دانِيَةٌ) [الحاقة ٦٩ / ٢٣] وقال سبحانه : (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) [الإنسان ٧٦ / ١٤] أي لا تمتنع ممن تناولها ، بل تميل إليه من أغصانها. فبأي شيء من هذه النعم يحصل التكذيب والإنكار؟! ثم ذكر تعالى أوصاف الحور والنساء ، فقال :

(فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما

٢٢٥

تُكَذِّبانِ) أي هناك نساء في الجنتين المذكورتين وما فيهما من أنهار وعيون وفرش وغيرها ، أو في هذه الآلاء (النعم) المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى (الثمر) أو في الجنان ، لأن ذكر الجنتين يدل عليه ، ولأنهما يشتملان على أماكن ومجالس ومتنزهات ، وهن نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن ، لا ينظرن إلى غيرهم لم يمسسهن ولم يفتضهن ولم يجامعهن قبلهم أحد من الإنس والجن ، لأنهن خلقن في الجنة ، فبأي النعم تكذبان أيها الثقلان؟! والطمث : الافتضاض. ثم نعت (وصف) النساء بقوله :

(كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي كأن تلك النسوة الياقوت صفاء ، وصغار اللؤلؤ بياضا ، فبأي نعمة تكذبان؟

والياقوت : هو الحجر الصافي الكريم المعروف ، والمرجان : حجر يؤخذ من البحر ، وهو الأحمر المعروف. قال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم : في صفاء الياقوت وبياض المرجان. فجعلوا المرجان هنا اللؤلؤ.

أخرج الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والتي تليها على ضوء كوكب درّي في السماء ، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان ، يرى مخ ساقهما من وراء اللحم ، وما في الجنة أغرب».

ثم بيّن الله تعالى سبب هذا الثواب فقال :

(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي ما جزاء من أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة ، فهاتان الجنتان لأهل الإيمان وصالح الأعمال ، كما قال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس ١٠ / ٢٦].

٢٢٦

أخرج البغوي والبيهقي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس بن مالك قال : «قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) وقال : هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : يقول : هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة».

وبما أن الذي ذكر هنا نعم عظيمة لا يقابلها عمل ، بل مجرد تفضل وامتنان ، قال تعالى بعد ذلك : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يأتي :

١ ـ لكل من خاف المقام بين يدي ربه للحساب ، فترك المعصية ، أو خاف إشراف ربه واطلاعه عليه جنتان ، أي لكل خائف جنتان على حدة ، ذكر المهدوي والثعلبي عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الجنتان : بستانان في عرض الجنة ، كل بستان مسيرة مائة عام ، في وسط كل بستان دار من نور ، وليس منها شيء إلا يهتز نغمة وخضرة ، قرارها ثابت ، وشجرها ثابت».

٢ ـ تلك الجنتان : ذواتا ألوان من الفاكهة والأغصان والأشجار والثمار ، وفي كل واحدة منهما عين جارية ، تجريان بالماء الزلال ، إحدى العينين : التسنيم ، والأخرى السلسبيل ، كما تقدم من قول الحسن.

وفيهما أيضا من كل ما يتفكه به صنفان أو نوعان ، وكلاهما حلو يستلذ به ، قال ابن عباس : ما في الدنيا شجرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو. وثمر الجنة (الجنى) قريب التناول لكل إنسان ، خلافا لجنة دار الدنيا.

٣ ـ أهل الجنة يضطجعون ويجلسون على فرش بطائنها (جمع بطانة : وهي

٢٢٧

التي تحت الظهارة) من إستبرق (ما غلظ من الديباج وخشن) وإذا كانت البطانة التي تلي الأرض هكذا ، فما ظنك بالظهارة؟ كما قال ابن مسعود وأبو هريرة ، وهذا يدل على نهاية شرفها ، وتمتع أهلها بالثواب والنعيم العظيم. والظاهر أن لكل واحد فرشا كثيرة ، لا أن لكل واحد فراشا واحدا. والاتكاء يدل على صحة الجسم وفراغ القلب والشعور بالمتعة والسرور البالغ.

٤ ـ في الجنات وما فيها من ألوان النعمة نساء قاصرات الأبصار على أزواجهن ، لا ينظرن إلى غيرهم ، بكارى ، لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن هؤلاء أحد.

٥ ـ في قوله تعالى : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) دليل على أن الجن تغشى كالإنس ، وتدخل الجنة ، ويكون لهم فيها جنيّات ، ودليل على أن نساء الآدميات قد يطمثهن الجان ، والطمث : الافتضاض أو الجماع ، وأن الحور العين قد برئن من هذا العيب ونزّهن. قال ضمرة : للمؤمنين من الجن أزواج من الحور العين ، فالإنسيات للإنس ، والجنيات للجن.

٦ ـ من أوصاف تلك النساء : أنهن في صفاء الياقوت وبياض المرجان. روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقيها من وراء سبعين حلّة ، حتى يرى مخّها» وذلك بأن الله تعالى يقول : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ). والياقوت كما تقدم : حجر أملس شديد الصفاء. والمرجان : صغار الدر أو اللؤلؤ.

٧ ـ ترتيب النعم في غاية الحسن ، فإن الله تعالى ذكر أولا المسكن وهو الجنة ، ثم بيّن ما يتنزه به من البساتين ، فقال : (ذَواتا أَفْنانٍ ، ... فِيهِما عَيْنانِ ...) ثم ذكر ما يتناول من المأكول ، فقال : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ) ثم ذكر موضع الراحة بعد التناول وهو الفراش ، ثم ذكر ما يكون في الفراش معه من الحوريات.

٢٢٨

٨ ـ أردف الله تعالى كل نعمة بتوبيخ من ينكرها أو يكذب بها ، ومنها نعم تقابل بعمل ، ونعم هي مجرد فضل وامتنان دون مقابلة عمل.

٩ ـ هذه النعم في الغالب جزاء أو ثواب العمل الصالح في الدنيا ، وهل جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة؟ وآية (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ ..) فيها دلالات واضحة ثلاث : هي ما يأتي :

الأولى ـ رفع التكليف عن العوام والخواص في الآخرة ، وأما الحمد والشكر فهو لذة زائدة على كل لذة سواها.

الثانية ـ إن العبد محكّم في أحوال نعيم الآخرة ، كما قال تعالى : (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) [يس ٣٦ / ٥٧].

الثالثة ـ كل ما يتخيله الإنسان من أنواع الإحسان الإلهي ، فهو دون الإحسان الذي وعد الله تعالى به ، لأن عطاء الكريم لا يحد ولا يوصف ، فالذي يعطي الله فوق ما يرجو العبد ، وذلك على وفق كرمه وإفضاله.

ـ ٢ ـ

وصف آخر للجنات

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥)

٢٢٩

مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨))

الإعراب :

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) أي ولهم من دونهما جنتان ، فحذف «لهم» لدلالة الكلام عليه تخفيفا.

(فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ خَيْراتٌ) : أصله : خيرات بالتشديد ، وقد قرئ به على الأصل ، إلا أنه خفف كتخفيف شيد وهين وميت.

(مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ) حال ، و (رَفْرَفٍ) وهي الوسائد : إما اسم جمع ، كقوم ورهط ، ولهذا وصف ب (خُضْرٍ) وهو جمع أخضر ، كقولك : قوم كرام ، ورهط لئام. أو مع «رفرفة» مثل عبقري جمع عبقرية. و (عَبْقَرِيٍ) : منسوب إلى عبقر : وهو اسم موضع ينسج به الوشي الحسن ، وجمع عبقر : عباقر ، ومن قرأ «عباقريّ» فلا يصح أن ينسب إليه وهو جمع ، لأن النسب إلى الجمع يوجب ردّه إلى الواحد ، إلا أن يسمع بالجمع ، فيجوز أن ينسب إليه على لفظه كمعافريّ وأنماريّ ، ولا يعلم أن عباقر : اسم لموضع مخصوص بعينه.

(تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) يقرأ «ذو الجلال» وصف للاسم ، ويقرأ بالجر على أنه وصف ل (رَبِّكَ).

المفردات اللغوية :

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) أي ومن دون الجنتين المذكورتين الموعودتين للخائفين المقرّبين ، أي ورائهما جنتان أقل منهما. (مُدْهامَّتانِ) شديدتا الخضرة من كثرة الري والعناية ، كأنهما سوداوان ، والدهمة في اللغة : السواد. (نَضَّاخَتانِ) فوارتان بالماء. (فِيهِما فاكِهَةٌ ، وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) عطفهما على الفاكهة بيانا لفضلهما ، فإن ثمرة النخل فاكهة وغذاء ، وثمرة الرمان فاكهة ودواء ، كما قال البيضاوي : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) في الجنتين وما فيهما أو في الجنان نساء خيّرات الأخلاق ، حسان الوجوه ، وخيرات مخففة كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هينون لينون». (حُورٌ) جمع حوراء : بيضاء ، شديدة سواد العين وبياضها. (مَقْصُوراتٌ) مخدّرات مستورات. (فِي الْخِيامِ) جمع خيمة : وهي التي تنصب على أعواد أربعة وتسقف بنبات الأرض ، وأما الخباء : فهو ما يتخذ من شعر أو وبر. وخيام الجنة شبيهة بالخدور ، مصنوعة من الدّر. (لَمْ يَطْمِثْهُنَ) لم يفتضهن أو يجامعهن.

٢٣٠

(رَفْرَفٍ) وسائد ، جمع رفرفة. (وَعَبْقَرِيٍ) طنافس منقوشة عجيبة الوشي نادرة. (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) تقدس وتنزه اسم الله الذي يطلق على ذاته. (ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي ذي العظمة والكبرياء ، أو ذي العظمة والتكريم عن كل ما لا يليق به ، أو الإفضال والإنعام على عباده.

المناسبة :

ذكر الله تعالى في الآيات السابقة بعض أوصاف الجنة التي هي ثواب المتقين الخائفين ربهم ، ثم أردفه بأوصاف أخرى للجنة ، مبينا أولا أن ثواب الخائفين جنتان ، وثواب آخر مثله وهو جنتان أخريان.

التفسير والبيان :

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ، مُدْهامَّتانِ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي وهناك جنتان أخريان للخائفين ، أو هناك جنتان أخريان ، دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة ، لمن دون أصحاب الجنتين السابقتين من أهل الجنة ، تقدم في الحديث : جنتان من ذهب آنيتهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، فالأوليان للمقرّبين ، والأخريان لأصحاب اليمين. وفي الجنتين السابقتين أشجار وفواكه وغير ذلك ، وكذا هاتان الجنتان خضراوان ، فهما من شدة خضرتهما سوداوان في رأي العين ، من شدة الري المائي. وقد فسر ابن عباس وأبو أيوب الأنصاري وغيرهما من الصحابة والتابعين قوله تعالى : (مُدْهامَّتانِ) بأنهما خضراوان ، وذلك مروي في حديث عن أبي أيوب أخرجه الطبراني وابن مردويه.

فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟ فالجنتان في غاية المتعة والنضرة والخضرة ، ولكنهما دون الجنتين المتقدمتين في الرتبة والفضيلة ، فهناك جنتان ذواتا أفنان ، أي أغصان وأشجار وفواكه ، وهنا جنتان خضراوان.

(فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي في الجنتين عينان

٢٣١

فيّاضتان فوّارتان بالماء العذب ، فهناك جنتان تجريان ، وهنا جنتان فوّارتان ، والجري أقوى من النضخ ، قال البراء بن عازب : العينان اللتان تجريان خير من النضاختين. فبأي نعم الله هذه تكذبان أيها الإنس والجن؟

(فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي في هاتين الجنتين فاكهة كثيرة متنوعة ، ومنها ثمر النخيل والرمان ، وإفرادهما بالذكر من بين سائر الفواكه ليس من عطف الخاص على العام كما ذكر البخاري وغيره ، وإنما لمزيد حسنهما ، وكثرة نفعهما بالنسبة إلى سائر الفواكه ، ولشرفهما على غيرهما ، لدوامهما وكونهما غذاء ودواء ، ولوجودهما في الخريف والشتاء.

وقد قال هناك : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) وقال هنا : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع ، من قوله : (فاكِهَةٌ) فهي نكرة في سياق الإثبات لا تعم.

فبأي نعم الله تكذبان يا إنس ويا جن ، فإن هذه النعم تستحق الحمد والشكر.

(فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي في هاتين الجنتين نساء حسان الخلق والخلق ، أو هن ذوات فضل ، خيّرات فاضلات الأخلاق ، حسان الوجوه ، فالخيّرات جمع خيّرة ، وهي المرأة الصالحة الحسنة الخلق ، الحسنة الوجه ، وهو قول الجمهور ، بدليل ما روى الحسن عن أم سلمة قالت : «قلت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ، أخبرني عن قوله تعالى : (خَيْراتٌ حِسانٌ)؟ قال : خيّرات الأخلاق ، حسان الوجوه» وفي حديث آخر أن الحور العين يغنين : نحن الخيرات الحسان ، خلقنا لأزواج كرام.

وقال قتادة : المراد خيرات كثيرة حسنة في الجنة.

٢٣٢

(حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي إن هؤلاء النساء الخيرات حور شديدات البياض ، وفي عيونهن حور ، أي واسعات الأعين ، مع صفاء البياض ، مخدرات محجبات مستورات في خيام الجنة المكونة من الدرّ المجوفة ، فلسن مترددات في الشوارع والطرقات. وقد وصفت نساء الجنتين هناك بأنهن (قاصِراتُ الطَّرْفِ) فهن أعلى منزلة من هؤلاء المذكورات في هذه الآية : (مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) لأنه لا شك أن التي قد قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قصرت ، وإن كان الجميع مخدرات. والعرب يمدحون ويؤثرون النساء الملازمات للبيوت ، لتوافر الصون ، فبأي نعم الله هذه ونحوها تكذبان؟!

(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي لم يمسّهن ولم يجامعهن قبل ذلك أحد من الإنس والجن ، توفيرا للمتقين الخائفين ربّهم ، فبأي نعم الله تكذبان؟! وقد زاد في وصف نساء الجنتين السابقتين بقوله : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي وهم في الجنة متكئون مستندون على وسائد خضراء ، وبسط منقوشة بديعة فاخرة متقنة الصنع ، فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟! وقد وصف الله مرافق الجنتين الأوليين بما هو أرفع وأولى من هذه الصفة ، فإنه تعالى قال هناك : (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ).

وختمت الصفات المتقدمة بقوله : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) فوصف أهلها بالإحسان وهو أعلى مراتب العبادة.

(تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي تقدس وتنزه الله صاحب العزة والعظمة والتكريم على ما أنعم به على عباده المخلصين ، فهو أهل أن يجل فلا يعصى ، وأن يكرم فيعبد ، ويشكر فلا يكفر ، وأن يذكر فلا ينسى.

٢٣٣

ويلاحظ أنه قال سابقا بعد ذكر نعم الدنيا : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) للإشارة إلى فناء كل شيء من الممكنات ، وقال بعد ذكر نعم الآخرة : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) للإشارة إلى بقاء أهل الجنة ذاكرين اسم الله متلذذين به.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ هناك أربع جنان ذات منازل مختلفة لمن خاف مقام ربّه ، فجنتان للمقربين ، ودونهما في المكان والفضل جنتان لأصحاب اليمين ، كما قال ابن زيد ، وقال ابن جريج : هي أربع : جنتان منها للسابقين المقرّبين : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) و (عَيْنانِ تَجْرِيانِ) وجنتان لأصحاب اليمين (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) و (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ). وقد ذكرت ما رواه أبو موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جنتان من فضة ، أبنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب ، أبنيتهما وما فيهما».

٢ ـ لما وصف الله الجنتين لكل فريق أشار إلى الفرق بينهما :

أولا ـ فقال في الأوليين : (ذَواتا أَفْنانٍ) أي ذواتا ألوان من الفاكهة ، وقال في الأخريين : (مُدْهامَّتانِ) مخضرتان في غاية الخضرة من الري.

ثانيا ـ وقال في الأوليين : (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) وفي الأخريين : (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) أي فوّارتان ولكنهما ليستا كالجاريتين ، لأن النضخ دون الجري.

ثالثا ـ وقال في الأوليين : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) فعمّ ولم يخص ، وفي الأخريين : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) ولم يقل : من كل فاكهة.

قال بعض العلماء : ليس الرمان والنخل من الفاكهة ، لأن الشيء لا يعطف

٢٣٤

على نفسه ، إنما يعطف على غيره ، وهذا ظاهر الكلام. وقال الجمهور : هما من الفاكهة ، وإنما أعاد ذكر النخل والرمان لفضلهما وحسن موقعهما على الفاكهة ، كقوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة ٢ / ٢٣٨] ، وقوله : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة ٢ / ٩٨].

وبناء على الرأي الأول قال أبو حنيفة : من حلف ألا يأكل فاكهة فأكل رمّانا أو رطبا ، لم يحنث. وخالفه صاحبه والجمهور.

رابعا ـ وقال في الأوليين : (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ ...) وفي الأخريين : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) يعني النساء ، الواحدة خيرة ، على معنى ذوات خير ، وقرئ «خيّرات» والتي قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قصرت ، كما تقدم. ووصفت الأوليان بقوله : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ).

ويلاحظ أنه سبحانه قال في الموضعين عند ذكر الحور : (فِيهِنَ) وفي سائر المواضع : (فِيهِما) والسرّ في ذلك الإشارة إلى أن لكل حورية مسكنا على حدة ، متباعدا عن مسكن الأخرى ، متسعا يليق بالحال ، وهذا ألذ وأمتع وأهنا للرجل الواحد عند تعدد النساء ، فيحصل هناك متنزهات كثيرة ، كل منها جنة ، وكأن في ضمير الجمع إشارة لذلك. أما العيون والفواكه فلا حاجة فيها لهذا الاستقلال ، فاكتفى فيها بعود الضمير إلى الجنتين فقط.

وهل الحور أكثر حسنا وأبهر جمالا من الآدميات؟ قيل : الحور ، لما ذكر من وصفهن في القرآن والسنة ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه على الميت في الجنازة : «وأبدله زوجا خيرا من زوجه».

وقيل : الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف ، لحديث روي مرفوعا(١).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ١٨٧ وما بعدها.

٢٣٥

والمشهور أن الحور العين لسن من نساء أهل الدنيا ، وإنما هنّ مخلوقات في الجنة ، لأن الله تعالى قال : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات.

خامسا ـ وقال في الأوليين : (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ..) وفي الأخريين : (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) ويلاحظ أن الوصف الأول أرفع وأفخم.

٣ ـ كرر الله تعالى في هذه السورة قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) إحدى وثلاثين مرة : ثمانية منها ذكرها عقيب تعداد عجائب خلقه ، وذكر المبدأ والمعاد ، ثم سبعة منها عقيب ذكر النار وأهوالها على عدد أبواب جهنم ، وبعد هذه السبعة أورد ثمانية في وصف الجنات وأهلها على عدد أبواب الجنة ، وثمانية بعدها عقيب وصف الجنات التي هي دونهما ، فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها ، استحق كلتا الثمانيتين من الله ، ووقاه السبعة السابقة.

٤ ـ نزّه الله تعالى نفسه عما لا يليق بجلاله ، وختم السورة به ، والاسم (اسم الجلالة) مقحم على المشهور للتبرك والتعظيم كالوجه في قوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) ، وهذا لتعليم العباد بأن كل ما ذكر من آلاء ونعم من فضله ورحمته ، وأن من عدله تعذيب العاصين ، وإثابة الطائعين ، فإنه افتتح السورة باسم (الرَّحْمنُ) فوصف خلق الإنسان والجن ، وخلق السموات والأرض وصنعه ، وأنه كل يوم هو في شأن ، ووصف تدبيره فيهم ، ثم قال في آخر السورة : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي هذا الاسم الذي افتتح به هذه السورة ، كأنه يعلم عباده أن هذا كله خرج لكم من رحمتي ، فمن رحمتي خلقكم وخلقت لكم السماء والأرض والخلق والخليقة والجنة والنار ، فهذا كله من اسم الرحمن.

٢٣٦

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الواقعة

مكيّة ، وهي ست وتسعون آية.

تسميتها :

سميت سورة الواقعة ، لافتتاحها بقوله تعالى : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي إذا قامت القيامة التي لا بدّ من وقوعها.

مناسبتها لما قبلها :

تتصل هذه السورة بسورة الرحمن ، وتتآخى معها من وجوه :

١ ـ في كل من السورتين وصف القيامة والجنة والنار.

٢ ـ ذكر تعالى في سورة الرحمن أحوال المجرمين وأحوال المتقين في الآخرة وبيّن أوصاف عذاب الأولين في النار ، وأوصاف نعيم الآخرين في الجنان ، وفي هذه السورة أيضا ذكر أحوال يوم القيامة وأهوالها وانقسام الناس إلى ثلاث طوائف : هم أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، والسابقون ، فتلك السورة لإظهار الرحمة ، وهذه السورة لإظهار الرهبة ، على عكس تلك السورة مع ما قبلها.

٣ ـ ذكر تعالى في سورة الرحمن انشقاق السماء (تصدعها) وذكر هنا رجّ الأرض ، فكأن السورتين لتلازمهما واتحادهما في الموضوع سورة واحدة ، ولكن مع عكس الترتيب ، فذكر في أول هذه السورة ما ذكره في آخر تلك ، وفي آخر هذه ما في أول تلك.

٢٣٧

فافتتح سورة الرحمن بذكر القرآن ثم الشمس والقمر ، ثم النبات ، ثم خلق الإنسان والجان من نار ، ثم صفة يوم القيامة ، ثم صفة النار ، ثم صفة الجنة ، وابتدئت هذه السورة بوصف القيامة وأهوالها ، ثم صفة الجنة ، ثم صفة النار ، ثم خلق الإنسان ، ثم النبات ، ثم الماء ، ثم النار ، ثم النجوم التي لم يذكرها في الرحمن كما لم يذكر هنا الشمس والقمر ، ثم القرآن ، فكانت هذه السورة كالمقابلة لتلك.

ما اشتملت عليه السورة :

ابتدأت السورة بالحديث عن اضطراب الأرض وتفتت الجبال حين قيام الساعة ، ثم صنفت الناس عند الحساب أقساما ثلاثة : أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، والسابقين ، وأخبرت عن مآل كل فريق وما أعده الله لهم من الجزاء العادل يوم القيامة.

وأوضحت أن الأولين والآخرين من الخلائق مجتمعون في هذا اليوم.

ثم أقامت الأدلة على وجود الله الخالق ووحدانيته وكمال قدرته ، وإثبات البعث والنشور والحساب ، من خلق الإنسان ، وإخراج النبات ، وإنزال الماء ، وخلق قوة الإحراق في النار.

ثم أقسم الله عزوجل بمنازل النجوم على صدق تنزيل القرآن من ربّ العالمين ، وأنه كان في كتاب مكنون ، لا يمسه إلا المطهرون ، وندد بالتشكيك في صحته وصدقه.

ولفت الله تعالى النظر إلى ما يلقاه الإنسان عند الاحتضار من شدائد وأهوال. وختمت السورة ببيان عاقبة الطوائف الثلاث وما يجدونه من جزاء ، وهم المقرّبون الأبرار ، السابقون إلى خيرات الجنان ، وأهل اليمين السعداء ، والمكذّبون الضالون أهل الشقاوة ، وأن هذا الجزاء حق ثابت متيقن لا شك فيه.

٢٣٨

وكل ذلك يستدعي الإقرار بوجود الخالق وتنزيهه عما لا يليق به من الشرك ونحوه ، وتوبيخ المكذبين على إنكار وجود الله تعالى وتوحيده.

فضلها :

وردت أحاديث في فضل هذه السورة منها :

١ ـ أخرج الحافظ أبو يعلى وابن عساكر عن عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة ، لم تصبه فاقة أبدا» وفي رواية : «في كل ليلة».

٢ ـ أخرج ابن مردويه عن أنس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سورة الواقعة سورة الغنى ، فاقرؤوها ، وعلّموها أولادكم» وأخرج الديلمي عنه مرفوعا : «علّموا نساءكم سورة الواقعة ، فإنها سورة الغنى».

٣ ـ أخرج الإمام أحمد عن جابر بن سمرة يقول : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم ، ولكنه كان يخفف ، كانت صلاته أخف من صلاتكم ، وكان يقرأ في الفجر الواقعة ونحوها من السور.

٤ ـ أخرج الترمذي عن ابن عباس قال : قال أبو بكر : يا رسول الله ، قد شبت قال : «شيّبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، و (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) ، و (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)» وقال : حسن غريب.

٥ ـ أخرج الثعلبي وابن عساكر في ترجمة عبد الله بن مسعود عن أبي ظبية قال : مرض عبد الله مرضه الذي توفي فيه ، فعاده عثمان بن عفان ، فقال : ما تشتكي؟ قال : ذنوبي ، قال : فما تشتهي؟ قال : رحمة ربي ، قال : ألا آمر لك بطبيب؟ قال : الطبيب أمرضني ، قال : ألا آمر لك بعطاء؟ قال : لا حاجة لي فيه ، قال : يكون لبناتك من بعدك ، قال : أتخشى على بناتي

٢٣٩

الفقر؟ إني أمرت بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة ، إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة ، لم تصبه فاقة أبدا».

قيام القيامة وأصناف الناس

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢))

الإعراب :

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ إِذا) : في موضع نصب إما ب (وَقَعَتِ) لأن (إِذا) فيها معنى الشرط ، فجاز أن يعمل فيها الفعل الذي بعدها ، وإما أن العامل فيه : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) أي وقوع الواقعة وقت رج الأرض ، وإما العامل : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) أي ليس لوقعتها كذب ، و (كاذِبَةٌ) بمعنى كذب ، كالعاقبة والعافية ، وإما العامل فعل مقدر ، أي اذكر.

(خافِضَةٌ رافِعَةٌ) خبر لمبتدأ محذوف ، أي فهي خافضة رافعة ، وهي جواب (إِذا) ويقرأ بالنصب على الحال من الواقعة ، أي وقعت الواقعة في حالة الخفض والرفع.

(إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) بدل من قوله تعالى : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ).

(فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) قيل : هو جواب (إِذا) وهو مبتدأ. و (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) : مبتدأ وخبر ، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول ، والعائد فيها محذوف : أي : «ما هم».

وكذلك قوله : (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) والاستفهام في هذين الموضعين معناه التعجب والتعظيم.

(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ السَّابِقُونَ) الأول : مبتدأ ، والثاني : صفة،

٢٤٠