التفسير المنير - ج ٢٧

الدكتور وهبة الزحيلي

المناسبة :

بعد بيان إهلاك بعض الأمم السابقة وهم قوم نوح وهود وصالح ولوط بسبب تكذيبهم الرسل ، خاطب الله أهل مكة موبخا لهم بطريق الاستفهام الإنكاري ، ليبين لهم أن ما أصاب غيرهم من العذاب والهوان سيصيبهم ، لأن ما جرى على المثيل يجري على مثيله ، إن استمروا على كفرهم ، وأصروا على ضلالهم ، وأنهم أيضا سيهزمون في الدنيا ، وسيلقون في الآخرة عذابا أشد وأدهى.

ثم أبان الله تعالى نوع عذاب المجرمين أي المشركين في الآخرة ، وأن كل شيء مخلوق لله سبحانه ، وأن أمره تعالى سريع النفاذ بكلمة (كن) التكوينية ، وختم السورة بذكر ثواب المتقين الأبرار.

التفسير والبيان :

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) أي أكفاركم يا مشركي قريش خير من الذين تقدم ذكرهم ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل ، وكفرهم بالكتب السماوية ، أم معكم من الله براءة فيما أنزل من الكتب ألا ينالكم عذاب ولا نكال؟!

والمعنى : ليس كفاركم يا أهل مكة ، أو يا معشر العرب ، خيرا من كفار من تقدمكم من الأمم الذين أهلكوا بسبب كفرهم ، فلستم بأفضل منهم ، حتى تكونوا بمأمن مما أصابهم من العذاب عند تكذيبهم لرسلهم ، وليست لكم براءة من عذاب الله في شيء من كتب الأنبياء.

وهذا تهديد وتوبيخ لمن أصرّ على الكفر من مشركي العرب ، فالمراد بعض العرب لا كلهم ، فليس كفارهم خيرا ممن سبقهم ، وهم قوم نوح وهود وصالح ولوط ، بل هم مثلهم أو شر منهم.

١٨١

(أَمْ يَقُولُونَ : نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أي بل هم يقولون : نحن جماعة أو جمع كثير والعدد ، شديد والقوة ، ولنا النصر على الفئة القليلة المستضعفة من أعدائنا ، فهم يعتقدون ويثقون أنهم يتناصرون مع بعضهم بعضا ، وأن جمعهم يغني عنهم من أرادهم بسوء. والاستفهام : إنكاري ، وإفراد المنتصر مع أن (نَحْنُ) ضمير الجمع ، لأن المراد بالجميع كالجنس ، لفظه لفظ واحد ، ومعناه جمع فيه الكثرة.

فرد الله تعالى عليهم بقوله : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أي سيتفرق جمع أو شمل كفار مكة أو كفار العرب على العموم ويغلبون ، ويولون الأدبار هاربين منهزمين. وكان هذا دليلا من دلائل النبوة ، فقد هزمهم الله يوم بدر ، وولوا الأدبار ، وقتل رؤساء الكفر وأساطين الشرك.

(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أي سيتفرق جمع أو شمل كفار مكة أو كفار العرب على العموم ويغلبون ، ويولون الأدبار هاربين منهزمين. وكان هذا دليلا من دلائل النبوة ، فقد هزمهم الله يوم بدر ، وولوا الأدبار ، وقتل رؤساء الكفر وأساطين الشرك.

عن أبي جهل : أنه ضرب فرسه يوم بدر ، فتقدم في الصف ، فقال : نحن ننصر اليوم من محمد وأصحابه ، فنزلت : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أي الأدبار.

وأخرج البخاري والنسائي عن ابن عباس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : وهو في قبّة له يوم بدر : «أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم في الأرض أبدا» فأخذ أبو بكر رضي‌الله‌عنه بيده ، وقال : حسبك يا رسول الله ، ألححت على ربّك ، فخرج وهو يثب في الدرع ، وهو يقول : «سيهزم الجمع ، ويولون الدبر ، بل الساعة موعدهم ، والساعة أدهى وأمرّ».

١٨٢

وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : لما نزلت : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) قال عمر : أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ قال عمر : فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يثب في الدرع ، وهو يقول : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ، وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) فعرفت تأويلها يومئذ.

ثم بيّن الله تعالى أن الأمر غير مقتصر على انهزامهم وإدبارهم ، بل الأمر أعظم منه ، فإن الساعة موعدهم ، وسيلقون في الآخرة عذابا أشد إن بقوا مصرين على الكفر ، فقال :

(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) أي بل إن القيامة موعد عذابهم الأخروي ، وليس هذا العذاب الكائن في الدنيا بالقتل والأسر والقهر هو تمام ما وعدوا به من العذاب ، وإنما هو مقدمة من مقدماته ، وعذاب القيامة أعظم وأنكى ، وأشد مرارة من عذاب الدنيا ، كما أنه عذاب دائم خالد.

قال الرازي : هذا قول أكثر المفسرين ، والظاهر أن الإنذار بالساعة لكل من تقدم ، كأنه قال : أهلكنا الذين كفروا من قبلك ، وأصرّوا ، وقوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسوا بخير منهم ، فيصيبهم ما أصابهم إن أصروا ، ثم إن عذاب الدنيا ليس لإتمام المجازاة ، فإتمام المجازاة بالأليم الدائم (١).

ثم أخبر الله تعالى عن نوع العذاب الأخروي ، فقال :

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) أي إن المشركين بالله الذين كذبوا رسله وكل كافر ومبتدع كافر ببدعته من سائر الفرق في حيرة وتخبط في الدنيا وبعد عن الحق والصراط المستقيم ، وفي نيران مستعرة في جهنم يوم القيامة.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٩ / ٦٨

١٨٣

وجاء إطلاق المجرمين على (المشركين) في قوله تعالى : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) [الرحمن ٥٥ / ٤١].

وأكثر المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية نازلة في القدرية ، روى الواحدي في تفسيره بإسناده عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القدر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله : (خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (١).

وعن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مجوس هذه الأمة : القدرية» (٢) وهم المجرمون الذين سماهم الله في قوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ) عن الحق في الدنيا (وَسُعُرٍ) وهو نيران في الآخرة.

وبيّن الإمام الرازي رحمه‌الله معنى القدرية الذين قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزلت الآية فيهم ، فذكر أن كل فريق في خلق الأعمال يذهب إلى أن القدري خصمه ، فالجبري يقول : القدري من يقول : الطاعة والمعصية ليستا بخلق الله وقضائه وقدره ، فهم قدرية ، لأنهم ينكرون القدر. والمعتزلي يقول : القدري : هو الجبري الذي يقول حين يزني ويسرق : الله قدرني ، فهو قدري لإثباته القدر ، وهما جميعا يقولان لأهل السنة الذين يعترفون بخلق الله ، وليس من العبد : إنه قدري.

والحق أن القدري الذي نزلت فيه الآية : هو الذي ينكر القدر ، وينكر قدرة الله تعالى ، ويقول بأن الحوادث كلها حادثة بالكواكب واتصالاتها ، ويدل عليه قوله : جاء مشركو قريش يحاجون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القدر ، فإن مذهبهم ذلك. وأما المراد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مجوس هذه الأمة هم القدرية» فهم القدرية

__________________

(١) رواه مسلم والترمذي وابن ماجه.

(٢) رواه ابن ماجه عن جابر بلفظ «إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله تعالى ..» وهو ضعيف.

١٨٤

في زمانه ، وهم المشركون الذين أنكروا قدرة الله على الحوادث ، فلا يدخل فيهم المعتزلة ، ونسبتهم إلى هذه الأمة كنسبة المجوس إلى الأمة المتقدمة (١).

(يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ، ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) أي إن المجرمين الكفار يعذبون في النار ، ويجرّون فيها على وجوههم للإهانة والإذلال ، ويقال لهم تقريعا وتوبيخا : ذوقوا وقاسوا حرّ النار وآلامها وشدة عذابها.

ثم أبان الله تعالى أن كل ما يحدث في الكون ، ومنه أفعال العباد كلهم ، هو مخلوق لله ، فقال :

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) أي إن كل شيء من الأشياء ، وكل فعل من الأفعال في هذا الكون أو هذه الحياة خيرا كان أو شرا ، مخلوق لله تعالى ، مقدر محكم مرتّب على حسب ما اقتضته الحكمة ، وعلى وفق ما هو مقدر مكتوب في اللوح ، معلوم لله ثابت في سابق علم الله الأزلي ، قبل وجوده أو كونه ، يعلم حاله وزمانه. والقدر : التقدير.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ، فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان ٢٥ / ٢] وقوله سبحانه : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) [الأعلى ٨٧ / ١ ـ ٣] أي قدر قدرا ، وهدى الخلائق إليه.

وقد استدل أهل السنة بهذه الآية الكريمة على إثبات قدر الله السابق لخلقه : وهو علمه الأشياء قبل كونها ، وكتابته (أي تسجيله) لها قبل حدوثها.

أخرج الإمام أحمد ومسلم عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل شيء بقدر ، حتى العجز والكسل». وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد ومسلم أيضا عن أبي هريرة : «استعن بالله ، ولا تعجز ، فإن أصابك أمر فقل :

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٩ / ٦٩ ـ ٧٠

١٨٥

قدّر الله ، وما شاء فعل ، ولا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا ، فإن : لو تفتح عمل الشيطان».

وأخرج أحمد والترمذي والحاكم عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «يا غلام ، إني أعلّمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفّت الصحف».

ومن المعلوم أن الكتابة لا تغني الجبر والفرض على العباد ، والعلم السابق بالأشياء لا يدل على الإلزام ، وإنما يدل على أن جميع ما في الكون معلوم سابقا لله تعالى.

ثم أوضح الله تعالى نفاذ مشيئته في خلقه ، ونفاذ قدره فيهم ، فقال :

(وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) أي إن أمرنا بإيجاد الأشياء إنما يكون مرة واحدة ، لا حاجة فيه إلى تأكيد ثان ، فيكون الذي نأمر به بكلمة واحدة حاصلا موجودا كلمح البصر في سرعته ، لا يتأخر طرفة عين. ولمح البصر : إغماض البصر ، ثم فتحه. وهذا تمثيل وتقريب لسرعة نفاذ المشيئة في إيجاد الأشياء ، فهو كلمح البصر أو أقرب ، كما قال تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) [يس ٣٦ / ٨٢].

ثم أعاد تعالى التنبيه للحق والاتعاظ بهلاك السابقين ، فقال :

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) أي وتالله لقد أهلكنا أمثالكم وأشباهكم في الكفر يا معشر قريش ، من الأمم السابقة المكذبين بالرسل ، فهل

١٨٦

من متعظ بما أخزى الله أولئك ، وقدر لهم من العذاب ، وهل من يتذكر ويتعظ بالمواعظ ، ويعلم أن ذلك حق ، فيخاف العقوبة التي حلت بالأمم السابقة؟

وهذا كما قال تعالى : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) [سبأ ٣٤ / ٥٤].

وأتبع ذلك الإخبار عن إحصاء جميع أعمالهم ورقابة الله عليهم ، فقال :

(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) أي إن جميع ما فعلته وتفعله الأمم والشعوب والأفراد من خير أو شر مكتوب في اللوح المحفوظ ، وفي كتب (أو سجلات) الملائكة الحفظة ، وما من شيء من أعمال الخلق وأقوالهم وأفعالهم إلا وهو مسطور في اللوح المحفوظ ، وفي دواوين الملائكة وصحائفهم ، صغيرة وكبيرة ، وجليلة وحقيرة ، كما قال تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق ٥٠ / ١٨].

أخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «يا عائشة ، إياك ومحقّرات الذنوب ، فإن لها من الله طالبا».

ثم ذكر الله تعالى نوع جزاء المؤمنين المتقين لمقارنته بجزاء الكافرين ، ومقابلة الثواب بالعقاب وبالعكس ، فقال :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) أي إن المتقين ، بعكس ما يكون الأشقياء فيه من النار والسحب على الوجوه فيها ، مع التوبيخ والتقريع والتهديد ، هم في بساتين غنّاء مختلفة ، وجنان متنوعة ، وأنهار متدفقة بمختلف أنواع الأشربة من ماء وعسل ولبن وخمر غير مسكرة ، وفي الجنة دار كرامة الله ورضوانه وفضله وامتنانه ، وفي مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم ، وفي منزلة وكرامة عند ربهم القادر على ما يشاء ، والذي لا يعجزه شيء ، فهو

١٨٧

الملك العظيم ، الخالق للأشياء كلها ومقدّرها ، والمقتدر على ما يشاء ، مما يطلبون ويريدون.

أخرج أحمد ومسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو ، يبلغ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المقسطون عند الله على منابر من نور ، عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ كل من ارتكب جرما وعوقب بعقاب معين ، فإن ذلك العقاب مستحق لأمثال أولئك المجرمين ، فليس كفار العرب أو قريش خيرا من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم ، وليس لهم صك براءة أو وثيقة بالسلامة من العقوبة في الكتب المنزلة على الأنبياء.

٢ ـ زعم كفار قريش أنهم منتصرون على المؤمنين بسبب كثرة عددهم وقوتهم ، وضعف المسلمين وقلتهم ، غير أن موازين القوى البشرية تختل في ميزان القدرة والحكمة والتوفيق الإلهي : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ ، وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة ٢ / ٢٤٩].

لذا قال تعالى هنا : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أي سيهزم جمع كفار مكة ، وقد كان ذلك يوم بدر وغيره. وهذا من دلائل صدق النبوة ، قال ابن عباس : كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين. فالآية على هذا مكية ، بل والسورة كلها مكية كما تقدم. أخرج البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي‌الله‌عنها قالت : لقد أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، وإني لجارية ألعب : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ). وقد تقدم حديث ابن عباس وقصة أبي بكر يوم بدر.

١٨٨

٣ ـ إن تعذيب الكفار لا يقتصر على الدنيا بالقتل والأسر والهزيمة والذل والهوان ، وإنما لهم عذاب آخر في الآخرة أشد وأعظم ، وأدهى وأمرّ ، وأدوم وأخلد ..

٤ ـ إن الكفار والمشركين في حيدة عن الحق واحتراق في نار جهنم ، ويجرّون على وجوههم في النار بقصد الإذلال والإهانة.

٥ ـ الله تعالى خالق كل شيء وخالق أفعال العباد كلها دون جبر ولا إكراه عليها : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات ٣٧ / ٩٦] وقوله تعالى هنا : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) فالله قادر ، غير أنه لم يجبر أحدا على ما يفعله بل تركه لاختياره وحريته.

ويعد المشركون قدرية لإثباتهم القدرة على الحوادث لغير الله من الكواكب ، وطائفة القدرية من المسلمين يوصفون بهذا الوصف لقولهم : لا قدرة لله على تحريك العبد بحركة ، كالصلاة والزنا ، وإنما العبد يخلق أفعال نفسه.

قال القرطبي : والذي عليه أهل السنة : أن الله سبحانه قدّر الأشياء ، أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه ، فلا يحدث حدث في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه ، وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة ، وأن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله تعالى بقدرته وتوفيقه وإلهامه ، سبحانه لا إله إلا هو ، ولا خالق غيره ، كما نص عليه القرآن والسنة ، لا كما قالت القدرية وغيرهم من أن الأعمال إلينا ، والآجال بيد غيرنا. قال أبو ذرّ رضي‌الله‌عنه : قدم وفد نجران على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا ، فنزلت هذه الآيات إلى قوله : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) فقالوا : يا محمد يكتب علينا الذنب

١٨٩

ويعذبنا؟ فقال : «أنتم خصماء الله يوم القيامة» (١).

٦ ـ إن نفاذ أمر الله في خلقه سريع أسرع من لمح البصر ، وما هي إلا كلمة واحدة ، وهو قوله للأمر : «كن».

٧ ـ كرر الله تعالى تحذيره وتوبيخه للمشركين ، ونبّههم إلى أنه أهلك أشباههم في الكفر من الأمم الخالية ، فهل من يتذكر؟!

٨ ـ جميع ما فعلته الأمم قبل المشركين وجميع ما تفعله بعدهم من خير أو شر كان مكتوبا عليهم في اللوح المحفوظ أو في كتب الحفظة ، وكل ذنب صغير أو كبير مكتوب على عامله قبل أن يفعله ليجازى به ، ومكتوب إذا فعله ، ومكتوب على الكفار إهلاكهم العاجل في الدنيا ، وعذابهم الآجل المعد لهم في الآخرة على ما فعلوه ، ومكتوب ما يفعله غيرهم.

٩ ـ وصف الله المؤمنين بعد وصف الكفار للمقارنة والموازنة والترغيب والترهيب ، فالمؤمنون الأتقياء في جنان الخلد التي تجري أنهار الماء والخمر والعسل واللبن من تحت قصورهم ، وهم في كرامة ومنزلة عند ربهم المالك القادر على ما يشاء ، في مجلس حقّ لا لغو فيه ولا تأثيم ، وهو الجنة.

والعندية هنا كما تقدم : عندية القربة والزلفى والمكانة والرتبة والكرامة والمنزلة.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ١٤٨

١٩٠

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الرّحمن جلّ ذكره

مكيّة أو : مدنيّة ، وهي ثمان وسبعون آية.

مكيتها :

سورة الرحمن : في رأي ابن مسعود ومقاتل : مدنية كلها ، وقد كتب في بعض المصاحف أنها مدنية ، والأصح كما ذكر القرطبي وابن كثير والجمهور أنها مكية كلها ، وهو قول الحسن وعروة بن الزبير وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس : إلا آية منها هي قوله تعالى : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية. وهي ثمان وسبعون (٧٨) آية. وعدها بعضهم (٧٦) آية.

ودليل الجمهور والرأي الأصح : ما روى عروة بن الزبير قال : أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن مسعود ، وذلك أن الصحابة قالوا : ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قطّ ، فمن رجل يسمعوه؟ فقال ابن مسعود : أنا ، فقالوا : إنا نخشى عليك ، وإنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه ، فأبى ، ثم قام عند المقام ، فقال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ) ثم تمادى رافعا بها صوته ، وقريش في أنديتها ، فتأملوا وقالوا : ما يقول ابن أمّ عبد؟ قالوا : هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه ، ثم ضربوه ، حتى أثّروا في وجهه. وصح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام يصلّي الصبح بنخلة ، فقرأ سورة (الرحمن) ومرّ النفر من الجن ، فآمنوا به.

١٩١

وفي الترمذي عن جابر قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه ، فقرأ عليهم سورة (الرحمن) من أولها إلى آخرها ، فسكتوا ، فقال : «لقد قرأتها على الجنّ ليلة الجن ، فكانوا أحسن مردودا منكم ، كنت كلما أتيت على قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قالوا : لا بشيء من نعمك ربّنا نكذب ، فلك الحمد» (١). وفي هذا دليل على أنها مكية.

تسميتها :

سميت سورة الرحمن ، لافتتاحها باسم من أسماء الله الحسنى وهو (الرحمن) وهو اسم مبالغة من الرحمة ، وهو أشد مبالغة من (الرحيم) وهو المنعم بجلائل النّعم ولجميع الخلق ، أما الرحيم : فهو المنعم بدقائق النعم ، والخاص بالمؤمنين. قال الإمام الطبري : الرحمن : لجميع الخلق ، والرحيم : بالمؤمنين.

وتسمى أيضا في حديث أخرجه البيهقي عن علي كرم الله وجهه مرفوعا(عروس القرآن). فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكل شيء عروس ، وعروس القرآن : سورة الرحمن».

مناسبتها لما قبلها :

تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه :

١ ـ هذه السورة بأسرها شرح وتفصيل لآخر السورة التي قبلها ، ففي سورة القمر بيان إجمالي لأوصاف مرارة الساعة وأهوال النار وعذاب المجرمين ، وثواب المتقين ووصف الجنة وأهلها ، وفي هذه السورة تفصيل على الترتيب الوارد في الإجمال وعلى النحو المذكور من وصف القيامة والنار والجنة.

٢ ـ ذكر الله تعالى في السورة السابقة أنواع النقم التي حلت بالأمم السابقة

__________________

(١) قال الترمذي : هذا حديث غريب.

١٩٢

قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون ، وهنا ذكر أنواع الآلاء والنعم الدينية والدنيوية في الأنفس والآفاق على الناس جميعا. وافتتح السورة السابقة بما يدل على العزة والجبروت والهيبة وهو انشقاق القمر ، وافتتح هذه السورة بما يدل على الرحمة والرحموت وهو إنزال القرآن.

٣ ـ ختمت السورة السابقة ببيان صفتين لله عزوجل يدلان على الهيبة والرهبة والعظمة وهما (المليك المقتدر) أي ملك عظيم الملك ، قادر عظيم القدرة ، وابتدئت هذه السورة بصفة أخرى بجوار ذلك وهي صفة (الرحمن) وبيان مظاهر رحمته وفضله ونعمه على الإنسان وفي الكون كله سمائه وأرضه ، فهو سبحانه عزيز شديد مقتدر بالنسبة إلى الكفار والفجار ، رحمن منعم غافر للأبرار.

ما اشتملت عليه السورة :

سورة الرحمن كسائر السور المكية المتميزة بقصر آياتها ، وشدة تأثيرها ووقعها ، ومزيد رهبتها ، والمتعلقة بأصول الاعتقاد وهي التوحيد وأدلة القدرة الإلهية ، والنبوة والوحي ، والقيامة وما فيها من جنة ونار ، وآلاء ونعم ، وشدائد وأهوال.

عدّد الله تعالى في مطلع السورة آلاءه ونعمه العظمى ، وأولها نعمة الدين والوحي ، وإنزال القرآن وتعليمه عباده به ، فهو النعمة الكبرى ، وسنام الكتب السماوية ومصداقها. ثم أتبعه ببيان خلق الإنسان ليعلم أنه إنما خلقه للدين ، والإفادة من الوحي وكتاب الله ، ثم ذكر ما تميز به عن سائر الحيوان من البيان : وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير.

ثم أحصى الله تعالى أصول النعم الظاهرة الكبرى في الكون من الشمس والقمر ، والنجم (النبات) والشجر ، والسماء القائمة على التوازن الدقيق ،

١٩٣

والأرض ذات الفواكه والثمار والأشجار ، والزروع والرياحين ، مع الإشارة إلى خلق عالم آخر غير مادي ولا ملموس وهو الجنّ.

وأضاف إلى ذلك آية على قدرته الباهرة بالفصل بين البحر المالح والعذب ، وإخراج اللؤلؤ والمرجان من الماء المالح ، كإخراج الحب والعصف والريحان من التراب ، وتسيير السفن في أعالي البحار.

ثم يطوى عالم الكون البديع بالفناء الحتمي ، ولا يبقى سوى الحي القيوم ذي الجلال والإكرام ، ويبدأ بعدئذ عالم القيامة وما فيه من أهوال جسام ، ومصير عصيب للمجرمين ، وزجّ في نيران الجحيم.

ويقابل ذلك المشهد المؤلم مشهد النعيم في جنان الخلد لأهل الإيمان واليمين ، والخوف من مقام الله ، وفي تلك الجنان أنواع الأغصان ، والعيون والأنهار ، والفواكه ، والفرش الحريرية الوثيرة والأرائك الخضر ، والحور والولدان ، والخيرات الحسان.

وناسب كل ذلك ختم السورة بتمجيد الله عزوجل ، والثناء عليه ، على ما تفضل به وأنعم على عباده : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ).

أعظم النعم الإلهية الدنيوية والأخروية

ـ ١ ـ

نعمة القرآن والأشياء الكونية والأرضية

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ

١٩٤

بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣))

الإعراب :

(الرَّحْمنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ .. الرَّحْمنُ) : مبتدأ ، وجملة (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) وما بعدها : أخبار مترادفة ، وإخلاؤها من العاطف ، لأنها بقصد التعداد ، كما تقول : زيد أغناك بعد فقر ، أعزّك بعد ذلّ ، كثّرك بعد قلة ، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد ، فما تنكر من إحسانه؟

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ الشَّمْسُ) : مبتدأ ، (وَالْقَمَرُ) : عطف عليه ، وخبره:إما قوله (بِحُسْبانٍ) وإما محذوف تقديره : يجريان بحسبان.

(وَالسَّماءَ رَفَعَها .. السَّماءَ) منصوبة بتقدير فعل ، أي ورفع السماء ، وتقرأ بالرفع على الابتداء ، كقولهم : زيد لقيته ، وعمرو كلّمته. (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) أن : إما ناصبة مع تقدير حذف حرف الجر ، أي لئلا تطغوا ، وإما مفسرة بمعنى «أي» فتكون «لا» الناهية ، و (تَطْغَوْا) على الأول منصوب بأن ، وعلى الثاني مجزوم ب «لا».

(وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ الْحَبُ) : بالرفع معطوف على المرفوع قبله ، ويقرأ بالنصب بفعل مقدر ، أي وخلق ، (وَالرَّيْحانُ) : بالرفع معطوف ، وبالنصب معطوف على (الْحَبُ) إذا نصب ، وبالجر بالعطف على (الْعَصْفِ).

البلاغة :

(الرَّحْمنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ) سجع مرصع غير متكلف.

(وَالسَّماءَ رَفَعَها) و (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) بينهما ما يسمى بالمقابلة.

المفردات اللغوية :

(الرَّحْمنُ) هو الله تعالى المنعم بجلائل النعم الدنيوية والأخروية ، وهو اسم من أسماء الله الحسنى. (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) قدم ذلك لأن أصل النعم الدينية وأجلها هو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه ، فإنه أساس الدين ، ومنشأ الشرع ، وأعظم الوحي ، وأجلّ الكتب والمهيمن عليها والمصدّق

١٩٥

لها. (خَلَقَ الْإِنْسانَ) الجنس الإنساني. (الْبَيانَ) التعبير عما في النفس ، وإفهام الغير لما يدركه من تلقي الوحي ، وتعرف الحق ، وتعلم الشرع.

(بِحُسْبانٍ) يجريان بحساب دقيق منظم ، مقدر في بروجهما ومنازلهما. (وَالنَّجْمُ) النبات الذي ينجم أي يظهر من الأرض ، ولا ساق له كالحنطة والمقاثي. (وَالشَّجَرُ) الذي له ساق كالنخل وأشجار الفاكهة. (يَسْجُدانِ) ينقادان أو يخضعان لله فيما يريد بهما طبعا ، كما ينقاد الساجد من المكلفين اختيارا أو طوعا. (رَفَعَها) خلقها مرفوعة المحل والرتبة. (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) أثبت العدل والنظام والتوازن في الأشياء الكونية كلها ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بالعدل قامت السموات والأرض». (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) أي لئلا تجوروا فيما يوزن به ، ولا تعتدوا ولا تجاوزوا الإنصاف.

(وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) أي قوّموا الوزن بالعدل. (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) تنقصوا الموزون ، والتكرار مبالغة في التوصية به ، وزيادة الحث على استعماله ، وقرئ : «ولا تخسروا» بفتح التاء ، وضم السين وكسرها وفتحها. (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) أي أثبتها وبسطها للخلق من الإنس والجن وغيرهم.

(فِيها فاكِهَةٌ) أنواع ما يتفكه به. (الْأَكْمامِ) أوعية الطلع والثمر ، جمع كم : بالكسر. (وَالْحَبُ) كالحنطة والشعير والذرة وسائر ما يتغذى به. (ذُو الْعَصْفِ) ورق الزرع الجاف ، وهو التبن. (وَالرَّيْحانُ) الورق المشموم الطيب الرائحة من النبات. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي نعم ربّكما أيها الإنس والجن تكذبان؟ والاستفهام للتقرير ، ذكرت في السورة إحدى وثلاثين مرة ، فكلما ذكر تعالى نعمة وبخ على التكذيب بها ، كما يقول الرجل لغيره معاتبا ومذكرا ومؤنبا : ألم أحسن إليك بكذا بالمال ، ألم أحسن إليك بأن أنقذتك من كذا وكذا؟ ويكون التكرار لاختلاف ما يقرر به ، وهذا شيء كثير مألوف في كلام العرب ، كقول مهلهل يرثي كليبا :

على أنّ ليس عدلا (١) من كليب

إذا ما ضيم جيران المجير

على أن ليس عدلا من كليب

إذا رجف العضاة من الدّبور (٢)

على أن ليس عدلا من كليب

إذا خرجت مخبأة الخدور

على أن ليس عدلا من كليب

إذا ما أعلنت نجوى الأمور

على أن ليس عدلا من كليب

إذا خيف المخوف من الثغور

على أن ليس عدلا من كليب

غداة تأثل الأمر الكبير

__________________

(١) عدلا : أي مثلا ونظيرا.

(٢) العضاة : كل شجر يعظم وله شوك ، والدّبور : الريح التي تقابل الصّبا.

١٩٦

على أن ليس عدلا من كليب

إذا ما خار جاش (١) المستجير

وأنشد قصائد أخرى على هذا النمط.

التفسير والبيان :

(الرَّحْمنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ) أي إن الله الواسع الرحمة لخلقه في الدنيا والآخرة أنزل على عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن لتعليم أمته وجعله حجة على الناس قاطبة ، ويسّر حفظه وفهمه على من رحمه. وهذا جواب لأهل مكة القائلين : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [النحل ١٦ / ١٠٣] ولما كانت هذه السورة لتعداد نعم الله التي أنعم بها على عباده ، قدّم بيان أجل النعم قدرا ، وأكثرها نفعا وهي نعمة تعليم القرآن عباده ، فإنها مدار سعادة الدارين. ثم امتن بنعمة خلق الإنسان أداة إعمار الكون ، فقال :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ) أي أوجد جنس الإنسان ، وعلّمه النطق والتعبير عما في نفسه ، ليتخاطب مع غيره ، ويتفاهم مع أبناء مجتمعة ، فيتحقق التعاون والتآلف والأنس ، وبذلك اكتملت عناصر التعليم : الكتاب والمعلم وهما القرآن والنّبي ، والمتعلم وهو الإنسان ، وطريق التعلم وكيفيته وهو البيان.

ثم ذكر الله تعالى أمورا علوية هي مجال التعلم ، فقال :

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) أي إن الشمس المشرقة المضيئة للنهار ، والقمر نور الليل يجريان بحساب دقيق منظم مقدر معلوم في بروج ومنازل معلومة ، لا يعدوانها ، ويدلان بذلك على اختلاف الفصول وعدد الشهور والسنين ، ومواسم الزراعة ، وآجال المعاملات وأعمار الناس ، ويحققان الفوائد الكثيرة للإنسان والنبات والحيوان ، ويتعاقبان بحساب مقنن لا يختلف ولا يضطرب ، كما

__________________

(١) مخفف جأش وهو العزيمة ، وقد تطلق على النفس مجازا.

١٩٧

قال تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [الأنعام ٦ / ٩٦].

ثم أورد الله تعالى بعض عوالم الأرض السفلى ، فقال :

(وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) أي أن النبات الذي لا ساق له ، والشّجر الذي له ساق ينقادان طبعا لله تعالى فيما أراد ، كما ينقاد الساجدون من المكلفين اختيارا ، فإن ظهورهما من الأرض في وقت معين ولأجل محدد ، وجعلهما غذاء للإنسان ، ومتعة له شكلا ولونا ومقدارا وطعما ورائحة ، انقياد لقدرة الله تعالى.

ثم نبّه الله تعالى إلى ظاهرة التوازن بين الأشياء ، وضرورة التعادل في المبادلات ، فقال: (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) أي جعل السماء مرفوعة المحل والرتبة فوق الأرض ، وأقام التوازن في العالمين العلوي والسفلي الأرضي ، وأثبت في الأرض العدل الذي أمر به ، لئلا تتجاوزوا العدل والإنصاف في آلة الوزن أثناء مبادلة الأشياء ، كما قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ ، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ ، لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد ٥٧ / ٢٥] فهذا نهي عن الطغيان في الوزن.

وأكّد على التزام العدل أو التعادل ، فقال :

(وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ ، وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) أي قوّموا وزنكم بالعدل ، ولا تنقصوه ولا تبخسوه شيئا ، بل زنوا بالحق والقسط ، كما قال تعالى : (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) [الشعراء ٢٦ / ١٨٢].

وهذا التكرير لتأكيد الأمر بالعدل ، ويلاحظ أنه سبحانه أمر أولا

١٩٨

بالتسوية ، ثم نهى عن الطغيان الذي هو مجاوزة الحدّ بالزيادة ، ثم نهى عن الخسران الذي هو النقص والبخس.

ثم ذكر نعمته في الأرض مقابل السماء ، فقال :

(وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) أي إنه تعالى كما رفع السماء ، وضع الأرض ومهدها وبسطها لينتفع بها ، وأرساها بالجبال الراسخات الراسيات ليستقر الأنام على وجهها ، وهم الخلائق المختلفة الأنواع والألوان والأجناس والألسنة في سائر الأقطار ، ثم أبان تعالى طرق معايش الناس فيها ، فقال :

(فِيها فاكِهَةٌ ، وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ ، وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) أي إن في الأرض كل ما يتفكه به من أنواع الثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح ، وأشجار النخيل ذات أوعية الطلع الذي يتحول بعدئذ إلى تمر ، وجميع ما يقتات من الحبوب كالحنطة والشعير والذرة ونحوها ، ذات العصف وهو بقل الزرع : وهو أول ما ينبت منه ، أو هو التبن ، وكل مشموم من النبات ذي الورق الذي تطيب رائحته. وتنكير كلمة الفاكهة وتعريف النخل ، لأن الفاكهة تكون في بعض الأزمان وعند بعض الأشخاص ، أما ثمر النخيل فهو قوت محتاج إليه في كل زمان متداول في كل حين وأوان وعند جميع الأشخاص.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) أي فبأي النعم المتقدمة تكذبان يا معشر الجن والإنس. فالخطاب مع الثقلين : الإنس والجن. وقد عرفنا أن هذه الآية كررت في السورة إحدى وثلاثين مرة بعد كل خصلة من النعم ، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين ، لتأكيد التذكير بالنعم ، ولتقريرهم بها ، وللتنبيه على أهميتها ، والنعم محصورة في دفع المكروه وتحصيل المقصود. وقوله : (رَبِّكُما) لبيان أن مصدر هذه النعم من الله المربي الذي يتعهد عباده بالتربية والتنمية ، فيكون هو الجدير بالحمد والشكر على ما أنعم.

١٩٩

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات الكريمات على ما يأتي :

١ ـ عدد الله تعالى في سورة الرحمن نعمه العظمى الدينية والدنيوية والأخروية ، وذكر بعد كل نعمة : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) للتذكير بالنعمة والتنبيه عليها ، مع إشاعة جو الرهبة والتخويف ، والتوبيخ لمن أنكرها.

روي أن قيس بن عاصم المنقري قال للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اتل علي مما أنزل عليك ، فقرأ عليه سورة الرحمن فقال : أعدها ، فأعادها ثلاثة ، فقال : والله إن له لطلاوة ، وإن عليه لحلاوة ، وأسفله لمغدق ، وأعلاه مثمر ، وما يقول هذا بشر ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.

٢ ـ النعمة الأولى وهي أعظم النعم وأجلها : نعمة إنزال القرآن الذي بدّل حياة البشرية ، وسيظل صوت الحق الأبلج إلى يوم القيامة.

٣ ـ النعمة الثانية والثالثة خلق جنس الإنسان لإعمار الكون ، وتعليمه البيان أي الكلام والنطق والفهم ، وهو مما فضّل به الإنسان على سائر الحيوان.

٤ ـ النعمة الرابعة والخامسة : خلق الشمس والقمر اللذين يجريان بحساب معلوم دقيق في منازل لا يعدوانها ولا يحيدان عنها ، وبهما تحسب الأوقات والآجال والأعمار.

٥ ـ النعمة السادسة : خلق النبات الشامل للنجم : وهو ما لا ساق له ، والشجر الذي له ساق ، وجعل ذلك منقادا لإرادة الله تعالى ، وتوجيهه لنفع الإنسان.

٦ ـ النعمة السابعة والثامنة : جعل السماء مرفوعة المحل والرتبة عن الأرض ، ووضع العدل الذي أمر الله به في الأرض ، وأقام التوازن في عالم السماء والأرض.

٢٠٠