التفسير المنير - ج ٢٧

الدكتور وهبة الزحيلي

٧ ـ النعمة التاسعة : خلق آلة الميزان لإقامة العدل في المعاملات ، ومنع المنازعات وكفالة استقرار الناس وإبقاء ظاهرة الودّ والصفاء والوئام بينهم.

لذا نهى الله تعالى عن الطغيان في الوزن وهو تجاوز الحد أو الزيادة بعد الأمر بالتسوية والتعادل ، ثم نهى عن الخسران الذي هو النقص والبخس في الوزن والكيل ، كما قال تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ، الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين ٨٣ / ١ ـ ٣] ، وقال سبحانه : (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) [هود ١١ / ٨٤].

قال قتادة في هذه الآية : اعدل يا ابن آدم ، كما تحبّ أن يعدل لك ، وأوف كما تحبّ أن يوفّى لك ، فإن العدل صلاح الناس.

٨ ـ النعمة العاشرة : خلق الأرض ممهدة مبسوطة للناس.

٩ ـ النعمة الحادية عشرة : اشتمال الأرض على متعة الحياة وأقوات الإنسان والحيوان ، وهو كل ما يتفكه به الإنسان من ألوان الثمار ، وإنبات النخيل مصدر التمور ، وإخراج الحبّ كالحنطة والشعير ونحوهما ، والعصف : وهو التبن ، أو ورق الشجر والزرع ، والرياحين.

١٠ ـ بعد إيراد هذه النعم ، خاطب الله تعالى ـ كما تقدم ـ الجنّ والإنسان بقوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) لتقرير النعمة وتأكيد التذكير بها. وقد تقدم

حديث الترمذي عن جابر بن عبد الله قال : قرأ علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال : «ما لي أراكم سكوتا؟! للجنّ كانوا أحسن منكم ردّا ، ما قرأت عليهم هذه الآية مرة إلا قالوا : ولا بشيء من نعمك ربّنا نكذّب ، فلك الحمد».

٢٠١

ـ ٢ ـ

توضيح أحوال بعض النعم

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥))

الإعراب :

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ) مرفوع إما بدل من ضمير (خَلَقَ) أو على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو ربّ المشرقين.

(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) أي يخرج من أحدهما ، لأن اللؤلؤ والمرجان لا يخرج من العذب ، وإنما يخرج من الملح ، فحذف المضاف وهو «أحد» وأقام المضاف إليه مقامه ، كقوله تعالى : (عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف ٤٣ / ٣١] أي من إحدى القريتين ، فحذف المضاف.

(وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) الكاف في موضع نصب على الحال من ضمير في (الْمُنْشَآتُ).

البلاغة :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) ، (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) بينهما مقابلة.

(وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) تشبيه مرسل مجمل ، أي كالجبال في العظم والضخامة والثبات فوق الشيء.

٢٠٢

المفردات اللغوية :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ) أصل الإنسان وهو آدم (صَلْصالٍ) طين يابس له صلصلة أي صوت ، إذا نقر (كَالْفَخَّارِ) وهو الخزف : وهو ما طبخ من طين أو الطين المطبوخ حتى يتحجر. (وَخَلَقَ الْجَانَ) أصل الجن وهو إبليس (مارِجٍ) لهب خالص لا دخان فيه (مِنْ نارٍ) بيان لمارج : فإنه في الأصل الشيء المضطرب.

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) أي مشرقي الشتاء والصيف ، ومغربهما. (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أرسلها وأجراهما ، يقال : مرجت الدابة في المرعى ، أي أرسلتها فيه ، والبحران : العذب والملح. (يَلْتَقِيانِ) يتجاوران في المصب دون فصل مرئي بينهما. (بَرْزَخٌ) حاجز من قدرة الله تعالى. (لا يَبْغِيانِ) لا يبغي أحدهما على الآخر ، فيختلط به أو يمتزج.

(يَخْرُجُ مِنْهُمَا) أي يخرج من أحدهما وهو الملح (اللُّؤْلُؤُ) صغار الدرّ المخلوق في الأصداف. (وَالْمَرْجانُ) كبار الدرّ أو الخرز الأحمر. (الْجَوارِ) السفن ، جمع جارية.

(الْمُنْشَآتُ) المصنوعات المحدثات ، أو الرافعات أشرعتها. (كَالْأَعْلامِ) كالجبال عظما وارتفاعا ، جمع علم : وهو الجبل العالي الطويل.

المناسبة :

بعد تعداد أصول النعم على بني الإنسان وخلق العالم الكبير من السماء والأرض ، أراد الله تعالى إيضاح أحوال بعضها ، وهي أصل خلق الإنسان والجانّ وهو العالم الصغير ، وبيان مشرق الشمس ومغربها وسلطانه عليهما ، وعلى البحار وما فيها من لآلئ ومرجان ، وما يسير على سطحها من مراكب عظيمة كالجبال ، مما يدلّ على وحدانية الله وقدرته.

التفسير والبيان :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) أي خلق الله تعالى أصل الإنسان من طين يابس يسمع له صلصلة ، أي صوت إذا نقر ، يشبه الفخار ، أي الخزف : وهو الطين المطبوخ بالنار ، للدلالة على صلابة الإنسان وتماسك أجزائه.

٢٠٣

وقد تنوعت عبارات القرآن في بيان هذا ، باعتبار مراتب الخلق : (مِنْ تُرابٍ) ، (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) أي طين متغير ، أو (مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي لاصق باليد ، من صلصال ، فهذا إشارة إلى أن آدم عليه‌السلام خلق أولا من التراب ، ثم صار طينا ، ثم حمأ مسنونا ، ثم لازبا ، ثم كالفخار ، فكأنه خلق من هذا ومن ذاك ، ومن ذلك.

(وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) أي وأوجد الجنّ من طرف النار ، وهو المارج ، أي الشعلة الصاعدة ذات اللهب الشديد ، التي لا لهب فيها ، المختلط الألوان المضطرب ، كالأصفر ، والأحمر ، والأخضر وغيرها. أخرج الإمام أحمد ومسلم عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجانّ من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم».

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي نعم الله يا معشر الثقلين : الإنس والجن تكذبان أو تنكران مما هو واقع ملموس؟!

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) أي ربّ مشرقي الشمس في الصيف والشتاء ، وربّ مغربي الشمس في الصيف والشتاء ، وبهما تتكون الفصول الأربعة ، وتختلف أحوال المناخ من برد وحرّ واعتدال ، وغير ذلك من المنافع العظيمة للإنسان.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي نعم الله هذه تكذبان أو تنكران؟ وأما قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) [المعارج ٧٠ / ٤٠] فذلك باختلاف مطالع الشمس وتنقلها في كل يوم وبروزها منه إلى الناس. وقوله سبحانه في آية أخرى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [المزمل ٧٣ / ٩] ، فالمراد منه جنس المشارق والمغارب.

ولما كان في اختلاف هذه المشارق والمغارب مصالح للخلق من الجن والإنس

٢٠٤

قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ فالشمس تشرق صيفا من مدار السرطان في نصف الكرة الشمالي ، ومن مدار الجدي في الجنوب صيفا ، حيث يكون الشتاء في الشمال ، فلو ثبتت الشمس في شروق وغروب واحد لتعطلت المواسم والزراعة في الصيف والشتاء.

وبعد بيان نعم الله في البر ، ذكر نعمه في البحر ، فقال :

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) أي أرسل البحرين ملحا وعذبا متلاقيين ، لا فصل بينهما في مرأى العين ، ومع ذلك فبينهما حاجز يحجز بينهما ، لا يبغي أحدهما على الآخر ، بالامتزاج والاختلاط ، وإنما يظلان منفصلين ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ : هذا عَذْبٌ فُراتٌ ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ ، وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) [الفرقان ٢٥ / ٥٣].

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي هذه النعمة أو المنفعة تكذبان أيها الإنسان والجن؟ فالعذب للشرب وسقي النبات والحيوان ، والملح لتطهير تجمع الماء من الجراثيم ، وإصلاح طبقة الهواء ، وإخراج اللؤلؤ والمرجان ، كما قال تعالى :

(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) أي يخرج من أحدهما ـ على حذف مضاف ـ وهو الملح (اللُّؤْلُؤُ) : وهو الدّر الذي يتكون في الصدف ، (وَالْمَرْجانُ) : الخرز الأحمر المعروف.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فبأي نعم الله الظاهرة لكم تكذبان يا معشر الجن والإنس؟ فإن في ذلك من الآيات ما لا يستطيع أحد تكذيبه ، ولا يقدر على إنكاره.

(وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي والله الذي خلق وألهم صنع

٢٠٥

السفن الجارية في البحر التي رفع بعض خشبها على بعض وركّب ، ورفعت سواريها وأشرعتها في الهواء كالجبال الشاهقة ، فهي تنتقل في البحار بالركاب والحمولات والبضائع والأقوات والأرزاق والآلات من بلد إلى آخر ، ومن قطر إلى قطر ، حتى بلغت حمولة بعض ناقلات النفط خمس مائة ألف طن ، بالإضافة لحاملات الطائرات والبوارج الحربية المدمرة ، والغواصات الذرية الرهيبة. ولو شاء تعالى لجعل البحر ساكنا ولما تمكنت السفن أن تطفو فوق الماء. فقوله : (الْمُنْشَآتُ) إما المرفوعات ، وإما المحدثات الموجودات. وهذا يدل على كبر السفن حيث شبهها بالجبال ، وإن كانت المنشآت تطلق على السفينة الكبيرة والصغيرة. وإنما قال : (وَلَهُ الْجَوارِ) خاصة ، مع أن له السموات وما فيها والأرض وما عليها ، لأن أموال الناس وأرواحهم في قبضة قدرة الله تعالى ، حيث لا تصرف لأحد في الفلك.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجنّ؟ لقد خلقت هذه النعمة العديدة لكم ، أيمكنكم إنكار صناعة السفن الضخمة ، أو كيفية إجرائها في البحر ، أو دورها في تقريب المسافات والاتصال بين أجزاء العالم المتباعدة ، ونقل تجاراته وصناعاته ، للاستفادة منها في أقاليم أخرى.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يلي :

١ ـ إن أصل خلق الإنسان من تراب ، ثم طين ، فحمأ مسنون ، ثم لازب ، ومرد غذائه إلى التراب والماء ، ومصيره في النهاية إلى الأرض التي خلق منها ، ثم يخرج منها يوم البعث والمعاد.

٢ ـ وإن خلق أصل الجن من لهب النار ، أو من الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد ، المختلط بعضه ببعض : أحمر وأصفر وأخضر.

٢٠٦

٣ ـ الله سبحانه ربّ المشرق والمغرب ، وربّ المشرقين والمغربين في الصيف والشتاء ، وربّ المشارق والمغارب ، أي مطالع الشمس ومغاربها في كل يوم.

٤ ـ أرسل الله في البحار والمحيطات الكبرى البحرين : الملح والعذب ، وجعل بينهما حاجزا لا يختلط أحدهما بالآخر ، وتلك آية كبري على قدرة الله وعظمته.

٥ ـ أخرج الله للناس ومنافعهم من البحار المالحة اللؤلؤ والمرجان ، كما أخرج من التراب الحبّ والعصف والريحان. وإنما قال : (مِنْهُمَا) وإنما يخرج ذلك من الملح لا العذب ، لأن العرب تجمع الجنسين ، ثم تخبر عن أحدهما ، كقوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأنعام ٦ / ١٣٠] ، وإنما الرسل من الإنس دون الجن ، كما قال الكلبي وغيره. وقال الزجاج : قد ذكرهما الله ، فإذا خرج من أحدهما شيء ، فقد خرج منهما ، وهو كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) [نوح ٧١ / ١٥ ـ ١٦] والقمر في سماء الدنيا ، ولكن أجمل ذكر السبع ، فكأن ما في إحداهنّ فيهنّ.

وقال أبو علي الفارسي كما تقدم : هذا من باب حذف المضاف ، أي من أحدهما ، كقوله تعالى : (عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف ٤٣ / ٣١] ، أي من إحدى القريتين.

٦ ـ لا يملك الفلك في البحر في الحقيقة أحد سوى الله ، إذ لا تصرف لأحد فيها ، لذا امتن الله تعالى على الناس في تسيير السفن في البحار ، وأموال وأرواح ركابها في قبضة قدرة الله تعالى فوق الماء ، كما هو الحال في إقلاع الطائرات في أعالي الفضاء فوق الهواء.

والسفن في البحر كالجبال في البر ، والطائرات في الجو كالطيور والشهب ،

٢٠٧

ومن المعلوم أن الطائرات في الفضاء كالسفن في البحار تحمل مئات الأطنان.

٧ ـ أردف الله تعالى بعد كل نعمة قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) للتقرير بالنعم المختلفة المتعددة ، والتوبيخ على التكذيب بها ، كما تقدم بيانه ، ومجمل المذكور هنا وما قبله : هل يستطيع أحد إنكار بدء خلق الإنسان والجن ، وسلطان الله تعالى على المشرق والمغرب والشمس والقمر ، والنجم والشجر ، والزرع والحب ، والأنهار والبحار ، والدر والمرجان ، وخلق مواد السفن ، والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر ، بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها وترتيبها غيره سبحانه وتعالى. والإنسان وإن كان هو الصانع في الظاهر ، ولكن صنعه بإلهام الله وتوفيقه وهدايته وإرشاده.

فناء النعم والكون كله وبقاء الله تعالى

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠))

البلاغة :

(وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) مجاز مرسل ، أي ذاته المقدسة ، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.

المفردات اللغوية :

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها) من على الأرض من إنسان وحيوان وموجودات ومصنوعات و (مَنْ) لتغليب العقلاء ، أو المراد : من الثقلين : الإنس والجن ، فالضمير على الصحيح يعود إلى الأرض.

(فانٍ) هالك. (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) أي ذاته. (ذُو الْجَلالِ) العظمة. (وَالْإِكْرامِ) الإفضال العام بأنعمه على المؤمنين. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) مما ذكرنا قبل ، ومن الإخبار بالفناء الذي يعقبه البقاء والحياة الأبدية.

٢٠٨

(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يطلبون منه صراحة أو بلسان الحال كل ما يحتاجون إليه من الحدوث والبقاء للذوات ، والسعادة والرزق في الأحوال. (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) كل وقت هو في أمر من الأمور ، يحدث أشخاصا ، ويجدّد أحوالا على ما سبق به قضاؤه في الأزل ، من إحياء وإماتة ، وإعزاز وإذلال ، وإغناء وإعدام ، وإجابة داع وإعطاء سائل ، وغير ذلك.

المناسبة :

بعد تعداد النعم الدينية والدنيوية والأخروية ، والاستدلال على قدرة الله وتوحيده في الأنفس والآفاق ، نعى الحق سبحانه وتعالى الكون بأجمعه ، وأخبر بأن جميع النعم الدنيوية والكائنات فانية ، ولا يبقى إلا ذات الله تعالى.

التفسير والبيان :

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي جميع من على الأرض من الناس والحيوانات ، وكذلك أهل السموات إلا من شاء الله ، سيفنون ويموتون ، وتنتهي حياتهم جميعا ، ولا يبقى إلا ذات الله سبحانه ذو العظمة والكبرياء ، والإفضال والإكرام الذي يكرم به المخلصين من عباده ، وهذه الصفة (صفة الجلال والإكرام) من عظيم صفات الله ، وأعظم النعمة مجيء وقت الجزاء عقب ذلك ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الترمذي عن أنس : «ألظّوا بيا ذا الجلال والإكرام» أي الزموا ذلك في الدعاء ، ومرّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجل ، وهو يصلي ويقول : يا ذا الجلال والإكرام ، فقال : «قد استجيب لك».

وفي الدعاء المأثور : يا حيّ يا قيّوم ، يا بديع السموات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، لا إله إلا أنت ، برحمتك نستغيث ، أصلح لنا شأننا كله ، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، ولا إلى أحد من خلقك.

ونظير الآية : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ، لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص ٢٨ / ٨٨] قال ابن كثير : وقد نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية

٢٠٩

الكريمة بأنه ذو الجلال والإكرام ، أي هو أهل أن يجلّ فلا يعصى ، وأن يطاع فلا يخالف ، كقوله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف ١٨ / ٢٨] وكقوله إخبارا عن المتصدقين : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) [الدهر ٧٦ / ٩]. وقال ابن عباس : ذو الجلال والإكرام : ذو العظمة والكبرياء (١).

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي نعم الله هذه تكذبان أيها الإنس والجن ، فالناس والمخلوقات جميعا يتساوون كلهم في الوفاة ، ثم يصيرون إلى الدار الآخرة ، فيحكم فيهم ذو الجلال والإكرام بحكمه العدل ، والفناء طريق للبقاء ، والحياة الأبدية ، فكان في الفناء نعمة التساوي في الموت ، ونعمة تعاقب الأجيال ، ونعمة العدل المطلق ، ونعمة الانتقال من الدار الفانية إلى الدار الخالدة الباقية دار الجزاء والثواب ، ذات النعيم المادي والروحي الشامل ، فكيف يكون منكم التكذيب بهذه النعم العظيمة؟!

(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) أي يطلب منه جميع أهل السماء والأرض كل ما يحتاجون إليه ، فيسأله أهل السموات المغفرة ، ولا يسألونه الرزق ، وأهل الأرض يسألونه الأمرين جميعا (المغفرة والرزق) وتسأل لهم الملائكة أيضا الرزق والمغفرة ، فلا يستغني عنه أهل السماء ولا أهل الأرض ، والمادة تحتاج إلى ما يناسبها ، والنبات يحتاج إلى ما يبقيه ، والإنسان بحاجة إلى مقومات الحياة المادية والمعنوية ، والحيوان مفتقر إلى عناصر البقاء.

وهذا إخبار عن غناه تعالى عما سواه ، وافتقار الخلائق إليه في جميع الآنات ، وأنهم يسألونه بلسان الحال والمقال ، وأنه سبحانه كل يوم ووقت في شأن ، ومن شأنه أنه يحيي ويميت ، ويرزق ، ويغني ويفقر ، ويعزّ ويذلّ ، ويمرض

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٢٧٣

٢١٠

ويشفي ، ويعطي ويمنع ، ويغفر ويعاقب ، إلى غير ذلك مما لا يحصى.

أخرج ابن جرير والطبراني وابن عساكر عن عبد الله بن منيب الأزدي قال : تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فقلنا : يا رسول الله ، وما ذاك الشأن؟ قال : «أن يغفر ذنبا ، ويفرّج كربا ، ويرفع قوما ، ويضع آخرين».

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) بأي نعم الله تكذبان؟ فإن اختلاف شؤونه في تدبير عباده نعمة لا يمكن جحدها ، ولا يتيسر لمكذّب تكذيبها.

فقه الحياة أو الأحكام :

أفادت الآيات ما يأتي :

١ ـ الفناء أمر حتمي لجميع الخلائق في السموات والأرض يوم القيامة ، والبقاء بعدئذ لله ذي العزة والجبروت ، والعظمة والكبرياء ، والتكريم عن كل شيء لا يليق به من الشرك وغيره ، والإكرام لعباده المخلصين.

قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ..) قالت الملائكة : هلك أهل الأرض ، فنزلت : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فأيقنت الملائكة بالهلاك.

٢ ـ يطلب أهل السموات والأرض جميع ما يحتاجون إليه ، فيسأل أهل السموات المغفرة ، ويسأله أهل الأرض المغفرة والرزق ، والله كل يوم في أمر أو شأن ، ومن شأنه أن يحيي ويميت ، ويعز ويذل ، ويرزق ويمنع. روى البخاري في تاريخه وابن ماجه وابن حبان عن أبي الدرداء رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في هذه الآية : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) ، «من شأنه أن يغفر ذنبا ، ويفرّج كربا ، ويرفع قوما ، ويضع آخرين».

٢١١

٣ ـ لا مجال للتكذيب بشيء من نعم الله في التسوية بين الخلق في الموت والفناء ، والانتقال إلى دار الجزاء والثواب ، وإجابة دعائهم وتحقيق الخير والرزق والمغفرة لهم في الدنيا والآخرة.

الجزاء والثواب على الأعمال في الآخرة

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦))

الإعراب :

(يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ نُحاسٌ) بالرفع : معطوف على قوله (شُواظٌ) وقرئ بالجر ، ولا يجوز عطفه على (نارٍ) لأن الشواظ لا يكون من النحاس ، لأن النحاس هاهنا بمعنى الدخان ، وإنما هو محمول على تقدير : شواظ من نار ، وشيء من نحاس ، فحذف الموصوف لدلالة ما قبله عليه.

البلاغة :

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) استعارة تمثيلية ، شبه محاسبة الخلائق وجزاءهم يوم القيامة بالتفرغ للأمر ، والله تعالى لا يشغله عن شأن ، وإنما ذلك على سبيل المثال ، إذ شبه تعالى ذاته في المجازاة بحال من فرغ للأمر.

(إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا .. فَانْفُذُوا) الأمر هنا للتعجيز ، فقوله (فَانْفُذُوا) أمر تعجيزي.

٢١٢

المفردات اللغوية :

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ) سنتجرد لحسابكم وجزائكم يوم القيامة ، أو سنقصدكم بالفعل وفيه تهديد. (الثَّقَلانِ) الإنس والجن. (أَنْ تَنْفُذُوا) إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض ، هاربين من الله ، فارّين من قضائه. (أَقْطارِ) جوانب جمع قطر. (فَانْفُذُوا) فاخرجوا ، وهو أمر تعجيز. (لا تَنْفُذُونَ) لا تقدرون على النفوذ. (إِلَّا بِسُلْطانٍ) بقوة وقهر. (شُواظٌ) لهب خالص لا دخان فيه. (وَنُحاسٌ) ودخان لا لهب. فيه. (فَلا تَنْتَصِرانِ) لا تمتنعان من ذلك العذاب ، بل تساقون إلى المحشر.

المناسبة :

بعد بيان النعم التي أنعم الله بها على الإنسان من تعليم العلم وخلقه وخلق السماء والأرض وما أودع فيهما ، والإخبار عن فنائها يوم القيامة ، أخبر الله تعالى عن مجازاة الناس وحسابهم يوم القيامة ، فيجازى كل عامل بما عمل ، ويثاب على ما قدم من عمل صالح ، ولا مناص ولا مهرب من العقاب ، ولا من الامتناع منه.

التفسير والبيان :

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) أي سنتجرد لحسابكم وجزائكم على أعمالكم ، أيها الثقلان : الإنس والجن. وسموا الثّقلين ، لأنهم ثقل على الأرض أحياء وأمواتا. وهذا وعيد شديد من الله سبحانه للعباد ، علما بأن الله لا يشغله شيء عن شيء.

جاء في الصحيح تفسير الثقلين بما ذكر : «يسمعه كل شيء إلا الثقلين» وفي رواية : «إلا الإنس والجن» وفي حديث الصور : «الثقلان : الإنس والجن».

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي نعم الله تكذبان يا معشر الثقلين؟ فإن من نعمه إنصاف الخلائق ، بإثابة المحسنين ، ومعاقبة المجرمين ، فلا يظلم أحد شيئا.

٢١٣

ولا إفلات من هذا الجزاء ، فقال تعالى :

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، فَانْفُذُوا ، لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) أي أيها الإنس والجن ، إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض ونواحيهما هربا من قضاء الله وقدره ، وأمره وسلطانه ، فاخرجوا منها ، وخلصوا أنفسكم ، لا تقدرون على التخلص والنفوذ من حكمه إلا بقوة وقهر ، ولا قوة لكم على ذلك ولا قدرة ، فلا يمكنكم الهرب. والمعشر : الجماعة العظيمة ، والأدق أن المعشر : العدد الكامل الكثير الذي لا عدد بعده إلا بابتداء فيه.

ونظير الآية : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ ، جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها ، وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ، ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً ، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ ، هُمْ فِيها خالِدُونَ) [يونس ١٠ / ٢٧].

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) بأي نعم الله تكذبان أيها الثقلان؟ ومن ذلك تقديم التنبيه والتحذير ، فذلك يرغّب المحسن ، ويرهب المسيء ، والله قادر على عقاب الجميع ، فلا يفلت أحد ، كما أنه تعالى يعفو مع كمال القدرة ، وتلك نعمة أخرى. وإنما جمع (اسْتَطَعْتُمْ) فهو لبيان عجزهم وعظمة ملك الله تعالى.

(يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ ، وَنُحاسٌ ، فَلا تَنْتَصِرانِ) أي لو خرجتم يسلّط عليكم أيها الإنس والجن سيل من النار أو لهب خالص لا دخان معه من النار ، ودخان مع النار ، أو يصب على رؤوسكم نحاس مذاب ، فلا تقدرون على الامتناع من عذاب الله. فالنحاس : إما الدخان الذي لا لهب له ، أو النحاس المذاب الذي يصب على الرؤوس. وإنما ثنى ضمير (عَلَيْكُما) فهو لبيان الإرسال على النوعين ، لا على كل واحد منهما ، ولا على جميع الإنس والجن. وكذلك

٢١٤

تثنية (فَلا تَنْتَصِرانِ) أراد به النوعين أي لا ينصر بعضكم بعضا أيها الجن والإنس.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) بأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن ، فإن التهديد لطف ، والتمييز بين المطيع والعاصي ، بإثابة الأول ، والانتقام من الثاني من نعم الله سبحانه.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ لا بد من الحساب والجزاء على أعمال الناس والجن يوم القيامة ، وسيتم القصد بالفعل للمجازاة أو المحاسبة. وهذا وعيد وتهديد من الله لعباده ، ليحذروا يوم الحساب ، ويرهبوا يوم الجزاء.

٢ ـ الحساب دليل واضح على أن الجن مخاطبون بالتكاليف الشرعية كالإنس تماما ، فهم مكلفون مأمورون منهيون ، مثابون معاقبون كالإنس سواء ، مؤمنهم كمؤمنهم ، وكافرهم ككافرهم ، لا فرق بيننا وبينهم في شيء من ذلك.

٣ ـ لا مفرّ ولا مهرب ولا مناص من الجزاء والحساب على أعمال الإنس والجن ، ولا يملكون إطلاقا التخلص والهروب من العذاب إلا بسلطان من الله يجيرهم ، وإلا فلا مجير لهم.

والسبب في تقديم الجن على الإنس في هذه الآية : أن النفوذ من أقطار السموات والأرض بالجن أليق إن أمكن. أما الإتيان بمثل القرآن فهو بالإنس أليق إن أمكن ، لذا قدم الإنس على الجن في ذلك ، في قوله تعالى : (قُلْ : لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [الإسراء ١٧ / ٨٨].

٢١٥

٤ ـ لو خرجتم أيها الإنس والجن من ناحية ما ، أرسل عليكم شواظ من نار (لهب خالص) ودخان أو نحاس مذاب يصب على رؤوسكم ، وأخذكم العذاب المانع من النفوذ أو الخروج ، ولا ينصر بعضكم بعضا يا معشر الجن والإنس.

٥ ـ كيف يصح لأحد من الإنس والجن إنكار أو تكذيب شيء من هذه النعم؟ فإن الحساب حق والجزاء حق ، يستهدف كل منهما إحقاق الحق التام ، وإرسال العدل المطلق ، والتخويف والتحذير أو الترهيب يحقق الزجر والامتناع من المخالفة والعصيان ، والإذعان التام والإقرار بعظمة سلطان الله ، وملكه وقدرته.

تصدع السماء وأحوال المجرمين يوم القيامة

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥))

الإعراب :

(فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) الجار والمجرور في محل رفع نائب فاعل ، وليس في (فَيُؤْخَذُ) ضمير يعود على المجرمين وإنما يقدر ضمير في رأي البصريين ، أي يؤخذ منهم أو يؤخذ بنواصيهم وأقدامهم. ويرى الكوفيون أن الألف واللام يقومان مقام الضمير ، مثل : (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) أي أبوابها ، وكقولهم : زيد أما المال فكثير ، أي ماله. ويأتي البصريون ذلك ، ويقدرون : مفتحة لهم الأبواب منها ، وزيد أما المال فكثير له.

٢١٦

البلاغة :

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً ..) تشبيه بليغ ، حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه ، أي كالوردة في الحمرة.

المفردات اللغوية :

(انْشَقَّتِ) تصدعت. (وَرْدَةً) حمراء ، أي كالوردة في الحمرة. (كَالدِّهانِ) مذابة كالدهن ، أو كالأديم (الجلد) الأحمر ، على خلاف ما هي عليه الآن ، وجواب (فَإِذَا) محذوف تقديره : فما أعظم الهول. (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) أي الناس والجن ، وعدم المسؤولية حينما يخرجون من قبورهم ، ويحشرون إلى الموقف. وأما قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر ١٥ / ٩٢] ونحوه فهو حين الحساب في موقف الحشر.

(بِسِيماهُمْ) علامتهم. (بِالنَّواصِي) جمع ناصية : وهي مقدّم الرأس. (وَالْأَقْدامِ) جمع قدم : وهي القدم المعروفة ، ويؤخذ بهما مجموعا بينهما. (يَطُوفُونَ) يسعون. (بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) يترددون بين النار التي يحرقون بها ، وبين ماء حارّ شديد الحرارة ، يسقونه إذا استغاثوا من حرّ النار.

المناسبة :

هذه الآيات حلقة أخرى تتعلق بأحوال الآخرة والجزاء ، فبعد أن ذكر الله تعالى رهبة الحساب وحتميته واستحالة التخلص منه أو الهرب من إيقاعه ، ذكر تعالى ما يطرأ على العالم من تغير وتبدل واختلال النظام ، حيث تتصدع السماء وتذوب كالدهن أو الزيت ، ويتميز المجرمون عن غيرهم بعلامات خاصة ، فلا حاجة لسؤالهم حينئذ ، ثم يزجّ بهم في جهنم ، بأخذهم بنواصيهم وأقدامهم ، ويطاف بهم بين النار التي يحترقون بها ، وبين الماء المغلي البالغ نهاية الشدة في الحرارة ، ويقال لهم توبيخا وتقريعا : هذه جهنم التي كذبتم بها.

التفسير والبيان :

عقب الله بقوله : (فَإِذَا) لأن الفاء للتعقيب ، بعد قوله :

٢١٧

(فَلا تَنْتَصِرانِ) أي في وقت إرسال الشواظ عليكما ، والمعنى : فإذا انشقت السماء وذابت ، وصارت الأرض والجو والسماء كلها نارا ، فكيف تنتصران؟

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ ، فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) أي فإذا جاء يوم القيامة ، انصدعت السماء ، وتبددت وصارت كوردة حمراء ، وذابت مثل الدهن ، أو تلونت كالجلد الأحمر ، والمراد أنها تذوب كما يذوب الزيت ، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها ، فتارة حمراء ، أو صفراء ، أو زرقاء ، أو خضراء ، وذلك من شدة الأمر ، وهول يوم القيامة.

ونظائر الآية كثير ، مثل : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق ٨٤ / ١] ، (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار ٨٢ / ١] ، (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) [الحاقة ٦٩ / ١٦] ، (يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان ٢٥ / ٢٥].

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟ فإن الخبر بذلك فيه رهبة ورعب يزجر السامع عن الشرّ ، وبأي نعم الله تكذبان مما يكون بعد ذلك؟

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) أي يوم تنشق السماء ، لا يسأل أحد من الإنس ولا من الجنّ عن ذنبه ، لأنهم يعرفون بسيماهم عند خروجهم من قبورهم ، ولأن الله سبحانه قد أحصى الأعمال ، وحفظها على العباد. وقال مجاهد في هذه الآية : لا تسأل الملائكة عن المجرمين ، بل يعرفون بسيماهم.

وهذا كقوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات ٧٧ / ٣٥ ـ ٣٦] ، ثم يسألون بعدئذ في حال أخرى يوم يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم في موقف الحساب ، كما قال تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا

٢١٨

كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر ١٥ / ٩٢] ، وقال سبحانه : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) [الصافات ٣٧ / ٢٤].

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) بأي نعم الله تكذبان؟ مما أنعم الله على عباده المؤمنين في هذا اليوم ، ومن هذا التخويف والإنذار المسبق ، ليرتدع الناس عن الذنوب ، ويثوبوا إلى رشدهم.

ثم أبان الله تعالى سبب عدم السؤال ، فقال :

(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ ، فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) أي يعرف الكفار والفجار يوم خروجهم من القبور بعلاماتهم ، وهي كونهم سود الوجوه ، زرق العيون ، يعلوهم الحزن والكآبة ، فيؤخذ بنواصيهم وأقدامهم مجموعا بينهما ، فتجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي ، وتلقيهم الملائكة في النار. والناصية : مقدّم شعر الرأس. وإفراد (فَيُؤْخَذُ) مع أن المجرمين جمع ، وهم المأخوذون ، لأن (فَيُؤْخَذُ) متعلق بقوله تعالى : (بِالنَّواصِي) كما يقال : ذهب بزيد.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) بأي النعم تتجرأان على تكذيبها ، فقد أنذرتم وحذرتم مسبقا ، وعرفتم المصير المنتظر في عالم الآخرة؟

(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ، يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) ها هنا إضمار ، أي يقال لهم عند ذلك توبيخا وتأنيبا : هذه نار جهنم التي تشاهدونها وتنظرون إليها التي كنتم تكذبون بوجودها ، وتنكرون حدوثها ، ها هي حاضرة أمامكم ترونها عيانا.

وهم تارة يعذبون في الجحيم للاحتراق ، وتارة يسقون من الحميم : وهو الشراب أو الماء المغلي الشديد الحرارة ، الذي هو كالنحاس المذاب ، يقطع الأمعاء والأحشاء ، كقوله تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ، وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي

٢١٩

الْحَمِيمِ ، ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) [غافر ٤٠ / ٧١ ـ ٧٢] ، وقوله سبحانه : (...فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ ، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ، وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ..) [الحج ٢٢ / ١٩ ـ ٢١].

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي بأي النعم تكذبان بعد هذا البيان والإنذار والاعلام المسبق؟!

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن انشقاق أو تصدع السماء يحدث عقب إرسال الشواظ من النار ، وإذا انصدعت السماء صارت في حمرة الورد وذوبان الدهن كالجلد الأحمر الصرف ، فالتشبيه بالدهن ليس في اللون بل في الذوبان ، والتشبيه بالوردة في اللون.

٢ ـ إن القيامة مواطن لطول ذلك اليوم ، فيسأل الإنس والجن في وقت ولا يسألون في وقت آخر ، فلا يسألون وقت خروجهم من القبور ، وإذا استقروا في النار ، ويسألون في موقف الحساب قبل الصيرورة إلى الجنة أو إلى النار. والمراد من السؤال على المشهور : أنهم لا يقال لهم : من المذنب منكم؟

٣ ـ يتميز الكفار المجرمون والفجار عن المؤمنين بعلامات بارزة ، فهم سود الوجوه ، زرق العيون ، تعلوهم الكآبة والحزن كما تقدم ، وتأخذ الملائكة بنواصيهم (أي بشعور مقدم رؤوسهم) وأقدامهم ، فيقذفونهم في النار.

٤ ـ يقال للمجرمين تقريعا وتوبيخا ، وتصغيرا وتحقيرا : هذه النار التي أخبرتم بها ، فكذبتم ، ويعذبون مرة في الحميم (الشراب الشديد الحرارة جدا) ومرة في الجحيم (النار).

٥ ـ امتن الله على عباده بقوله بعد كل نعمة : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

٢٢٠