التفسير المنير - ج ٢١

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

طريقة إرشاد أهل الكتاب

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩))

المفردات اللغوية :

(وَلا تُجادِلُوا) المجادلة والجدل : الحجاج والمناظرة والمناقشة (أَهْلَ الْكِتابِ) اليهود والنصارى أتباع موسى وعيسى عليهما‌السلام ، يؤمنون بوجود الله واليوم الآخر وبالتوراة والإنجيل (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي إلا بالخصلة التي هي أحسن كمعارضة الخشونة باللين ، والغضب بالكظم وضبط النفس ، والمشاغبة بالنصح ، والتنبيه إلى آيات الله وحججه (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي لكن الظالمون منهم بالإفراط في الاعتداء والعناد والمحاربة ، فجادلوهم وعاملوهم بالمثل (وَقُولُوا) لمن سالمكم وأذعن للحق أو قبل المعاهدة السلمية معكم إذا أخبروكم بشيء مما في كتبهم (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) أي صدّقنا بما أنزله الله إلينا وهو القرآن ، وما أنزله إليكم في أصوله الصحيحة من التوراة والإنجيل ، ولا تصدقوهم ولا تكذبوهم في ذلك ، فهذا من المجادلة بالتي هي أحسن. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يأتي تخريجه : «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله وملائكته وبكتبه ورسله ، فإن قالوا باطلا لم تصدقوهم ، وإن قالوا حقا لم تكذبوهم».

٥

(وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) خاضعون مطيعون له خاصة ، وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله تعالى.

(وَكَذلِكَ) ومثل ذلك الإنزال (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن ، كما أنزلنا إليهم التوراة وغيرها ، وكان القرآن وحيا مصدقا لسائر الكتب الإلهية (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) التوراة كعبد الله بن سلام وأمثاله (يُؤْمِنُونَ بِهِ) بالقرآن (وَمِنْ هؤُلاءِ) أهل مكة أو العرب أو الكتابيين الموجودين في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) مع ظهورها وقيام الحجة عليها ، والجحد : إنكار الشيء بعد معرفته والعلم به (إِلَّا الْكافِرُونَ) المتوغلون في الكفر ، وهم المشركون وغير المسلمين الذين لا يؤمنون بالإسلام والقرآن والنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعد أن ظهر لهم أن القرآن حق ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق ، ثم جحدوا ذلك.

(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) أي إنك أمي لم تكن تعرف القراءة والكتابة قبل نزول القرآن ، فإن هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم الذي نزل على أمي لم يعرف القراءة والتعلم أمر خارق للعادة (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أي لو كنت قارئا كاتبا لشك أهل الباطل كاليهود فيك. وإنما سماهم مبطلين لكفرهم وكونهم غير محقين فيما ذهبوا إليه من التنكر لرسالة الإسلام.

(بَلْ هُوَ) أي القرآن الذي جئت به (آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي هو آيات واضحات الدلالة على الحق في قلوب أهل العلم وهم المؤمنون فيحفظونه من كل تحريف (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) أي وما ينكر آيات الله إلا الظالمي أنفسهم الذين جحدوا وجه الحق ، بعد وضوح دلائل إعجاز تلك الآيات.

المناسبة :

بعد بيان الله تعالى طريقة إرشاد المشركين عبدة الأصنام أو غيرها ، أبان الله تعالى طريقة إرشاد أهل الكتاب من اليهود والنصارى المنكري نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقائلين ببقاء شريعتهم وأنها لم تنسخ بشريعة أخرى ، مبتدئا بأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين به أن يعلنوا إيمانهم بالقرآن وبما تقدمه من التوراة والإنجيل ، وبإطاعة الإله الواحد ، ثم مبينا إيمان بعض أهل الكتاب وبعض المشركين من أهل مكة بالقرآن ، ثم موضحا دليل الإيمان بما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو كونه أميا لم يقرأ ولم يكتب ، وكون القرآن مشتملا على علوم نافعة فريدة.

٦

التفسير والبيان :

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي ولا تحاججوا ، ولا تناقشوا اليهود والنصارى إلا بالطريقة الحسنة وبالأسلوب الهادىء اللطيف ، إلا الذين ظلموا أنفسهم ، وحادوا عن سبيل الحق ، وعموا عن واضح الحجة ، وعاندوا وكابروا ، ولم ينفع معهم أسلوب المنطق والإقناع العقلي ، فهؤلاء يعاملون بالمثل ، ويرد على عدوانهم ومكابرتهم بطريقتهم نفسها ، فيقاتلون ويردعون بالحرب ، وهؤلاء ـ كما قال مجاهد وسعيد بن جبير ـ هم الذين نصبوا للمؤمنين الحرب ، فجدالهم بالسيف حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية. وهذا هو العلاج الحاسم كما قال الشاعر :

ووضع الندى في موضع السيف للعلا

مضرّ كوضع السيف في موضع الندى

أما القسم الأول من الآية ، فقال قتادة وآخرون : هذه الآية منسوخة بآية السيف ولم يبق معهم مجادلة ، وإنما هو الإسلام أو الجزية أو السيف. واحتجوا بأن الآية مكية. والحق كما قال مجاهد وآخرون أن هذه الآية باقية محكمة لمن أراد الاستبصار منهم ـ من أهل الكتاب ـ في الدين ، فيجادل بالتي هي أحسن ، ويدعى إلى الله عزوجل وحده لا شريك له ، وينبه على حججه وآياته ، رجاء إجابته إلى الإيمان ، بغير إغلاظ ولا مخاشنة ، كما قال تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ..) [النحل ١٦ / ١٢٥] وقال تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه ٢٠ / ٤٤]. واختار هذا القول ابن جرير الطبري.

وأما القسم الثاني من الآية فلا خوف في محاربته لعدوانه ، فيقاتل بما يمنعه ويردعه ، قال الله عزوجل : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ ، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ، وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ، وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ، إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحديد : ٥٧ / ٢٥].

٧

أسلوب الجدال :

١ ـ (وَقُولُوا : آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ، وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي إذا دعوتم أيها الرسول وأتباعه أهل الكتاب إلى الإيمان برسالة الإسلام ، وأخبروكم عما لا يعلم صدقه ولا كذبه ، فلا تصدقوهم ؛ لأنه قد يكون كذبا أو باطلا ، ولا تكذبوهم لأنه قد يكون حقا أو صحيحا ، وإنما قولوا لهم : آمنا بالقرآن الذي أنزل إلينا وإليكم وإلى البشر كافة ، وآمنا بالتوراة والإنجيل اللذين أنزلا إليكم أي نؤمن بالمنزّل فعلا على موسى وعيسى عليهما‌السلام ، غير المبدّل ولا المؤول ، ومعبودنا ومعبودكم الحق واحد لا شريك له ، ونحن له خاضعون مطيعون أمره ونهيه.

أخرج البخاري والنسائي عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : «كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا ، وما أنزل إليكم ، وإلهنا وإلهكم واحد ، ونحن له مسلمون».

وأخرج الإمام أحمد أن أبا نملة الأنصاري (١) أخبره أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءه رجل من اليهود ، فقال : يا محمد ، هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الله أعلم ، قال اليهودي : أنا أشهد أنها تتكلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا حدثكم أهل الكتاب ، فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله وكتبه ورسله ، فإن كان حقا لم تكذبوهم ، وإن كان باطلا لم تصدقوهم».

وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ، فإنهم يهدوكم وقد ضلّوا ، إما أن تكذّبوا بحق ، وإما أن تصدقوا بباطل».

__________________

(١) أبو نملة : هو عمارة ، أو عمار ، أو عمرو بن معاذ بن زرارة الأنصاري رضي‌الله‌عنه.

٨

وأخرج البخاري عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة ، وذكر كعب الأحبار ، فقال : «إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب ، وإن كنا مع ذلك ، لنبلو عليه الكذب».

٢ ـ (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ، فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) أي كما أنزلنا الكتب على من قبلك من الرسل أيها الرسول ، أنزلنا إليك هذا الكتاب (القرآن) فالذين آتيناهم الكتاب السابق من اليهود والنصارى ، إذا أخذوا هذا القرآن ، فتلوه حق تلاوته ، كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وأشباههما آمنوا وصدقوا بنزوله من عند الله ، وكذلك بعض كفار قريش وغيرهم يؤمنون به ؛ لأنه ـ كما عرفوا من لغة البيان ـ ليس من كلام البشر ، وإنما هو من كلام الله الموحى به إلى نبيه.

وما يكذّب بآياتنا ويجحد حقها إلا من يستر الحق بالباطل ، ويطمس معالم الهداية والنور ، ويعاند في كفره ويستكبر ، فلا يؤمن بالله وحده ، ولا يشكر نعمة الله عليه. وهذا تنفير عما هم عليه من الشرك والباطل.

٣ ـ (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ ، وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ، إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أي وما كنت أيها الرسول في تاريخك مع قومك تقرأ من قبل نزول القرآن من كتاب آخر ، ولا تعرف الكتابة ولا تستطيع أن تخط شيئا من الكتاب ؛ إذ لو كنت قارئا وكاتبا لشك المشركون الجهلة فيما نزل إليك ، وقالوا : لعل ذلك مأخوذ من كتب سابقة ، ولما لم يكن كاتبا ولا قارئا فلا وجه لارتيابهم. قال مجاهد : كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يخطّ ولا يقرأ ، فنزلت هذه الآية. وقال النحاس : الدليل على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقريش أنه لا يقرأ

٩

ولا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب ، ولم يكن بمكة أهل الكتاب ، فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم ، وزالت الريبة والشك.

وقوله : (مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ) لتأكيد النفي ، وكذلك قوله : (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) تأكيد أيضا ، وذكر اليمين خرج مخرج الغالب ، كقوله تعالى : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام ٦ / ٣٨].

والخلاصة : أن صفة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكتب المتقدمة وتاريخه المعروف بين قومه : أنه رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ، وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) [الأعراف ٧ / ١٥٧].

فلا وجه أصلا للشك في أن هذا القرآن نزل من عند الله ، لا بإيحاء بشر ولا ملك ولا جانّ ، وبالرغم من نصاعة هذه الحقيقة ، ومع علم قريش بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمي لا يحسن الكتابة ، اتهموه بأخذه عن الكتب المتقدمة ، كما حكى تعالى عنهم : (وَقالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها ، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان ٢٥ / ٥].

وتأكيدا لما سبق أن القرآن منزل من عند الله ، قال تعالى :

(بَلْ ، هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) أي بل إن هذا القرآن آيات واضحة الدلالة على الحق ، وذلك أمر مستقر في قلوب العلماء من أهل الكتاب وغيرهم ، ولكن ما ينكر وما يكذب بآيات الله النيّرة ويبخس حقها ويردها إلا الظالمون ، أي المعتدون المكابرون الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس ١٠ / ٩٦ ـ ٩٧].

١٠

والخلاصة : أن هذا القرآن العظيم ليس من مخترعات البشر ، بل هو آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق ، أمرا ونهيا وخبرا ، يفهمه العلماء ويحفظونه ، وقد يسر الله عليهم حفظه وتلاوته وتفسيره ، كما قال الله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر ٥٤ / ١٧]. وروى البخاري في صحيحة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من نبي إلا وقد أعطي ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ فضيلة الجدال والنقاش بالأسلوب الحسن وبالحكمة والموعظة الحسنة ، فذلك أدعى عند العقلاء إلى توفير القناعة ، والوصول إلى الإيمان ، وتحقيق الهدف المقصود.

٢ ـ إن المعاملة بالمثل واللجوء إلى القتال والعنف واستخدام القوة هو السبيل المتعين في الرد على أهل العصبية والعناد والإصرار على الكفر.

٣ ـ إن هذه الآية الآمرة بالجدال بالتي هي أحسن والدعوة إلى الله عزوجل بالحجة والمنطق والبرهان آية محكمة ، كما قرر أثبات العلماء والمفسرين مثل مجاهد التابعي وغيره ، قال القرطبي : وقول مجاهد حسن ؛ لأن أحكام الله عزوجل لا يقال فيها : إنها منسوخة إلا بخبر يقطع العذر ، أو حجة من معقول (١). وهذا اختيار ابن جرير الطبري وابن العربي. قال ابن العربي : الآية ليست منسوخة ، وإنما هي مخصوصة ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث باللسان يقاتل به في الله ، ثم أمره الله بالسيف واللسان ، فمن قاتل قتل ، ومن سالم بقي الجدال في حقه ،

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٣ / ٣٥٠

١١

ولكن بما يحسن من الأدلة ، ويجمل من الكلام ، ولين الخطاب (١).

٤ ـ بعض أهل الكتاب معتدلون في آرائهم ومعتقداتهم ، بعيدون عن الشرك وإثبات الولد والتثليث ، وهؤلاء ينفع معهم الجدال والنقاش ، فهم يؤمنون بالله وبكتابهم وباليوم الآخر ، ولم يبق إلا الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كالإيمان بموسى وعيسى عليهما‌السلام.

وبعض أهل الكتاب متعصبون حاقدون خلطوا بين التوحيد والتثليث ، وحرفوا في الكتاب وغيروا ، ونسبوا لله ولدا أو شريكا ، ثم صيروه هو الإله ، وهؤلاء يصعب معهم الجدال وقد لا ينفع معهم النقاش ، ومع ذلك ندعوهم إلى الإيمان بالتي هي أحسن ، لأنه لا إكراه في الدين ، والإسلام يقر بحرية الرأي والتعبير والاعتقاد ، بعد التبليغ والإنذار ، والترغيب والترهيب.

أما المشركون عبدة الأوثان ففي جزيرة العرب لا مجال لإقرارهم على وثنيتهم ، وأما في غير جزيرة العرب ، فكذلك ندعوهم إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة.

٥ ـ النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل نزول القرآن كان أميا لا يقرأ ولا يكتب بشهادة الكتب السماوية المتقدمة ، وبمعرفة قومه الذين عايشوه في مكة مدة أربعين عاما.

وأمّية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دليل قاطع واضح على أن القرآن كلام الله العزيز الحكيم.

ثم ذكر النقاش في تفسير هذه الآية عن الشعبي أنه قال : ما مات النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى كتب ، وقرأ. وقد ثبت في صحيحي البخاري ومسلم أن النبي في صلح

__________________

(١) أحكام القرآن : ٣ / ١٤٧٥ بتصرف.

١٢

الحديبية كتب بيده : محمد بن عبد الله ، ومحا كلمة رسول الله ، حينما أصر المشركون على عدم كتابتها.

قال القرطبي : الصحيح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كتب ولا حرفا واحدا ، وإنما أمر من يكتب ، وكذلك ما قرأ ولا تهجى. وقال : «إنا أمة أمّية لا نكتب ولا نحسب» رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن ابن عمر.

٦ ـ آيات القرآن آيات بيّنات واضحات ، وليس هذا القرآن كما يقول المبطلون : إنه سحر أو شعر ، ولكنه علامات ودلائل يعرف بها دين الله وأحكامه. وتلك الآيات يحفظها علماء الأمة ويقرءونها ، وقد وصف الله المؤمنين بالعلم ، لأنهم ميزوا بأفهامهم بين كلام الله وكلام البشر والشياطين ، قال كعب الأحبار في صفة هذه الأمة : إنهم حكماء علماء ، وهم في الفقه أنبياء.

٧ ـ لا ينكر كون القرآن منزلا حقا من عند الله إلا القوم المبطلون الجاهلون وهم المشركون ، وإلا الكفار الظالمون الذين جحدوا نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به.

٨ ـ ليس القرآن من مخترعات أحد من الملائكة أو الإنس أو الجن ، إذ لا يستطيع الكل على الإتيان بمثله أو بمثل عشر آيات أو بمثل سورة من أقصر سوره. وهذا الإعجاز المتحدي به دليل قاطع على كونه كلام الله الموحى به إلى قلب نبيه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٣

بعض مطالب المشركين التعجيزية

الإتيان بمعجزات حسية واستعجال بالعذاب

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥))

البلاغة :

(لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) تحضيض.

(آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ) طباق.

(أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لإفادة القصر عليهم لا غيرهم.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) إطناب بذكر العذاب مرات بقصد الإرهاب والتشنيع على المشركين.

(لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي بهم ، بوضع الظاهر موضع المضمر.

١٤

المفردات اللغوية :

(وَقالُوا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ) أي قال كفار مكة : هلا أنزل على محمد (آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) مثل ناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى. (قُلْ : إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) قل يا محمد لهم : إنما الآيات ينزلها الله كيف يشاء ، ولست أملكها ، فآتيكم بما تقترحونه. (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي ليس من شأني إلا إنذار أهل المعصية بالنار بما أعطيت من الآيات.

(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) آية لما طلبوا أو اقترحوا. (الْكِتابَ) القرآن. (يُتْلى عَلَيْهِمْ) تدوم تلاوته عليهم ، فهو آية ثابتة مستمرة لا انقضاء لها ، يتحداهم ، بخلاف سائر الآيات. (إِنَّ فِي ذلِكَ) الكتاب الذي هو آية مستمرة وحجة مبينة. (لَرَحْمَةً) لنعمة عظيمة. (وَذِكْرى) عظة وتذكرة. (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لمن همهم الإيمان دون التعنت.

(قُلْ : كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) يشهد بصدقي. (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ويعلم حالي وحالكم. (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) وهو ما يعبد من دون الله. (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) بقولهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال ٨ / ٣٢]. (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى) معلوم محدد لكل عذاب أو قوم. (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) عاجلا. (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً) فجأة ، في الدنيا كوقعة بدر ، وفي الآخرة عند نزول الموت بهم. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بوقت إتيانه. (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) في الدنيا. (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) ستحيط بهم يوم يأتيهم العذاب. (يَوْمَ يَغْشاهُمُ) ظرف لكلمة (محيطة) و (يَغْشاهُمُ) يصيبهم. (مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أي من جميع جوانبهم. (وَيَقُولُ) الله أو الملك الموكل بالعذاب. (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاءه ، فلا تفوتونا.

سبب النزول : نزول الآية (٥١):

(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) : أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والدارمي في مسنده وأبو داود عن يحيى بن جعدة قال : جاء ناس من المسلمين بكتب كتبوها ، فيها بعض ما سمعوه من اليهود ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم» ، فنزلت : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ).

١٥

وأخرج البخاري عند تفسير الآية قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن» أي يستغني به عن غيره.

وأخرج عبد الرزاق عن عبد الله بن الحارث الأنصاري قال : دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتاب فيه مواضع من التوراة ، فقال : هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك ، فتغير وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تغيرا شديدا لم أر مثله قط ، فقال عبد الله بن الحارث لعمر : أما ترى وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال عمر : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيّا ، فسرّي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم ، أنا حظكم من النبيين ، وأنتم حظي من الأمم».

المناسبة :

بعد بيان كون القرآن منزلا من عند الله ، وليس من عند محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكر الله تعالى شبهة للمشركين وهي أنهم قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك تقول : إنه أنزل إليك كتاب كما أنزل إلى موسى وعيسى ، أفلا تأتينا بآية أو معجزة مادية محسوسة كما أتى بذلك الأنبياء السابقون كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى؟ فأجابهم الله تعالى بقوله : (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) أي ليس من شرط الرسالة الآية المعجزة ، والله إن أراد ينزلها ، وإن لم يرد لا ينزلها ، وكفى بالقرآن آية فهو معجزة ظاهرة باقية ، والله شهيد عليم يحكم بين عباده.

وبعد بيان الطريقين في إرشاد الفريقين : المشركين وأهل الكتاب ، أعلن الله تعالى الإنذار الشامل العام بقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) ولما أنذروا بالخسران أوضح تعالى أن العذاب لا يأتيهم بسؤالهم أو استعجالهم ، وإنما له أجل مسمى اقتضته حكمته وارتضته رحمته.

١٦

التفسير والبيان :

(وَقالُوا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) أي وقال المشركون تعنتا وتعجيزا وعنادا : هلا أنزل على محمد آية حسية مادية ، مثل الآيات التي أنزلت على الأنبياء المتقدمين ، كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى ، تكون دليلا على صدقه ، ومعجزة تثبت أنه رسول من عند الله!!

فأجابهم الله تعالى بقوله :

(قُلْ : إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ ، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي قل يا محمد لهم : إنما أمر إنزال الآيات وإرسال المعجزات إلى الله تعالى ، فلو علم أنكم تهتدون لأجابكم إلى سؤالكم ، لأن ذلك سهل عليه ، يسير لديه ، ولكنه سبحانه يعلم أنكم قصدتم بطلبكم التعنت والامتحان ، فلا يجيبكم إلى مطلبكم ، كما قال : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ، وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ، فَظَلَمُوا بِها) [الإسراء ١٧ / ٥٩].

وإنما بعثت نذيرا لكم بيّن الإنذار من عذاب شديد إذا بقيتم على كفركم ، لا الإتيان بما تقترحون ، فعلي أن أبلغكم رسالة الله تعالى ، وليس علي هداكم ، إنما الهدى على الله الذي قال : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) [الإسراء ١٧ / ٩٧] وقال : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة ٢ / ٢٧٢].

ثم أبان الله تعالى كثرة جهلهم وسخافة عقولهم ، حيث طلبوا آيات تدل على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاءهم ، مع إنزال القرآن عليه ، فقال :

(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) أي أما يكفيهم دليلا على صدقك أنا أنزلنا عليك الكتاب العظيم الذي فيه خبر ما قبلهم ، ونبأ ما بعدهم ، وحكم ما بينهم ، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب ، ولم تخالط أحدا

١٧

من أهل الكتاب ، وقد جئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى ، وأبنت الصواب فيما اختلفوا فيه ، كما قال : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) [طه ٢٠ / ١٣٣].

أخرج الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».

(قُلْ : كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) أي قل يا محمد لهم : كفى الله عالما وحكما عدلا بيني وبينكم ، فهو أعلم بما صدر منكم من التكذيب ، وبما أقول لكم وأبلغكم به من أوامر وإنذارات وبما أرسلني به إليكم ، فلو كنت كاذبا عليه لانتقم مني ، كما قال : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة ٦٩ / ٤٤ ـ ٤٧] وإنما أنا صادق فيما أخبرتكم به ، ولهذا أيّدني بالمعجزات الواضحات ، والدلائل القاطعات.

(يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي أن الله تعالى لا تخفى عليه خافية ، يعلم جميع ما هو كائن ويكون في السموات والأرض ، ومن جملة علمه : أنه يعلم حالي وحالكم ، من صدقي وتكذيبكم وإنكاركم.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ ، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي والذين صدقوا بما يعبد من دون الله من الأوثان والأصنام ونحوها ، وجحدوا بوجود الله أو توحيده ، مع توافر الأدلة على الإيمان به ، أولئك هم الخاسرون في صفقتهم ، حيث اشتروا الكفر بالإيمان ، وسيجزيهم الله يوم القيامة على ما فعلوا ، ويعاقبهم على ما صنعوا من تكذيب برسل الله ، مع قيام الأدلة على صدقهم ، وإنكار للحق ، واتباع للباطل من الإيمان بالطواغيت والأوثان بلا دليل.

١٨

وقوله : (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) يقتضي الحصر ، أي من أتى بالإيمان الباطل والكفر بالله ، فهو خاسر ، وكل من آمن بالباطل ، فقد كفر بالله.

ثم أخبر الله تعالى عن جهل المشركين وحماقتهم في استعجالهم إيقاع عذاب الله بهم ، فقال :

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ، وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ ، وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي ويتعجل كفار قريش نزول العذاب بهم ، كما حكى تعالى عنهم : (وَإِذْ قالُوا : اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال ٨ / ٣٢].

ولو لا كون العذاب محددا بوقت معلوم ، ولو لا ما حتم الله من تأخير العذاب إلى يوم القيامة ، لجاءهم العذاب قريبا سريعا كما استعجلوه ، وسوف يأتيهم بالتأكيد فجأة ، وهم لا يحسون بمجيئه ، بل يكونون في غفلة عنه.

ثم أكد تعالى طلبهم نزول العذاب بقوله :

(يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي يطلبون منك حدوث العذاب ، وهو واقع بهم لا محالة ، وإن جهنم ستحيط بهم من كل جانب.

ثم وصف تعالى كيفية إحاطة العذاب بقوله :

(يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ، وَيَقُولُ : ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي يوم يعمهم العذاب من كل الجوانب ، ويقال لهم تقريعا وتوبيخا : ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون في الدنيا من كفر ومعاصي ، كما قال تعالى : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف ٧ / ٤١] وقال سبحانه : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر ٣٩ / ١٦]

١٩

وقال عزوجل : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ) [الأنبياء ٢١ / ٣٩] وقال تعالى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) [القمر ٥٤ / ٤٨].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ طلب المشركون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معجزة مادية محسوسة ، مثل عصا موسى وناقة صالح ومائدة عيسى ، على سبيل العناد والمكابرة ، لا على سبيل التوصل بحسن نية إلى الإيمان بالله عزوجل وتوحيده.

٢ ـ كان الرد القرآني المفحم عليهم أنه : ألا يكفيهم هذا الكتاب المعجز الذي قد تحداهم الله بأن يأتوا بمثله أو بسورة منه ، فعجزوا. ولو أتاهم بآيات موسى وعيسى لقالوا : سحر ونحن لا نعرف السحر ، والكلام مقدور لهم ، ومع ذلك عجزوا عن المعارضة. وليس من شرط الرسالة وجود المعجزة ، فقد علمنا وجود رسل كشيث وإدريس وشعيب ، ولم تعلم لهم معجزة.

٣ ـ والقرآن رحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة ، رحمة في الدنيا باستنقاذهم من الضلالة ، وفي الآخرة بصرفهم عن النار ، وهو أيضا ذكرى في الدنيا بإرشادهم به إلى الحق ، ومعجزة باقية يتذكر بها كل إنسان على ممر الزمان. فيكون القرآن أتم من كل معجزة ، لأنه باقي الأثر ، والمعجزات المادية لم يبق لها أثر ، ولأنه بلغ خبره المشرق والمغرب وسمعه كل أحد ، والمعجزات المادية محصورة في مكان واحد.

٤ ـ يقال للمكذبين : كفى بالله شهيدا يشهد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصدق في ادعائه أنه رسول ، وأن هذا القرآن كتابه. وهذا إنذار وتهديد يفيد تقريرا وتأكيدا.

٥ ـ قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي لا يخفى عليه شيء :

٢٠