التفسير المنير - ج ٢٧

الدكتور وهبة الزحيلي

صورته التي خلقه الله عليها ، حين أحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رؤيته كذلك ، فظهر له في الأفق الأعلى أي في الجهة العليا من السماء ، وهو أفق الشمس ، فسدّ الأفق عند ما جاء بالوحي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول ما جاءه بالوحي.

ونظير الآيات عن جبريل قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ، وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ، وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) [التكوير ٨١ / ١٩ ـ ٢٣].

(ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى ، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) أي استوى واعتدل جبريل بالأفق الأعلى أولا ، ثم قرب من الأرض ، وازداد في القرب والنزول ، حتى نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان مقدار ما بين جبريل ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المسافة مقدار قوسين أو أقل من قوسين ، فأوحى جبريل إلى عبد الله ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أوحاه من القرآن في تلك النزلة ، من شؤون الدين. وقيل : فأوحى الله إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبده ما أوحى ، وفيه تفخيم لشأن الوحي.

وهذا كان ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأرض ، لا ليلة الإسراء. ولهذا قال تعالى بعده : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى). روى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود ، قال في هذه الآية : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت جبريل له ست مائة جناح».

وقال عن رؤية جبريل حقيقة لا تخيلا :

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ، أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) أي ما أنكر فؤاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رآه من صورة جبريل ، وإنما كان فؤاده صادقا ، فتكون عينه أصدق ، فكيف تجادلونه وتكذبونه فيما رآه بعينه رؤية مشاهدة محسوسة من صورة جبريل عليه‌السلام؟! والأشهر أن لام (الْفُؤادُ) للعهد ، وهو فؤاد

١٠١

محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يقل فؤاده لما رآه : لم أعرفك ، وصدّق فؤاده ما عاينه ، ولم يشك في ذلك ، ولم يقل : إنه جن أو شيطان.

(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) أي لقد رأى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل نازلا مرة أخرى على صورته التي خلقه الله عليها ، وذلك ليلة الإسراء ، عند سدرة المنتهى التي هي في رأي الأكثرين وهو المشهور : شجرة في السماء السابعة ، وجاء في الصحيح أنها في السماء السادسة ، وإليها ينتهي علم الخلائق ، ولا يعلم أحد منهم ما وراءها ، وعندها الجنة التي تأوي إليها أرواح المؤمنين. والصحيح كما تقدم في سورة الإسراء : أن المعراج كان بالروح والجسد ، وليس بالروح فقط كما يرى بعضهم ، وإلا لما كان المعراج معجزة.

فتكون رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه‌السلام على صورته الحقيقية مرتين : مرة في الأرض ومرة في السماء ، وأما في غير هاتين المرتين ، فكان يراه في صورة إنسان ، لأن عليه أيسر وأهون وأكثر أنسا.

وعلى هذا يكون ضمير (رَآهُ) ليس راجعا إلى الله تعالى ، بل إلى جبريل عليه‌السلام ، فالآية تنفي أن يكون صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربه سبحانه مطلقا ، ويؤكده قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام ٦ / ١٠٣] وقوله سبحانه : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) [الشورى ٤٢ / ٥١].

وقال بعضهم : الضمائر في (دَنا) ، و (فَتَدَلَّى) و (كان) و (أوحى) وكذا في (رَآهُ) : لله عزوجل ، ويشهد لهذا ما أخرجه البخاري عن أنس : «ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله ، حتى جاء سدرة المنتهى ، ودنا الجبار رب العزة ، فتدلى ، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة». والراجح هو الرأي الأول بدليل ما أخرجه مسلم عن أبي ذر أنه

١٠٢

سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، هل رأيت ربك؟ فقال : «رأيت نورا» (١)

وأما سدرة المنتهى فنؤمن بها كما جاء في ظاهر القرآن ، دون تعيين مكانها وأوصافها إلا بما جاء في الحديث الصحيح ، روى الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن ابن مسعود قال : «لما أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى ، وهي في السماء السابعة ، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض ، فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها ، فيقبض منها ..».

ورواية مسلم في صحيحة عن ابن مسعود : «.. وهي في السماء السادسة». وفي رواية أخرى لمسلم عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما رفعت إلى سدرة المنتهى ، في السماء السابعة ، نبقها مثل قلال هجر ، وورقها مثل آذان الفيلة ..» والنّبق : ثمر السّدر ، الواحدة : نبقة (٢).

وروى الترمذي عن أسماء بنت أبي بكر رضي‌الله‌عنهما قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ـ وقد ذكر له سدرة المنتهى ـ قال : «يسير الراكب في ظل الغصن منها مائة سنة ، أو يستظل بظلها مائة راكب (٣) ، فيها فراش (٤) الذهب ، كأن ثمرها القلال».

(إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) أي تلك السدرة التي يحيط بها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله ما يحيط ، مما لا يحصره وصف ولا عدد. وهذا في رأي الأكثرين يشعر بالتعظيم والتكثير.

__________________

(١) تفسير الألوسي : ٢٧ / ٥٢ وما بعدها.

(٢) ويقال : نبق بفتح النون وسكون الباء ، وهي لغة المصريين ، وكسر الباء أفصح.

(٣) شك من الراوي.

(٤) الفراش : دويبة ذات جناحين ، تتهافت في ضوء السراج ، واحدتها فراشة.

١٠٣

(ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى ، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) أي ما مال بصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما رآه ، وما تجاوز ما رأى ، فرؤية جبريل وغيره من مظاهر ملكوت الله رؤية عين ، وليست من خدع البصر ، وهذا يؤكد أن المعراج كان بالروح والجسد.

لقد رأى في ليلة المعراج من آيات ربه العظام ما لا يحيط به الوصف ، وهو جبرائيل على صورته ، وسائر عجائب الملكوت. وهذا كقوله تعالى : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) [الإسراء ١٧ / ١] دون تحديد المرئي للإشارة إلى تعظيمه وتفخيمه وأهميته. روى البخاري وغيره عن ابن مسعود أنه قال في الآية : رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سدّ الأفق (١). وعن ابن زيد : أنه رأى جبريل بالصورة التي هو بها.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ لله تعالى أن يقسم بما شاء ، على ما شاء ، في أي وقت يشاء ، وقد أقسم بالنجوم (على أن اللام للجنس) أو بالثريا (على أن اللام لتعريف العهد) والعرب تسمي الثّريا نجما ، وإن كانت في العدد نجوما. وأقسم به وقت هويّه وغروبه لأنه الوقت الذي يستفاد منه لمعرفة الجهات ، أما إذا كان في وسط السماء ، فيكون بعيدا عن الأرض ، لا يهتدي به الساري ، فإذا مال إلى الغروب تبين جانب المغرب من المشرق ، والجنوب من الشمال.

٢ ـ المقسم عليه الشهادة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه راشد تابع للحق ليس بضال ، والضال : الذي يسير على غير هدى بغير علم ، والغاوي : هو العالم بالحق العادل عنه قصدا إلى غيره ، والضلال في مقابلة الهدى ، والغي في مقابلة الرشد. وبه نزّه

__________________

(١) قال ابن عباس أيضا : رأي رفرفا أخضر سدّ أفق السماء.

١٠٤

الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرعه عن مشابهة أهل الضلال كاليهود والنصارى.

٣ ـ القرآن الكريم ليس كلاما للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما هو وحي صادر من الله عزوجل.

٤ ـ قد يحتج بقوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) من لا يجوّز لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاجتهاد في الحوادث ، وهذا خطأ ، لأن المراد بالآية إثبات كون القرآن وحيا من عند الله ، والقرآن ذاته أمره بالاجتهاد ، وقد اجتهد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحروب فيما لم يحرمه الله ، وأذن لبعض المنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك ، فعاتبه ربه بقوله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة ٩ / ٤٣].

٥ ـ كان الوحي من الله تعالى على قلب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوساطة جبريل ، لقوله تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) وهو جبريل في قول سائر المفسرين ، سوى الحسن ، فإنه قال : هو الله عزوجل.

وقد وصف الله جبريل بأنه ذو قوة فائقة علما وعملا وحصافة في العقل ومتانة في الرأي.

٦ ـ رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه‌السلام على صورته الحقيقية مرتين : مرة بدأت في أفق السماء ، حينما استوى واستقام كما خلقه الله تعالى بالأفق الشرقي العلوي ، فسد المشرق لعظمته.

ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى ، من الأرض ، فنزل بالوحي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوحي. وهذه هي المرة الأولى للرؤية ، والنبي على الأرض. وكان جبريل قريبا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمقدار مسافة قوسين عربيتين أو أقل من ذلك.

٧ ـ لقد أوحى الله إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبده ورسوله ما أوحى ، ولم يبين الموحى به تفخيما لشأن الوحي ، أو أوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

١٠٥

أو أوحى جبريل إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أوحاه الله إليه وكلمه به. وعلى كل حال مصدر الوحي الأصلي هو الله تعالى ، وجبريل واسطة ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الموحى إليه. والوحي : إلقاء الشيء بسرعة.

٨ ـ لم يكذب قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج ما رآه من جبريل على صورته الحقيقية وآيات الله الإلهية العجيبة ، وهي رؤية حقيقية بالبصر ، وقيل : إنه رأى ما رآه بقلبه.

٩ ـ أنكر الله على كفار قريش ما أخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج ، فقال : كيف تجادلونه وتوردون شكوكم عليه ، مع أنه رأى ما رأى عين اليقين؟!

١٠ ـ لقد رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه‌السلام مرة أخرى عند سدرة المنتهى (وهي شجرة النّبق ، وهي في السماء السادسة ، أو في السماء السابعة ، التي لا يحيط بها وصف) عند جنة المأوى التي تأوي إليها أرواح الملائكة والشهداء والمتقين ، وينتهي إليها علم الأنبياء ، ويعزب علمهم عما وراءها ، كما قال ابن عباس.

قال ابن مسعود فيما ذكره المهدوي ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت جبريل بالأفق الأعلى ، له ست مائة جناح ، يتناثر من ريشه الدر والياقوت».

والذي يغشى السدرة مبهم للتفخيم والتعظيم ، مثل أنوار الله تعالى ، والملائكة ، والخلائق الدالة على عظمة الله تعالى.

١١ ـ لم يعدل بصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمينا ولا شمالا عما رأى بعينه يقينا ، ولا تجاوز الحد الذي رأى.

١٢ ـ لقد رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من آيات ربه آيات هن أكبر الآيات ، قال الرازي معقبا على قول من قال : إنه رأى جبريل عليه‌السلام في صورته : الظاهر أن هذه الآيات غير تلك.

١٠٦

منع الإشراك وبيان عدم فائدة الأصنام

(أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦))

الاعراب :

(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى اللَّاتَ وَالْعُزَّى) : المفعول الأول ، والمفعول الثاني : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى).

(تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ضِيزى) : أصلها ضوزى بوزى فعلى فقلب إلى (فعلى) وإنما كان أصلها (فعلى) لأن (فعلى) ليست من أبنية الصفات ، وفعلى من أبنيتها ، نحو حبلى ، ونظير (قِسْمَةٌ ضِيزى) : «مشية حيكى» فقلبت الضمة كسرة لتصح الياء.

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ .. كَمْ) : خبرية ، في موضع رفع بالابتداء ، و (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ) : خبره ، وجمع ضمير (كَمْ) عملا بالمعنى ، لأن المراد بها الجمع. وقوله : (لِمَنْ يَشاءُ) أي يشاء شفاعته ، فحذف المضاف الذي هو المصدر ، فصار : لمن يشاؤه ، ثم حذف الهاء العائدة إلى (من) فصار يشاء.

البلاغة :

(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) استفهام توبيخي مع احتقار عقولهم.

(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) مراعاة الفواصل وتوافق رؤوس الآيات الذي له وقع على السمع ، ويسمى بالسجع.

(فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) بينهما طباق.

١٠٧

المفردات اللغوية :

(اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ) أصنام العرب التي كانوا يعبدونها ، فاللات كانت لثقيف بالطائف أو لقريش بنخلة ، سمي به ، لأنه صورة رجل كان يلتّ السويق بالسمن ويطعم الحاج. والعزّى كانت لغطفان ، وهي شجرة ببطن نخلة ، بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفتح خالد بن الوليد ليقطعها ، فجعل يضربها بفأسه ويقول :

يا عز ، كفرانك لا سبحانك

إني رأيت الله قد أهانك

ومناة : صخرة كانت لهذيل وخزاعة ، وكانت دماء النسائك تمنى عندها ، أي تراق.

(الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) صفتان لتأكيد الذم ، والأخرى : المتأخرة الوضيعة القدر ، من التأخر في الرتبة ، كما في قوله تعالى : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) [الأعراف ٧ / ٣٨] أي قال أدنياؤهم أو وضعاؤهم لأشرافهم.

(قِسْمَةٌ ضِيزى) قسمة جائرة ، من ضاز يضيز ضيزا ، أي جار وظلم جورا. (إِنْ هِيَ) الأصنام المذكورة. (سَمَّيْتُمُوها) سميتم بها ، أي إن إطلاق اسم الآلهة عليها مجرد تسميات لا مضمون لها ، فليس فيها شيء من معنى الألوهية. (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) ما أنزل الله بعبادتها من حجة وبرهان. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي ما يتبعون في عبادتها إلا مجرد الظن غير القائم على الدليل ، وإلا توهم أن ما هم عليه حق ، فالمراد بالظن هنا التوهم. (وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) ما تشتهيه أنفسهم مما زين لهم الشيطان أنها تشفع لهم عند الله تعالى. (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) البرهان القاطع وهو الرسول والكتاب ، فتركوه.

(أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى أَمْ) منقطعة ، والهمزة فيها للإنكار ، والمعنى بل ألكل إنسان منهم ما تمنى من أن الأصنام تشفع لهم؟ أي ليس له كل ما يتمناه ، والمراد نفي طمعهم في شفاعة الآلهة المزعومة. (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ) أي وكثير من الملائكة. (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) لا تنفع شفاعتهم شيئا. (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ) لهم في الشفاعة. (لِمَنْ يَشاءُ) من عباده. (وَيَرْضى) عنه ويراه أهلا كذلك ، لقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء ٢١ / ٢٨] وقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ؟) [البقرة ٢ / ٢٥٥].

المناسبة :

بعد أن قرر الله تعالى الرسالة وصدق النبوة ، ذكر ما ينبغي أن يبتدئ به الرسول وهو التوحيد ، ومنع الإشراك ، وبيان عدم جدوى الأصنام في الشفاعة عند الله تعالى بأسلوب فيه إنكار وتهكم وتوبيخ وإهدار لحرمة العقل الذي يدين

١٠٨

لغير الخالق الرازق ، ويعبد أحجارا أو أشجارا أو معادن صماء لا تنفع ولا تضر.

التفسير والبيان :

يقرع الله تعالى المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان ، واتخاذهم لها البيوت ، مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن إبراهيم عليه‌السلام ، فيقول :

(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) أنظرتم إلى اللات : صنم ثقيف ، والعزى : شجرة غطفان بين مكة والطائف ، تعظمها قريش ، ومناة : صخرة لهذيل وخزاعة ، وللأوس والخزرج بين مكة والمدينة ، ثالثة الصنمين والمتأخرة الوضيعة القدر ، قال ذلك عنها للتحقير والذم؟ إنها أحجار صماء أو أشجار تستنبت ، فكيف تشركونها بالله ، وهي مصنوعة لكم أو مخلوقة غير خالقة؟! والله عزوجل الذي تعرفون عظمته في الكون ، أليس هو الأجدر والأحق بالعبادة؟!

وهذا تقريع شديد ، وذم وتوبيخ ، لوضع الشيء في غير محله ، فكانت ثقيف ومن تابعها يفتخرون باللات التي كانت صخرة بيضاء منقوش عليها بيت بالطائف له أستار وسدنة ، وحوله فناء معظم عند أهل الطائفة ، وهي في الأصل صورة رجل كان يلت السويق للحجيج في الجاهلية ، فلما مات عكفوا على قبره ، فعبدوه.

وكانت العزّى شجرة عليها بناء وأستار بنخلة بين مكة والطائف ، لغطفان ، وكانت قريش يعظمونها ، كما قال أبو سفيان يوم أحد : لنا العزّى ولا عزّى لكم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم».

وكانت مناة بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة ، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها ، ويهلون منها للحج إلى الكعبة ، وتذبح عندها القرابين. وكانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر ، تعظمها العرب كتعظيم

١٠٩

الكعبة غير هذه الثلاثة التي نصت عليها الآية ، وإنما أفردت هذه بالذكر ، لأنها أشهر من غيرها.

وبعد بيان سخف عقولهم بعبادة الأصنام ، وبخهم الله تعالى على شرك من نوع آخر وهو جعل الملائكة بنات الله ، فقال :

(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) أي أتجعلون لله ولدا ، ثم تجعلون ولده أنثى ، وتختارون لأنفسكم الذكور؟ فلو اقتسمتم فيما بينكم هذه القسمة ، لكانت قسمة خارجة عن الصواب ، جائرة عن الحق. فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورا وسفها؟! ونظير الآية : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ؟) [الطور ٥٢ / ٣٩].

ثم أنكر الله تعالى عليهم ما ابتدعوه وأحدثوه من الكذب والافتراء والكفر بعبادة الأصنام ، وتسميتها آلهة ، فقال :

(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي ما تسمية هذه الأصنام آلهة ، مع أنها لا تبصر ولا تسمع ، ولا تعقل ولا تفهم ، ولا تضر ولا تنفع إلا مجرد أسماء سميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم ، وليس لها مسميات حقيقية ، اتخذتم ذلك أنتم وآباؤكم ، قلّد الآخر فيها الأول ، وتبع في ذلك الأبناء الآباء ، ولم ينزل الله بها من حجة ولا برهان تحتجون به على أنها آلهة ، كما قال تعالى في آية أخرى : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) [يوسف ١٢ / ٤٠].

ثم بيّن الله تعالى منشأ عبادتها ، فقال :

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ، وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) أي ما يتبعون في تسمية الأصنام آلهة إلا مجرد وهم أو ظن لا يغني من الحق شيئا ، ولا يتبعون إلا ما تهواه نفوسهم وتميل إليه وتشتهيه ، من غير التفات

١١٠

إلى ما هو الحق الذي يجب اتباعه ، مع أنه قد أتاهم من الله البيان الواضح الظاهر بأنها ليست آلهة ، وهو هذا القرآن الذي هو الحجة والبرهان من عند الله ، على لسان رسوله الذي بعثه الله إليهم ، فأعرضوا عنه ، ولم يتبعوا ما جاءهم به ، ولا انقادوا له.

ثم أوضح الله تعالى أن القضية ليست بالتمنيات والأماني ، وأن هذه الأصنام لا تفيدهم في شفاعة عند الله ولا في غيرها ، فقال :

(أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى ، فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) أي بل أيمكن (١) أن يكون للإنسان ما يتمنى؟ ليس كل من تمنى خيرا حصل له ، وليس لهم ما يتمنون من كون الأصنام تنفعهم وتشفع لهم ، فسلطان الدنيا والآخرة وملكهما والتصرف فيهما لله عزوجل ، وليس للأصنام معه أمر في الدنيا ولا في الآخرة (٢) : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) [النساء ٤ / ١٢٣]. وروى أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى ، فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته».

ثم بيّن الله طريق قبول الشفاعة ، فقال :

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) أي وكثير من الملائكة الكرام في السموات ، مع كثرة عبادتها وكرامتها على الله لا تشفع لأحد إلا لمن أذن الله أن يشفع له ، فكيف بهذه الجمادات الفاقدة العقل والفهم؟! أي إن الملائكة لا تشفع إلا بعد الإذن لها بالشفاعة ، وإلا لمن يشاء الله أن يشفعوا له ، لكونه من أهل التوحيد ، وليس للمشركين في ذلك حظ. قال

__________________

(١) أم المنقطعة كما تقدم : بمعنى بل الإضرابية وهمزة الاستفهام التي تفيد الإنكار.

(٢) جملة فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى مسوقة لتقرير جهلهم واتباعهم الظن.

١١١

ابن كثير : فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين ، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأصنام والأنداد عند الله ، وهو تعالى لم يشرع عبادتها ، ولا أذن فيها ، بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله ، وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه (١)؟. وهذا توبيخ لعبدة الملائكة والأصنام.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ حاجّ الله المشركين إذ عبدوا ما لا يعقل ، فإن تلك الأصنام التي يعبدونها كاللات والعزى ومناة لا تسمع ولا تبصر ، ولا تنفع ولا تضر ، فكيف تجوز عبادتها؟ علما بأن العبادة في رأي المشركين للمنفعة ، وهذه عديمة النفع ، فهل رأيتم هذه الأصنام حق الرؤية ، فإن رأيتموها علمتم أنها لا تصلح شركاء؟ وقد عرفتم جلال الله وعظمته ، فهو الأحق بالعبادة.

٢ ـ قرّع الله المشركين ووبخهم أيضا ورد عليهم قولهم : الملائكة بنات الله ، والأصنام بنات الله ، وبين لهم أنه لا يعقل جعل البنات الإناث لله ، ويختارون هم الذكور ، فهذه القسمة قسمة جائرة عن العدل ، خارجة عن الصواب ، مائلة عن الحق.

٣ ـ ما هذه الأوثان إلا أسماء وضعتموها ونحتموها وسميتموها آلهة ، وقد قلدتم آباءكم في ذلك ، وما أنزل الله بها من حجة ولا برهان ، وما تتبعون في ذلك إلا الظن أو الوهم وأهواء النفس وما تميل إليه ، بالرغم من أنه جاءكم البيان الشافي من جهة الرسول أنها ليست بآلهة ، فهم اختاروا العمل بالظن مع قدرتهم على العمل باليقين الذي نزل به الوحي.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٢٥٥

١١٢

٤ ـ الواقع أنه ليس للمشركين في عبادة الأصنام إلا مجرد التمنيات والأماني المعسولة المبنية على وهم لا واقع له ، فلن تتمكن من الشفاعة لهم كما يحلمون فقد تمنوا الشفاعة عند من ليس لهم شفاعة ، وإن الملك والتصرف والسلطان في الدنيا والآخرة لله عزوجل ، فهو يعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء ، لا ما تمنى أحد.

٥ ـ وبّخ الله تعالى من عبد الملائكة والأصنام ، وزعم أن ذلك يقرّبه إلى الله تعالى ، فأعلم أن الملائكة مع كثرة عبادتها وكرامتهم على الله لا تشفع إلا لمن أذن أن يشفع له.

توبيخ المشركين لتسميتهم الملائكة بنات الله

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠))

الإعراب :

(هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أَعْلَمُ) : إما على أصلها في التفضيل في العلم ، أي هو أعلم من كل أحد بهذين الصنفين ، وإما أنها بمعنى (عالم). ومثله : (وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) فيها الوجهان.

البلاغة :

بين (ضَلَ) و (اهْتَدى) طباق.

١١٣

المفردات اللغوية :

(لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ) يسمون كل واحد منهم. (تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) حيث قالوا : هم بنات الله. (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) بهذا القول من دليل يقيني. (إِنْ يَتَّبِعُونَ) ما يتبعون فيه. (إِلَّا الظَّنَ) مجرد التوهم. (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) أي إن الظن لا يفيد في مجال الحق : الذي هو حقيقة الشيء ، فإن ألحق لا يدرك إلا بالعلم ، أي اليقين ، والظن لا اعتبار له في المعارف الحقيقية أو اليقينيات وإنما العبرة به في العمليات والوسائل المؤدية إليها.

(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) أعرض عمن تولى عن القرآن وعن تذكيرنا وانهمك في الدنيا. (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي طلب الدنيا وأمرها نهاية علمهم ، فلا يتجاوزه علمهم لأنهم آثروا الدنيا على الآخرة ، والجملة اعتراضية مقررة لقصر همهم على الدنيا. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ ..) تعليل للأمر بالإعراض ، أي إنما يعلم الله من يجيب ممن لا يجيب ، فلا تتعب نفسك في دعوتهم ، إذ ما عليك إلا البلاغ ، وقد بلغت ، والله عالم بالفريقين فيجازيهما.

المناسبة :

بعد أن وبخ الحق سبحانه المشركين على عبادتهم الأصنام والأوثان ، وأبان عدم جدوى تلك العبادة في مجال الشفاعة وغيرها ، وبخهم مرة أخرى وقرّعهم على قولهم : الملائكة بنات الله ، وأوضح أنها دعوى لا تستند إلى دليل مقبول ، وأن عقولهم قاصرة ، وأنهم لا يهتمون إلا بالدنيا وحطامها ، وأن الله سيجازيهم على مزاعمهم ومعتقداتهم الفاسدة.

التفسير والبيان :

أنكر الله تعالى على المشركين تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى ، وقولهم : إنهم بنات الله ، فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) أي إن هؤلاء المشركين الكافرين الذين لا يصدقون بوجود الآخرة والحساب والعقاب يزعمون أن الملائكة إناث ، وأنهم بنات الله ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. والمراد أنهم يسمون كل واحد من الملائكة أنثى ، لأنهم إذا جعلوا الكل بنات ، فقد

١١٤

جعلوا كل واحدة بنتا. كما جاء في آية أخرى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ، سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ ، وَيُسْئَلُونَ) [الزخرف ٤٣ / ١٩].

(وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي وليس لهم بذلك علم صحيح بصدق ما قالوه ، ولا معرفة ولا برهان ، فإنهم لم يعرفوهم ولا شاهدوهم ، ولا أخبرهم به مخبر مقبول الخبر ، بل قالوا ذلك جهلا وضلالة وجرأة ، وكذبا وزورا وافتراء وكفرا شنيعا.

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ، وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) أي ما يتبعون في زعمهم إلا التوهم أو الظن الذي لا أساس له من الصحة ، وإن مثل هذا الظن لا يجدي شيئا ، ولا يقوم أبدا مقام الحق. جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث».

(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) أي فأعرض أيها الرسول عمن أعرض عن القرآن أو تذكير الله ، ولم يكن همّه إلا الدنيا ، وترك النظر إلى الآخرة ، أي فاترك مجادلتهم والاهتمام بشأنهم ، فقد بلّغت ما أمرت به ، وليس عليك إلا البلاغ. وقوله تعالى : (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) يشير إلى إنكارهم الحشر ، كما قالوا : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) [الأنعام ٦ / ٢٩] وقال تعالى : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) [التوبة ٩ / ٣٨].

(ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي إن أمر الدنيا وطلبها هو منتهى ما وصلوا إليه من العلم ، فلا يلتفتون إلى ما سواه من أمر الدين. روى الإمام أحمد عن أم المؤمنين عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له» وفي الدعاء المأثور : «اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا».

١١٥

والعلة أو سبب الأمر بالإعراض عنهم ما قال تعالى :

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) أي أعرض عن هؤلاء ، لأن الله هو الخالق لجميع المخلوقات ، وهو عالم بمن ضل عن سبيله ، سبيل الحق والهدى ، وعالم بمن اهتدى إلى الدين الحق ، وسيجازي كل فريق أو أحد على عمله.

وفيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيلا يتعب نفسه في تحصيل ما ليس يرجى حصوله ، وهو إيمان أهل العناد الذين قنعوا بالظن بدل العلم ، ولازموا الباطل دون الحق ، إذ كان من خلقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحرص على إيمانهم. وفي ذلك أيضا وعيد للكفار ، ووعد للمؤمنين.

فقه الحياة أو الأحكام :

أوضحت الآيات ما يأتي :

١ ـ وصف الله الكفار الذين قالوا : الملائكة بنات الله ، والأصنام بنات الله بأنهم كافرون بالبعث والحشر أو بالآخرة على الوجه الحق الذي جاءت به الرسل.

٢ ـ وبخ الله المشركين الذين يعتقدون أن الملائكة إناث وأنهم بنات الله سبحانه وتعالى.

٣ ـ ليس لهم بما وصفوا به الملائكة هذا الوصف علم صحيح ، فإنهم لم يشاهدوا خلق الله الملائكة ، ولم يسمعوا ما قالوه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يروه في كتاب ، وإنما يتبعون التوهم في أن الملائكة إناث ، وإن التوهم أو الظن الذي لا يقوم على أساس علمي صحيح لا يفيد شيئا في مجال التعرف على الحقيقة.

٤ ـ إذا كان هذا شأن هؤلاء الكفار المعاندين الذين لا همّ لهم إلا الدنيا فاترك أيها الرسول مجادلتهم ، فقد بلغت الرسالة ، وأتيت بما كان عليك. قال

١١٦

الرازي ـ وما أصوب ما قال ـ : وأكثر المفسرين يقولون بأن كل ما في القرآن من قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ) منسوخ بآية القتال ، وهو باطل ، فإن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال ، فكيف ينسخ به؟ وذلك لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مأمورا بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة ، فلما عارضوه بأباطيلهم قيل له : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ثم لما لم ينفع قال له ربه : فأعرض عنهم ، ولا تقابلهم بالدليل والبرهان ، فإنهم لا يتبعون إلا الظن ، ولا يتبعون الحق ، وقابلهم بالإعراض عن المناظرة بشرط جواز المقابلة ، فكيف يكون منسوخا (١)؟!

٥ ـ شأن الكفار غالبا الاهتمام بالدنيا فقط ، وجهل أمر الدين والآخرة ، فهم قوم ماديون ، كما نشاهد اليوم ، لذا أخبر الله تعالى عنهم بأن طلب الدنيا هو قدر عقولهم ، ونهاية علمهم ، لأنهم آثروا الدنيا على الآخرة : (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) [الدهر ٧٦ / ٢٧].

٦ ـ ختمت الآيات بالوعيد والتهديد ، فالله تعالى أعلم بالضالين ، وأعلم بالمهتدين ، فلا داعي للمعاناة ، وسيجازي كلّا بأعمالهم خيرها وشرها.

جزاء المسيئين والمحسنين وأوصاف المحسنين

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢))

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ٣١١

١١٧

الإعراب :

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ .. لِيَجْزِيَ ..) لام (لِيَجْزِيَ) إما لام (كي) والتقدير : واستقر لله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ، أو تكون لام القسم.

(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ الَّذِينَ) : في موضع نصب على البدل من (الَّذِينَ) في قوله تعالى : (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى).

(إِلَّا اللَّمَمَ اللَّمَمَ) : استثناء منقطع : وهو صغائر الذنوب.

البلاغة :

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا ، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) بينهما ما يسمى بالمقابلة ، وتكرار لفظ (لِيَجْزِيَ) من قبيل الإطناب.

المفردات اللغوية :

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي هو الخالق والمالك والمتصرف. (بِما عَمِلُوا) بعقاب ما عملوا من السوء كالشرك وغيره. (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) الذين أحسنوا بالتوحيد والطاعة يجزيهم بالمثوبة الحسنى وهي الجنة.

(كَبائِرَ الْإِثْمِ) ما يكبر عقابه من الذنوب ، وهو كل ذنب توعد الله عليه صاحبه بالعذاب الشديد كالشرك وعقوق الوالدين. (وَالْفَواحِشَ) ما فحش من الكبائر خصوصا ، وهو الذنب الذي عاقب الله عليه بالحد كالقتل العمد والزنى والقذف وشرب الخمر وسائر المسكرات. (إِلَّا اللَّمَمَ) استثناء منقطع ، أي لكن اللمم إذا اجتنب الكبائر تغفر ، مثل النظرة إلى المحرّمات والقبلة واللمسة. (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) كثير الغفران للذنوب ، قابل التوبة منها ، فله أن يغفر ما يشاء من الذنوب صغيرها وكبيرها ، قال البيضاوي : ولعله عقب به وعيد المسيئين ووعد المحسنين ، لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته ، ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى. (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) عالم بأحوالكم. (إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) خلق أباكم آدم من التراب. (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) أي حينما صوّركم في الأرحام ، والأجنّة : جمع جنين : وهو الولد ما دام في بطن أمه ، سمي بذلك لاجتنانه أي استتاره.

(فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) لا تثنوا عليها بزكاء العمل وزيادة الخير ، ولا تمدحوها على سبيل الإعجاب ، أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فحسن. (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) أي عالم يعلم التقي وغيره قبل الخلق.

١١٨

سبب نزول الآية (٣٢):

(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ .. هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ ..) : أخرج الواحدي والطبراني وابن المنذر وابن أبي حاتم : عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال : كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبي صغير : هو صدّيق ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «كذبت اليهود ، ما من نسمة يخلقه الله في بطن أمه إلا ويعلم أنه شقي أو سعيد» ، فأنزل الله عند ذلك هذه الآية : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ).

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى أنه العليم بما في السموات والأرض ، وأنه يجازي عباده بعدله ، فيثيب المحسن بالجنة ، ويعاقب المسيء بالنار ، ذكر أنه قادر على ذلك ، فهو مالك العالم العلوي والسفلي يتصرف فيهما بما شاء ، وهو يجازي على وفق علمه المحيط بكل شيء ، ثم ذكر أوصاف المحسنين ، وأخبر أنه جواد كريم واسع المغفرة لمن يشاء من عباده.

التفسير والبيان :

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، لِيَجْزِيَ (١) الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا ، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) أي إن الله تعالى مالك السموات والأرض ، وأنه الغني عما سواه ، الحاكم في خلقه بالعدل ، وقد خلق الخلق بالحق ، وجعل عاقبة أمر الخلق الذين فيهم المحسن والمسيء أن يجزي كلّا بعمله ، بحسب علمه المحيط بكل شيء ، المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، فإن كان العمل خيرا ، كان الجزاء خيرا ، وإن كان شرا كان الجزاء شرا. فتكون لام (لِيَجْزِيَ) لام العاقبة.

__________________

(١) قال الواحدي : اللام للعاقبة أو الصيرورة ، كما في قوله تعالى : لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص ٢٨ / ٨] أي أخذوه وعاقبته أنه يكون لهم عدوا.

١١٩

قال ابن الجوزي في تفسيره : والآية إخبار عن قدرته وسعة ملكه ، وهو كلام معترض بين الآية الأولى ، وبين قوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) لأنه إذا كان أعلم بالمسيء وبالمحسن ، جازى كلّا بما يستحقه ، وإنما يقدر على مجازاة الفريقين إذا كان واسع الملك.

ثم ذكر الله تعالى صفات المتقين المحسنين ، فقال :

(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) أي إن المحسنين هم الذين يبتعدون عن كبائر الذنوب كالشرك والقتل وأكل مال اليتيم ، وعن الفواحش كالزنى ، والكبائر : كل ذنب توعد الله عليه بالنار ، والفواحش : ما تناهي أو تزايد قبحه عقلا وشرعا من الكبائر ، مما كان فيه الحد. ولكن لا يقع منهم إلا اللمم أي صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال كالنظرة الحرام والقبلة. أخرج أحمد والشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنى ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنى العين النظر ، وزنى اللسان النطق ، والنفس تمنّى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه».

فإن اقترفوا اللمم تابوا ولم يعودوا إلى مثله.

ونحو الآية قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ، وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) [النساء ٤ / ٣١].

وقد ورد في الصحيحين عن علي رضي‌الله‌عنه تحديد الكبائر بسبع : «اجتنبوا السبع الموبقات : الإشراك بالله تعالى ، والسحر ، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» وقد أوصلها الحافظ الذهبي في كتابه (الكبائر) إلى سبعين. وروى الطبراني عن ابن عباس أن رجلا قال له : الكبائر سبع ،

١٢٠