التفسير المنير - ج ٢١

الدكتور وهبة الزحيلي

الإعراب :

(فِطْرَتَ اللهِ) منصوب بتقدير فعل ، أي اتبع فطرة الله ، دل عليه قوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) أي اتبع الدين ، أو منصوب على المصدر ، تقديره : فطر الله الخلق فطرة ، أو منصوب على الإغراء.

(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) منصوب على الحال من ضمير (فَأَقِمْ). وإنما جمع حملا على المعنى ؛ لأن الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد به أمته ، مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق ٦٥ / ١].

(مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا) بدل بإعادة الجار ، أي بدل من المشركين.

البلاغة :

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ) من إطلاق الجزء وإرادة الكل ، أي توجه إلى الله بكليتك.

(فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ) بينهما جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) أي اتبع الدين وأخلص فيه وأقبل على الإسلام واثبت عليه يا محمد ومن تبعك. (حَنِيفاً) مائلا إلى الاستقامة ، تاركا طرق الضلالة. (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) خلقة الله التي خلق الناس عليها من الشعور بالعبودية لله تعالى ، وقبول الحق وإدراكه. (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) لا ينبغي لأحد أن يغير فطرة الله وخلقه ، وليس لكم أن تبدلوا دينه بأن تشركوا. (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي ذلك الدين المأمور باتباعه أو الفطرة بمعنى الملة هو الدين المستقيم أو المستوي الذي لا عوج فيه ولا انحراف ، وهو توحيد الله. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي أغلب الناس ، مثل كفار مكة حين نزول الوحي لا يعلمون توحيد الله تعالى واستقامة الدين ، لعدم تدبرهم وتفكرهم.

(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) راجعين إليه تعالى بالتوبة وإخلاص العمل ، والتزام ما أمر به واجتناب ما نهى عنه. (وَاتَّقُوهُ) أي أقيموا الدين واتبعوه وخافوا الله ؛ لأن الخطاب للرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمة معه ، غير أن الآية صدرت بخطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعظيما له. (فَرَّقُوا دِينَهُمْ) أي اختلفوا فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم ، وقرئ : فارقوا ، اي تركوا دينهم الذي أمروا به.

(شِيَعاً) فرقا ، تشايع كل فرقة إمامها الذي قرر لها دينها وأصّله ، أي وضع أصوله. (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي كل حزب منهم بما عندهم مسرورون.

٨١

المناسبة :

بعد بيان أدلة الوحدانية والقدرة الإلهية على كل شيء ومنه الحشر والبعث ، وبعد توطين عزيمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الاعتزاز بدعوته وعدم الاهتمام بموقف المشركين منها ، وترك الالتفات إليهم ، أمر الله تعالى بمتابعة دين الإسلام ، والثبات عليه ، والإخلاص في العمل الذي اشتمل عليه ؛ لأنه فطرة الله التي أودع النفوس والعقول عليها ، والاعتراف بمضمونها ، والشعور الصافي بمدلولها.

التفسير والبيان :

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ، فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) أي إذا تبين الحق في الاعتقاد والدين بدلائله السابقة ، وبطل الشرك ومعالمه ، فاتبع الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم ، التي هداك الله لها ، وأكملها لك ، وهو دين الفطرة السليمة التي فطر الله الخلق عليها ، فإنه خلقهم على معرفته وتوحيده وأنه لا إله غيره ، وكن بذلك مائلا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق. وهذا أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر لأمته أيضا. وتلك الفطرة كما قال تعالى : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا : بَلى) [الأعراف ٧ / ١٧٢] وكما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه مسلم وأحمد : «إني خلقت عبادي حنفاء ، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم» وفي حديث آخر رواه البخاري ومسلم : «كل مولود يولد على الفطرة ، حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة جمعاء (١) ، هل تحسّون فيها من جدعاء (٢)».

فكل من الآيتين والحديثين دليل على نقاوة أصل الخلق ، وأن الله تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده ، وعلى الإسلام الصافي ، ثم طرأ على بعضهم الأديان

__________________

(١) مستوية كاملة لا نقص في شيء من بدنها.

(٢) جدعاء : مقطوعة الأذن أو الأنف.

٨٢

الفاسدة كاليهودية والنصرانية والمجوسية.

وقوله : (فِطْرَتَ اللهِ) أي الزموا فطرة الله ، أو عليكم فطرة الله. وقدر فعل الخطاب للجماعة لقوله : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ).

(لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) أي لا ينبغي لأحد أن يبدّل أو يغير فطرة الله أي الخلقة الأصلية والملة السليمة ، وهو خبر في معنى النهي أو الطلب ، أي لا تبدلوا خلق الله ودينه بالشرك ، فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها. وهذا دليل على سلامة الخلقة العقدية ، ونقاوة العقل البشري في أصل التكوين والوجود ، ثم يحدث التغيير بتأثيرات البيئة من أهواء وعلوم ومعارف زائغة ، وموروثات باطلة وتقليد مستمر للأسلاف ، دون إعمال الفكر وتكوين الاعتقاد بالنظرة المستقلة الصائبة ، ولو ترك الإنسان وشأنه لما اختار غير الإسلام دينا ؛ لأنه دين الفطرة والعقل.

(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي ذلك المأمور به من اتباع ملة التوحيد والتمسك بالشريعة والفطرة السليمة هو الدين المستقيم الذي لا عوج فيه ولا انحراف.

غير أن أكثر الناس لا يعرفون ذلك حق المعرفة ، فهم ناكبون عنه ، لعدم إعمال فكرهم والإفادة من العلم الصحيح والبراهين الواضحة الدالة عليه ، ولو فكروا وعقلوا وعلموا حق العلم ، لما عدلوا عن ملة التوحيد وشريعة الإسلام وهديه.

(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ، وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي اتبعوا دين الله ، مقبلين عليه ، راجعين إليه ، وإذا أقبلتم عليه وتركتم الدنيا ، فلا تأمنوا فتتركوا عبادته ، بل خافوه وداوموا على العبادة ، وراقبوه فلا تفرطوا في طاعة ، ولا ترتكبوا معصية ، وأقيموا الصلاة ، أي داوموا على إقامتها كاملة

٨٣

الأركان مستوفية الشروط ، قائمة على الخشوع وتعظيم الله عزوجل ، ولا تكونوا بعد الإيمان من المشركين به غيره ، فلا تقصدوا بذلك غير الله ، أي بل كونوا من الموحدين المخلصين له العبادة ، لا يريدون بها سواه ، والعبادة الخالصة هي كما جاء في الحديث الصحيح عند الشيخين عن عمر : «اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

وروى ابن جرير عن يزيد بن أبي مريم قال : مرّ عمر رضي‌الله‌عنه بمعاذ بن جبل ، فقال عمر: ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ : ثلاث ، وهن المنجيات : الإخلاص ، وهي الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها ، والصلاة وهي الملة ، والطاعة وهي العصمة ، فقال عمر : صدقت.

وأوصاف المشركين هي :

(مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً ، كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي من المشركين الذين فرقوا دينهم أي اختلفوا فيما يعبدونه على حسب اختلاف أهوائهم ، وبدلوا دين الفطرة وغيروه ، وآمنوا ببعض وكفروا ببعض ، وصاروا فرقا مختلفة كاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان وسائر أهل الأديان الباطلة ، كل فرقة منهم تفرح بما عندها وتسر وتعجب ، وتزعم أن الصواب في جانبها ، مع أنهم على الباطل الذي يناقض الحق الذي أراده الله واختاره دينا لعباده.

وهذا يشمل أيضا اختلاف الأمة الإسلامية ، اختلفوا بينهم على مذاهب شتى في الاعتقاد والعمل ، كلها ضلالة ، إلا واحدة ، وهم أهل السنة والجماعة المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين ، كما روى الحاكم في مستدركه أنه سئل صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الفرقة الناجية منهم ، فقال : «من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي».

وقرئ : «فارقوا دينهم».

٨٤

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ الإسلام دين الفطرة والتوحيد ، فهو دين يلائم أصل الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها.

وفطرة الله هي التوحيد ، فإن الله خلق الناس موحدين مقرين بوجود ربهم وبوحدانيته ، حيث أخذهم من ظهر آدم في عالم الذر ، وسألهم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟) فقالوا : (بَلى) [الأعراف ٧ / ١٧٢].

٢ ـ أمر الله تعالى باتباع دين الفطرة النقية ؛ لأنه دين التوحيد ، والدين المستقيم الذي لا عوج فيه ولا انحراف ، وهو دين الإسلام ، وحذر من تبديله وتغييره ، فلا يصح تبديل دين الله ، قال البخاري : قوله : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) : لدين الله ، خلق الأولين ، دين الأولين ، الدين والفطرة : الإسلام.

كما حذر الله تعالى من الميل لأي دين آخر غير ملة الإسلام ، بقوله : (حَنِيفاً) معناه معتدلا مائلا عن جميع الأديان المحرّفة المنسوخة.

٣ ـ إن أكثر الناس لا يتفكرون ، فيعلمون أن لهم خالقا معبودا ، وإلها قديما سبق قضاؤه ونفذ حكمه ، وأن الإسلام هو الدين المستقيم.

٤ ـ أمر الله تعالى بالإنابة إليه ، أي بالرجوع إليه بالتوبة والإخلاص ، والإقبال عليه ، وإطاعته ، والتوبة إليه من الذنوب.

وأمر أيضا بالتقوى ، أي بالخوف من الله وامتثال ما أمر به ، وبإقامة الصلاة تامة كاملة مشتملة على الخشوع ومحبة الإله المعبود ، وحذر من اقتران العبادة بالشرك ، فأبان أن العبادة لا تنفع إلا مع الإخلاص ، فلذلك قال :

٨٥

(وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) والمراد إخراج العبد عن الشرك الخفي ، أي لا تقصدوا بعملكم إلا وجه الله ولا تطلبوا به إلا رضاء الله.

٥ ـ لقد غيّر الناس دين الفطرة ، وجعلوا أديانا وآراء متناقضة ، وذلك يشمل المشركين: عبدة الأوثان ، واليهود والنصارى ، والمسلمين أهل القبلة أصحاب الأهواء والبدع ، كل حزب بما عندهم مسرورون معجبون ؛ لأنهم لم يتبينوا الحق ، وعليهم أن يتبينوه.

سوء حال بعض الناس بالرجوع إلى الله أحيانا

ثم الشرك والنكول

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧))

الإعراب :

(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً سُلْطاناً) : قيل : هو جمع (سليط) كرغيف ورغفان ، وقفيز وقفزان ، ويجوز فيه التذكير والتأنيث ، فمن ذكّر فعلى معنى الجمع ، ومن أنثه فعلى معنى الجماعة. والأصح أن السلطان : الحجة ، وتكلّمه مجاز كما تقول : كتابه ناطق بكذا ، وهذا مما نطق به القرآن ، ومعناه الدلالة.

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ .. إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ إِنْ) : شرطية ، وجوابها قوله : (إِذا)

٨٦

بمنزلة الفاء ، وصارت (إِذا) بمنزلة الفاء ؛ لأنها لا يبتدأ بها ، كما لا يبتدأ بالفاء ، بسبب أنها للمفاجاة. وإنما يبتدأ ب (إذا) إذا كان فيها معنى الشرط. و (تُصِبْهُمْ) : مبتدأ ، و (يَقْنَطُونَ) : خبره. و (إِذا) خبر آخر ، تقديره : وبالحضرة هم قانطون.

البلاغة :

(يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ) بينهما طباق.

(فَتَمَتَّعُوا) التفات من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة.

المفردات اللغوية :

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ) أي المشركين كفار مكة وأمثالهم. (ضُرٌّ) شدة وبلاء. (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) راجعين إليه دون غيره. (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) أي خلاصا من تلك الشدة. (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) أي فاجأ فريق منهم الإشراك بربهم.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) اللام فيه لام العاقبة أو الصيرورة ، مثل آية (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص ٢٨ / ٨] وقيل : للأمر بمعنى التهديد. (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة تمتعكم.

(أَمْ) بمعنى همزة الإنكار. (سُلْطاناً) حجة وكتابا. (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) تكلم دلالة ، فهو مجاز ، كما تقول : كتابه ناطق بكذا ، ومعناه الدلالة والشهادة ، كأنه قال : فهو يشهد بشركهم وبصحته. (بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أي يأمرهم بالإشراك.

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ) فئة من الكفار. (رَحْمَةً) نعمة من صحة وسعة. (فَرِحُوا بِها) فرح بطر ، أي بطروا بسببها. (سَيِّئَةٌ) شدة. (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي بشؤم معاصيهم. (يَقْنَطُونَ) ييأسون من الرحمة. ومن شأن المؤمن أن يشكر عند النعمة ، ويرجو عند الشدة.

(أَوَلَمْ يَرَوْا) أولم يعلموا. (يَبْسُطُ) يوسع. (لِمَنْ يَشاءُ) امتحانا. (وَيَقْدِرُ) يضيق لمن يشاء ابتلاء. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بربهم ، فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة.

المناسبة :

بعد بيان التوحيد والاستدلال عليه عقلا وبالمثال ، أبان الله تعالى حال فئتين من الناس : الأولى ـ بعض المشركين الذين يتضرعون إلى الله وقت الشدة ، ويشركون به الأوثان والأصنام وقت الرخاء. والثانية ـ بعض الكفار أو

٨٧

المشركين غير المذكورين سابقا الذين تكون عبادتهم الله للدنيا ، إن أوتوا منها رضوا ، وإن منعوا منها سخطوا وقنطوا.

التفسير والبيان :

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ، ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً ، إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) أي إذا أصاب الناس عادة شدة أو بلاء من مرض أو قحط أو تعرض للخطر في جو أو بحر أو بر ونحو ذلك من حالات الاضطرار ، لجؤوا إلى الله يدعونه وحده لا شريك له ، وتضرعوا إليه واستغاثوا به مقبلين عليه ، راجعين إليه ، حتى إذا كشف عنهم البلاء وأسبغ عليهم النعمة ، فاجأ فريق منهم في حالة الاختيار ، يشركون بالله ، ويعبدون معه غيره من الأوثان والأصنام.

فهم انتهازيون نفعيون يؤمنون بالله ، ويدعونه دون سواه وقت المصلحة أو الحاجة الشديدة ، ثم يتنكرون لربهم ، ويعرضون عنه حال السراء والرخاء ، بل ويشركون به سواه ، وهذا مبعث العجب والاستغراب.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) اللام لام العاقبة ، أي ليؤول أمرهم إلى الكفر بنعمة الله ، وجحود فضله وإحسانه. ورأى بعضهم أن الفعل فعل أمر للتهديد ، كما في قوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف ١٨ / ٢٩] وكالأمر بعده :

(فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) الأمر للتهديد ، كما في قوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت ٤١ / ٤٠] أي استمتعوا أيها المشركون بمتاع الدنيا ورخائها ، فمتاعها قصير زائل ، فسوف تعلمون عقابي وشدة عذابي في الآخرة على كفركم في الدنيا. قال بعضهم : والله لو توعدني حارس درب ، لخفت منه ، فكيف والمتوعّد هاهنا هو الذي يقول للشيء : (كُنْ فَيَكُونُ)؟!

٨٨

ثم أنكر الله تعالى على المشركين فيما اختلفوا فيه من عبادة غيره بلا دليل ولا حجة ، فقال :

(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أي أأنزلنا عليهم في عبادة الأوثان حجة وكتابا فيه تقرير ما يفعلون ، وينطق أو يدل ويشهد بشركهم؟! وهذا استفهام إنكاري معناه أنه لم يكن شيء من ذلك ، فلم ينزل الله عليهم كتابا بما يقولون ، ولا أرسل رسولا ، وإنما هو شيء اخترعوه ، وفي ضلالتهم يترددون.

وبعد ان بيّن الله تعالى حال المشرك الظاهر شركه ، بيّن حال المشرك الذي دونه ، وهو من تكون عبادته الله للدنيا ، فإذا آتاه منها رضي ، وإذا منعه سخط وقنط ، فقال :

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) أي إذا أنعم الله على بعض الناس نعمة بطر بها ، كما قال : (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي ، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) [هود ١١ / ١٠] أي يفرح في نفسه ، ويفخر على غيره ؛ وإذا أصابته شدة أو شر قنط وأيس من رحمة الله وسخط ؛ لأن إصابته بالسيئة كان بسبب شؤم معصيته.

ويلاحظ أنه تعالى لم يذكر عند النعمة سببا لها لتفضله بها ، وذكر عند العذاب سببا تحقيقا للعدل.

وهذا إنكار على الإنسان وطبيعته ، لكن في آية أخرى عقب آية هود المتقدمة استثنى تعالى المؤمنين الصابرين فقال : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [هود ١١ / ١١] أي الذين صبروا في الضراء وعملوا الصالحات ، كما ثبت في الصحيح عند أحمد ومسلم عن صهيب : «عجبا للمؤمن ، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته سرّاء شكر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر ، فكان خيرا له».

٨٩

ثم نبههم تعالى إلى ما يطرد اليأس والقنوط ، فقال :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي ألم يعلموا ويشاهدوا أن الله يوسع الرزق لمن يشاء من عباده امتحانا ، بغض النظر عن وجود صفة الكفر ، ويضيق الرزق على من يشاء ابتلاء ، ولو مع وجود الإيمان وصالح الأعمال ، فالله هو المتصرف الفاعل للأمرين بحكمته وعدله ، يوسع على قوم ، ويضيق على آخرين ، دون نظر إلى صفتي الإيمان والكفر ؛ لأن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة ، والمؤمن : هو الراضي بقضاء الله وقدره ، ولا ييأس من رحمة الله ، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن في ذلك المذكور من سعة الرزق وإقتاره لدلالة واضحة على الإيمان الصادق ، وحجة للمؤمن المصدق بوحدانية الله وقدرته تجعله يفوض الأمر إلى الله وحده.

فقه الحياة أو الأحكام :

تدل الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن حال فريق من المشركين أو الكفار مدعاة للعجب ، فهم يتركون الإنابة إلى الله تعالى مع تتابع الحجج عليهم ، وتراهم لا يثبتون على وتيرة واحدة ، فإذا مسّهم ضرّ من مرض أو شدة ، دعوا ربهم ، أي استغاثوا به في كشف ما نزل بهم ، وأقبلوا عليه وحده دون الأصنام ، لعلمهم بأنه لا فرج عندها ، وإذا أنعم الله عليهم بنعمة أو عافية أشركوا به في العبادة.

٢ ـ إن مصير هؤلاء هو ملازمة الكفر ، وقد هددهم الله وأوعدهم على تمتعهم بمتاع الدنيا ، ثم يجدون جزاءهم العادل في عالم الآخرة.

٣ ـ لا حجة ولا برهان للكافرين على كفرهم ، فالله لم ينزل عليهم في شأن

٩٠

إقرار كفرهم كتابا ولا أرسل رسولا ، ولم يسوغ ذلك في أي وثيقة يعتمدون عليها.

٤ ـ أنكر الله تعالى على الإنسان من حيث هو إلا من عصمه ووفقه ، حيث إنه يفرح ويبطر حال الخصب والسعة والعافية وغيرها من النعم ، وييأس ويقنط من الرحمة والفرج حال البلاء والعقوبة ، بما عمل من المعاصي. أما المؤمن فيشكر عند الرخاء ، ويصبر عند البلاء.

٥ ـ الله تعالى وحده هو المتصرف في أرزاق العباد ، فيوسع الخير في الدنيا لمن يشاء أو يضيق ، على وفق الحكمة والعدل ، فلا يصح أن يكون الفقر سببا للقنوط ، ولا ينبغي أن يكون الغنى سببا للبطر ، فكل من الغنى والفقر من الله تعالى ، وعلى المؤمن الموحد تفويض أمر الرزق إلى الله سبحانه.

الترغيب بالنفقة وأنواع العطاء وضمان الرزق

وإثبات الحشر والتوحيد

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠))

البلاغة :

(فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ..) سجع مرصّع.

٩١

المفردات اللغوية :

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) أعط القريب حقه من صلة الرحم والبرّ به ، واحتج به الحنفية على وجوب النفقة للمحارم. (وَالْمِسْكِينَ) هو المحتاج وهو المعدم الذي لا مال له. (وَابْنَ السَّبِيلِ) المسافر المحتاج إلى المال ، وإيتاؤهما : إعطاؤهما ما وظّف لهما من الزكاة. والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمته تبع له في ذلك. (لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) ثوابه بما يعملون أو ذاته أو جهته قاصدين إياه بمعروفهم خالصا. (الْمُفْلِحُونَ) الفائزون.

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً) أي ما فعلتم من ربا ، وهو الزيادة ، والمراد بها الهبة أو الهدية التي يقصد بها الوصول إلى أكثر منها. (لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) المعطين أي يزيد. (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) لا يزكو عنده ، ولا يبارك فيه ، ولا ثواب فيه للمعطين.

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) أي صدقة. (الْمُضْعِفُونَ) ثوابهم بما أرادوه ، أي يضاعف الله لهم الثواب ، مأخوذ من (أضعف) إذا صار ذا ضعف.

المناسبة :

لما ذكر الله تعالى أنه هو الباسط الرازق لمن يشاء والقابض له ، وجعل في ذلك آية للمؤمن ، أردفه بأنه لا ينبغي أن يتوقف الإنسان في الإحسان لذوي الحاجة ، فإن الله إذا بسط الرزق لا ينقص بالإنفاق ، وإذا قدر وقتّر لا يزداد بالإمساك ، ولأن من الإيمان الشفقة على خلق الله من قريب أو مسكين وابن سبيل.

التفسير والبيان :

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) يأمر الله تعالى بإعطاء هؤلاء ، فيقول : فأعط أيها الرسول ومن تبعك من أمتك المؤمنين ذوي القرابة حقهم من صلة الرحم والبرّ بهم والإحسان إليهم ؛ لأنهم جزء من رابطة الدم والنسب ، فكانوا أحق الناس بالتواصل والتزاور والشفقة ، وأعط الحق أيضا للمسكين الذي لا شيء له ينفق عليه ، أو له شيء لا يقوم بكفايته ، ومثله المسافر البعيد عن ماله المحتاج إلى نفقة وحوائج السفر. وسرعة المواصلات لا تستأصل حاجة هذا المسافر ، وإنما تقلل من المبلغ المالي الذي يحتاج إليه.

٩٢

وقد احتج أبو حنيفة رحمه‌الله بهذه الآية في وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب. والظاهر أن الحق ليس الزكاة ، وإنما يصير حقا بالإحسان والمواساة. وقدم ذا القربى على المسكين وابن السبيل للاهتمام به ؛ لأن بره صدقة وصلة.

(ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي إن الإيتاء أو الإعطاء لمن ذكر خير في ذاته لمن يقصدون بعملهم وجه الله خالصا ، أي يطلبون ذاته أو جهته أو ثوابه ورضوانه يوم القيامة ، دون أن يفعلوا ذلك رياء ولا سمعة وشهرة ، وأولئك هم المفلحون الفائزون في الدنيا والآخرة.

وكون هذا الإعطاء خيرا ؛ لأنه سبب لتكافل الأسرة وتعاون المسلمين فيما بينهم ، وفي التكافل والتعاون قوة وتوادد وتراحم وتآزر ، وتخلص من أمراض الفقر والتمزق والحقد والحسد.

ثم ذكر نوعين من أنواع العطاء : أحدهما حسن مقبول عند الله والآخر قبيح مبغوض عند الله ، أما القبيح فهو الربا ، وأما الحسن فهو الزكاة ، والقبيح هو المذكور في قوله تعالى :

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ ، فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) أي من أعطى عطية يريد أن يرد الناس عليه أكثر مما أهدى لهم ، فلا ثواب له عند الله ، كما قال تعالى : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) [المدثر ٧٤ / ٦] أي لا تعط عطاء تريد أكثر منه ، وهذا حرام على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على الخصوص ، حلال على غيره ، لكن لا ثواب فيه.

قال ابن عباس : الربا نوعان : ربا لا يصح ، وهو ربا البيع ، وربا لا بأس به ، وهو هدية الرجل يريد فضلها وإضعافها ، ثم تلا هذه الآية : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ).

٩٣

وروي مثل ذلك عن عكرمة والضحاك ومجاهد وقتادة ومحمد بن كعب والشعبي.

وأما العطاء الحسن الذي يثاب عليه صاحبه فهو الزكاة كما قال تعالى : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ ، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي ومن أعطى صدقة يقصد بها وجه الله وحده خالصا ، فله الثواب المضاعف والجزاء الأفضل عند الله تعالى ، كما قال تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة ٢ / ٢٤٥] وقال سبحانه : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ، فَيُضاعِفَهُ لَهُ ، وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) [الحديد ٥٧ / ١١] وجاء في الحديث الصحيح : «وما تصدّق أحد بعدل تمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه ، فيربيها لصاحبها ، كما يربّي أحدكم فلوّه أو فصيله ، حتى تصير التمرة أعظم من أحد» (١) الجبل المعروف في المدينة.

ثم أكد الله تعالى ما سبق بأن الزيادة والنماء داخل في رزق الله المحدد لكل إنسان ، فقال :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي الله هو الخالق الرازق الذي يرزق الإنسان من الميلاد إلى الوفاة ، ثم هو المميت بعد هذه الحياة ، ثم هو المحيي يوم القيامة للحشر والبعث.

(هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟) أي هل من آلهتكم الذين تعبدونهم من دون الله من يفعل من ذلكم شيئا ، أي من الخلق أو الرزق أو الإماتة أو الإحياء؟! لا يقدر أحد منهم على فعل شيء من ذلك ، بل الله سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق والرزق والإحياء والإماتة ، ثم يبعث الخلائق يوم القيامة ، لهذا قال :

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه الله وتقدس وتعاظم عن أن

__________________

(١) أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحة عن أبي هريرة.

٩٤

يكون له شريك أو نظير أو مساو أو ولد أو والد ، بل هو الأحد الفرد الصمد. وأضاف الشركاء إلى عبدة الأصنام لأنهم كانوا يسمونهم بالآلهة والشركاء ، ويجعلون لهم من أموالهم.

ويلاحظ أنه تعالى جمع في هذه الآية بين إثبات الأصلين : الحشر والتوحيد ، أما الحشر فبقوله : (يُحْيِيكُمْ) بدليل قدرته على الخلق في ابتداء الخليقة ، وأما التوحيد فبقوله : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ).

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ يأمر الله تعالى بصلة الأقارب ذوي الأرحام ، وبمساعدة المسكين وابن السبيل ، وقد فضّل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصدقة على الأقارب على عتق الرقاب ، فقال لميمونة ، وقد أعتقت وليدة (أمة رقيقة) : «أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك».

والأصح أن الآية ليست منسوخة بآية المواريث ، فللقريب حق لازم في البرّ على كل حال ، ومعاونة المحتاجين من الفقراء والمنقطعين في الأسفار عن الوصول لبلادهم من مظاهر البرّ والخير في الإسلام. وفسر ابن عباس (الْمِسْكِينَ) فقال : أي أطعم السائل الطوّاف ، و (ابْنَ السَّبِيلِ) بأنه الضيف ، فجعل الضيافة فرضا. واستدل أبو حنيفة كما بينا بالآية على وجوب النفقة للمحارم المحتاجين.

٢ ـ إن إعطاء الحق المقرر شرعا لمن ذكر أفضل من الإمساك إذا أريد بذلك وجه الله والتقرب إليه ، وفاعلوه هم المفلحون الفائزون بمطلوبهم من الثواب في الآخرة.

٣ ـ إذا كان العطاء بقصد التوصل إلى الزيادة والأفضل فهو حرام على

٩٥

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، مباح لأمته ، وإن كان لا ثواب فيه. وهذا هو الربا الحلال أو هبة الثواب. أما الربا الحرام شرعا الذي يمحقه الله ، وإثمه كبير فهو ربا البيع وربا القرض ، وهو إعطاء الشيء وأخذ بدل عنه بشرط في العقد ، أو عمل بالعرف السائد.

٤ ـ إذا كان العطاء صدقة أو زكاة بقصد إرضاء الله وابتغاء الثواب من عنده ، فله ذلك عند الله بفضله ورحمته. والعطاء لحق القرابة وصلة الرحم يكون لوجه الله. أما إذا كان العطاء رياء وسمعة ليحمده الناس ويثنوا عليه من أجله ، فلا ثواب فيه في الدنيا ، ولا أجر في الآخرة ؛ قال الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) [البقرة ٢ / ٢٦٤].

٥ ـ «إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى» فلا يبارك الله في المأخوذ من الآخرين مقابل الهدية أو الهبة ولا ينمو ولا ثواب فيه عند الله تعالى ، وأما المعطى بقصد رضوان الله ، فذلك الذي يقبله الله ، ويضاعف ثوابه عشرة أضعافه إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، فإن فضل الله لا يحد ولا ينحصر ويمنح من يشاء.

٦ ـ الله تعالى هو القادر على البعث والحشر ، كما خلقنا أول مرة ، وهو الإله الواحد الفرد الصمد الذي لا شريك له ، الخالق الرازق المميت المحيي ، المنزه عن الأنداد والأضداد والصاحبة والولد. ولن تستطيع الآلهة المزعومة سواه شيئا من أفعاله السابقة كالخلق والرزق والإحياء والإماتة.

جزاء المفسدين والكافرين وجزاء المؤمنين

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ

٩٦

وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥))

البلاغة :

(الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) بينهما طباق.

(بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) مجاز مرسل بإطلاق الجزء وهو الأيدي وإرادة الكل.

(فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) استعارة ، شبه القائم بالأعمال الصالحة بمن يمهد فراشه ويعدّه للنوم عليه ، توفيرا للراحة والسلامة.

المفردات اللغوية :

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الفساد : الخلل في الأشياء ، كالجدب والقحط وقلة النبات ، وكثرة الحرق والغرق وأخذ المال ظلما وكثرة المضار وقلة المنافع. والبر : الجزء اليابس من الأرض. والبحر : الجزء المائي ، والمراد : في أهل البر سكان القرى والمدن والفيافي ، وأهل البحر سكان السواحل ، وركاب البحار. (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) بسبب معاصيهم وذنوبهم (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) أي أن الله قد أفسد أسباب دنياهم ومحقها ليذيقهم وبال بعض أعمالهم وعقوبته في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عما هم عليه ويتوبون. واللام : للتعليل أو للعاقبة.

(قُلْ : سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) أي قل يا محمد لكفار قريش وأمثالهم ، تأملوا فيما حدث في الأرض ، لتشاهدوا مصداق ذلك ، وتتحققوا صدقه. (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) استئناف للدلالة على أن سوء عاقبتهم كان لفشوّ الشرك فيهم.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) أي وجّه نفسك للعمل بالدين المستقيم ، البليغ الاستقامة وهو دين الإسلام. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ) أي قبل يوم القيامة الذي لا يقدر أن يرده واحد فلا راد له ولا مانع منه. (مِنَ اللهِ) متعلق بفعل (يَأْتِيَ) ويجوز تعلقه بقوله (مَرَدَّ) على معنى : لا يرده الله لتعلق إرادته القديمة بمجيئة. (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) يتصدعون ، أي يتفرقون بعد الحساب ، فريق في الجنة ، وفريق في السعير.

(مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي فعليه وبال كفره وهو النار المؤبدة. (يَمْهَدُونَ) يوطئون منزلهم ويسوونه في الجنة. (لِيَجْزِيَ) علة ليمهدون ، أو ليصدعون ، متعلق به. والاقتصار على

٩٧

جزاء المؤمنين للإشعار بأنه المقصود بالذات. (مِنْ فَضْلِهِ) أي يثيبهم من فضله ، وهذا دليل على أن الإثابة تفضل محض. (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي يعاقبهم.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى سوء حال المشركين ، والشرك سبب الفساد ، بدليل قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء ٢١ / ٢٢] ذكر أن الفساد قد ظهر بين الناس ، فأحلوا الحرام ، وحرموا الحلال ، وفشا الظلم ، وكثرت الحروب ، ثم نبههم وأمرهم بالمسير في الأرض ، فينظروا كيف أهلك الأمم بسبب معاصيهم وإشراكهم ، فإن الله تعالى أهلك قوما بسبب الشرك ، وقوما بسبب المعاصي ، والإهلاك قد يكون بالشرك ، وقد يكون بالمعاصي ، ثم أمر تعالى رسوله بالثبات في الدين الحق قبل مجيء الحساب الذي يتفرق فيه الناس : فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، فمن كفر فعليه وبال كفره ، ومن آمن وعمل صالحا فقد أعد لنفسه المهاد الذي يستريح عليه.

التفسير والبيان :

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ، لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي عمّ العالم ظهور الخلل والانحراف ، وكثرة المضار وقلة المنافع ونقص الزروع والأنفس والثمرات ، وقلة المطر وكثرة الجدب والقحط والتصحر ، بسبب شؤم معاصي الناس وذنوبهم ، من الكفر والظلم ، وانتهاك الحرمات ، ومعاداة الدين الحق ، وعدم مراقبة الله عزوجل في السر والعلن. والاعتداء على الحقوق وأكل مال الغير بغير حق ، ليذيقهم الله جزاء بعض عملهم وسوء صنيعهم من المعاصي والآثام ، وحينئذ ربما يرجعون عن غيهم ومعاصيهم ، كما قال تعالى : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الأعراف ٧ / ١٦٨].

٩٨

ثم هدد الله تعالى على ظهور الفساد بالعقاب كعقاب الأمم السابقة ، فقال : (قُلْ : سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) أي قل أيها الرسول للمفسدين والمشركين : سيروا في البلاد ، وتأملوا بمصير من قبلكم ، وكيف أهلك الله الأمم المتقدمة ، وأذاقهم سوء العذاب بسبب كفرهم وسوء أعمالهم ، وانظروا ما حلّ بهم من تكذيب الرسل وكفران النعم ، وأن الهلاك في الأكثر كان بسبب الشرك الظاهر ، وكان أيضا بغير الشرك كالإهلاك بالفسق والمخالفة ، كما فعل بأصحاب السبت (الْيَهُودُ).

قال في الكشاف : دل بقوله : (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) على أن الشرك وحده لم يكن سبب تدميرهم ، وأن ما دونه من المعاصي يكون سببا لذلك (١).

فسبب عذابهم في الغالب هو كفرهم بآيات ربهم وتكذيبهم رسله ، وهو تعليل لما سبق ، فهو دليل على تعليل الأحكام ، وعلى التزام ظاهرة العدل في العقاب الإلهي.

وبعد بيان ظاهرة الشرك والانحراف والفساد وبيان عاقبتها ، وبعد نهي الكافر عما هو عليه ، ذكر تعالى ما يقابلها من حال الاستقامة ، وأمر المؤمن بما هو عليه ، فقال :

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) أي بادر أيها الرسول ومن تبعك من المؤمنين إلى الاستقامة في طاعة الله ، وبادر إلى الخيرات ، ووجه نفسك كلها وبإخلاص للعمل بالدين المستقيم ، البليغ الاستقامة ، وهو دين الإسلام من قبل مجيء يوم القيامة الذي لا رادّ له ولا مانع منه ، فلا بد من وقوعه ؛ لأن الله كتب مجيئه وقدّره ، وما قدّره وأراد حدوثه فلا راد له ولا بد أن يكون.

__________________

(١) الكشاف ٢ / ٥١١

٩٩

ذلك اليوم الذي يتفرق فيه الناس بحسب أعمالهم ، ففريق في الجنة ، وفريق في السعير.

ثم بين الله تعالى أن جزاء كل فريق بحسب عمله ونتيجة فعله ، فقال : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ، وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أي من كفر بالله وكتبه ورسله ، وكذب باليوم الآخر ، فعليه وبال كفره ووزره وإثمه وعاقبته ، ومن آمن بالله وكتبه ورسله وبالبعث ، وعمل الأعمال الصالحة ، فأطاع الله فيما أمر ، وانتهى عما نهى عنه ، فقد أعدّ لنفسه الفراش الوطيء الوثير المريح ، والمسكن الفسيح ، والقرار الدائم.

وإنما قال : (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً) ولم يقل : ومن آمن ؛ لأن العمل الصالح المقبول لا يكون إلا بعد الإيمان ، ولأن بالعمل الصالح يكمل الإيمان ، فذكره تحريضا للمكلف عليه ، وأما الكفر إذا حدث فلا زنة للعمل معه.

وسبب التفرقة في الجزاء هو ما قال :

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي أنا المجازي فكيف يكون الجزاء؟ وأنهم يتفرقون فريقين فكيف يجازون؟ إنني أجازي المؤمنين الذين يعملون الصالحات بفضلي وإحساني ، فالمجازاة مجازاة الفضل ، فأكافئ الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبع مائة ضعف ، إلى ما شاء الله ، وأما الكافرون فإن الله يبغضهم ويعاقبهم ، ولكنه عقاب عادل لا يجور فيه ، وهذا تهديد ووعيد.

ودل قوله : (مِنْ فَضْلِهِ) على أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله ، لقلته وحقارته ، ولكن بمحض فضل الله تعالى.

ويلاحظ أنه عند ما أسند الله تعالى الكفر والإيمان إلى العبد المخلوق ، قدّم الكافر ، فقال : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) وعند ما أسند الجزاء إلى نفسه ، قدم

١٠٠