التفسير المنير - ج ٢٧

الدكتور وهبة الزحيلي

وتصرعهم على رؤوسهم ، فتدق رقابهم. (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أصول نخل مقتلع من مغارسه ، أو مؤخر الشيء ، وشبّهوا بالنخل لطولهم ، والمنقعر : المنقطع من أصله.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) كرره للتهويل ، أو أنه ذكر مرتين في قصة عاد ، لأن الاستفهام الأول للبيان ، كما يقول المعلم لمن لا يعرف : كيف المسألة الفلانية؟ ليتنبه الطالب المسؤول للجواب الذي سيذكره المعلم ، والاستفهام الثاني للتوبيخ والتخويف. أما في قصة ثمود فاقتصر على الأول للاختصار ، وفي قصة نوح اقتصر على الثاني للاختصار أيضا ، ولعله ذكر الاستفهامين معا في قصة عاد لفرط عتوهم ، وقولهم : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟) [فصلت ٤١ / ١٥].

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) أي متعظ ، والمعنى كما تقدم : سهلناه للادّكار والاتعاظ بسبب المواعظ الشافية والبيانات الوافية ، وقيل : للحفظ. والأول أنسب بالمقام ، وإن روي أنه لم يكن شيء من كتب الله محفوظا على ظهر القلب سوى القرآن.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى تكذيب قوم نوح الذي بدأ به ، لأن تكذيبهم كان أبلغ وأشد ، حيث دعاهم قريبا من ألف سنة ، وأصروا على التكذيب ، أعقبه بقصة عاد قوم هود ، تأكيدا للعظة والعبرة ، وتبيانا للمشركين المكذبين في مكة وأمثالهم أن عاقبة المكذبين الهلاك والدمار ، دون تفاوت بين الأقوام. وإنما قال (عادٌ) ولم يقل (قوم هود) كما قال (قوم نوح) لأن التعريف بالاسم العلم أولى من التعريف بالإضافة إليه.

التفسير والبيان :

(كَذَّبَتْ عادٌ ، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي كما صنع قوم نوح في تكذيبهم رسولهم ، كذبت قبيلة عاد قوم هود عليه‌السلام رسولهم ، فانظروا واسمعوا أيها المخاطبون من قريش وغيرهم كيف كان عذابي لهم ، وإنذاري إياهم.

وقوله : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) لفت للأنظار ، وتنبيه للأسماع لما سيذكر.

١٦١

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) أي إنا سلّطنا عليهم (١) ريحا شديدة البرد والصوت في يوم شؤم عليهم ، دائم الشؤم حتى أهلكهم ودمرهم ، لأنه اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي ، أما ذات اليوم بمجرده فلا يصح وصفه بالنحس أو الشؤم ، وإنما الأيام والليالي كلها سواء ، لذا كان التشاؤم بالعدد (١٣) غير صحيح شرعا ودينا.

ونظير الآية : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) [فصلت ٤١ / ١٦] وقوله تعالى : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) [الحاقة ٦٩ / ٧] أي متتابعة.

(تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أي إن تلك الريح الصرصر كانت تقتلعهم من الأرض اقتلاع النخلة من أصلها ، قال مجاهد : كانت تقلعهم من الأرض ، فترمي بهم على رؤوسهم ، فتدقّ أعناقهم ، وتبين رؤوسهم من أجسادهم.

والمعنى أنهم كانوا يتساقطون على الأرض أمواتا ، وهم جثث طوال عظام ، كأنهم أعجاز نخل وهي أصولها فلا فروع ، (مُنْقَعِرٍ) : منقلع عن مغارسه. وقد شبهوا في طول قاماتهم حين صرعتهم الريح. وطرحتهم على وجوههم بالنخل الساقط على الأرض التي ليست لها رؤوس.

والآية تومئ إلى أن الريح كانت تقتلع رؤوسهم ، فتصبح الأجسام من غير رؤوس ولا هامات ، وتشير أيضا إلى عظمة أجسادهم وطول قاماتهم ، وإلى محاولتهم الثبات في الأرض والتشبث بها لمقاومة الريح ، كما تشير أيضا إلى يبسهم وجفافهم بالريح التي كانت تقتلهم ببردها المفرط ، فتجعلهم كأنهم أخشاب يابسة.

__________________

(١) هذه الجملة استئنافية ، لبيان ما أجمل أولا في قوله : فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ.

١٦٢

ثم أعاد الله تعالى ما يفيد تهويل العذاب ، فقال :

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي فانظروا كيفية بطشي وعقابي وإنذاري.

ثم كرر التصريح بسهولة التعرف على ذلك بالقرآن ، فقال :

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي لقد سهلنا القرآن للادكار والاتعاظ ، بما أوردنا فيه من المواعظ الشافية ، وبينا ما فيه من الوعد والوعيد ، فهل من متعظ معتبر؟! وقيل : ولقد سهلناه للحفظ وأعنّا عليه من أراد حفظه ، فهل من طالب لحفظه ليعان عليه (١)؟

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ كذبت قبيلة عاد قوم هود برسولهم هود عليه‌السلام ، فاستحقوا العقاب ، لذا بادر الله تعالى إلى التخويف والتهويل بقوله : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) وقد وقعت كلمة (نُذُرِ) في هذه السورة في ستة أماكن محذوفة الياء في جميع المصاحف ، وقرأها يعقوب مثبتة في الحالين : حال الوقف والوصل ، وقرأها ورش بالياء في الوصل لا غير.

٢ ـ كان عقابهم بإرسال ريح شديدة البرد ، شديدة الصوت ، في يوم كان مشؤوما عليهم ، قال ابن عباس : كان آخر أربعاء في الشهر ، أفنى صغيرهم وكبيرهم. والمراد أنه يوم نحس على الفجار والمفسدين ، كما كانت الأيام النحسات المذكورة في القرآن نحسات على الكفار من قوم عاد ، لا على نبيهم والمؤمنين به منهم.

٣ ـ وصف الله الريح بأنها تقلعهم من مواضعهم ، قيل : قلعتهم من تحت

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ١٨٤

١٦٣

أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها ، وقال مجاهد كما تقدم : كانت تقلعهم من الأرض ، فترمي بهم على رؤوسهم ، فتندقّ أعناقهم ، وتبين رؤوسهم عن أجسادهم.

وكانت الريح تنزع الناس ، فتتركهم كأنهم أعجاز نخل منقعر. والأعجاز : جمع عجز : وهو مؤخر الشيء ، وكانت أشخاص عاد موصوفين بطول القامة ، فشبّهوا بالنخل انكبت لوجوهها.

٤ ـ كانت العاقبة على قوم عاد سوءا وشرا مستطيرا ، يستدعي التفكير بكيفية عذاب الله وإنذاراته. وطريق فهم ذلك ميسر ، فإن القرآن بما اشتمل عليه من العظات والعبر سهل يسير الاعتبار والاتعاظ ، فهل من متعظ معتبر؟!

ـ ٣ ـ

قصة ثمود قوم صالح عليه‌السلام

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢))

١٦٤

الإعراب :

(أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ بَشَراً) منصوب بتقدير فعل دل عليه (نَتَّبِعُهُ) تقديره : أنتبع بشرا منا واحدا؟

(إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فِتْنَةً) : إما مفعول لأجله ، أو مصدر ، منصوب على المصدرية. وقوله : (وَاصْطَبِرْ) أصله : اصتبر ، على وزن : افتعل من الصبر ، إلا أنهم أبدلوا من التاء طاء لتوافق الصاد في الإطباق.

(فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ كَهَشِيمِ) : في موضع نصب ، لأنه خبر كان ، و (الْمُحْتَظِرِ) : بكسر الظاء وهو المشهور ، أي المتخذ الحظيرة ، وقرئ بفتحها (الْمُحْتَظِرِ) أي مكان الحظيرة.

البلاغة :

(بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) صيغة مبالغة على وزن فعال وفعل ، أي كثير الكذب ، عظيم البطر.

(فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) تشبيه مرسل مجمل.

المفردات اللغوية :

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) أي بالرسل جمع نذير بمعنى منذر أو بالإنذارات والمواعظ ، فإنهم كذبوا بالأمور التي أنذرهم بها نبيهم صالح عليه‌السلام ، وتكذيبه تكذيب لجميع الرسل ، لاتفاقهم على أصول الدين. (أَبَشَراً مِنَّا) أي من جنسنا أو من جملتنا لا فضل له علينا. (واحِداً) منفردا لا تبع له ، والاستفهام بمعنى النفي ، المعنى : كيف نتبعه ونحن جماعة كثيرة ، وهو واحد منا ، وليس بحاكم ولا ملك؟ أي لا نتبعه. (إِنَّا إِذاً) أي إنا إن اتبعناه. (لَفِي ضَلالٍ) خطأ وبعد عن الصواب. (وَسُعُرٍ) جنون ، ومنه : ناقة مسعورة أي مجنونة.

(الذِّكْرُ) الوحي. (عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) أي وفينا من هو أحق منه بذلك. (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ) في أنه أوحي إليه. (أَشِرٌ) متكبر بطر ، حمله بطره على الترفع علينا بادّعائه. (سَيَعْلَمُونَ غَداً) أي عند نزول العذاب بهم ، أو يوم القيامة. (مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) هو أو هم ، أي الذي حمله أشره على الاستكبار عن الحق ، وطلب الباطل.

(إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) مخرجوها وباعثوها. (فِتْنَةً لَهُمْ) اختبارا أو امتحانا لهم. (فَارْتَقِبْهُمْ) فانتظرهم يا صالح وتبصر ما يصنعون. (وَاصْطَبِرْ) اصبر على أذاهم. (قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) مقسوم بينهم وبين الناقة ، يوم لهم ويوم لها. (كُلُّ شِرْبٍ) نصيب من الماء. (مُحْتَضَرٌ) يحضره صاحبه في نوبته.

١٦٥

(صاحِبَهُمْ) قدار بن سالف أحيمر ثمود. (فَتَعاطى) اجترأ على تعاطي قتلها غير مبال بما يفعل ، والتعاطي : تناول الشيء بتكلف. (فَعَقَرَ) ضرب قوائم الناقة بالسيف ، فقتلها موافقة لهم. (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟) أي كيف كان عقابي وإنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله ، المعنى : أن العذاب وقع موقعه.

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً) هي صيحة جبريل عليه‌السلام ، والجملة بيان للعذاب المشار إليه في الجملة السابقة. (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) أي مثل المتهشم اليابس ، المتكسر من الشجر ، الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء. وقرئ بفتح الظاء ، أي كهشيم الحظيرة. (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) سهلنا القرآن للاتعاظ به. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) متعظ.

المناسبة :

هذه قصة ثالثة أو أنموذج من تكذيب الأمم الخالية رسلها ، فإن عادتهم ومذهبهم إنكار الرسل وتكذيبهم ، فكذبوا نوحا وهودا وصالحا عليهم‌السلام فيما يدعيه من الوحي عن ربه ، وكل من كذب رسولا كذب جميع الرسل لاتحادهم في أصول الاعتقاد والدين. وكانت معجزة صالح عليه‌السلام ناقة فريدة تشرب ماء نهير كله يوما ، وتدر لبنا يكفي جميع القبيلة ، بل يفيض عنهم ، فقتلوها ، فعاقبهم الله بعذاب الصيحة : صيحة جبريل عليه‌السلام ، فبادوا عن آخرهم.

التفسير والبيان :

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) كذبت قبيلة ثمود قوم صالح برسل الله الكرام ، بتكذيبهم لرسولهم ، وهو صالح ، ومن كذب واحدا من الأنبياء ، فقد كذب سائرهم ، لاتفاقهم في الدعوة إلى كليات الشرائع وأصولها العامة ، كتوحيد الله تعالى ، وعبادته ، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ويلاحظ أنه في قصة نوح وقصة عاد قال : (كَذَّبَتْ) ولم يقل بالنذر ، وفي هذه القصة وقصة قوم لوط قال : (بِالنُّذُرِ) والأمر سواء ، لأن عادتهم التكذيب.

ثم أبان الله تعالى مظاهر تكذيبهم ، فقال :

١٦٦

١ ـ (فَقالُوا : أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ ، إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) أي إنهم قالوا فيما بينهم : كيف نتّبع بشرا من جنسنا ، منفردا وحده ، لا تبع له ، ولا متابع له على ما يدعو إليه ، لقد خبنا وخسرنا إن أطعنا واحدا منا ، وإنا إذا اتبعناه نكون في خطأ واضح وبعد عن الحق والصواب ، واتصفنا بالجنون أو أصابنا العذاب والعناء والشدة.

٢ ـ (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا ، بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) أي كيف خصّ من بيننا بالوحي والنبوة ، وفينا من هو أحق بذلك منه ، بل هو متجاوز في حد الكذب فيما يدعيه من نزول الوحي الإلهي عليه ، ومتكبر بطر ، حمله تكبره على الترفع علينا بادعائه الوحي.

فوجّه الله تعالى إليهم تهديدا شديدا ووعيدا أكيدا بقوله :

(سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) أي سيعرفون عما قريب في المستقبل وقت نزول العذاب بهم في الدنيا ، أو يوم القيامة ، وسيتبين لهم من هو المفتري الكذب ، الأبلغ في الشرارة ، أصالح في تبليغ رسالة ربه ، أم هم في تكذيبهم إياه؟ والمراد أنهم هم الكذابون البطرون المتكبرون.

ثم وصف الله تعالى جرمهم مخاطبا صالحا فقال :

ـ (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) أي إنا مخرجو الناقة العظيمة العشراء من صخرة صماء ، كما سألوا ، لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح عليه‌السلام فيما جاءهم به ، ولتكون امتحانا واختبارا لهم ، فانتظر ما يؤول إليه أمرهم وما يصنعون واصبر عليهم وعلى ما يصيبك من الأذى منهم ، فإن العاقبة لك والنصر في الدنيا والآخرة.

ـ (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ، كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) أي وأخبرهم أن ماء البئر أو النهير مقسوم بينهم وبين الناقة ، لها يوم ولهم يوم ، وكل حظ أو نصيب

١٦٧

من الماء يحضره صاحبه ، ليأخذه في نوبته ، فتشرب الناقة في يوم ، ويشربون هم في يوم آخر ، أو كل شرب محتضر فيه ، يوم لها ويوم لهم ، قال مجاهد : إن ثمود يحضرون الماء يوم نوبتهم فيشربون ، ويحضرون يوم نوبتها فيحتلبون. وقال أيضا : إذا غابت حضروا الماء ، وإذا جاءت حضروا اللبن.

ونحو الآية : (قالَ : هذِهِ ناقَةٌ ، لَها شِرْبٌ ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الشعراء ٢٦ / ١٥٥].

ـ (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ ، فَتَعاطى فَعَقَرَ) أي ولكن ثمود ملّوا هذه القسمة ، وبادروا إلى التخلص من هذا الوضع كفرا وعنادا ، فنادوا نداء المستغيث قدار بن سالف ، وكان أشقى قومه ، وأشجع وأهجم على الأمور ، وحرضوه على عقر الناقة ، فاجترأ على الأمر العظيم ، وتعاطى أسباب العقر ، فأهوى بسيفه على قوائم الناقة ، فكسر عرقوبها ، ثم نحرها.

ـ (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي فعاقبتهم ، فانظر كيف كان عقابي لهم على كفرهم بي وتكذيبهم رسولي الذي ينذرهم ويخوفهم عذاب الله. ويلاحظ أن هذه الآية ذكرت في قصة ثمود قبل بيان العذاب للبيان ، وفي قصة نوح بعد بيان العذاب للتهويل والتعظيم ، وفي قصة عاد قبل بيان العذاب وبعد بيانه ، للجمع بين الأمرين.

ـ (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً ، فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) أي إنا أرسلنا عليهم صيحة جبريل ، فصاح بهم ، فبادوا عن آخرهم ، لم تبق منهم باقية ، وجمدوا وهمدوا كما يهمد وييبس الزرع والنبات ، وصاروا كالعشب أو فتات الشجر اليابس الذي جمعه الراعي المحتظر في الحظيرة إذا داسته الغنم بعد سقوطه.

والهشيم : الشجر اليابس المتهشم ، أي المتكسر ، والمحتظر : الذي يعمل الحظيرة ليحفظ الغنم من الذئاب. ووجه التشبيه : أن ما يحتظر به ييبس بطول

١٦٨

الزمان وتطؤه البهائم فيتكسر ، وأنهم صاروا موتى جاثمين ، ملقى بعضهم فوق بعض ، كالحطب الذي يكسر في الطرق والشوارع.

ـ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي ولقد سهلنا القرآن للتذكر والاتعاظ ، والاعتبار بالأحداث والوقائع ، فهل من متعظ؟!

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يأتي :

١ ـ كذبت قبيلة ثمود كغيرها الرسل ونبيهم ، وكذبوا بالآيات التي جاء بها ، وأنكروا أن ينبأ بشر كائن منهم منفرد لا أتباع له ، وزعموا أنهم إن اتبعوه كانوا في خطأ وذهاب عن الصواب ، وجنون وعناء.

٢ ـ وقالوا على طريق الاستفهام المراد به الإنكار : كيف خصص بالرسالة من بين آل ثمود ، وفيهم من هو أكثر مالا وأحسن حالا؟ بل هو كذاب فيما يدّعيه ، وإنما يريد أن يتعاظم ويلتمس التكبر علينا من غير استحقاق.

٣ ـ هددهم الله بأنه سيحل بهم العذاب في الدنيا ، والعذاب يوم القيامة. وقوله : (سَيَعْلَمُونَ غَداً ..) على التقريب ، على عادة الناس في قولهم للعواقب : إن مع اليوم غدا. وهذا القول مفروض الوقوع في وقت قولهم : (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) أو أنه تهديد بالتعذيب يوم القيامة. وسيتبين لهم من هو الكذاب الأشر ، أهو صالح عليه‌السلام أم هو؟

٤ ـ أخرج الله لهم ناقة عظيمة من الهضبة التي سألوها ، روي أن صالحا صلى ركعتين ، ودعا ، فانصدعت الصخرة التي عينوها عن سنامها ، فخرجت ناقة عشراء. وكان ذلك ابتلاء واختبارا لهم. ومعنى قوله : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) :

١٦٩

إنا نرسل ، وهو بمعنى المستقبل في ذلك الزمان الذي تم فيه الإرسال. وكون الناقة فتنة : أن أوضاعها الغريبة اختبار.

٥ ـ أمر الله تعالى نبيه صالحا عليه‌السلام بأوامر ثلاثة : انتظر ما يصنعون ، واصبر على أذاهم ، وأخبرهم أن الماء مقسوم بين آل ثمود وبين الناقة ، لها يوم ولهم يوم. قال ابن عباس : كان يوم شربهم لا تشرب الناقة شيئا من الماء ، وتسقيهم لبنا ، وكانوا في نعيم ، وإذا كان يوم الناقة شربت الماء كلّه ، فلم تبق لهم شيئا. أي أنهم يوم شربها أو وردها الماء يحتلبون منها ما شاؤوا.

٦ ـ ملّوا هذه القسمة ، فحرضوا صاحبهم قدار بن سالف أشقى ثمود على عقرها ، فعقرها ، بأن رماها بسهم ، ثم ضرب قوائمها بالسيف ، ثم نحرها.

٧ ـ عاقبهم الله جزاء تكذيبهم وكفرهم برسولهم صالح ، واعتدائهم على الناقة ، فأرسل عليهم صيحة واحدة من جبريل عليه‌السلام ، فلما سمعوا الصيحة ماتوا ، وبادوا عن آخرهم ، ولم يبق منهم أحد ، وأصبحوا كهشيم المحتظر ، قال ابن عباس : المحتظر : هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة بالشجر والشوك ، فما سقط من ذلك وداسته الغنم فهو الهشيم. وعنه : كحشيش تأكله الغنم ، أو كالعظام النخرة المحترقة. وقوله : (فَكانُوا) فيه استعمال الماضي فيما اتصل بالحال.

٨ ـ المتأمل ينظر بما آل إليه هؤلاء القوم من إبادة وعذاب أصبحوا مثلا وعبرة للتاريخ.

٩ ـ يسهل على كل إنسان إدراك هذه الحقيقة من القرآن الذي أخبر عن هذه المحنة الأليمة ، فهو كتاب سهل المأخذ ، يسر الله به فهم المواعظ والعبر ، فهل من متعظ معتبر؟! والتكرار للتذكار والتأكيد.

١٧٠

ـ ٤ ـ

قصة قوم لوط عليه‌السلام

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠))

الإعراب :

(إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ ، نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا آلَ لُوطٍ) : منصوب على الاستثناء ، و (بِسَحَرٍ) في موضع نصب ، لأنه متعلق ب (نَجَّيْناهُمْ) وصرفه أي نونه ، لأنه أراد به سحرا من الأسحار. ولو أراد به التعريف لكان ممنوعا من الصرف ، أي التنوين للتعريف والعدل عن لام التعريف. و (نِعْمَةً) : مفعول لأجله.

المفردات اللغوية :

(بِالنُّذُرِ) بالرسل والأمور المنذرة على لسانهم ، وتكذيب نبي واحد كتكذيب جميع الأنبياء ، لاتفاقهم على أصول الشرائع كما تقدم. (حاصِباً) ريحا تحصبهم بالحجارة ، أي ترميهم بالحصباء : وهي صغار الحجارة ، الواحد دون ملء الكف. (إِلَّا آلَ لُوطٍ) أهله وابنتاه معه. (بِسَحَرٍ) أي بسحر من الأسحار ، من يوم غير معين ، والسحر : السدس الأخير من الليل قبيل طلوع الفجر. (نِعْمَةً) مصدر ، أي إنعاما. (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) أي مثل ذلك الجزاء نجزي من شكر نعمنا ، وكان مؤمنا بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مطيعا الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ) أي خوّفهم لوط عليه‌السلام. (بَطْشَتَنا) أخذتنا بالعذاب. (فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) أي شكّوا في الإنذارات وكذبوا بها. (راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) قصدوا الفجور بضيوفه ، وطلبوا منه تمكينهم منهم وأن يسلمهم أضيافة الذين كانوا ملائكة. (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) أعميناهم ، أو

١٧١

جعلنا أعينهم مطموسة لا شق لها ، وأزلنا أثرها. (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) أي فقلنا لهم على ألسنة الملائكة : ذوقوا إنذاري وتخويفي ، أي ثمرته وفائدته.

(بُكْرَةً) أول النهار. (عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) دائم يستقر بهم إلى أن يهلكوا ، أو يتصل بعذاب الآخرة. (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) قال البيضاوي : كرر ذلك في كل قصة إشعارا بأن تكذيب كل رسول مقتض لنزول العذاب ، واستماع كل قصة مستدع للادّكار والاتعاظ ، واستئنافا للتنبيه والإيقاظ ، لئلا يغلبهم السهو والغفلة ، وهكذا تكرير قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) و (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ونحوهما.

وإنما لم يقل هنا (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي) كما قال في القصص الثلاث الأخرى ، لأن التكرار ثلاث مرات بالغ كاف ، ويحصل التأكيد بالثلاث.

المناسبة :

هذه قصة رابعة هي قصة قوم لوط ، ذكرها الله تعالى لبيان السبب وهو تكذيب الرسل وارتكاب الفواحش ، وبيان العقاب الشديد وهو التدمير والإهلاك ، ليعتبر كل الناس ، ويعلموا أنه ما من هلاك إلا بعد إنذار بالعذاب على لسان رسول ، ثم تكذيبه.

التفسير والبيان :

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) هذا حال قوم آخرين ، وهم قوم لوط الذين كذبوا رسولهم وخالفوه ، وكذبوا بالآيات التي أنذرهم بها ، واقترفوا الفاحشة.

ثم بيّن الله تعالى عذابهم وإهلاكهم ، فقال :

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) أي إننا أرسلنا عليهم ريحا ترميهم بالحصباء ، وهي الحصى والحجارة ، فأهلكتهم ودمرتهم إلا لوطا عليه‌السلام ومن آمن به واتبعه ، فإنا أنجيناهم من الهلاك في آخر الليل أو في قطعة من الليل وهو السدس الأخير ، نجوا مما أصاب قومهم.

١٧٢

هذا ولم يؤمن بلوط من قومه أحد ، ولا رجل واحد ، حتى ولا امرأته أصابها ما أصاب قومها ، وخرج نبي الله لوط وبنات له من بين أظهرهم سالما لم يمسسه سوء.

وكان سبب نجاتهم شكرانهم النعمة ، فقال تعالى :

(نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا ، كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) أي لقد أنجيناهم إنعاما منا عليهم ، وتكريما لهم ، ومثل ذلك الجزاء الحسن ، نجزي من شكر نعمتنا ولم يكفرها ، بأن آمن وأطاع أمرنا ، واجتنب نهينا.

ثم بين الله تعالى عدله في العقاب وهو مجيئه بعد إنذار ، فقال :

(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا ، فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) أي ولقد أنذرهم نبيهم بطشة الله بهم ، وهي عذابه الشديد ، وعقوبته البالغة ، قبل حلوله بهم ، إن لم يؤمنوا ، فما التفتوا إلى ذلك ولا أصغوا إليه ، بل شكوا في الإنذار ولم يصدقوه ، وكذبوه.

ثم ذكر الله تعالى جرما آخر لهم عدا الكفر والتكذيب ، فقال :

(وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ ، فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ ، فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) أي لقد أرادوا منه تمكينهم ممن أتاه من الضيوف الملائكة الذين جاؤوا في صورة شباب مرد حسان ، ليفجروا بهم ، كما هو دأبهم ، إذ قد بعثت امرأته العجوز السوء إلى قومها ، فأعلمتهم بأضياف لوط ، فأقبلوا يهرعون إليه من كل مكان ، فأغلق لوط دونهم الباب ، فجعلوا يحاولون كسر الباب عشية الليل ، ولوط عليه‌السلام يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه ، وأرشدهم إلى نسائهم الذين هم بمثابة بناته ، وهو لهم كالأب.

فلما اشتد الخلاف ، وأبوا إلا الدخول ، طمس الله أبصارهم ، فأصبحوا لا يرون شيئا ، فرجعوا على أدبارهم ، يتحسسون بالحيطان ، ويتوعدون لوطا عليه‌السلام ، إلى الصباح.

١٧٣

وقلنا لهم على ألسنة الملائكة : ذوقوا ألم عذابي وتبعة إنذاراتي.

ثم ذكر تعالى نوع العذاب العام الذي أصابهم ووقته ، فقال :

(وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) أي لقد أتاهم صباحا عذاب مستقرّ بهم ، نازل عليهم ، لا يفارقهم ولا ينفك أو يحيد عنهم ، كما قال تعالى : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) [هود ١١ / ٨١] والعذاب المستقر : الثابت الذي لا محيد عنه أو الذي استقر عليهم إلى الاستئصال الكلي.

ثم أوضح تعالى العبرة وحكى ما قيل لهم ، فقال :

ـ (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) أي فذوقوا جزاء أفعالكم ومقتضى إنذاركم السابق.

ـ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي ولقد سهلنا آيات القرآن للاتعاظ والتذكر ، فهل من متعظ معتبر. وهذه الجملة الواردة عقب القصص الأربع للتأكيد والتنبيه والاتعاظ والزجر ، كما تقدم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ لما كذب قوم لوط نبيهم ، أرسل الله عليهم ريحا ترميهم بالحصباء وهي الحصى ، فلا عقاب دون جريمة ، ولا عذاب قبل إنذار.

٢ ـ نجّى الله تعالى نبيه لوطا عليه‌السلام ومن تبعه على دينه ، ولم يكن إلا بنتاه ، وتمت النجاة في وقت السحر آخر الليل ، إنعاما من الله على لوط وبنتيه ، ومثل ذلك الجزاء يجازي الله كل من آمن بالله وأطاعه ، أي أن ذلك الإنجاء كان فضلا من الله ونعمة ، كما أن ذلك الإهلاك كان عدلا. وفيه فائدة وهي الدلالة

١٧٤

على الثواب في الدار الآخرة ، كما تحققت النجاة في الدنيا ، أي كما أنعمنا عليهم ننعم عليهم يوم الحساب.

٣ ـ لا عقاب أيضا إلا بعد إنذار ، فلقد أنذر لوط عليه‌السلام قومه ، وخوّفهم عقوبة ربهم ، وأخذه إياهم بالعذاب الدنيوي والأخروي ، فشكّوا فيما أنذرهم به الرسول ، ولم يصدقوه. وفي هذا تبرئة لوط عليه‌السلام وبيان أنه أتى بما عليه.

٤ ـ اقترن مع كفرهم جريمة كبري أخرى هي اقترافهم الفواحش ، بل إنهم أرادوا من لوط عليه‌السلام تمكينهم ممن كان أتاه من الملائكة في هيئة الأضياف ، طلبا للفاحشة.

٥ ـ لما أصرّوا على الاعتداء على الملائكة ، واقتحام منزل لوط عليه‌السلام ، أعماهم الله مع صحة أبصارهم ، فلم يروهم. ويروى أن جبريل عليه‌السلام ضربهم بجناحه فعموا. قال الضحاك : طمس الله على أبصارهم ، فلم يروا الرسل ، فقالوا : لقد رأيناهم حين دخلوا البيت ، فأين ذهبوا؟ فرجعوا ولم يروهم.

٦ ـ قال الله لهم على ألسنة الملائكة : ذوقوا عذابي الذي أنذركم به لوط ، والمراد بذوق العذاب مجازاة الفعل وموجبه.

٧ ـ لقد صبّحهم أول النهار ، وقت الصبح عذاب دائم عام ، استقر فيهم ، حتى يفضي بهم إلى عذاب الآخرة. وفائدة قوله : (بُكْرَةً) تبيين حدوث العذاب في أول النهار ، لأن التصبيح يطلق على الإتيان في أزمنة كثيرة من أول الصبح إلى ما بعد الإسفار ، فإذا قال : (بُكْرَةً) أفاد أنه كان أول جزء منه.

٨ ـ كرر الله تعالى للتأكيد ما قالته الملائكة لهم : ذوقوا العذاب الذي نزل بكم من طمس الأعين ، غير العذاب الذي أهلكوا به ، لأن العذاب كان مرتين : أحدهما ـ خاص بالمراودين ، والآخر عام.

١٧٥

٩ ـ إن الهدف من القصة هو العبرة والعظة ، والقرآن الكريم سهّله الله للاتعاظ والاعتبار ، ولكن ما أكثر المواعظ والعبر ، وأقل الاعتبار. وقد كرر تعالى بيان ذلك للتنبيه والتأكيد.

ـ ٥ ـ

قصة آل فرعون

(وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢))

المفردات اللغوية :

(آلَ فِرْعَوْنَ) قومه معه ، واكتفى بذكرهم دونه للعلم بأنه القائد وأنه أولى بذلك. (النُّذُرُ) الإنذارات على لسان موسى وهارون ، فلم يؤمنوا. (كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) أي بل كذبوا بالآيات التسع التي أوتيها موسى عليه‌السلام. (فَأَخَذْناهُمْ) بالعذاب. (أَخْذَ عَزِيزٍ) قوي لا يغالب ولا يغلب. (مُقْتَدِرٍ) قادر لا يعجزه شيء.

التفسير والبيان :

هذه قصة خامسة بإيجاز ، أخبر الله بها عن تكذيب فرعون وقومه بالرسل ، فقال :

(وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) أي والله لقد جاءت الإنذارات والبشائر فرعون وقومه من طريق موسى وهارون ، الإنذار بالعذاب إن كفروا ، والبشارة بالجنة إن آمنوا. والفرق بين الآل والقوم : أن القوم أعم من الآل ، فالقوم : كل من يقوم الرئيس بأمرهم ويأتمرون بأمره ، والآل : كل من يؤول إلى الرئيس خيرهم وشرهم ، أو يؤول إليهم خيره وشره.

١٧٦

(كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها ، فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) أي إننا أيدنا موسى وهارون بمعجزات عظيمة وآيات متعددة ، منها الآيات التسع كالعصا واليد ، فكذبوا بها كلها ، فأخذهم الله بالعذاب الشديد أخذ قوي غالب في انتقامه ، قادر على إهلاكهم قاهر لا يعجزه شيء ، أي أبادهم الله ولم يبق منهم أحدا ، وعاقبهم بتكذيبهم وبكفرهم بالله.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذا خبر موجز عن فرعون وقومه : القبط ، يتضمن بيان الجريمة والعقاب ، فإن الله أرسل لهم موسى وهارون بالإنذارات والبشائر ، فكذبوا بجميع الآيات أو المعجزات الدالة على توحيد الله ونبوة الأنبياء ، وهي تسع : العصا ، واليد ، والسّنون ، والطمسة ، والطوفان ، والجراد ، والقمّل ، والضفادع ، والدم ، فعاقبهم الله بكفرهم بربهم وتكذيبهم رسل الله ، وكان العقاب شديدا لصدوره من إله غالب في انتقامه ، قادر على ما أراد.

ويلاحظ أن القصص الخمس المذكورة في هذه السورة : قصة قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وآل فرعون مشتركة في السبب أو الجريمة ، وفي الجزاء أو العقاب ، والسبب أو الجريمة يكاد يكون واحدا وهو الكفر بالله وتكذيب الرسل ، مع معاص أخرى ، والعقوبة وإن اختلفت بين طوفان ، وريح صرصر عاتية ، وصيحة جبريل ، وريح حاصب ، وإغراق ، فنتيجتها واحدة وهي الإبادة والاستئصال التام ، وتلك عبرة وعظة لكفار قريش وأمثالهم.

١٧٧

توبيخ المشركين من كفار قريش وبيان جزاء المجرمين والمتقين

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))

الإعراب :

(أَمْ يَقُولُونَ : نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ نَحْنُ) : مبتدأ ، (جَمِيعٌ) : خبره ، و (مُنْتَصِرٌ) : خبر لمحذوف تقديره : أمرنا أو جمعنا.

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ كُلَ) : بالنصب بتقدير (خلقنا) وذلك يدل على العموم واشتمال الخلق على جميع الأشياء ، ولا يجوز أن يكون (خلقنا) صفة (شَيْءٍ) لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف. وتقرأ (كُلَ) بالرفع على الابتداء ، و (خَلَقْناهُ) : خبره ، لكن لا يكون (كُلَ) حينئذ متمحضا للعموم ، لأن المعنى : إنا كل شيء مخلوق لنا بقدر ، فيحتمل أن يكون هاهنا ما ليس بمخلوق من الأشياء ، بخلاف حالة النصب ، فإنه لا يحتمل إلا العموم. و (بِقَدَرٍ) : حال من (كُلَ) ، أي مقدرا.

البلاغة :

(أَكُفَّارُكُمْ أَمْ يَقُولُونَ) الاستفهام إنكاري يقصد به النفي.

(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) إطناب بتكرار لفظ الساعة لزيادة التخويف.

١٧٨

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) و (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) بينهما ما يسمى بالمقابلة.

(ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) المس مجاز مرسل عن الألم ، وعلاقته السببية ، فإن مسها سبب للألم ، ويراد بالذوق الإحساس.

(صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) بينهما طباق.

في أواخر الآيات كلها سجع غير متكلف له وقع وجرس وجمال في اللفظ.

المفردات اللغوية :

(أَكُفَّارُكُمْ) يا قريش. (مِنْ أُولئِكُمْ) المذكورين في القصص السابقة من قوم نوح إلى آل فرعون. (بَراءَةٌ) وثيقة مكتوبة بالنجاة من العذاب. (الزُّبُرِ) الكتب السماوية ، جمع زبور ، المعنى : أم أنزل لكم في الكتب السماوية أن من كفر منكم ، فهو في أمان من العذاب. والاستفهام في الموضعين بمعنى النفي ، أي ليس الأمر كما تزعمون أو تتصورون.

(أَمْ يَقُولُونَ) كفار قريش. (نَحْنُ جَمِيعٌ) جمع. (مُنْتَصِرٌ) على محمد ، قال أبو جهل يوم بدر : إنا جمع منتصر ، فنزلت الآية : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) يرجعون إلى الأدبار هاربين ، فقد هزموا ببدر ، ونصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ، وهو من دلائل النبوة. (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) بالعذاب الأصلي. (وَالسَّاعَةُ) أي وعذاب الساعة. (أَدْهى) أعظم وأشد بلية وداهية ، والداهية : أمر فظيع لا يهتدى لعلاجه. (وَأَمَرُّ) أشد مرارة ومذاقا من عذاب الدنيا ، والمراد : أصعب على النفس وأكثر شدة وهولا.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) الكفار والمشركين. (فِي ضَلالٍ) خطأ وبعد عن الحق. (وَسُعُرٍ) نيران مستعرة في الآخرة. (يُسْحَبُونَ) يجرّون على وجوههم. (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) أي يقال لهم : ذوقوا حر النار وألمها ، فإن مسّها أي إصابتها سبب للتألم بها ، و (سَقَرَ) اسم جهنم ، ولذلك كان ممنوعا من الصرف. (بِقَدَرٍ) أي مقدّرا بمقدار معلوم مكتوب في اللوح قبل وقوعه.

(أَمْرُنا) شأننا ، أو أمرنا بإيجاد الشيء الذي نريده. (إِلَّا واحِدَةٌ) أي كلمة واحدة ، وهي قول (كن) فيوجد ، أو فعلة واحدة ، وهو الإيجاد بلا معاناة. (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) أي في اليسر والسرعة. (أَشْياعَكُمْ) أشباهكم في الكفر من الأمم الماضية. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) متعظ ، والاستفهام بمعنى الأمر ، أي اذكروا واتعظوا. (فِي الزُّبُرِ) مكتوب في سجل أو كتب الحفظة. (مُسْتَطَرٌ) مسطور أو مكتوب في اللوح المحفوظ.

(فِي جَنَّاتٍ) بساتين. (وَنَهَرٍ) أنهار ، المراد به الجنس. وقرئ بضم النون وسكون الهاء كأسد وأسد. (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) في مكان مرضي ، أو في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم ، والمراد

١٧٩

به أيضا الجنس ، وقرئ : مقاعد أي في مجالس من الجنات سالمة من اللغو والتأثيم ، بخلاف مجالس الدنيا ، قل أن تسلم من ذلك. (عِنْدَ مَلِيكٍ) أي مقربين عند الله تعالى ، و (مَلِيكٍ) صيغة مبالغة ، أي عزيز الملك وواسع السلطان. (مُقْتَدِرٍ) قادر لا يعجزه شيء ، وهو الله تعالى. والعندية ليست عندية مكان ، وإنما إشارة إلى الرتبة والقربة من فضل الله تعالى.

سبب النزول :

نزول الآية (٤٥):

(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ..) : أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : قالوا يوم بدر : (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) ، فنزلت : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ، وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ).

نزول الآية (٤٧):

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ ..) : أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القدر ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) إلى قوله : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ).

وروى ابن حبان عن أبي أمامة الباهلي قال : أشهد بالله لسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن هذه الآية نزلت في القدرية (١) : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ، ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ).

وذكر أبو بكر بن الحارث عن أبي زرارة الأنصاري : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ..) ثم قال : أنزلت هذه الآية في أناس من آخر هذه الأمة يكذبون بقدر الله تعالى.

__________________

(١) القدرية : هم الذين يقولون : إن الإنسان يخلق أفعال نفسه.

١٨٠