التفسير المنير - ج ٢٧

الدكتور وهبة الزحيلي

فقال : هي إلى سبع مائة أقرب منها إلى سبع ، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار.

ثم فتح الله تعالى باب الأمل ومنع اليأس بقوله :

(إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) أي إن رحمة الله وسعت كل شيء ، ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها ، كما قال تعالى : (قُلْ : يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر ٣٩ / ٥٣].

ثم أكد الله تعالى علمه بالأشياء كلها ، فقال :

(هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ، وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) أي إن الله بصير بكم ، عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي ستصدر منكم ، حين ابتدأ خلقكم بخلق أبيكم آدم من التراب ، واستخرج ذريته من صلبه ، وحين صوركم أجنة في أرحام أمهاتكم ، وتعهدكم بالنمو والتكوين في أطوار مختلفة. والجنين : هو الولد ما دام في البطن ، وفائدة قوله : (فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) التنبيه على كمال العلم والقدرة ، فإن بطن الأم في غاية الظلمة ، ومن علم بحال الجنين فيها لا يخفى عليه ما ظهر من حال العباد.

(فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) أي لا تمدحوا أنفسكم ، ولا تبرّئوها عن الآثام ، ولا تثنوا عليها بإعجاب أو رياء ، ولا تدّعوا الطهارة عن المعاصي ، بل احمدوا الله على الطاعة ، واحذروا المعصية ، فالله هو العليم بمن اتقى المعاصي.

ونظير الآية قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ، بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ ، وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء ٤ / ٤٩].

١٢١

وروى مسلم في صحيحة عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : «سمّيت ابنتي (برّة) فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن هذا الاسم ، فقال : لا تزكوا أنفسكم ، إن الله أعلم بأهل البر منكم ، فقالوا : بم نسميها؟ قال : سموها زينب».

وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه ، قال : مدح رجل رجلا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويلك قطعت عنق صاحبك ـ مرارا ـ إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة ، فليقل : أحسب فلانا ، والله حسيبه ، ولا أزكّي على الله أحدا ، أحسبه كذا وكذا ، إن كان يعلم ذلك».

وروى أحمد ومسلم وأبو داود عن همّام بن الحارث قال : جاء رجل إلى عثمان ، فأثنى عليه في وجهه ، فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب ، ويقول : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يأتي :

١ ـ لله تعالى جميع ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا ، وهذا دليل القدرة الإلهية ، وسعة الملك الإلهي ، وهذا معترض في الكلام.

٢ ـ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بمن اهتدى ، فيجازي كلّا بما يستحقه. وإذا كانت اللام للعاقبة فالمعنى : ولله ما في السموات وما في الأرض ، لتكون عاقبة أمر الخلق أن يكون فيهم محسن ومسيء ، فللمحسن المثوبة أو العاقبة الحسنى وهي الجنة ، وللمسيء السوأى وهي جهنم.

٣ ـ إن نعت المحسنين أنهم لا يرتكبون كبائر الإثم وهو الشرك ، لأنه أكبر الآثام ، ونحوه من الكبائر المذكورة آنفا وهي كل ما أوعد الله عليه بالنار ،

١٢٢

ويبتعدون عن الفواحش المتناهية في القبح ، كالزنى ، وهي كل ذنب فيه الحدّ.

لكن اللمم ، وهي كما ذكر القرطبي : الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله وحفظه ، فإن أمرها سهل مغفور ، يتوب الله فيها على من تاب وأناب. وقال ابن مسعود وأبو سعيد الخدري وحذيفة ومسروق : إن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة. وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنى العينين النظر ، وزنى اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدّق ذلك أو يكذّبه» وقد أعدت الحديث بهذا اللفظ ، لأنه أوضح ، والمعنى : أن الفاحشة العظيمة والزنى التام الموجب للحدّ في الدنيا والعقوبة في الآخرة ، هو في الفرج ، وغيره له حظّ من الإثم.

٤ ـ إن الله عزوجل واسع المغفرة من الصغائر والكبائر لمن تاب من ذنبه واستغفر ، أما من لم تصل إليهم المغفرة فهم الذين أصروا على الإساءة ، وماتوا من غير توبة ، لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ٤ / ٤٨] وقوله سبحانه : (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) [التوبة ٩ / ٨٤].

٥ ـ أكد الله تعالى لعباده علمه بجميع أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم ، فذكر أنه أعلم بهم من أنفسهم وقت الإفشاء حين خلق أباهم آدم من الطين ، وتسلسلوا في بطون الأمهات ، معتمدين في تكوين نشأتهم على الغذاء الذي يعتمد على التراب والماء ، فكل أحد أصله من التراب ، فإنه يصير غذاء ، ثم يصير نطفة. وفي هذا تقرير لكونه عالما بمن ضل.

٦ ـ نهى الله تعالى الإنسان عن تزكية نفسه ومدحها والثناء عليها ، فإنه أبعد

١٢٣

من الرياء ، وأقرب إلى الخشوع ، ولأن الله عالم بمن أخلص العمل ، واتقى عقوبة الله. قال ابن عباس : ما من أحد من هذه الأمة أزكّيه غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

توبيخ بعض كبار المشركين الأغنياء لإعراضه عن اتباع الحق

وتذكيره بما في صحف إبراهيم وموسى

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤))

الإعراب :

(أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) حذف مفعولي (يَرى) وتقديره : فهو يراه حاضرا. (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ .. أَمْ) هنا : إما منقطعة بمعنى (بل والهمزة) أو متصلة بمعنى (أي) لأنها معادلة للهمزة في قوله تعالى : (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ).

(أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ .. أَلَّا تَزِرُ) في موضع جر على البدل من : (ما) في قوله تعالى : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ ..) أو في موضع رفع على تقدير مبتدأ محذوف تقديره : ذلك ألا تزر ، وتقديره : أنه لا تزر. وكذلك قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ ..) فتكون (أَنْ) مخففة من الثقيلة.

١٢٤

(سَوْفَ يُرى) نائب الفاعل ضمير مستتر فيه ، ومن قرأ بالفتح (يرى) كان التقدير فيه : سوف يراه ، فحذف الهاء ، كما يقال : إن زيدا ضربت ، أي ضربته.

(ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) الهاء في (يُجْزاهُ) في موضع نصب مفعول به ، و (الْجَزاءَ الْأَوْفى) منصوب على المصدر.

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) أراد : أنه إلى ربك ، وهو معطوف على (أَلَّا تَزِرُ) وكل ما بعده من قوله : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) إلى قوله تعالى : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) [الآيات ٤٣ ـ ٥٠] معطوف على (أَلَّا تَزِرُ).

(وَثَمُودَ فَما أَبْقى ثَمُودَ) منصوب بفعل دال عليه. (فَما أَبْقى) تقديره : وأهلك ثمودا ، فما أبقى. وإنما لم يجز نصبه ب (أَبْقى) لأن ما بعد النفي لا يعمل فيما قبله. قرأ عاصم وحمزة (ثَمُودَ) بلا تنوين ، والوقوف بغير ألف ، والباقون بالتنوين ويقفون بالألف.

(وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى الْمُؤْتَفِكَةَ) مفعول به منصوب ل (أَهْوى).

(فَغَشَّاها ما غَشَّى) أي ما غشاه إياها ، فحذف مفعولي (غَشَّى) والأول ضمير (ما) والثاني ضمير (الْمُؤْتَفِكَةَ).

البلاغة :

(فَغَشَّاها ما غَشَّى) الإبهام للتعظيم والتهويل.

بين (أَضْحَكَ وَأَبْكى) وبين (أَماتَ وَأَحْيا) وبين (أَغْنى وَأَقْنى) ما يسمى بالطباق.

بين (أَغْنى وَأَقْنى) جناس ناقص لتغير بعض الحروف.

المفردات اللغوية :

(تَوَلَّى) أعرض عن اتباع الحق والثبات عليه. (وَأَعْطى قَلِيلاً) من المال. (وَأَكْدى) قطع العطاء ولم يتممه ، يقال : حفر فأكدى ، أي بلغ كدية أي أرض صلبة كالصخرة تمنع حافر البئر من مواصلة العمل وإتمامه. (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) يعلم أن غيره يتحمل عنه عذاب الآخرة ، وهو الوليد بن المغيرة أو غيره كما سيأتي. وجملة (أَعِنْدَهُ عِلْمُ ..) المفعول الثاني لرأيت بمعنى : أخبرني.

(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ) أي بل لم يخبر. (صُحُفِ مُوسى) أسفار التوراة ، وإنما قدم تعالى ذكر صحف موسى ، لأنها أقرب وأشهر وأكثر. (وَإِبْراهِيمَ) أي وصحف إبراهيم : وهي ما نزل عليه من

١٢٥

الشرائع. (وَفَّى) أتم ما أمر به ، وذلك مثل قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) [البقرة ٢ / ١٢٤]. (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل نفس حمل أي ذنب غيرها. (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) أي وأنه ليس لإنسان إلا ما سعى من خير ، فليس له من سعي غيره للخير شيء. (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) يبصر في الآخرة ، ويراه أهل القيامة تشريفا للمحسن ، وتوبيخا للمسيء.

(يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) أي يجزي الإنسان سعيه بالجزاء الأكمل أو الأوفر. (الْمُنْتَهى) المرجع والمصير والنهاية بعد الموت يوم القيامة. (أَضْحَكَ) أي من شاء أفرحه. (وَأَبْكى) ومن شاء أحزنه. (أَماتَ) في الدنيا. (وَأَحْيا) للبعث. (خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ) الصنفين. (مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) من مني إذا تدفق وصب في الرحم ، فقوله : تمنى أي تصبّ في الرحم. (النَّشْأَةَ الْأُخْرى) الخلقة الأخرى للبعث بعد الخلقة الأولى ، بإعادة الأرواح في الأجساد حين البعث.

(أَغْنى وَأَقْنى) أعطى المال من شاء ، وأفقر من شاء. (رَبُّ الشِّعْرى) الكوكب المضيء خلف الجوزاء ، يسمى العبور ، كانت طائفة من العرب تعبده في الجاهلية. (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) القدماء وهم قوم هود : وهم ولد عاد بن إرم بن عوف بن سام بن نوح ، وعاد الأخرى : من ولد عاد الأولى ، وهم ثمود قوم صالح كما قال المبرد. (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) ثمود : قوم صالح ، فما أبقى أحدا منهم ، (وَثَمُودَ) بلا صرف : اسم للقبيلة ، وهو معطوف على (عاداً) وبالصرف : اسم للأب. (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) أي قبل عاد وثمود أهلكناهم. (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) من عاد وثمود ، لأنهم مع عدم إيمانهم بنوح عليه‌السلام على مدى ألف سنة إلا خمسين عاما كانوا يؤذونه ويضربونه. (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) قرى قوم لوط ، سميت بذلك ، لأنها ائتفكت بأهلها ، أي انقلبت بهم ، ومنه الإفك ، لأنه قلب الحق. (أَهْوى) أسقطها وقلبها في الأرض بعد أن رفعها إلى السماء ، بأمر جبريل بذلك. (فَغَشَّاها) غطّاها بالحجارة وغيرها : (ما غَشَّى) ما غطّى ، أبهم ذلك تهويلا وتعميما لما أصابهم.

سبب النزول :

سبب نزول الآيات (٣٣ ـ ٤١):

قال مجاهد وابن زيد فيما أخرجه الواحدي وابن جرير : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وكان قد اتبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على دينه ، فعيّره بعض المشركين ، وقال : لم تركت دين الأشياخ وضللتهم ، وزعمت أنهم في النار؟ قال : إني خشيت عذاب الله ، فضمن له إن هو أعطاه شيئا من ماله ، ورجع إلى شركه ، أن يتحمل

١٢٦

عنه عذاب الله سبحانه وتعالى ، فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له ، ثم بخل ومنعه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال السدّي : نزلت في العاص بن وائل السهمي كان ربما يوافق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض الأمور.

وقال محمد بن كعب القرظيّ : نزلت في أبي جهل بن هشام ، قال : والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق ، فذلك قوله تعالى : (وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى).

وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج في غزوة ، فجاء رجل يريد أن يحمل ـ أي يركب ـ ، فلم يجد ما يخرج عليه ، فلقي صديقا له ، فقال : أعطني شيئا ، فقال : أعطيك بكري هذا على أن تتحمل ذنوبي ، فقال له : نعم ، فأنزل الله : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) الآيات.

سبب نزول الآية (٤٣):

(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) : أخرج الواحدي عن عائشة قالت : مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوم يضحكون ، فقال : لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا ، فنزل عليه جبريل عليه‌السلام بقوله : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) فرجع إليهم فقال : ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل عليه‌السلام ، فقال : ائت هؤلاء ، وقل لهم : إن الله عزوجل يقول : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى).

المناسبة :

بعد أن بيّن الله سبحانه سعة علمه وقدرته الفائقة على إيقاع الجزاء يوم القيامة بأهل الإساءة والإحسان ، وبيّن جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر على سبيل التعجيب والتقريع نبأ واحد معين منهم بسوء فعله ، أعرض عن الايمان

١٢٧

والدخول في الإسلام ، بالرغم من سماع ما أنزل ، وظن أن غيره يتحمل عنه أوزاره ، مع أن جميع الشرائع كشريعة إبراهيم وموسى تقرر مبدأ المسؤولية الشخصية أو الفردية ، وأن لا تتحمل نفس آثمة وزر أو ذنب نفس أخرى ، وأن ليس لكل إنسان إلا سعيه بالخير.

التفسير والبيان :

ذمّ الله تعالى ووبخ كل من تولى عن طاعة الله ، فقال :

(أَفَرَأَيْتَ (١) الَّذِي تَوَلَّى ، وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى ، أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) أي أعلمت وأخبرت شأن الذي تولى عن الخير ، وأعرض عن اتباع الحق ، وأعطى قليلا من المال ، ثم أحجم عن العطاء في سبيل أن يتحمل عنه غيره وزره ، أو كما قال ابن عباس : أطاع قليلا ثم قطعه ، أفعند هذا الكافر الذي آثر الكفر على الإيمان علم ما غاب عنه من أمر العذاب ، فهو يعلم أن صاحبه يتحمل عنه أوزاره يوم القيامة؟ ليس الأمر كما يظن.

وهذا كقوله تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى ، وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [القيامة ٧٥ / ٣١ ـ ٣٢] ثم ذكّره تعالى بما أجمعت عليه الشرائع من أن المسؤولية شخصية ، فقال : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى ، وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) أي. بل أنّه لم يخبر بما جاء في أسفار التوراة ، وصحف إبراهيم الذي تمم وأكمل ما أمر به ، وأدى الرسالة على الوجه الأكمل ، كما جاء في آية أخرى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ، قالَ : إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [البقرة ٢ / ١٢٤] فإنه قام بجميع الأوامر ، وترك جميع النواهي ، وبلّغ الرسالة على التمام والكمال ، فاستحق بهذا أن يكون للناس إماما يقتدى به في جميع أحواله وأقواله وأفعاله.

__________________

(١) أَفَرَأَيْتَ : معناها المراد : أخبرني ، ومفعولها الأول : الَّذِي ، والثاني : جملة الاستفهام.

١٢٨

واكتفى بذكر صحف إبراهيم وموسى ، لأن المشركين يدّعون أنهم على ملة إبراهيم ، وأهل الكتاب يتمسكون بالتوراة ، وإنما قدم هنا صحف موسى خلافا للترتيب الزمني ، ولما جاء في سورة الأعلى : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) [١٨ ـ ١٩] ، لأن صحف إبراهيم كانت بعيدة ، وكانت المواعظ فيها غير مشهورة فيما بينهم كصحف موسى التي هي أقرب وأشهر وأكثر.

ثم أوضح الله تعالى ما تقرر في صحف موسى وإبراهيم ، فقال :

١ ـ (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تؤخذ نفس بذنب غيرها ، فكل نفس ارتكبت جرما من كفر أو أي ذنب ، فعليها وحدها وزرها ، لا يحمله عنها أحد ، وهذا مبدأ المسؤولية الفردية أو الشخصية أو لا يؤاخذ امرؤ بذنب غيره ، كما جاء في آيات أخرى منها : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) [فاطر ٣٥ / ١٨].

٢ ـ (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) أي ليس له إلا أجر سعيه وجزاء عمله ، فلا يستحق أجرا عن عمل لم يعمله ، وهذا المبدأ وهو ألا يثاب أو يكافأ امرؤ إلا بعمله يقابل المبدأ السابق ، فكما لا يتحمل أحد مسئولية أو وزر غيره ، كذلك ليس له من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه. والمراد من الآية بيان ثواب الأعمال الصالحة وكل عمل ، فالخير مثاب عليه ، والشر معاقب به. وعبر بصيغة الماضي في قوله : (إِلَّا ما سَعى) لزيادة الحث على العمل الصالح.

ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه‌الله أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى ، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم. والمعتمد في المذاهب الأربعة أن ثواب القراءة يصل إلى الأموات ، لأنه هبة ودعاء بالقرآن الذي تتنزل الرحمات عند تلاوته ، وقد ثبت في السنة النبوية وصول الدعاء والصدقة للميت ، وذلك مجمع عليه ، روى مسلم في صحيحة والبخاري في الأدب وأصحاب السنن إلا ابن

١٢٩

ماجه عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له». قال القرطبي : وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول ، وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره (١).

٣ ـ (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) أي إن عمله محفوظ يجده في ميزانه لا يضيع منه شيء ، وسيعرض عليه وعلى أهل المحشر يوم القيامة إشادة به ولو ما للمقصرين ، كما قال تعالى : (وَقُلِ : اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ، وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة ٩ / ١٠٥] أي فيخبركم به ويجزيكم عليه أتم الجزاء ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

٤ ـ (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) أي يجزى الإنسان سعيه ، ويجازى عليه جزاء كاملا غير منقوص ، فيجازى بالسيئة مثلها ، وبالحسنة عشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف.

٥ ـ (وَأَنَ (٢) إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) أي أن المرجع والمصير يوم القيامة إلى الله سبحانه ، لا إلى غيره ، فيجازي الخلائق بأعمالهم على الصغير والكبير ، وهذا ترهيب وتهديد للمسيء ، وترغيب وحث للمحسن ، يستدعي التأمل في عودة العباد إلى الله يوم المعاد ، وتعرضهم للجزاء على أعمالهم ، كما جاء في آيات أخرى مثل : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس ٣٦ / ٨٣]. وروى ابن أبي حاتم عن عمرو بن ميمون الأودي قال : قام فينا معاذ بن جبل فقال : يا بني أود ، إني رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليكم ، تعلمون أن المعاد إلى الله ، إلى الجنة أو إلى النار.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ١١٤

(٢) أَنْ هذه : تحتمل الفتح والكسر.

١٣٠

٦ ـ (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) أي أضحك من شاء في الدنيا بأن سرّه ، وأبكى من شاء بأن غمّه ، وخلق في عباده الضحك والبكاء والفرح والحزن وسببهما ، وهما مختلفان ، والمراد أن الله خلق ما يسر من الأعمال الصالحة ، وما يسوء ويحزن من الأعمال السيئة. وهذا دليل القدرة الإلهية. وإنما خص بالذكر هذان الوصفان ، لأنهما أمران لا يعللان ، فلا يقدر أحد تعليل خاصية الضحك والبكاء في الإنسان دون الحيوان.

٧ ـ (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) أي وأنه تعالى خلق الموت والحياة ، كما في قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك ٦٧ / ٢] فهو سبحانه قادر على الإماتة وعلى الإحياء والإعادة.

٨ ـ (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ : الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ، مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) أي والله هو الذي خلق الصنفين : الذكر والأنثى من كل إنسان أو حيوان ، من مني أو ماء قليل يصب في الرحم ، ويتدفق فيه ، ثم ينفخ الله الروح في النطفة ، فتصير بنية إنسانية ، أو حيوانية ، وهذا من جملة المتضادات التي ترد على النطفة ، فبعضها يخلق ذكرا ، وبعضها يخلق أنثى.

٩ ـ (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) أي إعادة الأرواح إلى الأجساد عند البعث ، فكما خلق الله الإنسان من البداءة ، هو قادر على الإعادة ، وهي النشأة الآخرة يوم القيامة. فهذا إشارة إلى الحشر.

١٠ ـ (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) أي وأنه وحده الذي أغنى من يشاء من عباده ، وأفقر من يشاء منهم ، حسبما يرى من الحكمة والمصلحة للخلائق ، فالإغناء والإفقار أو الإعطاء من المال والمنع منه ، كلاهما بيد الله تعالى وفي سلطانه وتصرفه.

١١ ـ (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) أي وأنه تعالى رب هذا النجم الوقاد المضيء

١٣١

الذي يطلع خلف الجوزاء في شدة الحر ، ويقال له : مرزم الجوزاء أو العبور ، كانت خزاعة وحمير تعبده. وفي النجوم شعريان : إحداهما يمانية والأخرى شامية ، والظاهر ـ كما قال الرازي ـ أن المراد اليمانية ، لأنهم كانوا يعبدونها ، لذا خصت بالذكر. وأول من سن عبادتها أبو كبشة من أشراف العرب ، وكانت قريش تطلق على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ابن أبي كبشة» تشبيها له به ، لمخالفته دينهم ، كما خالفهم أبو كبشة ، وكان من أجداد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة أمه. قال أبو سفيان يوم فتح مكة حين شاهد عساكر المسلمين تمرّ عليه : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ، وقال مشركو قريش : ما لقينا من ابن أبي كبشة!!

١٢ ـ (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) أي وأنه تعالى أفنى قوم هود عليه‌السلام ، وهم عاد القدماء ، وهي أول أمة أهلكت بعد نوح ، ويقال لهم : عاد بن إرم بن سام بن نوح ، كما قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) [الفجر ٨٩ / ٦ ـ ٨] وكانوا من أشد الناس وأقواهم وأعتاهم على رسول الله ورسوله ، فأهلكهم الله (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ ، وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) [الحاقة ٦٩ / ٦ ـ ٧]. قال المبرد : وعاد الأخرى : هي ثمود قوم صالح.

١٣ ـ (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) أي وأهلك ثمودا كما أهلك عادا ، ودمرهم وأخذهم بذنوبهم فما أبقى أحدا من الفريقين ، كما قال تعالى : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) [الحاقة ٦٩ / ٨].

١٤ ـ (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ ، إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) أي وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء الفريقين : عاد وثمود ، إنهم كانوا أظلم من عاد وثمود ، وأطغى منهم ، وأشد تمردا وتجاوزا للحد من الذين أتوا من بعدهم ، لأنهم بدؤوا بالظلم ، والبادئ أظلم : «ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها» (١) وأما

__________________

(١) حديث صحيح رواه مسلم عن أبي عمر وجرير بن عبد الله.

١٣٢

كونهم أطغى فلأنهم سمعوا المواعظ أمدا طويلا ، وعتوا على الله بالمعاصي ، مع طول مدة دعوة نوح لهم ، وأصروا على الكفر واستكبروا استكبارا ، مما ألجأه إلى الدعاء عليهم بقوله : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح ٧١ / ٢٦].

١٥ ـ (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى ، فَغَشَّاها ما غَشَّى) أي وأسقط وقلب مدائن قوم لوط ، بجعل عاليها سافلها ، أهواها جبريل بعد أن رفعها ، ثم أمطر الله عليهم حجارة من سجيل منضود ، فغطّاها ما غطّاها من الحجارة والعذاب على اختلاف أنواعه ، كما قال تعالى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً ، فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) [الشعراء ٢٦ / ١٧٣]. وسميت المؤتفكة ، لأنها ائتفكت أي انقلبت بهم ، وصار عاليها سافلها.

وهذا الأسلوب من الإبهام فيه تهويل وتفخيم للأمر الذي غشاها ، وتعميم للذي أصابهم. قال قتادة : كان في مدائن لوط أربعة آلاف ألف إنسان (أي ١٦٠٠٠ ألفا) فانضرم عليهم الوادي شيئا من نار ونفط وقطران كفم الأتون.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ خصص الله سبحانه واحدا من المشركين عينه بسوء فعله للعبرة والعظة واستهجان ما فعل من معاوضة غيره في الدنيا بمال قليل ، أعطى اليسير منه ، ثم منع الباقي ، على أن يتحمل عنه آثامه يوم القيامة.

٢ ـ إن نقطة الضعف الأساسية عند هذا ، عدا سذاجة عقله الجاهلي البدائي ، هو جهله بالغيب ، لذا أنكر الله تعالى عليه مبيّنا : أعنده علم ما غاب عنه من أمر العذاب؟!

١٣٣

٣ ـ ذكّره الله تعالى بما جاء في صحف إبراهيم وموسى من مبادئ عشرة هي :

الأول ـ المسؤولية الفردية أو ألا يسأل أحد عن ذنب غيره ، وهو مبدأ : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).

الثاني ـ كل إنسان وعمله ، وكل امرئ وعطاؤه ، ولا ثواب إلا بالعمل والنية الصالحة.

الثالث ـ العمل ذو أثر دائم ، محفوظ في ميزان العامل ، لا يضيع منه شيء ، خيرا كان أو شرا.

الرابع ـ يجازى كل إنسان على عمله وسعيه جزاء أوفر ، السيئة بمثلها ، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف.

الخامس ـ إن مصير أو مردّ جميع الخلائق إلى الله عزوجل ، فيعاقب المسيء ، ويثيب المحسن.

السادس ـ خلق الله تعالى الضحك والبكاء ، والسرور والحزن ، وإن الله تعالى خصّ الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوان ، وليس في سائر الحيوان من يضحك ويبكي غير الإنسان.

السابع ـ إن الله تعالى خلق الموت والحياة وأسبابهما.

الثامن ـ خلق الله سبحانه الصنفين المتضادين : الذكر والأنثى من شيء واحد هو النطفة : وهي الماء القليل.

التاسع : الله تعالى هو القادر على إعادة الأرواح إلى الأجساد للبعث ، وهذا هو الحشر.

١٣٤

العاشر ـ أوجد الله تعالى التفاوت في الأرزاق بين الناس ، فأغنى من شاء وأفقر من شاء.

والمبادئ الخمسة الأخيرة دالة على قدرة الله عزوجل ، وقد أكّدها تعالى بإيراد أمثلة أو نماذج خمسة أخرى دالة على القدرة وهي :

الأول ـ الله سبحانه هو رب الشّعرى : وهو الكوكب المضيء الذي يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر ، وهما الشعريان : العبور التي في الجوزاء ، والشّعرى الغميصاء التي في الذراع ، وتزعم العرب أنهما أختا سهيل. وإنما ذكر أنه رب الشعرى ، وإن كان ربا لغيره من سائر النجوم ، لأن العرب كانت تعبده وهم حمير وخزاعة.

الثاني ـ أهلك الله تعالى قوم عاد العتاة الأشداء الجبارين بريح صرصر عاتية.

الثالث ـ أهلك الله عزوجل أيضا ثمود قوم صالح بالصيحة لتمردهم وبغيهم.

الرابع ـ أهلك الله سبحانه قوم نوح من قبل عاد وثمود ، الذين كانوا أظلم وأطغى ، لطول مدة نوح فيهم ، حتى كان الرجل فيهم يأخذ بيد ابنه ، فينطلق إلى نوح عليه‌السلام ، فيقول : احذر هذا ، فإنه كذّاب ، وإن أبي قد مشى بي إلى هذا ، وقال لي مثل ما قلت لك ، فيموت الكبير على الكفر ، وينشأ الصغير على وصية أبيه.

الخامس ـ دمّر الله مدائن قوم لوط عليه‌السلام ، ائتفكت بهم ، أي انقلبت وصار عاليها سافلها ، وألبسها ما ألبسها من الحجارة ، قال الله تعالى : (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها ، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) [الحجر ١٥ / ٧٤].

١٣٥

الاتعاظ بالقرآن وبرسالة الرسول والتحذير من أهوال القيامة

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢))

الإعراب :

(لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ كاشِفَةٌ) : إما أن الهاء فيه للمبالغة ، كعلامة ونسّابة ، أو تكون كاشفة بمعنى كشف ، كخائنة بمعنى خيانة.

(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) قرئ بإدغام الثاء في التاء لقربهما في المخرج ، وأنهما مهموسان من حروف طرف اللسان ، وأدغمت الثاء في التاء ، لأنها أزيد صوتا ، والأنقص صوتا يدغم فيما هو أزيد صوتا.

البلاغة :

(تَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ) بينهما طباق.

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) جناس الاشتقاق.

(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ، وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ ، وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) مراعاة الفواصل أو ما يسمى بالسجع.

(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) عطف العام على الخاص.

المفردات اللغوية :

(آلاءِ) نعم ، جمع إلى (بالفتح والكسر) وإلي. (تَتَمارى) تتشكك وتمتري ومعنى الآية : بأي أنعم الله الدالة على وحدانيته وقدرته تتشكك أيها الإنسان؟ والخطاب للإنسان ، فالخطاب عام ، وهو ابتداء كلام ، كأنه يقول : بأي النعم أيها السامع تشكّ أو تجادل؟

١٣٦

(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) أي هذا القرآن إنذار من جنس الإنذارات المتقدمة ، أو هذا الرسول نذير من جنس المنذرين الأولين ، أي إنه رسول كالرسل قبله ، أرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم.

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) قربت القيامة أو دنت الساعة ، كقوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر ٥٤ / ١]. (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) أي ليس لها نفس من غير الله قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله ، أي لا يكشفها ويظهرها إلا هو ، كقوله تعالى : (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) [الأعراف ٧ / ١٨٧] إذ لا يطلع عليها سواه ، فقوله : (كاشِفَةٌ) أي نفس تكشف وقت وقوعها وتبيّنه ، لأنها من المغيبات. والتاء للتأنيث ، لتأنيث الموصوف المحذوف ، أي نفس قادرة على كشفها إذا وقعت ، لكنه سبحانه لا يكشفها. (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) القرآن. (تَعْجَبُونَ) إنكارا وتكذيبا. (وَتَضْحَكُونَ) استهزاء.

(وَلا تَبْكُونَ) حزنا على ما فرطتم ، وعند سماع وعد الله ووعيده. (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) لاهون وغافلون ومعرضون عما يطلب منكم. (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ) الذي خلقكم ، أي إذا اعترفتم لله بالعبودية ، فاخضعوا له. (وَاعْبُدُوا) اعبدوه دون الآلهة المزعومة كالأصنام ، وأقيموا وظائف العبادة.

المناسبة :

لمّا عدّ الله تعالى نعمه على الإنسان من خلقه وإغنائه ، ثم ذكر أمثلة على قدرته بإهلاك من كفر بتلك النعم ، وأن الإحياء والإماتة بيد الله ، وبّخ الإنسان على جحد شيء من نعم الله ، فيصيبه مثل ما أصاب الشاكّين المتمارين المجادلين بالباطل. ثم ذكّره بإنذار القرآن والرسول. وحين فرغ من بيان التوحيد والرسالة ، ختم السورة ببيان اقتراب الحشر : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) وحذّر من إنكار القرآن وتكذيبه ، ومن التفريط بما جاء فيه ، والغفلة والإعراض عن مواعظه وحكمه ، ودعا إلى الانقياد التام لله عزوجل ، وعبادته وحده لا شريك له بإتقان وإخلاص.

التفسير والبيان :

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) أي فبأي نعم ربك أيها الإنسان المكذب

١٣٧

تتشكك وتمتري؟ مثل قوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن ٥٥ / ١٣]. وهذا ابتداء كلام والخطاب عام لكل إنسان. والمراد بالنعم ما عدده سابقا من الخلق والإغناء وخلق السماء والأرض وما فيهما من نعم مخلوقة للإنسان.

(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) أي هذا القرآن أو الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نذير محذوف محذّر من جملة النذر المتقدمة ، فالقرآن منذر كالكتب السماوية السابقة ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول إليكم كالرسل المتقدمين قبله ، فإنه أنذركم كما أنذروا أقوامهم ، كما قال تعالى : (قُلْ : ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف ٤٦ / ٩] وقال سبحانه : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) [سبأ ٣٤ / ٤٦] وفي الحديث الثابت : «أنا النذير العريان» (١) أي الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس شيئا ، وبادر إلى إنذار قومه ، وجاءهم عريانا مسرعا.

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي قربت ودنت الساعة الموصوفة بالقرب في قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر ٥٤ / ١] وقوله : (وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) [الواقعة ٥٦ / ١] وقوله : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) [الأنبياء ٢١ / ١] وقوله : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشورى ٤٢ / ١٧] وفيه تنبيه على أن قرب الساعة يزداد كل يوم ، وأنها تكاد تقوم ، فالآية إشارة إلى القيامة لإثبات الأصول الثلاثة على الترتيب : الأصل الأول وهو الله ووحدانيته بقوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) ، ثم الرسول والرسالة بقوله تعالى : (هذا نَذِيرٌ) ثم الحشر والقيامة بقوله : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ). وجاء في الحديث الذي رواه أحمد عن سهل بن سعد : «مثلي ومثل الساعة كهاتين» وفرّق بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام. وروى أحمد أيضا والشيخان عن سهل بن سعد قال : سمعت

__________________

(١) شبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه بهذا الرجل ، قال ابن السّكيت : هو رجل من خثعم حمل عليه يوم ذي الخلصة عوف بن عامر ، فقطع يده ويد امرأته (النهاية لابن الأثير : ٣ / ٢٢٥).

١٣٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «بعثت أنا والساعة هكذا» وأشار بأصبعيه : السبابة والوسطى.

(لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) أي ليس هناك على الإطلاق نفس قادرة على كشفها وإظهارها والاعلام بها إلا الله تعالى ، لأنها من أخفى المغيبات ، فاستعدوا لها قبل مجيئها بغتة وأنتم لا تشعرون ، فهو كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان ٣١ / ٣٤] وقوله سبحانه : (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) [الأعراف ٧ / ١٨٧].

أو : ليس لها نفس قادرة على كشفها إذا غشيت الخلق بشدائدها وأهوالها غير الله ، والأولى أن يقال : ليس لها من دون الله من يؤخرها أو يقدّمها ، كما ذكر القرطبي.

ثم أنكر الله على المشركين وأمثالهم ووبخهم لإنكار القرآن وتكذيبه ، فقال :

(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ، وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ ، وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) أي كيف تعجبون من أن يكون القرآن صحيحا ، تكذيبا منكم ، وتضحكون منه استهزاء ، وتسخرون من آياته ، مع كونه غير محل لذاك ، ولا تبكون كما يفعل الموقنون ، وأنتم لاهون عنه ، غافلون معرضون ، أو مستكبرون عنه؟! فهذا استفهام توبيخ.

(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) أي اسجدوا أيها المؤمنون شكرا على الهداية واخضعوا له ، واشتغلوا بالعبادة ، وأخلصوا ووحدوا ، فإنه تعالى المستحق لذلك منكم.

وقد ورد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد عند تلاوة هذه الآية ، وسجد معه المسلمون والكفار ، أخرج البخاري عن ابن عباس قال : سجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنجم ، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. وأخرج الإمام أحمد والنسائي عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة سورة

١٣٩

النجم ، فسجد وسجد من عنده ، فرفعت رأسي ، فأبيت أن أسجد ـ ولم يكن أسلم يومئذ المطّلب ـ فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا يقرؤها إلا سجد معه.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ يستنكر الحق سبحانه على الإنسان المكذّب في أي زمان كان تشككه ومماراته وجداله في آلاء الله ونعمه العديدة ، بعد أن أبان القرآن الكريم بعضا منها كالخلق والرزق والإغناء والصحة وتسخير الكون كله لمصالح الإنسان ، كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة ٢ / ٢٩].

٢ ـ إن القرآن العظيم نذير بما أنذرت به الكتب الأولى ، وكذلك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نذير بالحق الذي أنذر به الأنبياء قبله ، فإن أطاعه الناس أفلحوا ونجوا. وهذا مطابق أيضا لما في صحف إبراهيم وموسى وغيرهما.

٣ ـ لقد قربت الساعة ودنت القيامة : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) يعني القيامة ، سماها آزفة لدنّوها من الناس ، وقربها منهم ، ليستعدوا لها ، لأن كل ما هو آت قريب.

وليس للآزفة أو القيامة من دون الله من يؤخرها أو يقدّمها.

٤ ـ وبّخ الله المشركين تعجبهم تكذيبا بالقرآن ، وضحكهم استهزاء بآياته ، وعدم بكائهم انزجارا وخوفا من الوعيد ، ولهوهم وإعراضهم عن كتاب الله تعالى.

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رئي بعد نزول هذه الآية ضاحكا إلا تبسّما ، وقال أبو هريرة فيما ذكره القرطبي : لما نزلت : (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) قال

١٤٠