التفسير المنير - ج ٢١

الدكتور وهبة الزحيلي

٩ ـ إن الله لمع المحسنين بالنصرة والمعونة ، والحفظ والهداية ، ومع جميع الناس بالإحاطة والقدرة. فتكون فائدة المجاهدين في طاعة الله أمرين : التوفيق للخير والإيمان والسعادة ، والعون والتأييد والحفظ.

٤١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الروم

مكية ، وهي ستون آية.

تسميتها :

سميت سورة الروم لافتتاحها بخبر غلبة الروم ، والإخبار عن نصرهم بعدئذ في بضع سنين ، وتلك إحدى معجزات القرآن العظيم بالإخبار عن المغيبات في المستقبل ووقوع الشيء كما أخبر به.

موضوعها :

هو موضوع سائر السور المكية التي تبحث في أصول العقيدة الإسلامية وهي التوحيد وصفات الله تعالى ، والإيمان بالرسالة النبوية ، وبالبعث والجزاء في الآخرة.

مناسبتها لما قبلها :

تتشابه سورة الروم وسورة العنكبوت التي قبلها في المطلع ، فإن كلا منهما افتتح ب (الم) غير مقرون بذكر التنزيل والكتاب والقرآن ، على خلاف القاعدة الخاصة في المفتتح بالحروف المقطعة ، فإنها كلها قرنت بذلك إلا هاتين السورتين وسورة القلم. وقد ذكر في أول هذه السورة ما هو معجزة وهو الإخبار عن الغيب ، فقدمت هذه الحروف الهجائية لتنبيه السامع والإقبال بقلبه وعقله وروحه على الاستماع.

٤٢

وهناك تشابه آخر بين السورتين من وجوه ثلاثة :

الأول ـ إن السورة السابقة بدئت بالجهاد وختمت به : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) وبدئت هذه السورة بوعد المؤمنين بالغلبة والنصر ، وهم يجاهدون في سبيل الله تعالى.

الثاني ـ إن الاستدلال في هذه السورة على أصول الاعتقاد وأهمها التوحيد جاء مفصلا للمجمل في السورة السابقة مثل قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [١٩] (فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) [٢٠].

الثالث ـ ترتب على التفرقة بين المشركين وأهل الكتاب في السورة المتقدمة أن أبغض المشركون أهل الكتاب ، وتركوا مراجعتهم في الأمور ، وكانوا من قبل يراجعونهم في الأمور ، وسبب البغضاء أن المشركين في جدالهم نسبوا إلى عدم العقل : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [٦٣] وطلب مجادلة أهل الكتاب بالحسنى (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [٤٦] وكان أهل الكتاب يوافقون النبي في الإله ، كما قال تعالى : (وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ) [٤٦].

فلما غلب أهل الكتاب حين قاتلهم الفرس المجوس ، فرح المشركون بذلك ، فأنزل الله تعالى أوائل سورة الروم لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق ، وإنما قد يريد الله تعالى مزيد ثواب في المحب ، فيبتليه ويسلط عليه الأعادي ، وقد يختار للمعادي تعجيل العذاب الأدنى ، دون العذاب الأكبر يوم القيامة.

مشتملات السورة :

افتتحت السورة بإثبات النبوة بالإخبار بالغيب ، وهو انتصار الروم على الفرس في حرب تقع بينهما في غضون بضع سنوات (من ٣ ـ ٩ سنوات) ووقع الخبر كما أخبر القرآن ، وتلك معجزة القرآن تثبت صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتتضمن البشارة بنصر جند الرحمن على حزب الشيطان.

٤٣

ثم ذكرت أدلة الوحدانية وعظمة القدرة الإلهية بالتأمل في صفحة الكون والنظر في خلق السموات والأرض ، والاعتبار بمأساة المكذبين الغابرين وعاقبتهم السيئة ، وأردف بعدها أدلة البعث ، والأمر بعبادة الله وحده ، وذلك مقتضى الفطرة التي فطر الناس عليها.

ونوقش فيها المشركون وضربت لهم الأمثال في أن الشركاء ضعفاء عاجزون لا يملكون لأنفسهم يوم القيامة نفعا ، ولا يتمكنون دفع الضر عن أحد ، ولا يستطيعون خلق شيء وإيجاده ولا إمداد أحد بالرزق. وكشف القرآن حقيقة حال المشركين كما ذكر في السورة المتقدمة وهي لجوءهم إلى الله وقت الضر ، وإشراكهم به وقت الرخاء ، وأميط اللثام عن طبيعة الإنسان وهي الفرح بالنعمة ، والقنوط حين الشدة إلا من آمن وعمل صالحا.

ونهى الله تعالى عن اتباع المشركين وغيرهم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ، ثم أمر تعالى بالتصدق على ذوي القربى والمساكين وابن السبيل ، واجتناب أكل الربا ، وتنمية المال بوجوه الحلال وتطهيره بالزكاة.

ثم قارنت السورة بين مصير المؤمنين في روضات الجنان فضلا من الله تعالى ، ومصير الكافرين في نيران الجحيم جزاء أعمالهم وكفرهم ، وحينئذ تظهر فائدة الإيمان والخير ، وظلام الكفر والشر.

وأعقب ذلك إيراد بعض الأدلة الكونية الناطقة بقدرة الله والدالة على وحدانيته من إرسال الرياح مبشرات بالرحمة ، وتسيير السفن في البحار ، وتمكين المسافرين من التجارة وابتغاء فضل الله في أقطار الأرض ، والدلائل الملحوظة في الأنفس من خلق ثم رزق ، ثم إماتة ، ثم إحياء.

وختمت السورة بتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن إعراض قومه عن الإيمان برسالته بأنهم أغلقوا منافذ الهداية ، وعطلوا طاقات الفكر والعقل عن النظر في وسائل

٤٤

الوصول إلى الإيمان بالله ، فهم صمّ عمي لا يسمعون ولا يبصرون ، وأنهم مهما رأوا من الآيات ، وشاهدوا من البراهين والمعجزات ، لن يؤمنوا بسبب العناد ، والتشبث بمواقع الكفر ، والحفاظ على مراكز الزعامة والنفوذ بين العرب.

وهذا يقتضي الصبر على أذى المشركين حتى يأتي النصر ، ومتابعة القيام بواجب تبليغ الرسالة ، فإنه قد يهتدي بعضهم أو غيرهم ، وسيكون النصر في جانب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والخذلان لمن كذب به ، ولن يؤثر في مسيرة دعوته كفر الذين لا يوقنون بالبعث بعد الممات.

الإخبار بالغيب في المستقبل

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧))

الإعراب :

(مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) غلب : مصدر مضاف إلى المفعول ، وتقديره : وهم من بعد أن غلبوا سيغلبون.

(مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) ظرف مبني على الضم ؛ لأنه مقطوع عن الإضافة ، لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة كلمة واحدة ، فلما اقتطع عن الإضافة ، نزّل منزلة بعض الكلمة ، وبعض الكلمة مبني. والبناء على الضم تعويضا عن المحذوف ، لأنه أقوى الحركات ، ولئلا تلتبس حركة الإعراب بحركة البناء ، فلو بني على الفتح أو الكسر ، لالتبست حركة الإعراب بحركة البناء.

٤٥

(بِنَصْرِ اللهِ) في موضع نصب ، متعلق ب (يَفْرَحُ).

(وَعْدَ اللهِ) منصوب على المصدر المؤكد لما قبله ، والمصدر مضاف إلى الفاعل.

البلاغة :

(غُلِبَتِ) و (سَيَغْلِبُونَ) بينهما طباق ، وكذا بين (قَبْلُ) و (بَعْدُ).

(لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً) بينهما طباق السلب.

(الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) صيغة مبالغة ، أي البالغ نهاية العزة وغاية الرحمة.

(وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) تكرار الضمير لإفادة الحصر ، والتعبير بالجملة الاسمية للدلالة على استمرار الغفلة.

المفردات اللغوية :

(غُلِبَتِ الرُّومُ) الروم : أمة ذات مدنية وحضارة وقوة ، من ولد روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم ، كانوا نصارى ، غلبتهم فارس الذين كانوا يعبدون الأوثان ، ففرح كفار مكة بذلك ، وقالوا للمسلمين : نحن نغلبكم كما غلبت فارس الروم (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) أقرب أرض الروم إلى فارس بالجزيرة ، وأقرب مكان إلى أرض العرب من جهة الشام ، فيها التقى الجيشان ، وكان الفرس هم البادئين بالغزو (وَهُمْ) الروم (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) أضيف المصدر إلى المفعول ، أي غلبة فارس إياهم (سَيَغْلِبُونَ) فارس.

(فِي بِضْعِ سِنِينَ) البضع : ما بين الثلاث إلى التسع أو إلى العشر ، وقد تم لقاء الجيشين فعلا في السنة السابعة من اللقاء الأول ، وغلبت الروم فارس (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي من قبل غلب الروم ومن بعده ، والمعنى أن غلبة الفرس أولا وغلبة الروم ثانيا تم بأمر الله ، أي إرادته (وَيَوْمَئِذٍ) يوم تغلب الروم.

(بِنَصْرِ اللهِ) أي نصر أهل الكتاب على من لا كتاب له (الْعَزِيزُ) الغالب (الرَّحِيمُ) الواسع الرحمة بالمؤمنين (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد للفعل ، أي وعدهم الله النصر (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) كفار مكة (لا يَعْلَمُونَ) وعده تعالى بنصرهم لجهلهم وعدم تفكيرهم (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ما يشاهدونه منها من المعايش في التجارة والزراعة والبناء والغرس وغير ذلك. (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) أي أنهم غافلون عن الغاية والمقصود من الحياة ، لا تخطر ببالهم ، وإعادة (هُمْ) تأكيد.

٤٦

سبب النزول :

أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : لما كان يوم بدر ، ظهرت الروم على فارس ، فأعجب ذلك المؤمنين ، فنزلت (الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ).

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب الزهري قال : بلغنا أن المشركين كانوا يجادلون المسلمين ، وهم بمكة ، قبل أن يخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقولون : الروم يشهدون أنهم أهل كتاب ، وقد غلبتهم المجوس ، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أنزل على نبيكم ، فكيف غلب المجوس الروم ، وهم أهل كتاب؟! فسنغلبكم كما غلب فارس الروم ، فأنزل الله : (الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ).

وأخرج الترمذي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي : أن فارس غزوا الروم ، فوافوهم بأذرعات وبصرى من أرض الشام ، فغلبوا عليهم ، وبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وهو بمكة ، فشق ذلك عليهم ، من قبل أن الفرس مجوس ، والروم أهل الكتاب ، وفرح المشركون بمكة وشمتوا ، ولقوا أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم فرحون ، وقالوا : إنكم أهل كتاب ، والنصارى أهل كتاب ، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب ، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم ، فأنزل الله هؤلاء الآيات.

فخرج أبو بكر رضي‌الله‌عنه إلى المشركين ، فقال : أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا؟ فلا تفرحوا ، ولا يقرّنّ الله أعينكم (١) ، فو الله لتظهرنّ الروم على فارس ، كما أخبرنا بذلك نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقام إليه أبيّ بن خلف ؛ فقال : كذبت ، فقال : أنت أكذب يا عدو الله ، اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه (٢) على عشر قلائص (٣) مني ، وعشر قلائص منك ، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت ،

__________________

(١) لا يسرّنكم.

(٢) أراهنك.

(٣) جمع قلوص وهي الناقة الشابة الفتية.

٤٧

وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين ، فناحبه ، ثم جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «زايده في الخطر (١) وماده في الأجل» فخرج أبو بكر ، فلقي أبيا ، فقال : لعلك ندمت ، فقال : لا ، تعال أزايدك في الخطر ، وأمادّك في الأجل ، فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين ، قال : قد فعلت ، فلما أراد أبو بكر الهجرة ، طلب منه أبي كفيلا بالخطر إن غلب ، فكفل به ابنه عبد الرحمن ، فلما أراد أبيّ الخروج إلى أحد ، طلبه عبد الرحمن بالكفيل ، فأعطاه كفيلا ، ومات أبيّ من جرح جرحه إياه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الموقعة ، وظهرت الروم على فارس لما دخلت السنة السابعة ، فأخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبي ، وجاء به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تصدّق به». وقد كان هذا قبل تحريم القمار ، لأن السورة مكية ، وتحريم الخمر والميسر بالمدينة. واستدل به الحنفية على جواز العقود الفاسدة في دار الحرب.

والآية من دلائل النبوة ، لأنها إخبار عن الغيب.

التفسير والبيان :

(الم) هذه الحروف المقطعة التي تقرأ هكذا : «ألف ، لام ، ميم» للتنبيه على إعجاز القرآن ، كما تقدم في أمثالها ، وتنبيه السامع على الاستماع بقلبه لما يلقى إليه بعدها.

(غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ، وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ، فِي بِضْعِ سِنِينَ) أي غلبت فارس قوم الروم في أقرب أرض الروم إلى بلاد العرب في مشارف الشام ، بين الأردن وفلسطين ، وسيغلب الروم فارس في بضع سنين (ما بين الثلاث إلى العشر من السنين) من تاريخ الوقعة الأولى ، وتلك الأيام نداولها بين الناس.

__________________

(١) الخطر : السبق الذي يتراهن عليه أي الرهن الذي يخاطر عليه.

٤٨

وهذا إخبار بالغيب عن أمر في المستقبل ، أيده الواقع ، وقد نزلت الآيات كما بينا حين غلب سابور ملك الفرس على بلاد الشام وما والاها من بلاد الجزيرة وأقاصي بلاد الروم ، فاضطر هرقل ملك الروم حتى ألجأه إلى القسطنطينية ، وحاصره فيها مدة طويلة ، ثم عادت الدولة لهرقل. فبعد نزول سورة الروم سنة ٦٢٢ م ببضع سنين في سنة ٦٢٧ م أحرز هرقل أول نصر حاسم للروم على الفرس في نينوى على نهر دجلة ، وانسحب الفرس لذلك من حصارهم للقسطنطينية ، ولقي كسرى أبرويز مصرعه سنة ٦٢٨ م على يد ولده (شيرويه).

ولقد كانت هاتان الدولتان مسيطرتين على العالم القديم : فارس في الشرق ، والروم في الغرب ، وكانتا تتنازعان السيادة على بلاد الشام وغيرها.

(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي الأمر كله من قبل الغلبة ومن بعدها ، فتغلب إحدى الدولتين على الأخرى بقضاء الله وقدره ، فهو يقضي في خلقه بما يشاء : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران ٣ / ١٤٠] فليس الانتصار دائما عن قوة مادية ذاتية ، وإنما القوة إحدى وسائل النصر ، والمعول في النهاية إرادة الله وقدرته ، فقد يتغلب الضعيف على القوي ، والقليل على الكثير : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ ، وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ٢ / ٢٤٩].

(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) أي ويوم ينتصر الروم النصارى أصحاب قيصر ملك الشام على فارس أصحاب كسرى الوثنيين المجوس ، يفرح المؤمنون بنصر الله أهل الدين والكتاب على من لا دين له ولا كتاب.

(يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي ينصر الله من يريد على الأعداء ، فهو الفعال لما يريد ، وهو القوي الذي لا يغلب ، المنتقم من أعدائه ،

٤٩

المعزّ أولياءه بقوته وقدرته ، الرحيم بعباده المؤمنين ، فلا يدع القوي يتحكم بالضعيف ، ولا يعاجل بالانتقام على الذنوب ، كما قال تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [فاطر ٣٥ / ٤٥].

روى الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والبزار عن أبي سعيد الخدري قال : لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس ، فأعجب ذلك المؤمنين ، ففرحوا به ، وأنزل الله : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ ، يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

وقال جماعة آخرون : بل كان نصر الروم على فارس عام الحديبية. والمهم أنه لما انتصرت الروم على الفرس ، فرح المؤمنون بذلك ؛ لأن الروم أهل كتاب في الجملة ، فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس ، كما قال تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا : إِنَّا نَصارى ..) الآية [المائدة ٥ / ٨٢].

(وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي هذا الذي أخبرناك به يا محمد من أنا سننصر الروم على فارس وعد حق من الله ، وخبر صدق ، والله لا يخلف الميعاد ، ولا بد من وقوعه ، لأن سنة الله أن ينصر أقرب الطائفتين المقتتلتين إلى الحق ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون بحكم الله وأفعاله القائمة على العدل ، لجهلهم بالسنن القائمة في الكون.

(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) أي أكثر الناس لهم علم ظاهري بالدنيا وعلومها المادية كتدبير شؤون المعيشة ، وتحصيل الأموال والمكاسب من تجارة وزراعة وصناعة وغيرها ، ولكنهم غافلون عن أمور الدين والآخرة ، كأنهم عديمو الفكر والنظر ، لا ينظرون إلى المستقبل

٥٠

وما ينتظرهم من نعيم مقيم إن آمنوا وعملوا الصالحات ، أو عذاب مهين إن كفروا وعصوا أوامر ربهم ، فلا يعملون أبدا لما ينفعهم في الآخرة ، وعلمهم منحصر في الدنيا ، بل لا يعلمون الدنيا على حقيقتها ، وإنما يعلمون ظاهرها ، وهي ملاذها وملاعبها ، ولا يعلمون باطنها وهي مضارها ومتاعبها ، فهم عن الآخرة غافلون.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إثبات صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعواه النبوة والرسالة ، وإعلام قاطع بأن القرآن كلام الله الذي يعلم وحده الغيب في السموات والأرض. وتلك معجزة واضحة بالإخبار عن مغيبات المستقبل ، وقد وقع الأمر كما أخبر القرآن الكريم.

٢ ـ الله تعالى متفرد بالقدرة الشاملة النافذة ، فكل ما في العالم من غلبة وغيرها إنما هي منه ، وبإرادته وقدرته ، فلله الأمر ، أي إنفاذ الأحكام سواء قبل هذه الغلبة وبعدها ، والله دائما هو القوي العزيز في نقمته ، الرحيم لأهل طاعته.

٣ ـ يبشر الله تعالى المؤمنين بنصر أهل الكتاب المتعاطفين مع المسلمين ، لاجتماعهم على الإيمان بالإله والإيمان باليوم الآخر ، على الفرس المجوس الوثنيين الذين لا يؤمنون بشيء من الكتب السماوية ، ولا بالله تعالى ولا بالآخرة.

٤ ـ وعد الله لا يخلف ؛ لأن كلامه حق وصدق ، ولكن أكثر الناس وهم الكفار لا يعلمون وعده ، ولا أنه لا خلف في وعده.

٥ ـ إن أكثر الناس لا سيما الكفار عاملون بظواهر الأمور الدنيوية من اكتساب الأموال والمعايش ومعرفة شؤون الزراعة والتجارة والصناعة والعلوم المادية ، ولكنهم غافلون عن العلم بالآخرة وعن العمل بها.

قال الزمخشري : أفاد قوله تعالى (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أن

٥١

للدنيا ظاهرا وباطنا ، فظاهرها : ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها ، والتنعم بملاذها ؛ وباطنها وحقيقتها : أنها مجاز إلى الآخرة ، يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة (١).

الحث على التفكر في المخلوقات الدالة

على وجود الله ووحدانيته

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠))

الإعراب :

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ .. ما) : حرف نفي ، و (يَتَفَكَّرُوا) قد عدّي إلى (أَنْفُسِهِمْ) كما عدّي في قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف ٧ / ١٨٥].

(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا .. عاقِبَةَ) : خبر (كانَ) ، و (السُّواى) اسمها ، ومن قرأ عاقبة بالرفع ، فهي اسم (كانَ) ، و (السُّواى) : خبر كان. و (السُّواى) على وزن «فعلى» تأنيث للاستواء ، كالحسنى تأنيث الأحسن. و (أَنْ

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٥٠٣

٥٢

كَذَّبُوا) مفعول لأجله ، أي لأن كذبوا ، ويجوز كونه في موضع رفع ، لأنه خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هو أن كذبوا ، أو بدل من (السُّواى) رفعا ونصبا. و (السُّواى) منصوب بأساؤوا انتصاب المصادر ، لأنه مصدر.

البلاغة :

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا أَوَلَمْ يَسِيرُوا) إنكار وتوبيخ.

(أَساؤُا السُّواى) جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أي أولم يحدثوا التفكر فيها ، أو : أولم يتفكروا في أمر أنفسهم ، فإنها أقرب إليهم من غيرها ، فبالتفكر يرجعون عن غفلتهم (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ما خَلَقَ) متعلق بقول محذوف معناه : أولم يتفكروا فيقولوا هذا القول ، وقيل : معناه : فيعلموا ؛ لأن في الكلام دليلا عليه. ومعنى قوله : (إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) معناه : ما خلقها باطلا وعبثا بغير غرض صحيح وحكمة بالغة ، وإنما خلقها مقرونة بالحق ، مصحوبة بالحكمة ، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها من الانتهاء إليه ، وهو قيام الساعة ووقت الحساب والثواب والعقاب. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) مثل كفار مكة (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) أي لا يؤمنون بالبعث بعد الموت ، أي جاحدون يحسبون أن الدنيا بداية وأن الآخرة لا تكون.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) حض على السير في أقطار الأرض ، والنظر في آثار المدمرين من قبلهم من الأمم ، وهي إهلاكهم بتكذيبهم رسلهم (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) كعاد وثمود (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) حرثوها وقلبوها للزرع والغرس (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) أي عمروا الأرض أكثر من عمارة أهل مكة إياها ، فإنهم أهل واد غير ذي زرع. وفيه تهكم بهم من حيث إنهم مغترون بالدنيا ، مفتخرون بها ، وهم أضعف حالا فيها (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات ، والآيات الواضحات ، والحجج الظاهرات (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) ليفعل بهم ما يفعل بالظلمة ، فيدمرهم من غير جرم ولا تذكير (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث عملوا ما أدّى إلى تدميرهم.

(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى) أي ثم كان عاقبتهم العقوبة السوأى ، والمراد بها جهنم ، والسوأى : تأنيث الأسوأ أي الأقبح ، أو مصدر كبشرى (أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أي كانت إساءتهم بأن كذبوا بالقرآن.

٥٣

المناسبة :

هذه الآيات مرتبطة بما قبلها ، تتضمن تهديد المشركين وحثهم على التفكر والنظر في المخلوقات الدالة على وجود الله وانفراده بخلقها ، وأنه لا إله غيره ، ولا ربّ سواه ، بعد بيان ما صدر منهم من إنكار الإله بإنكار وعده ، وإنكار البعث ، كما قال تعالى : (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ).

التفسير والبيان :

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي أولم يحدثوا التفكر في عقولهم ، أو يفكروا في أمر أنفسهم بأن يجيلوا فيه الفكر ، فيقولوا : إن الله لم يخلق الكون من السماء والأرض وما فيهما من العالم العلوي والسفلي ، وما بينهما من المخلوقات الكثيرة المتنوعة والأجناس المختلفة ، فيعلموا أنها ما خلقت سدى ولا عبثا ولا باطلا ، بل كان خلقها مقرونا بالحق ، مصحوبا بالحكمة ، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها من أن تنتهي إليه ، وهو قيام الساعة ووقت الحساب والثواب والعقاب ، فإذا حل الأجل بدلت الأرض غير الأرض والسموات ، وبرزوا لحساب الله الواحد القهار.

وهذا حثّ لهم على إعمال الفكر السليم الموصل إلى معرفة الله ووحدانيته بالنظر في أنفسهم وما حولهم من مشاهد الكون ، والمراد أن أسباب العلم الصحيح ومفاتيح الهداية تعتمد على العقل وأنه متوافر لديهم ، لكنهم عطلوه ولم يعملوه فيما يجب إعماله.

(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) أي وإن أكثر الناس ولا سيما الكفار لجاحدون منكرون وجود البعث والحساب ؛ لأنهم لم يتفكروا في أنفسهم ، ولو تفكروا لأيقنوا بمعادهم إلى ربّهم بعد الموت.

ثم نبّه الله تعالى على صدق رسله فيما جاؤوا به عن ربهم بما أيّدهم به من

٥٤

المعجزات الباهرات ، والدلائل الواضحات المحسوسات من إهلاك من كفر برسالتهم ، ونجاة من صدّقهم فقال :

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ، وَأَثارُوا الْأَرْضَ ، وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها ، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ، فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي أولم يتنقل هؤلاء المنكرون للنبوات ، المكذبون بالآخرة في بلاد الأرض ، فينظروا بعقولهم وأفهامهم ، ويبحثوا في آثار الله ، ويسمعوا أخبار الماضين ويتأملوا بمصير المكذبين رسلهم من الأمم الماضية ، علما بأنهم كانوا أشدّ قوة من أهل مكة وأمثالهم ، وأكثر أموالا وأولادا ، وحرثوا الأرض وقلبوها للزراعة والغرس أكثر مما فعل المكيون وسائر العرب لقحط بلادهم ، واستغلوا الأرض أكثر من استغلال هؤلاء.

ثم أهلكهم الله بذنوبهم وكفرهم وتكذيبهم رسلهم الذين جاءوهم بالمعجزات والأدلة المحسوسة والشواهد الناطقة بقدرة الله وتوحيده ، فما كان عقابهم ظلما ، وما كان من شأن الله أن يظلمهم وغيرهم فيما حلّ بهم من العذاب والنكال ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم بها وذنوبهم السالفة.

فالعاقل من اتّعظ بغيره ، وعرف أن زخارف الدنيا ومتاعها من أموال وأولاد لا تغني عنه شيئا يوم القيامة ، وقد أكد الله تعالى ذلك بقوله :

(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ ، وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ثم كان مصير المسيئين العذاب (السُّواى) في الدنيا بالهلاك وفي الآخرة بالخلود في نار جهنم ، بسبب تكذيبهم بآيات الله ودلائله الدالة على وجوده ووحدانيته ، واستهزائهم بها وسخريتهم منها. فقوله (أَساؤُا السُّواى) معناه : كانت السوأى عاقبتهم ؛ لأنهم كذبوا بآيات الله ، وكانوا بها يستهزئون. والإساءة : التكذيب والاستهزاء ، وعبر عن العقاب بالجريمة الصادرة من الكفار ، على سبيل المشاكلة.

٥٥

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ الحثّ على التفكر في الكون وإيجابه ، فإن التأمل في خلق السموات والأرض والأنفس البشرية المخلوقة لحكمة ومصلحة وعدل ، والمؤقتة بأجل مسمى تنتهي إليه ، دليل على وجود الخالق وتوحيده وقدرته وعلى حدوث الحشر ، فقوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) يدل على الوحدانية لأن إحكام الخلق والتنزه عن الفساد يمنع من تعدد الآلهة ، ففي وجود آلهة فساد وخلل وتعثر ، وقوله : (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) دليل على الحشر ؛ لأنه يدل على فناء العالم وتخريب الكون ، وبما أن الله تعالى قادر على كل شيء فهو قادر على الإعادة ؛ ولأن الخلق بالحق يوجب أن يكون بعد هذه الحياة حياة أخرى باقية ؛ لأن هذه الحياة ليست إلا لعبا ولهوا ، كما أخبر القرآن.

٢ ـ دلّ قوله : (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) وهو يوم القيامة على حدوث الفناء في نهاية عمر الدنيا ، وعلى أن لكل مخلوق أجلا ، وعلى ثواب المحسن وعقاب المسيء.

٣ ـ كثير من الناس كافرون بالبعث بعد الموت ، وهذا نقص في التفكير ، وقلة في العقل ، فالعاقل من فكر بالمستقبل ، وعمل لما بعد الموت ، ولم تغره الحياة الدنيا.

٤ ـ التبصر بعبر الماضي درس وعظة ، فمن سمع بأخبار الأمم الماضية المكذبة رسلها ، وأدرك مصيرهم ، وعرف سبب هلاكهم وتدميرهم ، بادر إلى الإيمان بالله عزوجل ، وصدّق رسله الذين جاءوهم بالمعجزات الدالة على صدقهم.

٥ ـ الاعتماد على قوة الجسد وسعة المال ، ووفرة الثروة والأولاد خطأ محض ، فإن كل الأموال والمدنيات وتقدم الحضارات لا تغني أصحابها شيئا يوم القيامة.

٥٦

٦ ـ لقد كان إهلاك الأمم الماضية الجاحدة بربها ورسله وأنبيائه حقا وعدلا ، ولم يكن الهلاك بغير ذنب ولا بغير سابق إنذار بالرسل والحجج ، وإنما كان بظلمهم أنفسهم بالشرك والعصيان ، والتكذيب بآيات الله الدالة على وجوده وتفرده بالألوهية ، وتكذيب القرآن والرسول ومعجزاته ، واستهزائهم بها.

إثبات الإعادة والحشر وبيان ما يكون وقت الرجوع إلى الله

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦))

البلاغة :

(يَبْدَؤُا) و (يُعِيدُهُ) بينهما طباق.

(ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) التفات من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في المقصود.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ ، فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) بين الجملتين مقابلة بين حال السعداء والأشقياء.

(تُرْجَعُونَ يَتَفَرَّقُونَ يُحْبَرُونَ مُحْضَرُونَ) مراعاة الفواصل في الحرف الأخير ، وذلك له وقع وتأثير على السمع.

٥٧

المفردات اللغوية :

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) ينشئ خلق الناس (ثُمَّ يُعِيدُهُ) يبعث الناس ويخلقهم مرة أخرى بعد موتهم (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للجزاء (يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) يسكت المشركون متحيرين آيسين لانقطاع حجتهم ، يقال : أبلس الرجل : إذا سكت وانقطعت حجته ، والمبلس : الساكت المنقطع الحجة ، اليائس من الاهتداء إليها (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ) أي لا يكون ممن أشركوهم بالله وهم الأصنام شفعاء يجيرونهم من عذاب الله. وجاء التعبير بمعنى الماضي لتحققه (وَكانُوا) أي يكونون (بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) أي متبرئين منهم ، يكفرون بآلهتهم حين يئسوا منهم.

(يَوْمَئِذٍ) تأكيد لقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ). (يَتَفَرَّقُونَ) أي يتفرق المؤمنون والكافرون. (فِي رَوْضَةٍ) بستان أو أرض ذات أزهار وأنهار (يُحْبَرُونَ) يسرّون سرورا تهللت له وجوههم (بِآياتِنا) القرآن (وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) البعث وغيره (مُحْضَرُونَ) مدخلون فيه لا يغيبون عنه.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى أن عاقبة المجرمين إلى الجحيم ، وذلك إشارة إلى الإعادة والحشر ، أقام الأدلة عليه بأن من بدأ خلق الناس بالقدرة والإرادة لا يعجز عن الرجعة والإعادة. ثم بيّن ما يكون وقت الرجوع إليه ، وأخبر أن الناس حينئذ فريقان : فريق في الجنة وفريق في السعير.

التفسير والبيان :

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي أن الله كما هو قادر على بداءته وإنشائه ، فهو قادر على إعادته ، فالله هو الذي بدأ إنشاء الخلق بقدرته وإرادته ، فلا يعجز عن رجعته ، ثم إليه يعودون يوم القيامة ويحشرون للقضاء بينهم ، فيجازي كل عامل بعلمه ، ثم وصف حال الأشقياء بقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) أي ويوم تقوم القيامة للفصل بين الناس والحساب ، يسكت المجرمون الذين أشركوا بالله وتنقطع عنهم الحجة من شدة الأهوال ، وييأسون ولا يجدون طريقا للخلاص ، ولا أملا في النجاة من طريق غيرهم ، كما قال:

٥٨

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ ، وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) أي ولن يجدوا لهم شفعاء من الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله ، ينقذونهم من عذاب الله ، وكانوا بشركائهم وآلهتهم المزعومة جاحدين ، متبرئين منهم ، إذ خانوهم في أحوج ما كانوا إليهم ، كما قال تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ، وَرَأَوُا الْعَذابَ ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ، وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً ، فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) [البقرة ٢ / ١٦٦ ـ ١٦٧].

وهذا دليل على تبين إفلاسهم وإعلان خسرانهم.

ثم يتميز أهل المحشر إلى فريقين ، فقال تعالى :

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) أي ويوم تقوم القيامة يتفرق الناس فرقة لا اجتماع بعدها ، كما قال تعالى : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [يس ٣٦ / ٥٩] فيؤخذ أهل الإيمان والسعادة إلى الجنان ، ويؤخذ أهل الكفر والشقاوة إلى النيران. قال قتادة : هي والله الفرقة التي لا اجتماع بعدها ، لهذا قال تعالى :

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) أي فأما المؤمنون المصدّقون بالله ورسوله واليوم الآخر ، والعاملون بما أمر الله به ، والمنتهون عما نهى الله عنه ، فهم يتنعمون ويسرّون سرورا يملأ القلب والنفس ويظهر البشاشة بما لاحظوا به من روضات الجنان ذات البهجة والخضرة والأنهار الجارية ، أي فهم في جنة يسرون بكل مسرة ، كما قال : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة ٣٢ / ١٧] ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة : «فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر».

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ ، فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) أي وأما الكافرون الجاحدون بوجود الله ووحدانيته ، المكذبون رسله

٥٩

وآياته ، المنكرون وقوع البعث بعد الموت ، فهم مخلدون في عذاب جهنم ، لا غيبة لهم عنه أبدا ، ولا فتور له عنهم إطلاقا ، كما قال تعالى : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ ، أُعِيدُوا فِيها) [الحج ٢٢ / ٢٢] وقال : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ. لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ ، وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٧٤ ـ ٧٥].

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ الله هو منشئ الخلق ، ومعيده بقدرته ، وإليه المرجع والمآب.

٢ ـ لا يجد المشركون والكفار يوم القيامة حجة لهم يدافعون بها عن شركهم وكفرهم ، فتنقطع حجتهم ، وييأسون من الاهتداء إليها ، كذلك لا يجدون لهم من غيرهم ناصرا ينصرهم ولا شفيعا ينقذهم من عذاب الله ، وحينئذ يقولون عن آلهتهم : إنهم ليسوا بآلهة ، فيتبرءون منها ، وتتبرأ منهم.

٣ ـ يحدث انفصال يوم القيامة بين المؤمنين وبين الكافرين ، فيتميز الطيبون من الخبيثين ، ويقيم المؤمنون في جنان الخلد ذات الرياض الغناء والأنهار الجارية ، فيغمرهم الحبور والسرور ، وينعّمون ويكرمون ، ويقيم الكافرون في عذاب جهنم إقامة دائمة أبدية ، فلا يفارقونها ، ولا يخفف عنهم فيها شيء من العذاب.

٤ ـ لا بد مع الإيمان من العمل الصالح ، وهو الائتمار بأمر الله ، واجتناب ما نهى عنه ؛ لأن العمل الصالح معتبر مع الإيمان ، فإن الإيمان المجرد مفيد للنجاة دون رفع الدرجات ، ولا يبلغ المؤمن الدرجة العالية إلا بإيمانه وعمله الصالح. وأما الكافر فهو في الدركات بمجرد كفره. وهذا هو السبب في ذكر العمل الصالح مع الإيمان ، وعدم ذكر العمل السيئ مع الكفر.

٦٠