التفسير المنير - ج ٢٧

الدكتور وهبة الزحيلي

قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود ١١ / ٦] فرجع ولم يكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «ليس الأشعريون بأهون على الله من الدواب».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن مآل المتقين في بساتين فيها عيون جارية ، على نهاية ما يتنزه به ، قابلين قبول رضا ، قريرة أعينهم بما أعطاهم ربهم من الثواب وأنواع الكرامات. وهذا في مقابل مآل الكفار في نار جهنم في الآيات السابقة.

٢ ـ أوصاف المتقين المذكورة في هذه الآيات تنحصر في هذه الآيات تنحصر في هذه إحسانهم العمل وأداء الفرائض قبل دخولهم الجنة في الدنيا ، ومظاهر إحسانهم العمل وأداء الفرائض قبل دخولهم الجنة في الدنيا ، ومظاهر إحسانهم ثلاثة أشياء : تهجدهم بالليل بعد نومهم زمنا قليلا ، واستغفارهم من ذنوبهم بالأسحار (أواخر الليل قبيل الفجر) وأداء حقوق أموالهم من الزكاة المفروضة وصدقات التطوع على سبيل البر والصلة. وإنما أضاف المال إليهم ، وفي مواضع أخرى قال : (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) [يس ٣٦ / ٢٧] لأن هذه الآية للحث على الإنفاق ، وأما الآية التي في هذه السورة فهي مدح على ما فعلوا ، مما يدل على أنهم في غير حاجة إلى التذكير بالحرص المانع من النفقة.

٣ ـ من أدلة قدرة الله على البعث والنشور : خلق الأرض والسماء والأنفس ، ففي الأرض علامات على با هر قدرته ، منها عود النبات بعد أن صار هشيما ، ومنها أنه قدّر الأقوات فيها قواما للحيوانات ، ومنها سيرهم في البلدان التي يشاهدون فيها آثار الهلاك النازل بالأمم المكذبة ، ولا ينتفع بتلك العلامات ولا يتدبر بها إلا الموقنون ، وهم العارفون ربهم الموحّدون إلههم ، المصدّقون بنبوة نبيهم.

٢١

وفي الأنفس البشرية آيات أيضا للمتأملين المؤمنين الموقنين ، من تركيب الجسم العجيب ، وتلازم الروح والجسد ، والعقل والفؤاد ، والقوى والإرادات ، لذا عقبه تعالى بقوله : (أَفَلا تُبْصِرُونَ) يعني بصر القلب ليعرفوا كمال قدرة الله تعالى. وهذا إشارة إلى دليل الأنفس ، وهو كقوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت ٤١ / ٥٣].

وفي السماء أسباب الرزق من مطر وثلج ينبت به الزرع ، ويحيا به الخلق ، وفيها تقدير ما يوعد به البشر من خير وشر ، وجنة ونار ، وثواب وعقاب. وفي الآيات الثلاث ترتيب حسن ، فذكر الأرض وهي المكان ، ثم عمرها وآنسها بالإنسان ، ثم ذكر ما به بقاؤه وهو الرزق.

٤ ـ أكد رب العزة ما أخبر به من البعث ، وما خلق في السماء من الرزق ، وما قدّر من أقوات الحيوانات والنفوس البشرية ، فأقسم عليه بأنه لحق ، ثم أكده بقوله : (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أي مثل نطقكم ، أي إن ذلك ثابت حسّا ، كما يدرك الإنسان يسر نطقه وكلامه. وخص النطق من بين سائر الحواس : لأن ما سواه من الحواس يحدث فيه اللبس والتشبيه.

وهذا قسم ثالث : فبعد أن أقسم تعالى بالأمور الأرضية وهي الرياح ، ثم أقسم بالسماء في قوله : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) أقسم هنا بالذات العلية ، وهذا ترتيب منطقي سليم ، يقسم المتكلم أولا بالأدنى ، فإن لم يصدق به ، يرتقي إلى الأعلى.

٢٢

قصة ضيف إبراهيم ومهمتهم في إهلاك قوم لوط

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧))

الاعراب :

(فَقالُوا : سَلاماً قالَ : سَلامٌ سَلاماً) : منصوب على المصدر أو بوقوع الفعل عليه. و (سَلامٌ) : إما مبتدأ وخبره محذوف ، تقديره : سلام عليكم ، وجاز الابتداء ، لأنه في معنى الدعاء أو خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : أمري سلام عليكم. و (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) خبر مبتدأ ، أي هؤلاء.

(فِي صَرَّةٍ) متعلق بمحذوف حال ، أي كائنة.

(وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) لم يقل : عقيمة ، لأن (عَقِيمٌ) فعيل بمعنى مفعول ، وهذه الصيغة لا تثبت فيها الهاء ، تقول : عين كحيل ، وكف خضيب ، ولحية دهين ، أي عين مكحولة ، وكف مخضوبة ، ولحية مدهونة ، وذلك للتفرقة بين فعيلة بمعنى مفعولة ، وفعيلة بمعنى فاعلة ، نحو : شريفة وظريفة ولطيفة ، وعقيم بمعنى معقومة ، لا بمعنى فاعلة ، فلم تثبت فيها الهاء.

٢٣

(قالُوا : كَذلِكَ قالَ : رَبُّكِ) الكاف في (كَذلِكَ) صفة مصدر محذوف ، تقديره : قال ربك قولا كذلك ، أي مثل ذلك.

البلاغة :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) أسلوب التشويق والتفخيم ، لتفخيم شأن الحديث.

(قَوْمٌ مُنْكَرُونَ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) إيجاز بالحذف ، أي أنتم قوم منكرون ، وأنا عجوز عقيم.

المفردات اللغوية :

(هَلْ أَتاكَ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) ضيوف ، وضيف في الأصل ، مصدر ، ولذلك يطلق على الواحد والجماعة ، كالزّور والصوم ، وكانوا اثني عشر ملكا ، أو تسعة عاشرهم جبريل ، أو ثلاثة : جبريل وميكائيل وإسرافيل ، وسماهم ضيفا ، لأنهم كانوا في صورة الضيف. (الْمُكْرَمِينَ) لأنهم في أنفسهم مكرمون ، كما قال تعالى : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٢٦] أو لأن إبراهيم خدمهم بنفسه ، وأخدمهم امرأته ، وعجل لهم القرى. (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) ظرف لحديث ضيف ، أو للضيف أو المكرمين. (فَقالُوا : سَلاماً) قالوا هذا اللفظ أو نسلم عليكم سلاما. (قالَ : سَلامٌ) أي عليكم سلام ، عدل به إلى الرفع بالابتداء ، لقصد الثبات حتى تكن تحيته أحسن من تحيتهم. (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي أنتم قوم غير معروفين ، قال ذلك في نفسه ، أو صرح به للتعرف عنهم أو بهم.

(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) ذهب إليهم في خفية من ضيفه ، أو مال إليهم سرا ، قال الزمخشري : ومن أدب المضيف أن يخفي أمره ، وأن يباده بالقرى من غير أن يشعر به الضيف ، حذرا من أن يكفه ويعذره. (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) ممتلئ شحما ولحما لأنه كان عامة ماله البقر ، وفي سورة هود : (بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) (٦٩) أي مشوي.

(فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) وضعه بين أيديهم. (قالَ : أَلا تَأْكُلُونَ) منه؟ أي عرض عليهم الأكل فلم يجيبوا. (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أضمر في نفسه منهم خوفا ، لما رأى إعراضهم عن طعامه ، لظنه أنهم جاءوه لشرّ. (قالُوا : لا تَخَفْ) إنا رسل الله. (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي ذي عليم كثير ، هو إسحاق عليه‌السلام ، كما ذكر في هود.

(امْرَأَتُهُ) هي سارّة رضي‌الله‌عنها لما سمعت بشارتهم له ، وكانت في زاوية تنظر إليهم. (فِي صَرَّةٍ) في صيحة ، أي جاءت صائحة. (فَصَكَّتْ وَجْهَها) لطمته بأطراف أصابعها عجبا

٢٤

وحياء ، بأن ضربت بيدها على جبهتها. (وَقالَتْ : عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي أنا عجوز كبيرة السن ، عاقر لم ألد قط ، فكيف ألد؟ وكان عمرها تسعا وتسعين سنة (٩٩) وعمر إبراهيم مائة أو مائة وعشرين.

(قالُوا : كَذلِكَ) أي مثل ذلك الذي بشرنا به. (قالَ رَبُّكِ) هو قول الله ، وإنما نخبرك به عنه. (الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) ذو الحكمة في صنعه ، والعلم الواسع بخلقه. (فَما خَطْبُكُمْ) ما شأنكم الخطير ، قال ذلك لما علم أنهم ملائكة ، وأنهم لا ينزلون مجتمعين إلا لأمر عظيم سأل عنه.

(إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) كافرين ، هم قوم لوط. (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) مطبوخة بالنار وهو السجيل : الطين المتحجر. (مُسَوَّمَةً) معلمة من السّومة : وهي العلامة. (لِلْمُسْرِفِينَ) المجاوزين الحدّ في الفجور ، بإتيانهم الذكور ، مع كفرهم.

(فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها) في قرى قوم لوط ، وأضمرت ولم تذكر سابقا ، لكونها معلومة. (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ممن آمن بلوط ، بقصد إهلاك الكافرين. (غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي غير أهل بيت من المسلمين ، وهم لوط وابنتاه وأتباعه إلا امرأته ، أي مصدقون بقلوبهم عاملون بجوارحهم الطاعات. واستدل به على اتحاد الإسلام والإيمان ، لكنه ـ كما قال البيضاوي ـ استدلال ضعيف ، لأن المراد اجتماع الصفتين فيهم ، وذلك لا يقتضي اتحاد مفهومهما. (وَتَرَكْنا فِيها) بعد إهلاك الكافرين. (آيَةً) علامة دالة على ما أصابهم من الهلاك. (لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) لمن خافوا عذاب الله المؤلم ، فلا يفعلون مثل فعلهم.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى إنكار مشركي مكة للبعث والنشور ، سلّى قلب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان أن غيره من الأنبياء عليهم‌السلام كان مثله ، فقد أوذوا من أقوامهم ، وأعرض هؤلاء عن دعوة رسلهم. وبدأ تعالى بقصة إبراهيم بعد إيرادها في سورة هود والحجر ، لكونه شيخ المرسلين ، وكون النبي عليه الصلاة والسلام على سنته ، وإنذارا لقومه بما جرى من الضيف ، وبيانا لإنزال الحجارة على المذنبين المضلين ، حتى يتعظ أو يعتبر كفار قريش وأمثالهم إلى يوم القيامة. ثم سألهم إبراهيم عن شأنهم وسبب مجيئهم ، فأخبروه بأنهم أرسلوا لإهلاك قوم لوط بحجارة من سجيل بها علامة تدل على أنها أعدت لهم.

٢٥

التفسير والبيان :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ ، فَقالُوا : سَلاماً ، قالَ : سَلامٌ ، قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي هل بلغك خبر قصة إبراهيم عليه‌السلام مع ضيوفه الملائكة المكرّمين عند الله سبحانه الذين جاؤوا إليه في صورة بني آدم ، وهم في طريقهم إلى قوم لوط ، فدخلوا عليه وسلموا بقولهم : سلاما ، أي نسلم عليك سلاما ، فأجابهم بأحسن من تحيتهم بما يدل على الثبات ، فقال : سلام عليكم ، إنكم قوم لا أعرفكم من قبل ، فمن أنتم؟ وقيل : إنه قال دلك في نفسه ، ولم يخاطبهم به ، لأن هؤلاء الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل قدموا عليه في صورة شبان حسان عليهم مهابة عظيمة.

ابتدأ الله تعالى بالاستفهام التقريري تفخيما لشأن الحديث ، ولفتا للنظر والانتباه ، مع تهديد العرب ووعيدهم ووعظهم ، وتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يجري عليه من قومه ، وأطلق عليهم صفة الضيف حيث أضافهم إبراهيم عليه‌السلام ، والضيافة سنة ، وذهب أحمد وجماعة إلى وجوب الضيافة للنزيل ، وحيّوه بصيغة (سَلاماً) التي هي دعاء ، فردّ عليهم الخليل مختارا الأفضل من التسليم ، فقال : (سَلامٌ) لأن الرفع أقوى وأثبت من النصب ، لدلالته على الثبات والدوام. والظاهر الذي يناسب حال إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه لم يقل لهم : (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) ولم يخاطبهم بذلك ، بل أسرّها في نفسه ، فقال : هؤلاء قوم منكرون ، أو قال ذلك لمن معه من أتباعه وخدمه وجلسائه ، لأن التصريح بمثل هذا فيه إيحاش للضيف وعدم إيناس.

(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ ، فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ، قالَ : أَلا تَأْكُلُونَ؟) أي عدل أو ذهب إلى أهله خفية من ضيوفه في سرعة ، فقدم إليهم عجلا سمينا مشويا ، كما في سورة هود : (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)

٢٦

(٦٩) أي مشوي على الرّضف (الحجارة المحماة). وبعد أن أدناه منهم ووضعه بين أيديهم دعاهم بتلطف وأدب ، وعرض حسن قائلا مستحثا : (أَلا تَأْكُلُونَ)؟

وقد انتظمت الآية آداب الضيافة ، فإنه جاء بطعام من حيث لا يشعرون بسرعة ، دون سابق عرض ، لأن إبراهيم عليه‌السلام كان جوادا كريما ، وأتى بأفضل ماله ، وهو عجل فتيّ سمين مشوي ، لأن جلّ ماله كان البقر ، ووضعه بين أيديهم ، ودعاهم على سبيل التلطف في العرض قائلا : ألا تأكلون؟

فأعرضوا ، لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون :

(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أي فلما أعرضوا عن الطعام ولم يأكلوا ، أحسّ في نفسه خوفا منهم ، على عادة الناس أن الامتناع عن الطعام لشرّ مبيت ، وأن من أكل من طعام إنسان ، صار آمنا منه ، فظن إبراهيم عليه‌السلام أنهم جاؤوا للشر ، ولم يأتوا للخير ، كما في سورة هود : (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ ، وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) (٧٠).

(قالُوا : لا تَخَفْ ، وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي قالت الملائكة لإبراهيم : إننا ملائكة رسل من الله تعالى ، كما في آية أخرى : (قالُوا : لا تَخَفْ ، إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) [هود ١١ / ٧٠].

وبشروه (١) بغلام يولد له ، كثير العلم بعد البلوغ ، وهو إسحاق عليه‌السلام ، كما قال تعالى : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ، وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود ١١ / ٧١] وتضمنت البشارة شيئين مفرحين ، هما كونه غلاما ذكرا ، وكونه عالما ، والعلم أكمل الصفات.

__________________

(١) وفي سورة الصافات : وَبَشَّرْناهُ أي بواسطة الملائكة.

٢٧

(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ ، فَصَكَّتْ وَجْهَها ، وَقالَتْ : عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي فلما سمعت امرأته سارّة بشارتهم ، وكانت في ناحية من البيت تسمع كلامهم ، أقدمت صائحة صارخة ، وضربت بيدها على وجهها ، كما هي عادة النساء عند التعجب ، وقالت : كيف ألد ، وأنا كبيرة السن ، وعقيم لا تلد ، حتى في عهد شبابها ، كما جاء في آية أخرى : (قالَتْ : يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ ، وَهذا بَعْلِي شَيْخاً ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) [هود ١١ / ٧٢].

(قالُوا : كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ : إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) أي كما قلنا لك وأخبرناك قال ربّك ، فلا تشكّي في ذلك ، ولا تعجبي منه ، فنحن رسل الله ، والله على كل شيء قدير ، وهو الحكيم في أقواله وأفعاله ، العليم بما تستحقونه من الكرامة وبكل شيء في الكون ، كما جاء في آية أخرى : (قالُوا : أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ ، رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ، إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) [هود ١١ / ٧٢].

وهذه المفاوضة لم تكن مع سارّة فقط ، بل كانت مع إبراهيم أيضا ، حسبما تقدم في سورة الحجر (٥٣ ـ ٥٤) وإنما لم يذكر هنا اكتفاء بما ذكر هناك ، كما أنه لم يذكر هناك اكتفاء بما ذكر هنا وفي سورة هود (٧٢).

ويكون استبعادها الولد لسببين : كبر السن ، والعقم ، فكأنها قالت : يا ليتكم دعوتم دعاء قريبا من الإجابة ، ظنا منها أن ذلك منهم ، مثلما يصدر من الضيف من مجاملات الأدعية ، كقوله : الله يعطيك مالا ويرزقك ولدا ، فقالوا : هذا منا ليس بدعاء ، وإنما ذلك قول الله تعالى : (قالُوا : كَذلِكَ ، قالَ رَبُّكِ) ثم دفعوا استبعادها بقولهم : (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (١).

والسبب في اختلاف تذييل الآيتين حيث قال هنا : (الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) وفي هود قال: (حَمِيدٌ مَجِيدٌ) : أنهم في سورة هود نبهوها إلى القيام بشكر نعم الله ،

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ٢١٥

٢٨

فناسب قولهم : (حَمِيدٌ مَجِيدٌ) لأن الحميد : هو الذي يستحق الحمد والشكر لصدور الأفعال الحسنة منه ، والمجيد : الممجد الذي يستحق الحمد بنفسه وبمجده. وأما هنا فأرادوا التنبيه إلى الحكمة العامة من الولادة في الكبر وبعد العقم طوال الحياة. وهي الدلالة على حكمته وعلمه ، فهو حكيم في فعله يضع الأمور في نصابها ، عليم بشؤون خلقه (١).

وبعد بشارة الملائكة إبراهيم عليه‌السلام بالغلام ، سألهم عن شأنهم وسبب مجيئهم :

(قالَ : فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) أي فما شأنكم الخطير ، وفيم جئتم ، وما قصتكم المثيرة ، وما سبب إرسالكم من جهة الله؟ فأجابوه :

(قالُوا : إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ، لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) أي قالت الملائكة رسل العذاب ورسل البشرى : إنا بعثنا إلى قوم لوط الذين أجرموا بالكفر وارتكاب الفواحش ، لنرجمهم بحجارة من طين متحجر ، مطبوخ بالنار ، كالآجرّ ، معلمة بعلامات تعرف بها ، مخصصة عند الله لهلاك المتمادين في الضلالة ، المجاوزين الحد في الفجور.

ثم أخبر الله تعالى عن أن هذا العذاب ليس عشوائيا يصيب الصالح والطالح ، وإنما فيه تمييز المؤمنين عن المجرمين ، فقال :

(فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي لما أردنا إهلاك قوم لوط ، أخرجنا من كان في تلك القرى من قومه المؤمنين به ، تنجية لهم من العذاب ، فلم نجد غير أهل بيت واحد أسلم وجهه لله ، وانقاد لأوامره ، واجتنب نواهيه ، وهو بيت لوط بن هاران ـ أخي إبراهيم ـ بن تارح ، أي كان لوط ابن أخ إبراهيم الخليل عليهما‌السلام ، آمن

__________________

(١) المرجع والمكان السابق.

٢٩

بعمّه ، وتبعه في رحلاته إلى مصر ، ثم تركه عن تراض ، ونزل إلى سدوم في الأردن.

وكان أولئك المؤمنون هم لوط وأهل بيته إلا امرأته ، قال سعيد بن جبير : كانوا ثلاثة عشر.

ونحو الآية : (قالَ : إِنَّ فِيها لُوطاً ، قالُوا : نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها ، لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) [العنكبوت ٢٩ / ٣٢].

وقد احتج بهذه الآية المعتزلة الذين لا يفرقون بين مسمى الإيمان والإسلام ، لأنه أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين. قال ابن كثير : وهذا الاستدلال ضعيف ، لأن هؤلاء كانوا قوما مؤمنين ومسلمين ، وعندنا أن كل مؤمن مسلم ولا ينعكس ، فاتفق الاسمان هاهنا ، لخصوصية الحال ، ولا يلزم ذلك في كل حال.

والدليل على التفرقة بين الإسلام والإيمان الآية السابقة : (قالَتِ الْأَعْرابُ : آمَنَّا ، قُلْ : لَمْ تُؤْمِنُوا ، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات ٤٩ / ١٤] وحديث الصحيحين عن عمر رضي‌الله‌عنه : «أن جبريل سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا محمد ، أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ، قال : صدقت ، فأخبرني عن الإيمان ، قال : أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه ، قال : صدقت».

ثم أورد الله تعالى العبرة من قصة قوم لوط ، فقال :

(وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي وأبقينا في تلك القرى علامة ودلالة لكل من يخاف عذاب الله ويخشاه وهم المؤمنون ، وهي آثار العذاب المدمر المؤلم ، فإنها ظاهرة مبيّنة ، جعلناها عبرة بما أنزلنا بهم من العذاب والنكال

٣٠

وحجارة السجيل ، وقلبنا ديارهم عاليها سافلها ، وجعلنا محلتهم بحيرة منتنة خبيثة ، وهي بحيرة طبرية. ونظير الآية : (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [العنكبوت ٢٩ / ٣٥].

وهذا دليل على أنه إذا غلب الشر والكفر والفسق ، كان الدمار والهلاك.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي فيما تضمنته من قصتين : قصة البشارة بإسحاق ، والإخبار بإهلاك قوم لوط ، فمن القصة الأولى يستفاد ما يلي :

١ ـ ذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه‌السلام ليبين بها أنه أهلك المكذب بآياته ، كما فعل بقوم لوط.

٢ ـ وصف الله سبحانه الملائكة بكونهم ضيوفا ، ولم يكونوا كذلك ، إكراما لإبراهيم عليه‌السلام في حسابه وظنه ، فلم يكذبه الله تعالى في ذلك.

وهم أيضا عباد مكرمون عند الله عزوجل ، وعند إبراهيم عليه‌السلام ، إذ خدمهم بنفسه وزوجته ، وعجّل لهم القرى ، ورفع مجالسهم ، كما في بعض الآثار.

٣ ـ السنة التحية لكل قادم على غيره ، وهي السلام ، فقال الملائكة : نسلم عليك سلاما ، والمراد من السلام هو التحية وهو المشهور ، فأجابهم إبراهيم عليه‌السلام بأحسن من تحيتهم ، فقال : سلام عليكم ، أي سلام دائم ثابت لا يزول ، لقوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) [النساء ٤ / ٨٦].

٤ ـ أنكرهم إبراهيم عليه‌السلام للسلام الذي هو علم الإسلام والذي لم يكن شائعا في قومه الكفرة ، ولأنهم عليهم‌السلام غرباء غير معروفين ، ولأن أوضاعهم وأشكالهم خلاف ما عليه الناس ، ولإمساكهم عن الكلام.

٣١

٥ ـ بادر إبراهيم عليه‌السلام إلى إكرامهم ، لما اشتهر عنه من الكرم ، ولأن الضيافة من آداب الدين ، وكان في إعداده الطعام لهم في غاية الأدب والتكريم والسمو ، يقال : إن إبراهيم انطلق إلى منزله كالمستخفي من ضيفه ، لئلا يظهروا على ما يريد أن يتخذ لهم من الطعام.

واختار الأجود ، فقدّم إليهم الطعام الدسم وهو عجل سمين مشوي على الحجارة المحماة ، وعرض عليهم الأكل بتلطف وعرض حسن دون أمر ، فقال : (أَلا تَأْكُلُونَ) ولم يقل : كلوا. وأظهر السرور بأكلهم ، وكان غير مسرور بتركهم الطعام ، كما يوجد من بعض البخلاء المتكلفين الذين يحضرون طعاما كثيرا ، ثم يترقبون إمساك الضيف عن الأكل.

٦ ـ أحسّ إبراهيم منهم الخوف في نفسه ، على عادة الناس أن من يمتنع من مؤاكلة المضيف يضمر شرا مبيتا ، فطمأنوه وقالوا له : لا تخف ، وأعلموه أنهم ملائكة الله ورسله ، وبشروه بولد يولد له من زوجته سارّة.

٧ ـ لما سمعت زوجته بالبشارة ، تعجبت وصاحت كما جرت عادة النساء ، حيث يسمعن شيئا من أحوالهن ، يصحن عند الاستحياء أو التعجب ، وكان تعجبها لأمرين : كبر السن والعقم.

٨ ـ أجابها الملائكة بأن ما قالوه وأخبروا به هو قول الله وحكمه ، فلا يصح أن تشك فيه ، وكان بين البشارة والولادة سنة ، وكانت سارّة لم تلد قبل ذلك ، فولدت وهي بنت تسع وتسعين سنة ، وإبراهيم يومئذ ابن مائة سنة ، والله حكيم فيما يفعله ، عليم بمصالح خلقه.

وأما القصة الثانية ففيها ما يأتي :

١ ـ أدرك أبو الأنبياء إبراهيم أن وراء وفد الملائكة الجماعي شيئا خطيرا ،

٣٢

فبعد أن علم وتيقن أنهم ملائكة أرسلوا لأمر خطير ، قال لهم : فما شأنكم وقصتكم أيها الملائكة المرسلون سوى البشارة؟

وإنما عرف كونهم مرسلين لقولهم هنا : (كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ) فهذا يدل على كونهم منزلين من عند الله ، حيث حكوا قول الله.

٢ ـ أجابوه بأنهم أرسلوا إلى قوم مجرمين هم قوم لوط ، لرجمهم بحجارة معروفة بأنها حجارة العذاب ، قيل : على كل حجر اسم من يهلك به. وإنما قال : (مِنْ طِينٍ) لإفادة أن الحجارة من طين متحجر وهو السجّيل ، ولدفع توهم كونها بردا ، فإن بعض الناس يسمي البرد حجارة.

٣ ـ كانت الحاجة إلى قوم من الملائكة ، مع أن الواحد منهم يقلب المدائن بريشة من جناحه ، إظهارا لقدرة الله وتعظيمه وشدة سلطانه وغلبة جنده.

٤ ـ جرت سنة الله تعالى في إنزال الهلاك والدمار العام بإنجاء المؤمنين وتمييزهم ، فلما أراد إهلاك قوم لوط أمر نبيه لوطا بأن يخرج هو مع المؤمنين من أهل بيته إلا امرأته ، لئلا يهلك المؤمنون ، وذلك قوله تعالى : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) [هود ١١ / ٨١].

٥ ـ دلّ قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) على فائدتين (١) :

إحداهما ـ بيان القدرة والاختيار ، لتمييز الله المجرم عن المحسن.

الثانية ـ بيان أنه ببركة المحسن ينجو المسيء ، فإن القرية ما دام فيها المؤمن لم تهلك ، فلما خرج من القرية آل لوط المؤمنون ، نزل العذاب بالباقين.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ٢١٨

٣٣

٦ ـ دل قوله تعالى : (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) على أن الكفر إذا غلب ، والفسق إذا عمّ وفشا ، لا تنفع معه عبادة المؤمنين. أما لو كان أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة ، وفيهم شرذمة يسيرة يسرقون ويزنون ، فلا عذاب.

٧ ـ المؤمنون والمسلمون من آل لوط سواء ، لكن في الحقيقة : الإيمان : تصديق القلب ، والإسلام : هو الانقياد بالظاهر لأحكام الله ، فكل مؤمن مسلم ، وليس كل مسلم مؤمنا ، فسمّاهم تعالى في الآية الأولى مؤمنين ، لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم. قال الرازي مؤيدا التفرقة بين الإيمان والإسلام : والحق أن المسلم أعم من المؤمن ، وإطلاق العام على الخاص لا مانع منه ، فإذا سمي المؤمن مسلما لا يدل على اتحاد مفهوميهما ، فكأنه تعالى قال : أخرجنا المؤمنين ، فما وجدنا الأعم منهم إلا بيتا من المسلمين ، ويلزم من هذا ألا يكون هناك غيرهم من المؤمنين.

٨ ـ إن في تعذيب قوم لوط على الكفر وفاحشة اللواط عبرة وعلامة لأهل ذلك الزمان ومن بعدهم ، غير أن المنتفعين بالعظة والعبرة هم الذين يخشون الله ويخافون عقابه ، والمنتفع بها هو الخائف. وقد عبر عن ذلك في آية أخرى بأبلغ وجه حيث قال تعالى : (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [العنكبوت ٢٩ / ٣٥] فقد وصف الآية بالظهور ، وقال : (مِنْها) لا (فيها) المفيدة للتبعيض ، فكأنه تعالى قال : من نفسها لكم آية باقية ، وذكر أن المنتفع هو العاقل ، والعاقل أعم من الخائف ، فكانت الآية في العنكبوت أظهر ، لأن القصد هناك تخويف القوم ، وهاهنا تسلية القوم ، ويؤكده أنه قال هناك : (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) من غير بيان واف بنجاة المسلمين والمؤمنين بأسرهم ، وقال هنا : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

٣٤

قصص أنبياء آخرين مع أقوامهم

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦))

الإعراب :

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ ..) معطوف على قوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) وتقديره : وفي موسى آيات. (وَهُوَ مُلِيمٌ) الجملة حال من ضمير (فَأَخَذْناهُ).

وكذلك التقدير في قوله تعالى : (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا ..).

وكذلك التقدير في قوله تعالى : (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ ..).

وكذلك التقدير في قوله تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ ..) عند من قرأ بالجر ، ومن قرأ بالنصب فهو منصوب بفعل مقدر ، تقديره : أهلكنا قوم نوح ، أو اذكر قوم نوح.

البلاغة :

(فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) استعارة ، استعار الركن للجنود والجموع ، لأنه يتقوى بهم ، ويعتمد عليهم كما يعتمد على الركن في البناء.

(وَهُوَ مُلِيمٌ) مجاز عقلي ، أطلق اسم الفاعل على اسم المفعول ، أي ملام على طغيانه.

(الرِّيحَ الْعَقِيمَ) استعارة تبعية في قوله : (الْعَقِيمَ) شبه استئصالهم بعقم النساء ، ثم أطلق المشبه به على المشبه ، واشتق منه العقيم بطريق الاستعارة.

٣٥

المفردات اللغوية :

(وَفِي مُوسى) معطوف على قوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ) قال الزمخشري وابن عطية : وهذا بعيد جدا ينزّه القرآن عن مثله. والأصح العطف على قوله : (وَتَرَكْنا فِيها) والمعنى : وجعلنا في قصة موسى آية. (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي مصحوبا متلبسا بسلطان مبين ، أي بحجة واضحة هي معجزاته ، كاليد والعصا. (فَتَوَلَّى) أعرض عن الإيمان. (بِرُكْنِهِ) أي كقوله : نأى بجانبه ، أو فتولى عن الإيمان مع جنوده وأتباعه ، لأنهم له كالركن ، والأصل في الركن : ما يركن إليه الشيء ويتقوّى به ، والمراد هنا : جنوده وأعوانه ، كما في آية : (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) [هود ١١ / ٨٠].

(وَقالَ) لموسى. (ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي هو ساحر أو مجنون ، كأنه نسب الخوارق إلى الجنّ. (فَنَبَذْناهُمْ) طرحناهم. (فِي الْيَمِ) في البحر .. (وَهُوَ مُلِيمٌ) آت بما يلام عليه من الكفر والعناد وتكذيب الرسل ودعوى الربوبية.

(وَفِي عادٍ) أي وفي إهلاك عاد آية. (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) حين أرسلنا عليهم الريح العقيم ، سماها عقيما ، لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم ، أو لأنها لا خير ولا منفعة فيها ، فلا تحمل المطر ولا تلقح الشجر ، وهي الدّبور أو الجنوب أو النكباء. (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) أي ما تترك شيئا مرّت عليه. (إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) كالرماد ، أو كالشيء البالي المتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك ، مأخوذ من الرم : وهو البلى والتفتت.

(وَفِي ثَمُودَ) أي وفي إهلاك ثمود آية. (إِذْ قِيلَ لَهُمْ) بعد عقر الناقة. (تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) إلى انقضاء آجالكم. (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) استكبروا عن امتثال أمره. (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) أي العذاب بعد الثلاثة أيام ، كما في آية : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) [هود ١١ / ٦٥] والصاعقة : نار نازلة بسبب احتكاكات كهربية ، وهي الصيحة المهلكة التي صعقتهم. (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) إليها ، فإنها جاءتهم معاينة بالنهار.

(فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) ما قدروا على النهوض حين نزول العذاب ، وهو كقوله تعالى : (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) [هود ١١ / ٦٧]. (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) أي ممتنعين من العذاب وعلى من أهلكهم.

(وَقَوْمَ نُوحٍ) أي وأهلكنا قوم نوح ، ومن قرأ بالجر فهو عطف على ثمود ، أي وفي إهلاكهم آية. (مِنْ قَبْلُ) قبل إهلاك هؤلاء المذكورين. (فاسِقِينَ) خارجين من طاعة الله ، متجاوزين حدوده.

٣٦

المناسبة :

بعد بيان العظة والعبرة في قصتي إبراهيم ولوط عليهما‌السلام ، من أجل الإيمان بقدرة الله ، عطف تعالى على ذلك قصص أقوام آخرين ، عذبوا على تكذيب الرسل بعذاب الاستئصال ، وهم فرعون موسى وأتباعه ، وعاد وثمود ، وقوم نوح ، وقد تبين في تعذيبهم نهاية الطغاة والمكذبين والكفار الظالمين ، ليثوب الناس إلى رشدهم ، ويؤمنوا بالله وبالبعث ، ويكفّوا عن تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفر برسالته.

التفسير والبيان :

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ، فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ : ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي وتركنا في قصة موسى عليه‌السلام آية وعبرة ، حين أرسلناه إلى الطاغية فرعون الجبار بشيرا ونذيرا بحجة ظاهرة واضحة هي المعجزات كالعصا واليد وما معها من الآيات.

فأعرض استكبارا وعنادا ونأى عن آياتنا بجانبه ، واعتز بجنده وجموعه وقوته ، وقال محقرا شأن موسى : هو إما ساحر أو مجنون ، إذ لم يستطع تفسير ما رآه من الخوارق ، إلا بنسبته إلى السحر أو الجنون ، كما في آية أخرى : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) [الشعراء ٢٦ / ٣٤] وآية : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء ٢٦ / ٢٧].

(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ ، فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ ، وَهُوَ مُلِيمٌ) أي فأخذناه مع جنوده أخذ عزيز مقتدر ، فألقيناهم في البحر ، وفرعون آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان وادعاء الربوبية والعناد والفجور.

وهذا دليل آخر على عظمة القدرة الإلهية على إذلال الجبابرة ، جزاء عتوهم واستكبارهم في الأرض بغير الحق.

٣٧

ثم ذكر الله تعالى قصة عاد ، فقال :

(وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ، ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) أي وتركنا أيضا في قصة عاد آية وعبرة ، حين أرسلنا عليهم ريحا صرصرا عاتية ، لا خير فيها ولا بركة ، لا تلقح شجرا ، ولا تحمل مطرا ، إنما هي ريح الإهلاك والعذاب ، فلا تترك شيئا مرّت عليه من الأنفس البشرية والأنعام والأموال إلا جعلته كالشيء الهالك البالي.

ثم أبان الله تعالى قصة ثمود ، فقال :

(وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ : تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي وتركنا في قصة ثمود آية ، حين قلنا لهم : عيشوا متمتعين في الدنيا إلى وقت الهلاك ، كما قال تعالى : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود ١١ / ٦٥].

فتكبروا عن امتثال أمر الله ، فنزلت بهم صاعقة من السماء أهلكتهم ، والصاعقة : هي كل عذاب مهلك ، وهم يرونها عيانا بالنهار ، أو هم ينتظرون ما وعدوه من العذاب ، وذلك أنهم انتظروا العذاب ثلاثة أيام ، فجاءهم في صبيحة اليوم الرابع بكرة النهار ، جزاء وفاقا لما اقترفوا من آثام ومعاص.

(فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ ، وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) أي لم يقدروا على القيام والهرب من تلك الصرعة ، بل أصبحوا في دارهم هلكى جاثمين ، ولم يكونوا ممتنعين من عذاب الله ، ولم يجدوا نصيرا ينصرهم ويدفع عنهم العذاب.

ثم أعقبه بقصة قوم نوح ، فقال :

(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي وأهلكنا بالطوفان قوم نوح من قبل هؤلاء ، لتقدم زمنهم على زمن فرعون وعاد وثمود ، لأنهم كانوا قوما خارجين عن طاعة الله ، متجاوزين حدوده.

٣٨

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه نهاية الطغاة الظالمين وعاقبة الكفار المكذبين ، أخبر بها تعالى للعظة والعبرة ، وهي تذكّر بحال أربعة أقوام.

ـ فإن الله تعالى أرسل موسى عليه‌السلام مؤيدا بالدليل الباهر والحجة القاطعة والمعجزات كالعصا واليد ، إلى فرعون الطاغية الجبار ، فأعرض عن الإيمان بجنوده وجموعه ، وكذبوا برسالته ، ووصف فرعون موسى بأنه ساحر يأتي الجن بسحره أو يقرب منهم ، والجن يقربونه ويقصدونه إن لم يقصدهم ، فيصير كالمجنون ، فالساحر والمجنون كلاهما أمره مع الجن ، غير أن الساحر يأتيهم باختياره ، والمجنون يأتونه من غير اختياره.

فكان عاقبتهم الإغراق في البحر لكفرهم وتوليهم عن الإيمان ، وإتيان فرعون بما يلام عليه من ادعاء الربوبية والطغيان والعناد.

ـ كذلك أرسل الله هودا عليه‌السلام إلى قبيلة عاد ، فكذبوه واستكبروا عن دعوته ، وعكفوا على عبادة الأصنام ، فاستأصلهم الله وأهلكهم بريح صرصر عاتية ، لا رحمة فيها ولا بركة ولا منفعة ، وهي كما قال مقاتل : الدّبور ، كما في الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصرت بالصّبا ، وأهلكت عاد بالدّبور» وقيل : هي الجنوب ، لما روى ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الريح العقيم : الجنوب» وقال ابن عباس : هي النكباء.

وكان تأثير تلك الريح شديدا مرعبا ، فلم تمر بشيء من الأنفس والأموال والديار إلا جعلته كالشيء الهشيم ، أو كالشيء الهالك البالي ، كما قال تعالى : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) [الأحقاف ٤٦ / ٢٥].

ـ وأرسل الله أيضا نبيه صالحا عليه‌السلام إلى قبيلة ثمود الذين متعهم الله تعالى بالخيرات في الدنيا ، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، فخالفوا أمر

٣٩

الله ، واستكبروا عن الامتثال به ، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون إليها نهارا ، وهي كل عذاب مهلك ، وهي نار من السماء ، أو صيحة منها ، أي صوت شديد ، فهلكوا ، ولم يتمكنوا من النهوض فضلا عن الهرب والفرار ، وما كان لهم ناصر ينصرهم ويمنعهم من العذاب حين أهلكوا.

ـ وقبل هؤلاء أرسل الله نوحا عليه‌السلام إلى قومه ، فأمرهم بترك عبادة الأصنام ، والاتجاه إلى عبادة الله الواحد الأحد ، فأبوا وعاندوا واستمروا على كفرهم ، فأهلكهم الله بالطوفان ، جزاء على كفرهم وبغيهم ووثنيتهم.

وأنواع العذاب في إهلاك الأقوام السابقة تدل على أن الله قادر على أن يعذب ويحقق الفناء بما به البقاء والوجود أو عناصر الحياة الأربعة : وهي التراب والماء والهواء والنار ، فعذب قوم لوط بالتراب ، وعذب قوم نوح وقوم فرعون بالماء ، وعذب عادا بالهواء ، وثمود بالنار.

إثبات وحدانية الله وعظيم قدرته

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١))

الاعراب :

(فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) نعم : فعل ماض للمدح ، و (الْماهِدُونَ) فاعل ، والمخصوص بالمدح محذوف ، تقديره : فنعم الماهدون نحن ، فحذف المقصود بالمدح.

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ) متعلق بقوله بعده : (خَلَقْنا).

٤٠