التفسير المنير - ج ٢١

الدكتور وهبة الزحيلي

(وَقَذَفَ) ألقى (الرُّعْبَ) الخوف الشديد (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) منهم وهم المقاتلة (وَتَأْسِرُونَ) فريقا منهم وهم الذراري : أي النساء والأطفال. (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) بعد ، وهي خيبر ، أخذت بعد قريظة.

سبب النزول :

نزول الآية (٩):

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) : أخرج البيهقي في الدلائل عن حذيفة قال : لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ، ونحن صافون قعودا ، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا ، وقريظة أسفل منا ، نخاف على ذرارينا ، وما أتت قط علينا ليلة أشد ظلمة ، ولا أشد ريحا منها ، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن بيوتنا عورة ، وما هي بعورة ، فما يستأذن أحد منهم إلا أذن له ، فيتسللون ، إذ استقبلنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا رجلا حتى أتى علي ، فقال : ائتني بخبر القوم ، فجئت ، فإذا الريح في عسكرهم ، ما تجاوز عسكرهم شبرا ، فو الله ، إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم ، الريح تضربهم ، وهم يقولون : الرحيل الرحيل ، فجئت ، فأخبرته خبر القوم ، وأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) الآية.

نزول الآية (١٢):

(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) : أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن عمرو المزني قال : خطّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخندق عام الأحزاب ، فأخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مدورة ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعول ، فضربها ضربة ، صدعها ، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتي المدينة (١) ، فكبّر ، وكبّر المسلمون ، ثم ضربها الثانية ، فصدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها ، فكبّر

__________________

(١) جانبي المدينة.

٢٦١

وكبر المسلمون ، ثم ضربها الثالثة ، فكسرها ، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها ، فكبّر ، وكبّر المسلمون ، فسئل عن ذلك ، فقال : ضربت الأولى ، فأضاءت لي قصور الحيرة ومدائن كسرى ، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليهم ، ثم ضربت الثانية ، فأضاءت لي قصور الحمر من أرض الروم ، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ، ثم ضربت الثالثة ، فأضاءت لي قصور صنعاء ، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ، فقال المنافقون : ألا تعجبون؟ ويحدّثكم ، يمنّيكم ويعدكم الباطل ، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى ، وأنها تفتح لكم ، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق (١) ، لا تستطيعون أن تبرزوا ، فنزل القرآن : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ : ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً).

نزول الآية (٢٣):

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ) : أخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن أنس قال : غاب عمي أنس بن النضر عن بدر ، فكبر عليه ، فقال : أول مشهد قد شهده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غبت عنه ، لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليرينّ الله ما أصنع ، فشهد يوم أحد ، فقاتل حتى قتل ، فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية ، ونزلت هذه الآية : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) الآية.

المناسبة :

بعد أن أمر الله تعالى بالتقوى بحيث لا يبقى في نفس المؤمن خوف من أحد ، ذكر مثالا واقعيا من وقعة الأحزاب ، حيث تجمع المشركون من قريش ومن عاونوهم من اليهود والأحباش عشرة آلاف حول المدينة بقصد القضاء على

__________________

(١) الفرق : الخوف.

٢٦٢

النبي وصحبه ، فدفع الله القوم عن المؤمنين من غير قتال وآمنهم من الخوف ، مما يدل على أنه لا يخاف العبد غير ربه ، فإنه القادر على كل ممكن ، الكاف أمره.

أضواء من السيرة على غزوة الأحزاب أو غزوة الخندق :

في شوال من السنة الخامسة للهجرة اجتمع حول المدينة عشرة آلاف ، أو اثنا عشر ألفا ، أو خمسة عشر ألفا من الكفار الوثنيين وأهل الكتاب ، للقضاء على النبي صلّى الله عليه وسلّم ، وكان المشركون من قريش والأحباش في أربعة آلاف بقيادة أبي سفيان ، وبني أسد بقيادة طليحة ، وغطفان في ستة آلاف بزعامة عيينة بن حصن ، وبني عامر يقودهم عامر بن الطفيل ، وسليم يقودهم أبو الأعود ، وكان يهود بني النضير برئاسة حيي بن أخطب وابني أبي الحقيق ، ويهود بني قريظة وسيدهم كعب بن أسد الذي كان بينه وبين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد ، فنبذه بسعي حيي بن أخطب.

وكان سبب الوقعة اليهود ، فقد خرج نفر من بني النضير وبني قريظة ، فقدموا على قريش بمكة ، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا لهم : إن دينكم خير من دينه ، ثم جاؤوا غطفان وقيسا وعيلان وبني مرة وأشجع ، فدعوهم إلى الحرب في المدينة ، فتوافق المعسكران : الوثني والكتابي على تكوين جيش موحد بقيادة أبي سفيان ، فنزلوا أمام المدينة.

وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون في ثلاثة آلاف ، حتى نزلوا بظهر سلع.

ولما سمع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمسير فئات الأحزاب ، أمر بحفر خندق حول المدينة بمشورة سلمان الفارسي ، وعمل في حفره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون ، في السهل الواقع شمال غرب المدينة ، وهو الجانب المكشوف الذي يخاف منه اقتحام العدو ، وأما الجوانب الأخرى فكانت محصنة بالجبال. وبلغ طول الخندق حوالي خمسة آلاف ذراع ، وعمقه سبعة أذرع إلى عشرة ، وعرضه تسعة فأكثر.

٢٦٣

فلما رأى المشركون وأحزابهم الخندق قالوا : والله هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها ، فوقعت مصادمات ، وحاول بعض المشركين اقتحام الخندق ، فرمي بالحجارة ، واقتحمه بعضهم بفرسه فهلك أو قتل ، منهم الفارس المشهور عمرو بن ودّ العامري الذي تبارز مع علي رضي‌الله‌عنه ، فقتله ، وفرّ صاحباه عكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب ، ومن فوارسهم نوفل بن مغيرة. واستشهد سعد بن معاذ رضي‌الله‌عنه في غزوة بني قريظة.

ثم وقعت مكيدة محكمة بين الأحزاب ، فبينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه في خوف وشدة ، إذ جاءه نعيم بن مسعود الغطفاني ، فقال : يا رسول الله ، إني قد أسلمت ، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمرني بما شئت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما أنت فينا رجل واحد ، فخذّل عنا إن استطعت ، فإن الحرب خدعة».

فأتى بني قريظة ، وقال لهم : لا تحاربوا مع قريش وغطفان إلا إذا أخذتم منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم تقيّة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا ؛ لأنهم رجعوا وسئموا حربه ، وإنكم وحدكم لا تقدرون عليه ، فقالوا له : لقد أشرت بالرأي.

ثم أتى قريشا وغطفان ، فقال لهم : إن اليهود يريدون أن يأخذوا منكم رهنا يدفعونها لمحمد ، فيضرب أعناقهم ، ويتّحدون معه على قتالكم ؛ لأنهم ندموا على ما فعلوا من نقض العهد وتابوا.

ولما أراد أبو سفيان وقادة غطفان خوض معركة حاسمة مع المسلمين ، تباطا اليهود ، وطلبوا منهم رهائن من رجالهم ، فامتنعوا وصدّقوا حديث نعيم بن مسعود ، وتحقق اليهود من صدق حديث نعيم أيضا ، فتخاذل اليهود والعرب ، وتفرقت الكلمة.

ودب الضعف في الأحزاب ، وزاد من قلقهم واضطرابهم أن أرسل الله عليهم

٢٦٤

ريحا شديدة البرد في ليلة شاتية ، فأكفأت قدورهم ، وطرحت آنيتهم.

فرجع أبو سفيان مع قريش إلى بلادهم ، وتبعته غطفان ، وأرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حذيفة بن اليمان حتى يأتي بخبرهم ، ومكث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما يصلي ، ودعا لحذيفة بالسلامة والحفظ حتى يعود ، كما دعا رافعا يديه ويقول : «يا صريخ المكروبين ، ويا مجيب المضطرين ، اكشف همّي وغمي وكربي ، فقد ترى حالي وحال أصحابي» فنزل جبريل وقال : إن الله قد سمع دعوتك ، وكفاك هول عدوك ، فخرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ركبتيه ، وبسط يديه ، وأرخى عينيه ، وهو يقول : شكرا شكرا كما رحمتني ورحمت أصحابي.

وصدق الله إذ يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها ، وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) [الأحزاب ٣٣ / ٩] ويقول : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً ، وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ ، وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) [الأحزاب ٣٣ / ٢٥].

وانتهت الحرب بين المسلمين والمشركين ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ، ولكنكم تغزونهم».

واستشهد من المسلمين يوم الخندق سبعة ، وقتل من المشركين أربعة.

التفسير والبيان :

تضمنت الآيات في مجال التذكير بنعمة الله وإحسانه إلى عباده المؤمنين بنصرهم في غزوة الخندق موضوعات خمسة : هي وصف الغزوة (الآيات : ٩ ـ ١١) وموقف المنافقين واليهود من المسلمين (الآيات : ١٢ ـ ٢١) وموقف المؤمنين في التضحية والفداء (الآيات : ٢٢ ـ ٢٤) ونصر المؤمنين وهزيمة الكافرين (الآية : ٢٥) وتأديب يهود بني قريظة (الآيتان : ٢٦ ـ ٢٧).

٢٦٥

أولا ـ وصف الغزوة :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها ، وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) أيها المؤمنون بالله ورسوله اذكروا بالشكر والحمد نعم الله التي أنعم بها عليكم حين وقعتم في حصار جنود وحشود هائلة من قريش وغطفان واليهود الذين جاؤوا لإبادتكم واستئصال شوكتكم وإنهاء وجودكم ، فبعثنا عليهم ريحا باردة في ليلة شاتية ، وملائكة لم تروها زلزلتهم وألقت الرعب في قلوبهم ، فأكفأت القدور ، وقلبت البيوت والأواني ، حتى بادر رئيس كل قبيلة يقول : يا بني فلان ، النجاء النجاء ، وقال طليحة بن خويلد الأسدي : إن محمدا قد بدأكم بالسحر ، فالنجاء النجاء ، وقال أبو سفيان : يا معشر قريش ، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع (الخيول) والخف ، وأخلفتنا بنو قريظة ، وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من هذه الريح ما ترون ، والله ما تطمئن لنا قدر ، ولا تقوم لنا نار ، ولا يستمسك لنا بناء ، فارتحلوا ، فإني مرتحل. ثم قام إلى جمله ، وهو معقول ، فجلس عليه ، ثم ضربه ، فوثب به على ثلاث ، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم.

وكان الله مطلعا عليما على جميع أعمالكم من حفر الخندق ومقاساة الشدائد ، والاستعداد للقتال ، والتحرز من العدو ، وهو يجازيكم عليها ، ولا يبخس منها شيئا.

ثم ذكّرهم بإحكام حصار الأحزاب عليهم ، فقال :

(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي واذكروا حين جاءتكم الأحزاب من أعلى الوادي من جهة المشرق ، ومن أسفل الوادي من جهة المغرب ، الأولون من قريش والأحباش وبني كنانة وأهل تهامة ، والآخرون من بني قريظة ، كما ذكر حذيفة. وقيل : الأولون من أهل نجد وبني أسد

٢٦٦

وبني نصر ، والآخرون : من قريش ، وأما يهود بني قريظة فمن وجه الخندق.

(وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ ، وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) أي وإذ مالت الأبصار عن سننها ، فلم تلتفت إلى العدو لكثرته ، وبلغت القلوب الحناجر كناية عن شدة الخوف والفزع ، وتظنون مختلف الظنون ، فمنكم مؤمن ثابت الإيمان لا يتزحزح عن موقفه ، واثق بنصر الله وبوعده ، ومنكم منافق مريض الاعتقاد ، ظن أن محمدا وأصحابه يستأصلون ، وينتصر المشركون ، ويسودون المدينة. قال الحسن البصري : ظن المنافقون أن المسلمين يستأصلون ، وظن المؤمنون أنهم ينصرون.

(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ ، وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) أي حينئذ اختبر الله المؤمنين ، فظهر المخلص من المنافق ، وحركوا واضطربوا اضطرابا شديدا من الفزع وتهديد العدو ، فمن ثبت منهم هم المؤمنون حقا ، ومن استبد القلق بهم هم المنافقون.

والامتحان من الله ليس لاستبانة الأمر له ، بل لحكمة أخرى ، هي أن الله تعالى عالم بما هم عليه ، لكنه أراد إظهار الأمر لغيره من الأنبياء والملائكة.

ثانيا ـ موقف اليهود والمنافقين من المسلمين :

ثم أعلن الله تعالى موقف المنافقين ومؤيديهم ، فقال :

(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ : ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) أي واذكروا حين قال المنافقون الذين أسلموا في الظاهر ولم تؤمن قلوبهم ، وضعفاء العقيدة لحداثة عهدهم بالإسلام : ما وعدنا الله ورسوله من النصر على العدو إلا وعدا باطلا لا وجود ولا حقيقة له. والقائل : جماعة من اليهود والمنافقين نحو من سبعين رجلا ، مثل معتّب بن قشير وطعمة بن أبيرق ، فقال معتب حين رأى الأحزاب : يعدنا محمد فتح فارس والروم ، وأحدنا لا يقدر أن

٢٦٧

يتبرّز فرقا (خوفا) ما هذا إلا وعد غرور (١). وأما مريض الاعتقاد فتحدث بما توسوس به نفسه لضعف إيمانه ، وشدة ما هو فيه من ضيق الحال.

(وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ : يا أَهْلَ يَثْرِبَ ، لا مُقامَ لَكُمْ ، فَارْجِعُوا) أي واذكروا أيضا حين قالت طائفة من المنافقين ، وهم أوس بن قيظي ومن وافقه على رأيه ، أو عبد الله بن أبيّ وأصحابه : يا أهل المدينة ، لا وجه لإقامتكم مع محمد وعسكره ، ولا مسوغ لها مع هذه الحال من الذل والهوان ، ولا قرار لكم هاهنا ولا مكان تقيمون فيه ، فارجعوا إلى بيوتكم ومنازلكم في المدينة ، لتسلموا من القتل والفناء. ويثرب : اسم للبقعة التي هي المدينة أو طيبة أو طابة. والطائفة : تطلق على الواحد فأكثر.

(وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ : إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ ، وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ ، إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) أي وبسبب إشاعة الفتنة وبثّ روح الضعف عزم جماعة من المنافقين على الرجوع وهم بنو حارثة بن الحارث ، وطلبوا الإذن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العودة إلى بيوتهم وترك القتال قائلين : إن بيوتنا سائبة ضائعة ليست بحصينة ، أي فيها خلل يخاف منه دخول العدو والسارق ليأخذ المتاع ويفزع النساء والأولاد ، فكذبهم الله بقوله : (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) أي ليس فيها خلل أو ثغرة ، بل هي حصينة وليست كما يزعمون ، وإنما قصدهم الفرار بسبب الخوف ، والهرب من الزحف مع جيش المؤمنين الصادقين.

ثم بيّن الله تعالى مدى ضعف الإيمان ورقّته في قلوبهم وأن ذلك الفرار ليس لحفظ البيوت ، فقال :

(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها ، وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) أي ولو دخل الأعداء عليهم من كل جانب من جوانب المدينة ، أو

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٥٣٣ ، البحر المحيط : ٧ / ٢١٧

٢٦٨

البيوت ، ثم طلب منهم الردة والعودة صراحة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين ، لجاؤوها أو لأعطوها من أنفسهم ولفعلوا ذلك سريعا ، ولم يحافظوا على الإيمان ولم يستمسكوا به ، وما مكثوا في استجابتهم وعطائهم ما طلب منهم إلا زمنا يسيرا من أدنى خوف وفزع ، وهو مقدار ما يكون السؤال والجواب من غير توقف. أو ما تلبثوا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا.

وهذا دليل واضح على ضعف الإيمان في نفوسهم ، فلا عجب إذا بادروا إلى التراجع والتسلل من المعركة. وهذه سمة المترددين الجبناء الذين اعتادوا على الهرب من مواقف الصمود ولقاء الشجعان ، لذا قال تعالى :

(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ ، وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) أي ولقد كان هؤلاء وهم بنو حارثة عاهدوا الله يوم أحد من قبل هذا الخوف ألا يولوا الأدبار ، ولا يفرون من الزحف ، ثم تابوا وعاهدوا الله ألا يعودوا لمثل ذلك. ثم هددهم تعالى وأوعدهم بقوله: (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) أي إن الله سيسألهم عن ذلك العهد والوفاء به يوم القيامة ، ويجازيهم على نقضه وخيانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أمر لا بدّ منه. وقوله : (مَسْؤُلاً) معناه: مطلوبا مقتضى حتى يوفى به.

ثم بيّن الله تعالى لهم عدم جدوى فعلهم ، ووبخهم ، فقال :

(قُلْ : لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ ، وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي أخبرهم أيها الرسول أن فرارهم ذلك لا يؤخر آجالهم ، ولا يطوّل أعمارهم ، فلن ينفعهم الهرب من لقاء الموت أو القتل في ميدان المعركة ، فإن المقدّر كائن لا محالة ، وربما كان فرارهم سببا في تعجيل أخذهم غرّة ، وإذا ظلوا أحياء ونفعهم الفرار ونجوا من الموت كما يظنون ، لم يكن تمتعهم بالتأخير بمتاع الدنيا بعد هربهم وفرارهم إلا تمتيعا قليلا أو زمانا يسيرا : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا

٢٦٩

قَلِيلٌ ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) [النساء ٤ / ٧٧]. قال الربيع بن خيثمة : وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي إن فررتم من الموت أو القتل لا ينفعكم الفرار ؛ لأن مجيء الأجل لا بدّ منه.

ثم أبان الله تعالى ما تقدم معرّفا لهم قدرته الكاملة عليهم ، فقال :

(قُلْ : مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) أي وقل لهم أيضا أيها الرسول : لا أحد يستطيع أن يمنعكم من مراد الله بكم ، أو دفع السوء عنكم إذا قدره الله عليكم ، أو تحقيق النفع والخير إذا أراده لكم. وقوله : (أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) معناه : أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة ، فاختصر الكلام. وقوله : (سُوءاً) أي هلاكا ، وقوله : (رَحْمَةً) أي خيرا ونصرا وعافية.

وأكد هذا بقوله :

(وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي ولا يجد هؤلاء المنافقون ومؤيدوهم من ضعفاء العقيدة ولا غيرهم مجيرا ولا مغيثا ولا نصيرا ينصرهم أو يشفع لهم.

ثم حذرهم بدوام علمه بالخائنين ، فقال :

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ : هَلُمَّ إِلَيْنا) قد : هنا للتحقيق وليس للتقليل ، والمعنى : إن الله ليعلم علما محيطا شاملا الذين يثبطون المسلمين عن شهود الحرب ، تخذيلا ونفاقا ، ويعلم القائلين لأصحابهم وخلطائهم من أهل المدينة : تعالوا إلى ما نحن فيه من الإقامة في الظلال والثمار ، وقرّبوا أنفسكم إلينا ، واتركوا محمدا والحرب معه. وهلّم : لغة أهل الحجاز ، يسوّون فيه بين الواحد والجماعة ، وأما تميم فيقولون : هلم يا رجل ، وهلموا يا رجال ، وهلمن يا نساء. والذي عليه النحويون أن هلم ليس صوتا ، وإنما هو مركب مختلف في

٢٧٠

أصل تركيبه ، فقيل : هو مركب من ها التي للتنبيه ولم ، وهو مذهب البصريين ، وقيل : من هل وأم ، وهو متعد ولازم ، فالمتعدي كقوله : (قُلْ : هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) [الأنعام ٦ / ١٥٠] أي أحضروا شهداءكم ، واللازم كقوله : هلم إلينا ، وأقبلوا إلينا ، وقوله : (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ) إما المنافقون قالوا للمسلمين : ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس (١) ، وهو هالك ومن معه ، فهلم إلينا ، وإما يهود بني قريظة قالوا لإخوانهم من المنافقين : تعالوا إلينا وفارقوا محمدا ، فإنه هالك ، وإن أبا سفيان إن ظفر لم يبق منكم أحدا. وإما رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لشقيقه في قلب المعركة : هلم إلي ، قد تبع بك وبصاحبك ، أي قد أحيط بك وبصاحبك.

(وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) أي ولا يأتي المنافقون القتال إلا زمنا قليلا أو شيئا قليلا إذا اضطروا إليه ، خوفا من الموت ، كقوله تعالى : (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) [الأحزاب ٣٣ / ٢٠].

ثم ذكر الله تعالى صفات أخرى لهم ، فقال :

١ ـ (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) هذه صفة البخل ، أي بخلاء بأنفسهم وأحوالهم وأموالهم ، فلا يعاونونكم في الحرب بنفس ولا بمال ولا بمودة وشفقة ، وكذا عند قسمة الغنيمة. وأشحة : جمع شحيح على غير القياس ، والقياس : أشحاء ، مثل خليل وأخلاء. والصواب : أن يعم شحهم كل ما فيه منفعة المؤمنين.

٢ ـ (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ، تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) وهذه صفة الجبن والخوف ، والبخل شبيه الجبن ، فلما ذكر البخل بيّن سببه وهو الجبن ، والمعنى : فإذا بدأ حدوث الخوف ببدء المعركة والقتال ،

__________________

(١) أي هم قليل يشبعهم رأس واحد ، وهو جمع آكل.

٢٧١

رأيتهم ينظرون إليك أيها النبي في تلك الحالة ، كما ينظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت حذرا وخورا وضعفا ، وهكذا خوف هؤلاء الجبناء من القتال.

٣ ـ (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) وهذه صفة سلاطة اللسان والإيذاء بالكلام والتفاخر الكاذب ، والمعنى : فإذا تحقق الأمن غلبوكم باللسان وآذوكم بالكلام ، وتفاخروا بأنهم أهل النجدة والشجاعة ، وهم في ذلك كاذبون.

وسبب هذه الصفة ، كما قال تعالى :

(أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) أي وهم مع ذلك ليس فيهم خير ، قد جمعوا الجبن والكذب وقلة الخير ، فهم قليلو الخير في الحالتين ، كثيرو الشر في الوقتين ، يبخلون أولا وآخرا ، أي أنهم حين البأس جبناء ، وحين الغنيمة بخلاء ، قال قتادة : أما عند الغنيمة فأشح قوم وأسوؤه مقاسمة ، يقولون : أعطونا أعطونا ، قد شهدنا معكم ، وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذله للحق.

ثم ذكر الله تعالى سبب مرضهم وجميع صفاتهم وهو ضعف الثقة بالله ، فقال : (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا ، فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي إن أولئك المنافقين هم في الواقع غير مصدقين بالله ورسوله ، ولم يؤمنوا حقيقة ، وإن أظهروا الإيمان لفظا ، فأبطل الله أعمالهم التي كانوا يأتون بها مع المسلمين ، وكان ذلك الإحباط سهلا هينا عند الله ، بمقتضى عدله وحكمته.

وتساءل الزمخشري بقوله : هل يثبت للمنافق عمل ، حتى يرد عليه الإحباط؟ فأجاب : لا ، ولكنه تعليم لمن عسى يظن أن الإيمان باللسان إيمان ، وإن لم يواطئه القلب ، وأن ما يعمل المنافق من الأعمال يجزى عليه ، فبين أن إيمانه ليس بإيمان ، وأن كل عمل يوجد منه باطل (١).

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٥٣٤

٢٧٢

ثم ذكر الله تعالى أن صفاتهم القبيحة في الجبن والبخل والخوف ملازمة لهم على الدوام ، وليست مجرد أمر عارض مؤقت ، فقال :

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي يظنون من شدة الخوف والفزع أن أحزاب الكفر من قريش وغطفان وبني قريظة لم يرحلوا ولم ينهزموا ، وأن لهم عودة إلى الحصار والحرب ؛ فكأنهم عند حضورهم غائبون عن الساحة حيث لا يقاتلون ، مع أن الأحزاب رحلوا وانهزموا ولن يعودوا.

(وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ ، يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) أي وإن يعد الأحزاب إلى قتالكم ، يتمنوا أنهم لا يكونون حاضرين معكم في المدينة وبين المقاتلين ، بل يكونون في البادية يسألون عن أخباركم وما كان من أمركم مع عدوكم للشماتة بكم ، وانتظار وقوع السوء بكم ، وجبنا وخورا في العزائم.

(وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) أي ولو كان هؤلاء المنافقون معكم في ساحة المعركة لما قاتلوا إلا قتالا يسيرا وزمنا قليلا ، لاستيلاء الجبن والضعف عليهم.

ثم لفت نظرهم ونظر غيرهم إلى ضرورة التأسي بالقائد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال :

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ، وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) هذا أمر من الله تعالى بالتأسي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأحزاب وغيره في أقواله وأفعاله وأحواله ، وصبره ومصابرته ومجاهدته وانتظار الفرج من ربه عزوجل ، والمعنى : لقد كان لكم أيها المؤمنون قدوة صالحة ومثل أعلى يحتذي به ، فهلا اقتديتم وتأسيتم بشمائله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو مثل أعلى في الشجاعة والإقدام والصبر والمجالدة ، إذا كنتم تريدون ثواب الله وفضله ، وتخشون الله وحسابه ،

٢٧٣

وتذكرونه ذكرا كثيرا في الليل والنهار ، حبا به وتعظيما له ، وخوفا من عقابه ، وطمعا في ثوابه وجزائه ، فإن ذكره دافع إلى طاعته ، والتأسي برسوله.

وهذا عتاب للمتخلفين ، وإرشاد للناس جميعا أن يتأسوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السراء والضراء وحين البأس ولقاء الشجعان ونزال الأبطال.

ثالثا ـ موقف المؤمنين :

ثم بعد بيان حال المنافقين أبان الله تعالى حال المؤمنين عند لقاء الأعداء ، فقال :

(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا : هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) أي ولما شاهد المؤمنون المصدقون بموعود الله لهم ، المخلصون في القول والعمل الأحزاب المتجمعة حول المدينة قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار بمجابهة الأعداء ثم النصر القريب ، وصدق الله ورسوله الوعد بالنصر ، وما زادهم تجمع الأعداء وتلك الحال من الشدة والضيق إلا إيمانا بالله ، وتصديقا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتسليما لقضائه وقدره وانقيادا لأوامره وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واعتقادا جازما أن النصر من عند الله تعالى بعد أن يتخذ العباد الأسباب ، ويستعدوا للحرب ، ويقاتلوا فعلا ؛ لأن الجهاد تكليف من الله لعباده ، وتعطيل التكليف معصية ، ومجرد الاعتماد على قدرة الله وإمداده بالعون والنصر دون عمل من عباده : سوء فهم وجهل وتمنيات شيطانية خادعة.

والتحذير من هذه المفاهيم المخطئة متكرر في القرآن ، قال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ، وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ ، وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ : مَتى نَصْرُ اللهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) [البقرة ٢ / ٢١٤] وقال سبحانه : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا : آمَنَّا ، وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت ٢٩ / ٢].

٢٧٤

وعن ابن عباس قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «إن الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا» أي في آخر تسع ليال أو عشر. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا : «سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم ، والعاقبة لكم عليهم».

وفي الآية دلالة على وجوب الثقة بوعد الله ورسوله ، وقوله تعالى : (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) دليل على زيادة الإيمان وقوته بالنسبة إلى الناس وأحوالهم ، كما قال جمهور الأئمة : إنه يزيد وينقص.

وبعد بيان حال المنافقين أنهم نقضوا العهد الذي عاهدوا الله عليه لا يولون الأدبار ، وصف الله تعالى المؤمنين الذين استمروا على العهد والميثاق ، فوفوا بعهدهم الذي عاهدوا الله أنهم لا يفارقون نبيه إلا بالموت ، فقال :

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) أي وهناك في مقابلة المنافقين جماعة من المؤمنين المخلصين الصادقين ، صدقوا العهد مع الله ، ووفوا بما عاهدوا عليه من الصبر في حال الشدة والبأس ، فمنهم من انتهى أجله واستشهد كيوم بدر وأحد ، ومنهم من ينتظر قضاء الله والشهادة وفاء بالعهد ، وما بدلوا عهدهم وما غيّروه ، بخلاف المنافقين الذين قالوا : لا نولي الأدبار ، فبدلوا قولهم وولوا أدبارهم. وقوله : (قَضى نَحْبَهُ) معناه قاتل فوفى بنذره ، والنحب : النذر.

روى البخاري عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه قال : نرى هذه الآية نزلت في أنس بن النضر رضي‌الله‌عنه : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ).

وروى أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس قال : «غاب عمي أنس بن النضر عن بدر ، فشقّ عليه ، وقال : أول مشهد شهده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غبت عنه ، لئن أراني الله تعالى مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليرينّ الله عزوجل

٢٧٥

ما أصنع ، قال أنس : فهاب أن يقول غيرها ، فشهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، فاستقبل سعد بن معاذ رضي‌الله‌عنه ، فقال له أنس رضي‌الله‌عنه : يا أبا عمرو ، أين؟ واها لريح الجنة ، إني لأجده دون أحد ، فقاتلهم حتى قتل رضي‌الله‌عنه. فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية ، فنزلت هذه الآية : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) الآية.

وذكر في الكشاف : نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا ، وهم عثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وحمزة ، ومصعب بن عمير وغيرهم رضي‌الله‌عنهم.

ثم ذكر تعالى علة ابتلاء المؤمنين وغيرهم وإيلامهم في الحرب ، فقال :

(لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ ، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ ، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أي إنما يختبر الله عباده بالخوف ولقاء الأعداء ليميز الخبيث من الطيب ، ويظهر كل واحد منهما بالفعل ، ويكافئ الصادقين في إيمانهم بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه ، وقيامهم به ، ومحافظتهم عليه ، وصدق ما وعدهم في الدنيا والآخرة كما صدقوا وعودهم ، ويعذب المنافقين الذين كذبوا ونقضوا العهد وأخلفوا أوامره ، فاستحقوا بذلك عقابه وعذابه.

والكل تحت مشيئة الله في الدنيا ، إن شاء بقوا على ما هم عليه حتى يلقوه ، فيعذبهم ، وإن شاء تاب عليهم بأن أرشدهم إلى الإقلاع عن النفاق إلى الإيمان والعمل الصالح بعد الفسوق والعصيان ، أي إن الهداية إلى الإيمان والتوبة بمراد الله ومشيئته.

ولما كانت رحمته ورأفته بخلقه هي الغالبة لغضبه قال :

٢٧٦

(إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) حيث ستر ذنوبهم ، ورحمهم ورزقهم الإيمان ووفقهم إلى التوبة ، ولا يعاقبهم على ما مضى بعد التوبة. وهذا حث على التوبة والإيمان قبل فوات الأوان.

ونظير الآية كثير ، منها : قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ، وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) [محمد ٤٧ / ٣١] وقوله عزوجل : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران ٣ / ١٧٩].

رابعا ـ نهاية المعركة أو الإجلاء :

(وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً ، وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ ، وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) أي إن الله تعالى أجلى الأحزاب عن المدينة ، وردهم خائبين خاسرين مع غيظهم ، لم يشفوا صدرا ، ولم يحققوا أمرا ، ولم ينالوا أي خير من غنيمة أو أسر أو نصر حاسم ، بما أرسل عليهم من الريح الباردة والجنود الإلهية ، فتفرقت جموعهم ، وتشتت شملهم ، ولم يحققوا خيرا لأنفسهم ، لا في الدنيا من الظفر والمغنم ، ولا في الآخرة من الآثام في إعلان عداوتهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومبارزته ، وهمهم بقتله ، واستئصال زمرته وجيشه ، ومن همّ بشيء ، وبدأ بتنفيذ همه بالفعل ، فهو في الحقيقة كالفاعل.

وكفى الله المؤمنين القتال ، أي لم يحوجهم إلى قتال ومبارزة حتى يجلوا عن بلادهم ، بل كفى الله وحده شرهم ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، ولهذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما أخرجه الشيخان ـ يقول : «لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، فلا شيء بعده».

وفي الصحيحين أيضا عن عبد الله بن أبي أوفى رضي‌الله‌عنه قال : «دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأحزاب ، فقال : اللهم منزّل الكتاب ، سريع الحساب ،

٢٧٧

اهزم الأحزاب ؛ اللهم اهزمهم وزلزلهم».

وقال محمد بن إسحاق : لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغنا : «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ، ولكنكم تغزونهم» فلم تغز قريش بعد ذلك ، بل غزاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك ، حتى فتح الله تعالى مكة.

وكان الله قويا عزيزا ، أي غير محتاج إلى قتالهم ، قادرا على استئصال الكفار وإذلالهم ، ردهم بحوله وقوته خائبين ، لم ينالوا خيرا ، وأعز الله الإسلام وأهله.

خامسا ـ حصار بني قريظة :

(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ) أي وأنزل الله يهود بني قريظة الذين هم من أهل الكتاب والذين عاونوا الأحزاب من حصونهم وقلاعهم.

وذلك لأنهم بمسعى حيي بن أخطب النضيري نقضوا عهدهم الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إذ لم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض العهد ، وقال له فيما قال : ويحك قد جئتك بعزّ الدهر ، أتيتك بقريش وأحابيشها ، وغطفان وأتباعها ، ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلوا محمدا وأصحابه ، فقال له كعب : بل والله أتيتني بذل الدهر ، ويحك يا حيي ، إنك مشؤوم ، فدعنا منك ، فلم يزل يفتل له في الذروة والغارب (أي يخادعه) حتى أجابه ، واشترط له حيي إن ذهب الأحزاب ، ولم يكن من أمرهم شيء أن يدخل معهم في الحصن ، فيكون أسوتهم.

فلما أيد الله تعالى رسوله والمسلمين ، وكبت أعداءهم ، وردهم خائبين بأخسر صفقة ، ورجعوا إلى المدينة ، أرسل الله جبريل عليه‌السلام ، فأوحى إلى

٢٧٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا : «إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة» فنهض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من فوره ، وأمر الناس بالمسير إلى بني قريظة ، وكانت على أميال من المدينة ، وذلك بعد صلاة الظهر ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الشيخان : «لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة» فسار الناس ، فأدركتهم الصلاة في الطريق ، فصلى بعضهم في الطريق ، وقالوا : لم يرد منا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا تعجيل المسير ، وقال آخرون : لا نصليها إلا في بني قريظة ، فلم يعنّف واحدا من الفريقين.

وتبعهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد استخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم رضي‌الله‌عنه ، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، ثم نازلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة ، فلما طال عليهم الحال ، نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس رضي‌الله‌عنه ؛ لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية.

فلما جاء سعد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قوموا إلى سيدكم» فقام إليه المسلمون إعظاما وإكراما واحتراما له في محل ولايته ، ليكون أنفذ لحكمه فيهم ، فلما جلس قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن هؤلاء ـ وأشار إليهم ـ قد نزلوا على حكمك ، فاحكم فيهم بما شئت».

فقال رضي‌الله‌عنه : وحكمي نافذ عليهم؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم» قال : وعلى من في هذه الخيمة؟ قال : «نعم» قال : وعلى من هاهنا؟ وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو معرض بوجهه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إجلالا وإكراما وإعظاما ، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم».

فقال رضي‌الله‌عنه : إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم ، وتسبى ذراريهم وأموالهم ، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة

٢٧٩

أرقعة» أي سبع سموات. أو «لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى وحكم رسوله».

ثم أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأخاديد ، فخدّت في الأرض ، وجيء بهم مكتّفين ، فضرب أعناقهم ، وكانوا ما بين السبع مائة إلى الثمان مائة ، وسبى من لم ينبت منهم مع النساء ، وأموالهم ، لذا قال تعالى :

(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ، فَرِيقاً تَقْتُلُونَ ، وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) أي وألقى في نفوسهم الخوف الشديد ، لممالأتهم المشركين على حرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإخافتهم المسلمين ، وقصدهم قتلهم ، فانعكس الحال عليهم ، وأسلموا أنفسهم للقتل ، وأولادهم ونساءهم للسبي ، فريقا تقتلون ، وهم الرجال المقاتلة ، وتأسرون فريقا ، وهم النساء والصبيان.

(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها ، وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) أي جعل الله لكم أراضيهم المزروعة ومنازلهم المعمورة وأموالهم المدخرة ، وأرضا أخرى لم تطأها أقدامكم بعد وهي التي ستفتح في المستقبل ، بعد بني قريظة ، مثل خيبر ومكة وبلاد فارس والروم.

وكان الله صاحب القدرة المطلقة على كل شيء ، فهو كما ورّثكم أرض بني قريظة ، ونصركم عليهم ، قادر على أن يورثكم غير ذلك ، وينصركم على أقوام آخرين.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت هذه الآيات إلى الأحكام والمبادئ التالية :

١ ـ إن النصر الحاسم للمسلمين على المشركين في غزوة الخندق والأحزاب ، وعلى يهود بني قريظة ناقضي العهد نعمة عظمي تستوجب الشكر والحمد لله تعالى ؛ لأنه نصر دبره الله عزوجل بإرسال الريح والملائكة ، وقد صدقت فيه

٢٨٠