التفسير المنير - ج ٢٧

الدكتور وهبة الزحيلي

أهل الصّفّة : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ثم بكوا حتى جرت دموعهم على خدودهم ، فلما سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكاءهم ، بكى معهم ، فبكينا لبكائه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يلج النار من بكى من خشية الله ، ولا يدخل الجنة مصرّ على معصية الله ، ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون فيغفر لهم ويرحمهم ، إنه هو الغفور الرحيم».

وقال أبو حازم : نزل جبريل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعنده رجل يبكي ، فقال له : من هذا؟ قال : هذا فلان ، فقال جبريل : إنا نزن أعمال بني آدم كلها إلا البكاء ، فإن الله تعالى ليطفئ بالدمعة الواحدة بحورا من جهنم.

٥ ـ أمر الله بالسجود له والخضوع لجلاله وعظمته شكرا على الهداية ، وبالاشتغال بالعبادة. قال ابن مسعود ، وبه أخذ أبو حنيفة والشافعي : المراد بقوله : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) سجود تلاوة القرآن. وقد تقدم أول السورة وفي تفسيرها من حديث ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد فيها وسجد معه المشركون. وقال ابن عمر : المراد سجود الفرض في الصلاة ، أي إنه كان لا يراها من عزائم السجود ، وبه قال مالك ، قال القرطبي : والأول أصح.

١٤١

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة القمر

مكيّة ، وهي خمس وخمسون آية.

تسميتها :

سميت سورة القمر ، لافتتاحها بالخبر عن انشقاق القمر ، معجزة لنبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

مناسبتها لما قبلها :

تتضح مناسبة هذه السورة لما قبلها من نواح ثلاث هي :

١ ـ اتفاق خاتمة السورة السابقة وفاتحة هذه السورة حول إعلان قرب القيامة ، فقال تعالى في سورة (النجم) : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) (٥٧) وقال في هذه السورة : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) إلا أنه ذكر هاهنا دليلا على الاقتراب ، وهو قوله : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ). جاء في الصحيحين عن أنس : «أن الكفار سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية ، فانشق القمر مرتين».

٢ ـ تناسب التسمية وحسن التناسق ، لما بين النجم والقمر من تقارب ، كما في توالي سورة الشمس ، والليل ، والضحى ، ومن قبلها سورة الفجر.

٣ ـ فصلت هذه السورة أحوال الأمم المشار إلى إهلاكهم بسبب تكذيب رسلهم في السورة المتقدمة في قوله تعالى : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى ، وَثَمُودَ فَما

١٤٢

أَبْقى ، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ ، إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى ، وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) (٥٠ ـ ٥٣). وهذا يشابه الأعراف بعد الأنعام ، والشعراء بعد الفرقان ، والصافات بعد يس.

ما اشتملت عليه السورة :

موضوع هذه السورة كسائر السور المكية لتقرير أصول العقيدة الإسلامية ، بدءا من إنزال القرآن بالوحي وتهديد المكذبين بآياته ، وانتهاء بالجزاء الحتمي يوم القيامة ومشاهد عذاب الكفار ، وأنواع ثواب المتقين وتكريمهم.

أخبرت السورة أولا بقرب وقت القيامة ودليل ذلك وهو انشقاق القمر الذي هو أحد المعجزات الكبرى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وموقف المشركين من تلك المعجزة ووصفها بأنها سحر مفترى ، وغفلتهم عما في القرآن من الزواجر.

وتلا ذلك أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عنهم ، وإنذارهم بحشرهم أذلة مسرعين كالجراد المنتشر ، بعبارات تهز المشاعر ، وتثير المخاوف ، وتملأ النفس رعبا وفزعا من أهوال القيامة.

ثم أنذرت كفار مكة بعذاب مشابه لعذاب الأمم السابقة كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون جزاء على تكذيبهم الرسل ، وأفردت كل قصة عن الأخرى ، وعقبتها بعبارة مخيفة تدعو للعجب وهي : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟!) وقرنها بقوله : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).

ثم وبخت مشركي قريش على غفلتهم عن هذه النذر ، وحذرتهم مصرعا مماثلا لمصارع أولئك الأقوام ، وهو القتل والهزيمة في الدنيا ، وعذاب الآخرة الأدهى والأمرّ ، الذي يصاحبه الذل والمهانة بالسحب على وجوههم في النار ، فهم في ضلال وسعر.

١٤٣

وختمت السورة ببيان ظاهرة التوازن في خلق الأشياء ، وسرعة نفاذ أمر الله ومشيئته كلمح البصر ، وضرورة العظمة والتذكر بهلاك الطغاة ، ورصد جميع أعمال البشر في سجلات محفوظة ، وتبشير المتقين بالجنات والكرامات عند ربهم المليك المقتدر.

والخلاصة : أن السورة حافلة بالوعد والوعيد ، والعظات والعبر بأخبار الماضين ، وتهديد الكفار بعقاب مماثل ، وإكرام المتقين في جنات ونعيم.

فضل السورة :

تقدم في فضل سورة ق إيراد حديث أبي واقد الليثي فيما يرويه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ بقاف واقتربت الساعة في الأضحى والفطر» وكان يقرأ بهما في المحافل الكبار كالجمع والعيد ، لاشتمالها على ذكر الوعد والوعيد ، وبدء الخلق وإعادته ، والتوحيد وإثبات النبوات وغير ذلك من المقاصد العظيمة.

انشقاق القمر وموقف المشركين منه

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨))

١٤٤

الإعراب :

(ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أصله «مزتجر» بوزن مفتعل من الزجر ، وإنما أبدلت التاء دالا ، لأن التاء مهموسة والزاي مجهورة ، فأبدلوا من التاء دالا ، لتوافق الزاي في الجهر. وهو اسم مصدر أو اسم مكان. و (ما) اسم موصول أو نكرة موصوفة. والجار والمجرور : (مِنَ الْأَنْباءِ) متعلق بمحذوف حال مقدم من (ما). (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) : (حِكْمَةٌ) : إما بدل مرفوع من (ما) في قوله تعالى : (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) و (ما) : مرفوعة فاعل : «جاء» ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : هي حكمة بالغة. و (فَما) في قوله : (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) : إما استفهامية استفهام إنكاري ، في موضع نصب ب (تُغْنِ) أي ، أيّ شيء تغني النذر ، أو نافية على تقدير حذف مفعول (تُغْنِ) وتقديره : فما تغني النذر سيئا. وحذفت ياء «تغني» وواو «يدعو» اتباعا لخط المصحف ، لأنه كتب على لفظ الوصل ، لا على لفظ الوقف. (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) ناصب يوم : يخرجون الآتي بعده.

(خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ خُشَّعاً) : حال منصوب من ضمير (عَنْهُمْ) في قوله تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) وكذلك قوله تعالى : (مُهْطِعِينَ) حال منصوب من ضمير (عَنْهُمْ).

البلاغة :

(يَدْعُ الدَّاعِ) بينهما جناس الاشتقاق.

المفردات اللغوية :

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) قربت القيامة ودنت. (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) روى الشيخان أن الكفار سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية ، فانشق القمر ، أي انفلق فلقتين على أبي قبيس وقعيقعان. (وَإِنْ يَرَوْا) أي كفار قريش. (آيَةً) معجزة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم دالة على نبوته. (وَيَقُولُوا : سِحْرٌ) أي هذا سحر. (مُسْتَمِرٌّ) محكم قوي ، من المرّة وهي القوة ، أو دائم مطرد. (وَكَذَّبُوا) النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) ما زيّن لهم الشيطان من الوساوس ورد الحق بعد ظهوره. (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) أي وكل أمر من الخير والشر منته إلى غاية من خذلان أو نصر في الدنيا ، وشقاوة أو سعادة في الآخرة ، وبعبارة أخرى : كل أمر لا بدّ أن يصير إلى غاية يستقر عليها ، وقرئ بفتح القاف. (مُسْتَقِرٌّ) أي ذو استقرار ، أو له زمان استقرار أو موضع استقرار ، فهو إما مصدر أو ظرف زمان أو مكان.

(الْأَنْباءِ) أخبار الأمم الماضية وما أصابهم من عذاب أو إهلاك لتكذيبهم الرسل. (مُزْدَجَرٌ) ما يزجرهم ويكفيهم ، يقال : زجرته وازدجرته : نهيته بغلظة ، أو كففته فانكف.

١٤٥

(حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) تامة ، واصلة غاية الإحكام والإبداع ، لا خلل فيها. (تُغْنِ) تفيد وتنفع. (النُّذُرُ) المنذرون ، جمع نذير بمعنى منذر ، أو الأمور المنذرة لهم ، جمع المنذر منه ، أو مصدر بمعنى الإنذار.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أعرض عنهم ولا تجادلهم ، لعلمك أن الإنذار لا ينفع ولا يغني فيهم. (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) يوم ينادي إسرافيل. (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) إلى شيء شديد الهول تنكره النفوس إذ لا عهد لها مثله. (خُشَّعاً) أذلة ، جمع خاشع ، أي ذليل ، ويقرأ خشعا بضم الخاء وفتح الشين ، أي مشددة. (الْأَجْداثِ) القبور جمع جدث. (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) في الكثرة والتموج والانتشار في الأمكنة ، والجراد : حيوان طائر معروف يأكل النبات ، والمنتشر : الكثير. (مُهْطِعِينَ) مسرعين ، مادّين أعناقهم ، منقادين. (هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) يوم صعب شديد على الكافرين ، كما في قوله تعالى : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) [المدثر ٧٤ / ٩ ـ ١٠].

سبب النزول :

نزول الآية (١ ـ ٢):

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ...) : أخرج الشيخان والحاكم ـ واللفظ له ـ عن ابن مسعود قال : رأيت القمر منشقا شقين بمكة ، قبل مخرج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : سحر القمر ، فنزلت : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ، وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).

وأخرج الترمذي عن أنس قال : سأل أهل مكة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية ، فانشق القمر بمكة ، مرتين ، فنزلت : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ، وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) إلى قوله : (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ).

وأخرج محمد بن جرير وأبو داود الطيالسي والبيهقي عن عبد الله بن مسعود قال : انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة ، سحركم ، فاسألوا السّفّار ، فسألوهم ، فقالوا : نعم قد رأينا ، فأنزل الله عزوجل : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا : سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ).

١٤٦

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن اقتراب القيامة وانتهاء الدنيا ، فيقول :

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) أي قربت القيامة ودنت ، واقترب موعد انقضاء الدنيا ، أي قد صارت باعتبار نسبة ما بقي بعد النبوة المحمدية إلى ما مضى من الدنيا قريبة ، كما قال تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل ١٦ / ١] وقال سبحانه : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء ٢١ / ١]. وروى أبو بكر البزّار عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب أصحابه ، وقد كادت الشمس أن تغرب ، فلم يبق منها إلا سفّ يسير ، فقال : «والذي نفسي بيده ، ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا ، فيما مضى منه ، وما نرى من الشمس إلا يسيرا».

ويعضده ما أخرجه أحمد والشيخان عن سهل بن سعد قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «بعثت أنا والساعة هكذا» وأشار بأصبعيه : السبابة والوسطى. وقيل : المراد تحقق وقوع الساعة.

ثم أخبر الله تعالى عن انشقاق القمر معجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) أي وقد انشق القمر معجزة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآية ظاهرة على قرب القيامة وإمكانها. قال ابن كثير : قد كان هذا في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة ، وهذا أمر متفق عليه بين العلماء ، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات (١). وقرب القيامة بالرغم من مضي أكثر من أربعة عشر قرنا باعتبار أن كل ما هو آت قريب.

أخرج أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أنس أن أهل مكة سألوا

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٢٦١

١٤٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يريهم آية ، فأراهم القمر شقتين ، حتى رأوا حراء (جبل مشهور بمكة) بينهما.

وأخرجا أيضا عن ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرقتين : فرقة فوق الجبل ، وفرقة دونه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اشهدوا».

وقيل : المراد الإخبار عن أنه سينشق القمر.

ثم أخبر الله تعالى عن موقف الكفار وعنادهم أمام هذه المعجزة ، فقال :

(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ، وَيَقُولُوا : سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) أي وإن ير المشركون علامة على النبوة ودليلا على صدق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعرضوا عن التصديق والإيمان بها ، ويولوا مكذبين بها قائلين : هذا سحر قوي شديد يعلو كل سحر ، مأخوذ من قولهم : استمرّ الشيء : إذا قوي واستحكم ، وقيل : مستمر ، أي دائم مطرد.

وهذا ردّ على المشركين الذين طالبوا بآية ، قال المفسرون : لما انشق القمر ، قال المشركون : سحرنا محمد ، فقال الله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً) يعني انشقاق القمر. ثم أكد تعالى موقفهم هذا بقوله :

(وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ، وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) أي وكذبوا بالحق إذ جاءهم ، واتبعوا ما أملته عليه أهواؤهم وآراؤهم في أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساحر أو كاهن ، بسبب جهلهم وسخافة عقولهم. ثم هددهم تعالى وأخبرهم بأن كل أمر منته إلى غاية مماثلة له ، فالخير يستقر بأهل الخير ، والشر يستقر بأهل الشرّ ، فقوله : (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) استئناف للرد على الكفار في تكذيبهم ، ببيان أنه لا فائدة لهم في ذلك ، لأن كل أمر له غاية حتما ، وسينتهي أمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى غاية يظهر فيها أنه على حق ، وهم على باطل.

وفي هذا أيضا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتبشير له بأن النصر سيكون حليفه في الدنيا ، وأن له ولأتباعه الدرجة العالية والجنة في الآخرة.

١٤٨

ثم وبخهم الله على إصرارهم على الكفر وعلى ضلالهم ، فقال : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أي ولقد جاء كفار مكة وأمثالهم من أخبار الأمم المكذبة رسلها ، وما حل بهم من العقاب والنكال في هذا القرآن ما فيه كفاية لكفهم عن السوء ، وزجر وردع ووعظ عما هم فيه من الشرك والوثنية والعصيان والتمادي في التكذيب.

ووصف الله تعالى تلك الأنباء بقوله :

(حِكْمَةٌ بالِغَةٌ ، فَما تُغْنِ النُّذُرُ) أي إن هذه الأنباء في القرآن وما تضمنته من عبرة وعظة وهداية حكمة بالغة كاملة قد بلغت منتهى البيان ، ليس فيها نقص ولا خلل ، ولا تفيد النذر أو الإنذارات شيئا للمعاندين ، فإن عنادهم يصرفهم عن الحق ، فتكون «ما» نافية ، ويصح أن تكون استفهاما إنكاريا ، بمعنى أي غناء أو شيء تغني النذر أي الإنذارات لهؤلاء الكفار الطغاة؟ فإنك أيها النّبي أتيت بما عليك من الإخبار بالنبوة مقرونة بالآية الباهرة ، وأنذرتهم بأحوال الأقدمين ، فلم يفدهم شيئا.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس ١٠ / ١٠١].

ثم أمر الله نبيه بالإعراض عن مجادلتهم بعدئذ ، فقال :

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ، يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) أي أعرض عنهم يا محمد ، ولا تتعب نفسك بدعوتهم ، حيث لم يؤثر فيهم الإنذار ، وانتظرهم واذكر يا محمد ذلك اليوم الذي يدعو فيه إسرافيل إلى شيء فظيع تنكره نفوسهم ، استعظاما له ، إذ لا عهد لهم بمثله أبدا ، وهو موقف الحساب الرهيب وما فيه من البلاء والأهوال.

١٤٩

(خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) أي يوم يكون أولئك الكفار في ذلك اليوم ذليلة أبصارهم من الذل والهوان ، يخرجون من القبور على هذه الحال من الذل ، كأنهم لكثرتهم واختلاطهم وانتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعي جراد منتشر منبثّ في الآفاق ، مختلط بعضه ببعض.

وهذا كقوله تعالى : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) [القارعة ١٠١ / ٤].

(مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ، يَقُولُ الْكافِرُونَ : هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) أي مسرعين إلى الداعي ، وهو إسرافيل دون تلكؤ ولا تأخر ، يقول الكفار : هذا يوم صعب شديد الهول على الكفار ، ولكنه ليس بشديد على المؤمنين.

ونظير الآية : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) [المدثر ٧٤ / ٩ ـ ١٠]. وهذا يدل بطريق المفهوم على أنه يوم هيّن يسير على المؤمنين.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ اقتراب موعد يوم القيامة ، فكل آت قريب ، وإن مرور عشرات القرون بعد نزول هذه الآية وأمثالها لا يعد شيئا في حساب عمر الدنيا الذي قدّر بخمسة مليارات سنة.

٢ ـ حدوث انشقاق القمر بمكة في عهد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معجزة له ، قال القرطبي : وقد ثبت بنقل الآحاد العدول أن القمر انشق بمكة ، وهو ظاهر التنزيل ، ولا يلزم أن يستوي الناس فيها ، لأنها كانت آية ليلية ، وأنها كانت

١٥٠

باستدعاء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الله تعالى عند التحدي (١).

وقال الرازي : وأما المؤرخون فتركوه ، لأن التواريخ في أكثر الأمر يستعملها المنجم ، وهو لما وقع الأمر قالوا بأنه مثل خسوف القمر ، وظهور شيء في الجو على شكل نصف القمر في موضع آخر ، فتركوا حكايته في تواريخهم ، والقرآن أدل دليل ، وأقوى مثبت له ، وإمكانه لا يشك فيه ، وقد أخبر عنه الصادق ، فيجب اعتقاد وقوعه (٢).

والقائلون بأن الأخبار الواردة بشأن انشقاق القمر أخبار آحاد غير متواترة يرون أن منكر ذلك لا يكفر ، لعدم التواتر في السنة ، وكون الآية ليست نصا في ذلك.

٣ ـ دلّ قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) على أن المشركين رأوا انشقاق القمر. قال ابن عباس : اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا : إن كنت صادقا فاشقق لنا القمر فرقتين ، نصف على أبي قبيس ونصف على قعيقعان ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن فعلت تؤمنون؟» قالوا : نعم ، وكانت ليلة بدر ، فسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربّه أن يعطيه ما قالوا ، فانشق القمر فرقتين ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينادي المشركين : «يا فلان ، يا فلان اشهدوا». ويؤيده حديث ابن مسعود المتقدم في سبب النزول.

٤ ـ لم يجد المشركون طريقا لتكذيب آية الانشقاق إلا بأن يصفوه بأنه سحر محكم قوي شديد ، من المرّة وهي القوة ، أو دائم نافذ مطرد ، أو ذاهب ، من قولهم : مرّ الشيء واستمر : إذا ذهب.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ١٢٦

(٢) تفسير الرازي : ٢٩ / ٢٨

١٥١

٥ ـ لقد كذبوا نبيهم واتبعوا ضلالاتهم واختياراتهم وآراءهم الباطلة في أن انشقاق القمر خسوف عرضي للقمر.

٦ ـ هددهم الله تعالى بأن كل أمر مستقر ، أي يستقر بكل عامل عمله ، فالخير مستقرّ بأهله في الجنة ، والشرّ مستقرّ بأهله في النار ، وكل أمر صائر إلى غاية ، وأن أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيصير إلى حدّ يعرف منه حقيقته ، وكذلك أمرهم مستقر على حالة البطلان والخذلان.

٧ ـ لقد أعذر من أنذر ، وجاء هؤلاء الكفار من أنباء الأمم الخالية ما يزجرهم عن الكفر لو قبلوه ، وأخبرهم الرسول باقتراب القيامة ، وأقام الدليل على صدقه ، ووعظهم بأحوال القرون الخالية وأهوال الدار الآخرة.

٨ ـ الأنباء التي في القرآن الكريم أو القرآن نفسه حكمة بالغة النهاية في الكمال والبيان.

٩ ـ إذا كذّب الكفار وخالفوا وعاندوا وأصروا على كفرهم ، فليست تغني عنهم النذر ، فتكون «ما» نافية في قوله : (فَما تُغْنِ النُّذُرُ). ويجوز أن تكون استفهاما بمعنى التوبيخ ، أي فأي شيء تغني النذر عنهم ، وهم معرضون عنها؟! والنذر بمعنى الإنذار ، أو جمع نذير.

١٠ ـ إذا كان هذا شأن الكفار ، فأعرض يا محمد عن مجادلتهم ومحاجتهم ، ولا تسأل عنهم وعن أحوالهم ، واذكر يوم يدع الداعي : إسرافيل إلى شيء فظيع عظيم شديد تنكره نفوسهم لشدة أهواله ، وهو موقف الحساب ويوم القيامة.

١١ ـ في يوم القيامة يخرج الكفار من قبورهم ذليلة أبصارهم ، كأنهم لكثرتهم واختلاطهم وتموجهم جراد منتشر مبثوث في كل مكان. وقال تعالى في آية أخرى : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) [القارعة ١٠١ / ٤]. قال القرطبي : فهما صفتان في وقتين مختلفين :

١٥٢

أحدهما ـ عند الخروج من القبور ، يخرجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون ، فيدخل بعضهم في بعض ، فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضه في بعض ، لا جهة يقصدها.

الثاني ـ فاذا سمعوا المنادي قصدوه ، فصاروا كالجراد المنتشر ، لأن الجراد له جهة يقصدها.

وهم في سيرهم مهطعون ، أي مسرعون ، ويقولون : إن يوم القيامة يوم صعب عسر ، لما ينالهم فيه من الشدة.

إعادة قصص الأمم الخالية المكذبة للرسل

ـ ١ ـ

قصة قوم نوح عليه‌السلام

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) وتَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧))

الإعراب :

(فَالْتَقَى الْماءُ) أراد بالماء الجنس ، ولو لم يرد ذلك لقال : الماءان : ماء السماء ، وماء الأرض. والأصل في الماء : موه ، لقولهم في تكسيره : أمواه ، وفي تصغيره : مويه ، لأن التصغير

١٥٣

والتكسير يردان الأشياء إلى أصولها ، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها ، فقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وأبدلت من الهاء همزة ، فصار : «ماء».

(جَزاءً) منصوب بفعل مقدر ، أي أغرقوا انتصارا ، أو عقابا.

(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أصل (مُدَّكِرٍ) مذتكر بوزن مفتعل ، من الذكر ، إلا أن الذال مجهورة والتاء مهموسة ، فأبدلوا من التاء حرفا من مخرجها يوافق الذال في الجهر ، وهي الدال ، وأدغمت الذال في الدال لتقاربها ، فصار مدكر. ويجوز أن تدغم الدال في الذال ، فيقال : مذّكر ، وقد قرئ به.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ فَكَيْفَ) : إما خبر (كانَ) إن كانت ناقصة ، و (عَذابِي) : وهو مصدر بمعنى الإنذار ، أو جمع نذير ، كرغيف ورغف.

البلاغة :

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ) استعارة تمثيلية ، شبه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت بها أبواب السماء. (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) كناية عن السفينة التي تتركب من الأخشاب والمسامير.

المفردات اللغوية :

(كَذَّبَتْ) بالرسل. (قَبْلَهُمْ) قبل قومك قريش. (قَوْمُ نُوحٍ) تأنيث الفعل المعنى (قَوْمُ). (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) نوحا ، وهو تفصيل بعد إجمال. (وَازْدُجِرَ) أي زجر عن التبليغ بأنواع الأذى من السبّ وغيره.

(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي) أي بأني. (مَغْلُوبٌ) غلبني قومي. (فَانْتَصِرْ) فانتقم لي منهم ، وذلك بعد يأسه منهم ، فقد روي أن الواحد منهم كان يلقاه فيخنقه ، حتى يخرّ مغشيا عليه ، فيفيق ، ويقول : اللهم اغفر لقومي ، فإنهم لا يعلمون.

(مُنْهَمِرٍ) منصب ، كثير. (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) أي وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون ، وأصله : فجرنا عيون الأرض ، أي جعلناها تنبع ، فغيّر للمبالغة. (فَالْتَقَى الْماءُ) ماء السماء وماء الأرض. (عَلى أَمْرٍ) على حال (قَدْ قُدِرَ) قضي به في الأزل ، وهو هلاكهم غرقا. (وَحَمَلْناهُ) حملنا نوحا. (عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) حملناه على سفينة ذات أخشاب عريضة ومسامير ، والدسر : جمع دسار مثل كتب وكتاب ، والمراد أن السفينة ذات دفع شديد. (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) بمرأى منا ، والمراد بحراستنا وحفظنا. (جَزاءً) أي أغرقوا عقابا. (لِمَنْ كانَ كُفِرَ) جحد به ، وهو نوح عليه‌السلام ، أي أغرقوا عقابا لهم ، وقرئ : (كُفِرَ) أي جزاء للكافرين.

١٥٤

(وَلَقَدْ تَرَكْناها) أبقينا السفينة أو الفعلة. (آيَةً) علامة ودليلا لمن يعتبر بها. (مُدَّكِرٍ) أي متذكر معتبر ومتعظ. (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي إنذاراتي لهم بالعذاب قبل نزوله ، وهو استفهام تعظيم ووعيد ، وتقرير ، والمعنى : حمل المخاطبين على الإقرار بوقوع عذاب الله تعالى بالمكذبين لنوح موقعه. (يَسَّرْنَا) سهلنا. (لِلذِّكْرِ) للعظة والاعتبار. (مُدَّكِرٍ) متعظ بمواعظه.

المناسبة :

بعد أن أجمل الله تعالى الزجر بأخبار الأمم الماضية المكذبة رسلها ، أعاد بعض الأنباء وفصلها ، وهي قصص أربع : قصة قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط لهدفين : بيان أن حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كحال الرسل المتقدمين مع أقوامهم ، ووعيد المشركين من أهل مكة وغيرهم على تكذيبهم رسولهم.

التفسير والبيان :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ، فَكَذَّبُوا عَبْدَنا ، وَقالُوا : مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) أي كذبت قبل قومك يا محمد بالرسل قوم نوح ، فإنهم كذبوا عبدنا نوحا عليه‌السلام ، واتهموه بالجنون ، وانتهروه وزجروه وتواعدوه عن تبليغ الدعوة بمختلف أنواع الإيذاء والسبّ والتخويف ، قائلين : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) [الشعراء ٢٦ / ١١٦].

وفائدة قوله : (فَكَذَّبُوا (١) عَبْدَنا) بعد قوله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) هي التخصيص بعد التعميم ، أي كذبت الرسل أجمعين ، فلذلك كذبوا نوحا. وقوله : (عَبْدَنا) تشريف وتنبيه على أنه هو الذي حقق المقصود من الخلق وقتئذ ، ولم يكن على وجه الأرض حينئذ عابد لله سواه ، فكذبوه.

__________________

(١) الفاء : فاء تفصيل وتفريع.

١٥٥

(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) أي فدعا نوح الله ربّه قائلا : إني ضعيف عن مقاومة هؤلاء ، فانتصر أنت لدينك ، وانتقم لي منهم بعقاب من عندك.

وقد طلب النصرة عليهم ، بعد أن علم تمردهم وعتوهم وإصرارهم على الضلال. فأجاب الله دعاءه قائلا :

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ (١) مُنْهَمِرٍ) أي صببنا عليهم ماء غزيرا كثيرا متدفقا. وهذا التعبير مجاز عن كثرة انصباب الماء من السماء ، كما يقال في المطر الوابل : جرت ميازيب السماء ، وفتحت أبواب القرب.

(وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً ، فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي وجعلنا الأرض كلها عيونا متفجرة وينابيع متدفقة ، فالتقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قضي عليهم ، أي على أمر مقدر عليهم من الأزل ، لما علم الله من حالهم.

وهذا دليل على عقابهم والانتقام منهم ، ثم ذكر تعالى كيفية إنجاء نوح ، فقال :

(وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) أي وحملنا نوحا على سفينة (ذاتِ أَلْواحٍ) : وهي الأخشاب العريضة ، (وَدُسُرٍ) : وهي المسامير التي تشد بها الألواح. وهذا الإيجاز من فصيح الكلام وبديعه.

ونظير الآية قوله تعالى : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) [العنكبوت ٢٩ / ١٥].

(تَجْرِي بِأَعْيُنِنا ، جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) أي تسير بمنظر ومرأى منا وحفظ وحراسة لها ، جزاء لهم على كفرهم بالله ، وانتصارا لنوح عليه‌السلام ، لأنه نعمة من الله ، وتكذيبه كفران أو جحود لتلك النعمة.

__________________

(١) الباء للآلة نحو فتحت الباب بالمفتاح ، يفتح الله لك بخير.

١٥٦

وهذا دليل على أن اتخاذ الأسباب لتحقيق النتائج أمر ضروري ، وهو أيضا محتاج إلى رعاية الله وعنايته وحفظه.

ثم ذكر الله تعالى أنه أبقى السفينة عبرة لمن بعدهم ، فقال :

(وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي لقد أبقينا السفينة عبرة للمعتبرين ، أو لقد تركنا هذه الفعلة التي فعلناها بهم عبرة وعظة ، فهل من متعظ ومعتبر ، يتعظ بهذه الآية ويعتبر بها.

قال قتادة : أبقى الله سفينة نوح حتى أدركها أول هذه الأمة ، وعقب عليه الحافظ ابن كثير قائلا : والظاهر أن المراد من ذلك جنس السفينة ، كقوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ، وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) [يس ٣٦ / ٤١ ـ ٤٢] ، وقال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) [الحاقة ٦٩ / ١١ ـ ١٢] (١) ولهذا قال ها هنا :

(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي هل من متعظ ومعتبر يتعظ بهذه الآية ويعتبر بها؟!

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي فانظر أيها السامع كيف كان عذابي لمن كفر بي ، وكذّب رسلي ، ولم يتعظ بما جاءت به نذري المرسلون ، وكيف انتصرت لهم ، وأخذت لهم بالثأر ، أو كيف كانت إنذاراتي؟ والاستفهام للتوبيخ والتخويف ، وإنما أفرد العذاب فلم يقل : أنواع عذابي ، وجمع النذر ، إشارة إلى غلبة الرحمة الغضب ، لأن الإنذار إشفاق ورحمة.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) أي لقد سهلناه

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٢٦٤

١٥٧

للحفظ ، وسهلنا لفظه للنطق ، ويسرنا معناه لمن أراده ليتذكر الناس ، فهل من متعظ بمواعظه ، ومعتبر بعبره؟! والأولى أن يقال : سهلناه للتذكر والاتعاظ بسبب المواعظ الشافية والبيانات الوافية.

وفي الآية الحث على درس القرآن ، والاستكثار من تلاوته ، والمسارعة في تعلّمه ، كما قال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ ، لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص ٣٨ / ٢٩] ، وقال سبحانه : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ ، وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) [مريم ١٩ / ٩٧]. قال ابن عباس : لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عزوجل.

والحكمة في تكرير قوله : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ ...) هي تجديد التنبيه على الادّكار والاتعاظ والتعرف على تعذيب الأمم السالفة ، للاعتبار بحالهم. وهكذا حكم التكرير في سورة الرحمن عند عدّ كل نعمة ، وفي سورة المرسلات عند عدّ كل آية ، لتكون مصوّرة للأذهان ، محفوظة في كل أوان. وهذه القصص نفسها كم كررت في القرآن بعبارات مختلفة أوجز وأطنب ، لأن التكرير يوجب التقرير في النفوس ، والتذكير ينبه الغافل على أن كل موضع مختص بمزيد فائدة لم يعرف من غيره (١).

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ كان نوح عليه‌السلام في وقته ومبدأ دعوته العابد الوحيد لله عزوجل ، وكان قومه أول المكذبين للرسل ، لذا شرفه الله تعالى بقوله : (عَبْدَنا) فالإضافة إلى الله تشريف منه ، واختيار لفظ العبد أدل على صدقه وقبح تكذيبهم من قوله : رسولنا.

__________________

(١) غرائب القرآن للنيسابوري : ٢٧ / ٥٢

١٥٨

٢ ـ وصفوه بأنه مجنون إشارة إلى أنه أتى بالآيات الدالة على صدقه ، حيث رأوا ما عجزوا عنه. وأخبر تعالى عنه : (وَازْدُجِرَ) دليل على الحجر عليه ومنعه من تبليغ دعوته بالسبّ والوعيد بالقتل. ويصح أن يكون ذلك حكاية قولهم ، وتقديره : قالوا : مجنون مزدجر ، ومعناه ازدجره الجن ، قال الرازي : والأول أصح.

٣ ـ لما زجروه وانزجر عن دعوتهم دعا ربّه : (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) أي غلبوني بتمردهم فانتصر لي.

٤ ـ أجاب الله دعاءه ، وأمره باتخاذ السفينة ، ثم أغرقهم بالطوفان بماء كثير منصب متدفق من السحب ، وماء نابع من الأرض فالتقى الماءان : ماء السماء وماء الأرض على حال قدرها الله وقضى بها من الأزل ، لعلمه بتكذيبهم.

٥ ـ ونجى الله نوحا عليه‌السلام ومن آمن معه بحملهم على سفينة ذات ألواح شدت بمسامير ، وفي حفظ الله ورعايته وكلاءته ، وقد جعل الله ذلك ثوابا وجزاء لنوح على صبره على أذى قومه الذين جحدوا برسالته ، وعقابا للكافرين على كفرهم بالله تعالى.

٦ ـ لقد ترك الله هذه الغفلة أو السفينة عبرة ، فهل من متعظ خائف؟! قال قتادة : أبقاها ـ أي السفينة ـ الله بباقردى من أرض الجزيرة عبرة وآية ، حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة ، وكم من سفينة كانت بعدها ، فصارت رمادا.

٧ ـ عقب الله تعالى على القصة بأمرين : أولهما ـ فكيف كان العذاب والإنذار؟ تنبيها عاما للخلق. وثانيهما ـ لقد سهل الله القرآن الكريم للاتعاظ والادّكار ، أو للحفظ وأعان عليه من أراد حفظه. قال سعيد بن جبير : ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن.

١٥٩

وهذا يدل على أن الله تعالى يسّر على هذه الأمة حفظ كتابه ليذكّروا ما فيه ، فهل من قارئ يقرؤه ، ومتذكر متعظ يتذكّر به ويتعظ؟ وكرر ذلك في هذه السورة للتنبيه والإفهام ، كما تقدم.

ـ ٢ ـ

قصة عاد قوم هود عليه‌السلام

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢))

الإعراب :

(رِيحاً صَرْصَراً) صرصر : أصله صرّر ، إلا أنه اجتمعت ثلاث راءات ، فأبدلوا من الراء الثانية صادا ، كما قالوا : رقرقت ، وأصله رققت ، فاجتمع فيه ثلاث قافات ، فأبدلوا من القاف الوسطى راء ، هربا من الاستثقال.

(أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) إنما ذكر (مُنْقَعِرٍ) لأن النخل يذكر ويؤنث ، ولهذا قال في موضع آخر : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة ٦٩ / ٧]. والقاعدة : كل ما كان الفرق بين واحده وجمعه من أسماء الأجناس الهاء ، نحو النخل والشجر والسدر ، فإنه يجوز فيه التذكير والتأنيث.

البلاغة :

(كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) تشبيه مرسل مجمل ، حذف منه وجه الشبه.

المفردات اللغوية :

(كَذَّبَتْ عادٌ) نبيّهم هودا عليه‌السلام ، فعذبوه. (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله ، أو إنذاري لمن بعدهم في تعذيبهم. (صَرْصَراً) شديدة الصوت والبرد. (نَحْسٍ) شؤم. (مُسْتَمِرٍّ) دائم شؤمه حتى أهلكهم. (تَنْزِعُ النَّاسَ) تقلعهم من أماكنهم ،

١٦٠