التفسير المنير - ج ٢١

الدكتور وهبة الزحيلي

عزيمة المؤمنين على خوض المعركة ، والدفاع عن مدينتهم عاصمة الإسلام.

٢ ـ إن السلطان يشاور أصحابه وخاصته في أمر القتال ؛ لأنه لما سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم باجتماع الأحزاب وخروجهم إلى المدينة ، شاور أصحابه ، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق ، فرضي رأيه ، وقال المهاجرون يومئذ : سلمان منا ، وقال الأنصار : سلمان منا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سلمان منا آل البيت». وكان الخندق أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يومئذ حرّ ، فقال : يا رسول الله ، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا ؛ فعمل المسلمون في الخندق مجتهدين.

وفي هذا الخبر أيضا وجوب التحصن من العدوّ بما أمكن من الأسباب ، وفيه أن حفر الخندق يكون مقسوما على الناس ؛ فمن فرغ منهم عاون من لم يفرغ ، فالمسلمون يد على من سواهم. أخرج البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال : لما كان يوم الأحزاب ، وخندق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق ، حتى وارى عنّي الغبار جلد بطنه ، وكان كثير الشعر ، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة ويقول :

اللهمّ لو لا أنت ما اهتدينا

ولا تصدقنا ولا صلّينا

فأنزلن سكينة علينا

وثبّت الأقدام إن لاقينا

٣ ـ دلت أخبار السيرة السالفة الذكر ورواية النسائي عن البراء وغيره أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب صخرة أثناء حفر الخندق ضربات ثلاثا ، أضاءت له الضربة الأولى مدائن كسرى وما حولها ، وأنارت له الثانية مدائن قيصر وما حولها ، وأبدت له الثالثة مدائن الحبشة وما حولها ، ورأى سلمان بعينه ذلك ، وتلك معجزة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشّر بها بفتح هذه البلاد ، وقال عند ذلك فيما رواه مالك : «دعوا الحبشة ما ودعوكم ، واتركوا الترك ما تركوكم».

٢٨١

٤ ـ أعلن بنو قريظة بتواطئهم مع الأحزاب من قريش وغطفان نقضهم العهد مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لهم الرسول : «نقضتم العهد يا إخوة القرود ، أخزاكم الله ، وأنزل بكم نقمته» وحاصرهم بضعا وعشرين ليلة ، حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فحكم أن تقتل مقاتلتهم ، وتسبى أموالهم وذراريهم. وكان فتح قريظة في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة من الهجرة.

٥ ـ كان تجمع الأحزاب على المدينة وحصارها مثار قلق واضطراب ، ومبعث بلاء وشدة خوف ، فانتابتهم الظنون ، وأظهر المنافقون كثيرا مما يسرّون ، فمنهم من قال : إن بيوتنا عورة ، فلننصرف إليها ، فإنا نخاف عليها ، وممن قال ذلك : أوس بن قيظي. ومنهم من قال : يعدنا محمد أن يفتح كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه يذهب إلى الغائط! وممن قال ذلك : معتّب بن قشير أحد بني عمرو بن عوف.

فأقام المشركون في حصارهم المدينة بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر ، لم يكن بينهم وبين المسلمين إلا الرمي بالنّبل والحصى ، فلما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه اشتد على المسلمين البلاء ، بعث إلى عيينة بن حصن الفزاري ، وإلى الحارث بن عمرو المرّي ، وهما قائدا غطفان ، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما من غطفان ، ويخذلا قريشا ويرجعا بقومهما عنهم. وكان ذلك مراوضة ولم تكن عقدا. فلما وافقا استشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله ، والله لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا شراء أو قرى ، فحين أكرمنا الله بالإسلام ، وهدانا له ، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم!! فسرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، وقال : «أنتم وذاك».

٢٨٢

وقال لعيينة والحارث : «انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف». وتناول سعد الصحيفة ، وليس فيها شهادة ، فمحاها.

٦ ـ اختراق الخندق : اخترق فوارس من قريش الخندق ، منهم عمرو بن ودّ العامري من بني عامر بن لؤي ، وعكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة بن أبي وهب ، وضرار بن الخطاب الفهريّ ، حتى صاروا بين الخندق وبين سلع ، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين ، حتى أخذوا عليهم الثّغرة التي اقتحموا منها ، وأقبلت الفرسان نحوهم ، فنادى عمرو : من يبارز؟ فبرز له علي بن أبي طالب وقال له : يا عمرو ، إنك عاهدت الله فيما بلغنا أنك لا تدعى إلى إحدى خلّتين إلا أخذت إحداهما؟ قال : نعم. قال : فإني أدعوك إلى الله والإسلام. قال : لا حاجة لي بذلك. قال : فأدعوك إلى البراز. قال : يا ابن أخي ، والله ، ما أحبّ أن أقتلك لما كان بيني وبين أبيك. فقال له علي : أنا والله أحبّ أن أقتلك ، فحمي عمرو ونزل عن فرسه ، فعقره ، وصار نحو علي ، فتنازلا وتجاولا ، حتى رئي علي على صدر عمرو يقطع رأسه ، فلما رأى أصحابه أنه قد قتله علي ، اقتحموا بخيلهم الثّغرة منهزمين هاربين.

ورمي يومئذ سعد بن معاذ ، فقطع منه الأكحل (١) ، ومات شهيدا في غزوة بني قريظة ، وهو الذي قال فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اهتز لموته عرش الرحمن» يعني سكان العرش من الملائكة فرحوا بقدوم روحه ، واهتزوا له.

٧ ـ مشروعية الخدعة في الحرب ، لما فعل نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي الذي استطاع بدهائه وحيلته بذر بذور الفرقة بين العرب وبين اليهود ، ونجح في خدعته ، كما تقدم بيانه.

٨ ـ الاجتهاد جائز ، سواء أصاب المجتهد أو أخطأ ، فقد أقرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلّا

__________________

(١) الأكحل : عرق في وسط الذراع.

٢٨٣

من الفريقين : الذي صلى العصر في الطريق إلى بني قريظة ، والذي أخّر الصلاة حتى فات وقتها ، عملا بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» فتخوف ناس فوت الوقت ، فصلوا دون بني قريظة ، وقال آخرون : لا نصلّي العصر إلا حيث أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن فاتنا الوقت ، فما عنف واحدا من الفريقين. وفي هذا من الفقه تصويب المجتهدين.

٩ ـ قسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أموال بني قريظة ، فأسهم للفارس ثلاثة أسهم ، وللراجل سهما ، قيل : وهي أول غنيمة قسّم فيها للفارس والراجل ، وأول غنيمة جعل فيها الخمس. وفي قول آخر : إن أول ذلك كان في بعث عبد الله بن جحش. ووفّق ابن عبد البر بين القولين : أن تكون غنيمة قريظة أول غنيمة جرى فيها الخمس بعد نزول قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) الآية [الأنفال ٨ / ٤١]. وكان عبد الله بن جحش قد خمّس قبل ذلك في بعثه ، ثم نزل القرآن بمثل ما فعله ، وكان ذلك من فضائله رحمة الله عليه.

١٠ ـ أرسل الله على الأحزاب ريح الصّبا يوم الخندق ، حتى ألقت قدورهم ونزعت فساطيطهم ، وأنزل الملائكة لتفريق الجموع ، ولم تقاتل يومئذ ، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه أحمد والشيخان : «نصرت بالصّبا ، وأهلكت عاد بالدّبور». وكانت هذه الريح معجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان المسلمون قريبا منها ، لم يكن بينهم وبينها إلا عرض الخندق ، وكانوا في عافية منها ، ولا خبر عندهم بها.

قال المفسرون : بعث الله تعالى الملائكة ، فقلعت الأوتاد ، وقطعت أطناب الفساطيط ، وأطفأت النيران ، وأكفأت القدور ، وجالت الخيل بعضها في بعض ، وأرسل الله عليهم الرّعب ، وكثر تكبير الملائكة في جوانب العسكر ؛ حتى كان سيّد كل خباء يقول : يا بني فلان هلمّ إلي ، فإذا اجتمعوا قال لهم : النّجاء النّجاء ، لما بعث الله تعالى عليهم من الرّعب.

٢٨٤

١١ ـ لن يمنع حذر من قدر ، فمن حضر أجله ، مات أو قتل ، ولا ينفعه الفرار ، ويكون تمتعه في الدنيا بعد الفرار إلى انقضاء الأجل زمنا قليلا ، وكل ما هو آت فقريب.

١٢ ـ للمنافقين خصال اجتماعية وشخصية قبيحة ومذمومة ، فهم بخلاء على المسلمين فيما يحقق المصلحة العامة ، بخلاء بأنفسهم وأحوالهم وأموالهم ، جبناء يخافون من لقاء الشجعان ، سليطو اللسان يؤذون غيرهم بالكلام يتفاخرون بما هو كذب وزور ، والحقيقة أنهم كفرة ، لم يؤمنوا بقلوبهم ، وإن كان ظاهرهم الإسلام ، لوصف الله عزوجل لهم بالكفر في قوله : (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) وهم كغيرهم من الكفار حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ، فلا ثواب لهم ؛ إذا لم يقصدوا وجه الله تعالى بها ، وإحباط أعمالهم على الله هيّن يسير.

ولجبنهم يظنون الأحزاب لم ينصرفوا ، وكانوا قد انصرفوا ، وإن يرجع الأحزاب إليهم للقتال ، يتمنوا أن يكونوا مع أعراب البادية ، حذرا من القتل. وانتظارا لإحاطة السوء والهلاك بالمسلمين ، يتساءلون ويتحدثون : أما هلك محمد وأصحابه! أ

ما غلب أبو سفيان وأحزابه! ولو كانوا في ميدان المعركة ما قاتلوا إلا رياء وسمعة.

١٣ ـ قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) الآية عتاب للمتخلفين عن القتال ، معناه : كان لكم قدوة في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث بذل نفسه لنصرة دين الله في خروجه إلى الخندق ، والتأسي لمن كان يرجو ثواب الله في اليوم الآخر ، ويرجو لقاء الله بإيمانه ، ويصدّق بالبعث الذي فيه جزاء الأفعال ، ويذكر الله ذكرا كثيرا ، خوفا من عقابه ، ورجاء لثوابه.

وهل التأسي بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل الإيجاب أو الاستحباب! قولان :

أحدهما ـ على الإيجاب حتى يقوم دليل على الاستحباب.

٢٨٥

الثاني ـ على الاستحباب حتى يقوم دليل على الإيجاب.

قال القرطبي : ويحتمل أن يحمل على الإيجاب في أمور الدين ، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا.

١٤ ـ موقف المؤمنين نقيض موقف المنافقين ، فهم مصدقون واثقون بوعد الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم تزدهم المحنة والابتلاء والنظر إلى الأحزاب إلا إيمانا بالله وتسليما للقضاء.

١٥ ـ التجسس على الأعداء أمر جائز شرعا ، فقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حذيفة بن اليمان بأن يتعرف أخبار الأحزاب وانصرافهم عن المدينة ، قائلا له : «انطلق حتى تدخل في القوم ، فتسمع كلامهم ، وتأتيني بخبرهم ، اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتى تردّه إلي ، انطلق ولا تحدث شيئا حتى تأتيني».

والدعاء لله تعالى مطلوب في أي وقت ولأي حاجة ، وبخاصة وقت الشدة ، فقد انطلق حذيفة بسلاحه ، ورفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده يقول : «يا صريخ المكروبين ، ويا مجيب المضطرين ، اكشف همّي وغمّي وكربي ، فقد ترى حالي وحال أصحابي».

فنزل جبريل وقال : «إن الله قد سمع دعوتك ، وكفاك هول عدوك» فخرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ركبتيه ، وبسط يديه ، وأرخى عينيه ، وهو يقول : «شكرا شكرا كما رحمتني ، ورحمت أصحابي». وأخبره جبريل أن الله تعالى مرسل عليهم ريحا ؛ فبشر أصحابه بذلك.

١٦ ـ تتلاحق مواكب الشهداء وتتوالى على درب الجهاد في سبيل الله ، فمنهم من يستشهد في معركة ، ومنهم من ينتظر أجله في معركة أخرى ، وهذا أمارة الخير ، ودليل على استدامة الكفاح والإخلاص جيلا بعد جيل.

٢٨٦

١٧ ـ أمر الله بالجهاد ليجزي الصادقين في الآخرة بصدقهم ، ويعذب في الآخرة المنافقين ، وذلك بمشيئة الله ، فإن شاء أن يعذبهم لم يوفقهم للتوبة ؛ وإن لم يشأ أن يعذبهم تاب عليهم قبل الموت.

١٨ ـ كانت الهزيمة الساحقة في غزوة الخندق لجيوش الأحزاب ، إذ ردّ الله أولئك الكفار إلى ديارهم ، فرجع أبو سفيان إلى تهامة ، ورجع عيينة بن بدر إلى نجد ، ونصر الله جيش الإيمان بغير قتال كبير ، بأن أرسل على الأحزاب ريحا وجنودا ، حتى رجعوا ، ورجعت بنو قريظة إلى حصونهم أو قلاعهم ، فكفى أمر قريظة بالرعب ، وكان الله قويا أمره ، عزيزا لا يغلب.

١٩ ـ وهزم بنو قريظة هزيمة نكراء بعد أن عاونوا الأحزاب : قريشا وغطفان ، وأنزلوا من حصونهم ، وشاع الذعر والهلع في صفوفهم ، وكان مصيرهم قتل رجالهم ، وأسر نسائهم وأطفالهم ، وتوريث المسلمين أراضيهم وبساتينهم ومنازلهم وأموالهم المدخرة.

وبشر الله المؤمنين بأنهم سيرثون بلاد فارس والروم ، وكل أرض تفتح إلى يوم القيامة ، والله على ما أراد أن يفتحه من الحصون والقرى قدير ، وعلى ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير ، لا ترد قدرته ، ولا يجوز عليه العجز بحال.

تخيير زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الدنيا والآخرة

ومقدار ثوابهن وعقابهن

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ

٢٨٧

لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠))

الإعراب :

(فَتَعالَيْنَ) أصله من العلو ، إلا أنه كثر استعماله في معنى «انزل» فيقال للمتعالي : تعال ، أي انزل.

البلاغة :

(إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ) بينهما ما يسمى بالمقابلة أي الطباق بين جملتين.

المفردات اللغوية :

(لِأَزْواجِكَ) هن تسع ، وطلبن منه من زينة الدنيا ما ليس عنده. (الْحَياةَ الدُّنْيا) السعة والتنعم فيها. (وَزِينَتَها) زخارفها. (أُمَتِّعْكُنَ) أعطكن المتعة وهي متعة الطلاق وهي مال يعطى للمطلقة. (وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) أطلقكن من غير ضرار وبدعة ، والتسريح : الطلاق ، روي أنهن سألنه ثياب الزينة وزيادة النفقة ، فنزلت ، فبدأ بعائشة ، فخيرها ، فاختارت الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم اختارت الباقيات اختيارها ، فشكر لهن الله ذلك ، فأنزل (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) [الأحزاب ٣٣ / ٥٢].

وتعليق التسريح بإرادتهن الدنيا يدل على أن المخيّرة إذا اختارت زوجها لم تطلق ، خلافا لرواية عن علي ، ويؤيده قول عائشة : «خيرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاخترناه ، فلم يعدّ طلاقا» فإذا اختارت نفسها فإنه طلقة رجعية عند الشافعية ، وبائنة عند الحنفية. وتقديم التمتيع على التسريح : من الكرم وحسن الخلق.

(وَالدَّارَ الْآخِرَةَ) الجنة. (فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَ) بإرادة الآخرة. (أَجْراً عَظِيماً) الجنة ، يستحقر دونه الدنيا ، ومن في قوله (مِنْكُنَ) للتبيين ؛ لأنهن كلهن كن محسنات.

(بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) كبيرة ظاهرة القبح كالنشوز. (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) أي مثلي عذاب غيرهن ؛ لأن الذنب منهن أقبح ، كما أن ثوابهن مرتان ، كما قال تعالى : (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) [الأحزاب ٣٣ / ٣١]. (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) لا يمنعه عن التضعيف كونهن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٨٨

سبب النزول :

نزول الآية (٢٨):

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) : روى أحمد ومسلم والنسائي عن جابر رضي‌الله‌عنه قال : «أقبل أبو بكر رضي‌الله‌عنه يستأذن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يؤذن له ، ثم أقبل عمر ، فاستأذن ، فلم يؤذن له ، ثم أذن لهما ، فدخلا ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس ، وحوله نساؤه ، وهو ساكت ، فقال عمر : لأكلمنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعله يضحك ، فقال عمر : يا رسول الله ، لو رأيت ابنة زيد ـ امرأة عمر ـ سألتني النفقة آنفا ، فوجأت عنقها ، فضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بدا ناجذه ، وقال : هن حولي يسألنني النفقة ، فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها ، وقام عمر إلى حفصة ، كلاهما يقول: تسألان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ليس عنده ، وأنزل الله الخيار ، فبدأ بعائشة ، فقال : إني ذاكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه ، حتى تستأمري أبويك ، قالت : ما هو؟ فتلا عليها : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) الآية. قالت : أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله تعالى لم يبعثني معنّفا ، ولكن بعثني معلّما ميسرا ، لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها».

المناسبة :

لما نصر الله نبيه ، وفرق عنه الأحزاب ، وفتح عليه قريظة والنضير ، ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم ، فقعدن حوله ، وقلن : «يا رسول الله ، بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل ، والإماء والخول (الخدم) ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق».

وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال ، وأن يعاملهن بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم ، فأمره الله تعالى أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن.

٢٨٩

وأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ ذاك تسع : هن خمسة من قريش وهن عائشة بنت أبي بكر ، وحفصة بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأم سلمة بنت أبي أمية ، وأربعة من غير قريش : ميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة ، وصفيّة بنت حييّ بن أخطب الخيبرية. فلما خيرهن رسول الله اخترن كلهن الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. هذا وجه تعلق الآيات بما قبلها. أما مناسبة هذه الآيات للسورة فهي أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين : التعظيم لأمر الله تعالى ، والشفقة على خلق الله تعالى ، وإلى هذا أشار صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله فيما رواه البزار عن أبي رافع : «الصلاة وما ملكت أيمانكم». فلما أرشد الله سبحانه نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله بقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) [الأحزاب ٣٣ / ١] ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة ، وبدأ بالزوجات ، فإنهن أولى الناس بالشفقة ، ولهذا قدمهن بالنفقة.

التفسير والبيان :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ : إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ، فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) يأمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتخيير نسائه بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة ، والمعنى : يا أيها الرسول قل لأزواجك : اخترن لأنفسكن إحدى حالين : إما المفارقة إن أحببتن وكان عظيم همكن التعمق في لذات الحياة الدنيا وزينتها ومتاعها ونعيمها ، وحينئذ أعطيكن متعة الطلاق المستحقة وهي مال يهدى للزوجة المطلقة تطييبا لخاطرها ، وأطلقكن طلاقا لا ضرر فيه ولا بدعة ، وإما الصبر على ما عندي من ضيق الحال ، وهو المذكور في الآية التالية.

أما متعة الطلاق : فهي كسوة أو هدية أو مال بحسب حال الزوج يسارا وإعسارا ، كما قال تعالى : (وَمَتِّعُوهُنَّ ، عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ،

٢٩٠

مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ ، حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة ٢ / ٢٣٦] وأما الطلاق الذي لا ضرر فيه ولا بدعة : فهو ما يكون في حال الطهر مع استقبال العدة أي الابتداء بها ، لا في الحيض ؛ لقوله تعالى : (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [الطلاق ٦٥ / ١].

(وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ، فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) أي وإن أردتن رضا الله ورسوله وثواب الآخرة وهو الجنة ، فإن الله أعدّ للمحسنة منكن ثوابا عظيما ، تستحقر زينة الدنيا دونه. وهذا دليل على أن من أراد الله ورسوله والدار الآخرة كان محسنا صالحا. وقوله : (تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ) فيه معنى الإيمان.

ولما خيرهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الدنيا والآخرة ، اخترن جميعا الآخرة ، فسرّ بذلك ، وشكرهن الله على حسن اختيارهن ، وكرّمهن ، فقال : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ ، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) [الأحزاب ٣٣ / ٥٢] (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) [الأحزاب ٣٣ / ٥٣].

وزوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اثنتا عشرة ، وهن أمهات المؤمنين ، ولم يتزوج إلا بكرا واحدة هي السيدة عائشة ، وكان زواجه بالأخريات تأليفا للقلوب ، ومن أجل نشر الدعوة الإسلامية ، وبناء الدولة ، ووحدة الكلمة ، وهن (١) :

١ ـ خديجة بنت خويلد : أول زوجاته ، تزوجها بمكة ، وعاشت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد النبوة سبع سنين ، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت ، وسنّه ٥٤ عاما ، وهي أول من آمن من النساء. وجميع أولاده منها غير إبراهيم.

٢ ـ سودة بنت زمعة بنت عبد شمس العامرية ، دخل بها بمكة ، وتوفيت بالمدينة.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٤ / ١٦٤ وما بعدها.

٢٩١

٣ ـ عائشة بنت أبي بكر الصديق ، الصديقة بنت الصديق ، العالمة الفقيهة راوية الحديث الكثير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بنى بها بالمدينة وهي بنت تسع ، وبقيت عنده تسع سنين ، ومات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي بنت ثمان عشرة ، ولم يتزوج بكرا غيرها.

٤ ـ حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشية العدوية ، تزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم طلّقها ، فقال له جبريل : «إن الله يأمرك أن تراجع حفصة ، فإنها صوّامة قوّامة» فراجعها.

٥ ـ أم سلمة : تزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ابنها سلمة على الصحيح ، واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية.

٦ ـ أم حبيبة ، رملة بنت أبي سفيان ، تزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة سبع من الهجرة ودخل بها بعد الهجرة بسبع سنين وكان وكيله في زواجها عمرو بن أمية الضّمري ، وقد أصدقها النجاشي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربع مائة دينار ، لما مات زوجها.

٧ ـ زينب بنت جحش : تزوجها بأمر الله بعد طلاقها من زوجها أسامة بن زيد ، لإبطال التبني وآثاره. وكان اسمها برّة ، فسماها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب.

٨ ـ زينب بنت خزيمة بن الحارث : تزوجها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ماتت بعد ثمانية أشهر ، كانت تسمى في الجاهلية أمّ المساكين ؛ لإطعامها إياهم.

٩ ـ صفية بنت حييّ بن أخطب الهارونية : تزوجها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن أعتقها ، وكانت من سبايا خيبر ، اشتراها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من دحية الكلبي بسبعة أرؤس.

١٠ ـ ريحانة بنت زيد : تزوجها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة ست ، وماتت إثر حجة

٢٩٢

الوداع ، وكان زوجها قد قتل في الحرب ، فتزوجها إكراما له ولأولاده.

١١ ـ جويرية بنت الحارث بنت أبي ضرار المصطلقيّة الخزاعية ، من سبايا بني المصطلق ، تزوجها في شعبان سنة ست ، وكان اسمها برّة ، فسماها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جويرية.

١٢ ـ ميمونة بنت الحارث الهلالية آخر امرأة تزوجها.

هؤلاء المشهورات من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهن اللاتي دخل بهن ، رضي‌الله‌عنه عنهن.

وله نساء تزوجهن ولم يدخل بهن ، منهن الكلابية واسمها فاطمة أو عمرة وهي المستعيذة ، وأسماء بنت النعمان بن الجون ، وقتيلة بنت قيس أخت الأشعث بن قيس ، وعددهن عشر ، وكان له من السراري سرّيّتان : مارية القبطية وريحانة ، وأما من خطبهن فلم يتم نكاحه معهن ومن وهبت له نفسها فعددهن تسع ، كأم هانئ بنت أبي طالب.

وبعد أن خيرهن واخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، وعظهن وهددهن بمضاعفة العذاب على المعصية فقال :

(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي يا نساء النبي وأمهات المؤمنين من يرتكب منكن معصية كبيرة ظاهرة القبح كالنشوز وعقوق الزوج وسوء الخلق ، يكون عقابها مضاعفا ، لشرف منزلتكن ، وفضل درجتكن ، وتقدمكن على سائر النساء ، فأنتن أهل بيت النبوة ، وكان تضعيف العذاب لهن يسيرا هينا على الله الذي لا يحابي أحدا لأجل أحد.

قال أبو حيان : ولا يتوهم أن الفاحشة : الزنى ؛ لعصمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من

٢٩٣

ذلك ، ولأنه تعالى وصف الفاحشة بالتبيين ، والزنى مما يتستر به ، وينبغي حمل الفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته. ولما كان مكانهن مهبط الوحي من الأوامر والنواهي ، لزمهن بسبب ذلك ، وكونهن تحت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر مما يلزم غيرهن ، فضوعف لهن الأجر والعذاب.

فقه الحياة أو الأحكام :

١ ـ الآيات حث واضح على منع إيذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو مضايقته ، ولو من أقرب الناس إليه ، وفيها أدب عال لبيت النبوة الطاهر ، وتسأم لمستوى الأنبياء ، وترفع عن حطام الدنيا ، وتربية لنساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الزهد والعفة والخلق السامي ، وإعظام الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال العلماء : هذه الآية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ ..) متصلة بما تقدم من المنع من إيذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كان قد تأذى ببعض الزوجات.

وقال الشافعي رحمه‌الله تعالى : إن من ملك زوجة فليس عليه تخييرها. أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخيّر نساءه فاخترنه. وجملة ذلك أن الله سبحانه خيّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أن يكون نبيا ملكا ، وعرض عليه مفاتح خزائن الدنيا ، وبين أن يكون نبيا مسكينا ، فشاور جبريل ، فأشار عليه بالمسكنة فاختارها ؛ فلما اختارها ـ وهي أعلى المنزلتين ـ أمره الله عزوجل أن يخير زوجاته ، فربما كان فيهن من يكره المقام معه على الشدة تنزيها له.

٢ ـ القول الأصح في كيفية تخيير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أزواجه أنه خيّرهن بإذن الله تعالى في البقاء على الزوجية ، أو الطلاق ، فاخترن البقاء ؛ لقول عائشة رضي‌الله‌عنها لما سئلت عن الرجل يخير امرأته ، فقالت : قد خيّرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاخترناه ، فلم يعدّه طلاقا ، ولم يثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا التخيير المأمور بين البقاء والطلاق.

٢٩٤

وقيل : إنما خيّرهن بين الدنيا فيفارقهنّ ، وبين الآخرة فيمسكهن ، لتكون لهن المنزلة العليا كما كانت لزوجهن ، ولم يخيرهن في الطلاق.

٣ ـ اختلف العلماء في المخيّرة إذا اختارت زوجها ، فقال جمهور العلماء : إنه لا يلزمه طلاق ، لا واحدة ولا أكثر ؛ لقول عائشة فيما أخرجه الصحيحان : خيّرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاخترناه ، فلم يعده علينا طلاقا.

وروي عن علي أنها إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية. وهذا غريب.

وفي رواية أخرى عن علي ، وهو قول الحنفية : أنها إذا اختارت نفسها أنها واحدة بائنة ؛ لأن قوله : اختاري ، كناية عن إيقاع الطلاق ، فإذا أضافه إليها وقعت طلقة ، كقوله : أنت بائن.

وروي عن زيد بن ثابت : أنها إذا اختارت نفسها أنها ثلاث.

وذهب جماعة من المدنيين وغيرهم إلى أن التمليك والتخيير سواء ، والمشهور من مذهب مالك الفرق بينهما ، وذلك أن التمليك عند مالك هو قول الرجل لامرأته : قد ملّكتك ؛ أي قد ملّكتك ما جعل الله لي من الطلاق ، واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ، فلما جاز أن يملّكها بعض ذلك دون بعض وادعى ذلك ، كان القول قوله مع يمينه. أما المخيّرة إذا اختارت نفسها ، وهي مدخول بها ، فهو الطلاق كله ، ولا عبرة بإنكار الزوج ؛ لأن معنى التخيير : التسريح ، والتسريح : البتات ؛ قال الله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ : فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ ، أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) [البقرة ٢ / ٢٢٩] وقال تعالى في آية التخيير : (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) والتسريح بإحسان : هو الطلقة الثالثة ، ومعنى التخيير التسريح. وعلى هذا يكون طلاق المخيرة ثلاثا عند الإمام مالك.

وأكثر الفقهاء في تحديد زمن الخيار على أن لها الخيار : ما دامت في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض ، فإن لم تختر ولم تقض شيئا حتى افترقا

٢٩٥

من مجلسهما ، بطل ما كان من ذلك إليها ، ويرى آخرون أن ما ملكته يبقى في يدها كبقائه في يد زوجها ، وهذا عند المالكية هو الصحيح لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة فيما رواه البخاري والترمذي : «إني ذاكر لك أمرا ، فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك» فهذا دليل على استمرار التخيير ، حيث جعل لعائشة التخيير إلى أن تستأمر أبويها ، ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجا من الأمر.

والظاهر أن من اختارت الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحرم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلاقها ، أي لا يباشره أصلا ، عملا بعلو منصبه ، وسمو خلقه.

٤ ـ جعل الله ثواب طاعة أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعقاب معصيتهن أكثر مما لغيرهن ، بنص الآية هنا : (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) والآية التي بعدها : (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) فأخبر الله تعالى أن من جاء من نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بفاحشة ـ والله عاصم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك ، كما مرّ في حديث الإفك ـ يضاعف لها العذاب ضعفين ؛ لشرف منزلتهن ، وفضل درجتهن ، وتقدمهن على سائر النساء أجمع. وبينت الشريعة في مواضع كثيرة أنه كلما تضاعفت الحرمات ، فهتكت تضاعفت العقوبات ، ولذلك ضوعف حد الحر على العبد ، والثيب على البكر.

ولما كان أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مهبط الوحي ، وفي منزل أوامر الله ونواهيه ، قوي الأمر عليهن ولزمهن بسبب مكانتهن أكثر مما يلزم غيرهن ، فضوعف لهن الأجر والعذاب.

وضعف الشيء مثله ، فمعنى الضعفين : معنى المثلين أو المرتين ، فلو فرض وقوع ما يوجب الحدّ منهن ـ وقد أعاذهن الله من ذلك ـ حدّت الواحدة حدّين لعظم قدرها ، كما يزاد حد الحرة على الأمة ، والعذاب بمعنى الحدّ ، قال الله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور ٢٤ / ٢]. ويدل على هذا (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ).

انتهى الجزء الحادي والعشرون ولله الحمد

٢٩٦

فهرس

الجزء الحادي والعشرين

طريقة إرشاد أهل الكتاب......................................................... ٥

بعض مطالب المشركين التعجيزية الإتيان بمعجزات حسية واستعجال بالعذاب........... ١٤

الأمر بالهجرة عند تعذر إقامة الشعائر الدينية....................................... ٢٢

اعتراف المشركين بالإله الخالق الرازق المحيي......................................... ٢٩

بيان حال الدنيا واضطراب أوضاع الكفار فيها...................................... ٣٣

سورة الروم..................................................................... ٤٢

تسميتها وموضوعها ومناسبتها لما قبلها............................................. ٤٢

مشتملات السورة............................................................... ٤٣

الإخبار بالغيب في المستقبل...................................................... ٤٥

الحث على التفكر في المخلوقات الدالة على وجود الله ووحدانيته....................... ٥٢

إثبات الإعادة والحشر وبيان ما يكون وقت الرجوع إلى الله........................... ٥٧

تنزيه الله تعالى وحمده في جميع الأحوال............................................. ٦١

بعض أدلة الوحدانية والقدرة والحشر............................................... ٦٥

إثبات الوحدانية من واقع البشر................................................... ٧٧

الأمر باتباع الإسلام دين الفطرة والتوحيد.......................................... ٨٠

سوء حال بعض الناس بالرجوع إلى الله أحيانا ثم الشرك والنكول....................... ٨٦

الترغيب بالنفقة وأنواع العطاء وضمان الرزق وإثبات الحشر والتوحيد................... ٩١

٢٩٧

جزاء المفسدين والكافرين وجزاء المؤمنين............................................ ٩٦

الاستدلال بالرياح والأمطار على قدرة الله وتوحيده................................. ١٠٢

تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلقاه من الإعراض عن دعوته................................ ١١٠

أطوار حياة الإنسان........................................................... ١١٣

أحوال البعث ومقارنتها بأحوال الدنيا............................................ ١١٥

مهمة القرآن في بيان أدلة العقيدة وأمر النبي بالصبر على الأذى والدعوة.............. ١٢٠

سورة لقمان.................................................................. ١٢٤

صلتها بما قبلها أو مناسبتها لما قبلها.............................................. ١٢٤

مشتملات السورة............................................................. ١٢٦

خصائص القرآن وأوصاف المؤمنين به............................................ ١٢٧

إعراض الكافرين عن القرآن وإقبال المؤمنين عليه................................... ١٣٠

الاستدلال بخلق السموات والأرض على وحدانية الله وإبطال الشرك.................. ١٣٧

قصة لقمان الحكيم ووصيته لابنه................................................ ١٤١

توبيخ المشركين على الشرك مع مشاهدة دلائل التوحيد............................. ١٥٧

سلامة منهج المؤمن وسوء طريقة الكافر.......................................... ١٦١

إثبات وجود الله وسعة علمه وشمول قدرته على البعث وكل شيء..................... ١٦٤

الأمر بتقوى الله وبيان مفاتح الغيب............................................. ١٧٥

سورة السجدة................................................................ ١٨٢

تسميتها وفضلها ومناسبتها لما قبلها.............................................. ١٨٢

موضوعها مشتملاتها.......................................................... ١٨٣

إثبات النبوة (الرسالة)......................................................... ١٨٥

دلائل التوحيد والقدرة الإلهية.................................................... ١٨٧

إثبات البعث وحال الكفار يوم القيامة........................................... ١٩٥

٢٩٨

صفة المؤمنين في الدنيا وجزاؤهم عند ربهم في الآخرة................................ ٢٠٢

جزاء المؤمنين وجزاء الفاسقين................................................... ٢٠٩

عقد الصلة بين الرسالتين...................................................... ٢١٥

إنزال التوراة على موسى عليه‌السلام وموقف اليهود منها................................. ٢١٥

تأكيد ثبوت التوحيد والقدرة والحشر............................................. ٢١٩

سورة الأحزاب................................................................ ٢٢٥

تسميتها ومناسبتها لما قبلها وموضوعها........................................... ٢٢٥

الأمر بتقوى الله واتباع الوحي والتوكل على الله..................................... ٢٢٧

تعدد القلب والظهار والتبني.................................................... ٢٣١

قصة زيد بن حارثة في السيرة والسنة النبوية....................................... ٢٣٨

مكانة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومهمته وتشريع الميراث بقرابة الرحم............................... ٢٤٣

غزوة الأحزاب أو الخندق وبني قريظة............................................. ٢٥٥

أضواء من السيرة على غزوة الأحزاب أو غزوة الخندق.............................. ٢٦٣

١ ـ وصف الغزوة........................................................... ٢٦٦

٢ ـ موقف اليهود والمنافقين من المسلمين....................................... ٢٦٧

٣ ـ موقف المؤمنين......................................................... ٢٧٤

٤ ـ نهاية المعركة أو الإجلاء.................................................. ٢٧٧

٥ ـ حصار بني قريظة....................................................... ٢٧٨

تخيير زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الدنيا والآخرة ومقدار ثوابهن وعقابهن.................... ٢٨٧

٢٩٩