التفسير المنير - ج ٢١

الدكتور وهبة الزحيلي

أبيه ، على النحو الذي كان في الجاهلية. فإن لم يكن كذلك ، كما يقول الكبير للصغير تلطفا أو تحننا وشفقة : يا ابني أو يا بنيّ ، فالظاهر عدم الحرمة ، لكن أفتى بعض العلماء بكراهته سدا لباب التشبه بالكفار.

٤ ـ نسبة الإنسان إلى أبيه من التبني خطأ ، بأن يسبق اللسان إليه من غير قصد ، لا إثم ولا مؤاخذة فيها ، لقوله تعالى : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ ، وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ).

كذلك لا إثم في نسبة شخص كان في الأصل منسوبا إلى أبيه بالتبني ، وجرى الإطلاق على سبيل الشهرة ، كالحال في المقداد بن عمرو ، فإنه غلب عليه نسب التبني ، فلا يكاد يعرف إلا بالمقداد بن الأسود ؛ فإن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبنّاه في الجاهلية وعرف به ، فلما نزلت الآية ، قال المقداد : أنا ابن عمرو ؛ ومع ذلك فبقي الإطلاق عليه ، ولم يحكم أحد بعصيان من ناداه بذلك ، وكذلك سالم مولى أبي حذيفة ، كان يدعى لأبي حذيفة ، وغير هؤلاء.

وذلك بخلاف الحال في زيد بن حارثة ؛ فإنه لا يجوز أن يقال فيه : زيد بن محمد ؛ إذ لم يشتهر به بعد التحريم والنهي ، فإن قاله أحد متعمدا عصى ؛ لقوله تعالى : (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ).

٥ ـ وكما يحرم التبني ، يحرم انتساب الشخص إلى غير أبيه ، وهو يعلم أنه غير أبيه ، بل هو من الكبائر إذا كان على النحو الجاهلي ، فقد كان الرجل منهم ينتسب إلى غير أبيه وعشيرته ، وجاء في السنة الوعيد الشديد عليه ، أخرج الشيخان وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من ادّعى إلى غير أبيه ، وهو يعلم أنه غير أبيه ، فالجنة عليه حرام».

وأخرج الشيخان أيضا : «من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا»

٢٤١

وأخرجا أيضا عن أبي ذرّ أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ليس من رجل ادّعى لغير أبيه ، وهو يعلمه ، إلا كفر». والكفر : إذا اعتقد إباحة ذلك ، فإن لم يعتقد إباحته ، فمعنى كفره : أنه أشبه فعله فعل الكفار أهل الجاهلية ، أو أنه كافر نعمة الله والإسلام عليه.

٦ ـ هناك فرق بين التبني المنهي عنه والاستلحاق الذي أباحه الإسلام ، فالتبني : هو ادعاء الولد مع القطع بأنه ليس ابنه ، وأما الاستلحاق الشرعي : فهو أن يعلم المستلحق أن المستلحق ابنه أو يظن ذلك ظنا قويا ، بسبب وجود زواج سابق غير معلن. فإن كان من زنى فلا يجوز الاستلحاق.

٧ ـ يباح أن يقال في دعاء من لم يعرف أبوه : يا أخي أو يا مولاي إذا قصد الأخوة في الدين والولاية فيه ، وكان المدعو تقيا. فإن كان فاسقا فلا يدعى بذلك ، ويكون حراما ؛ لأننا نهينا عن تعظيم الفاسق.

٨ ـ دل قوله تعالى : (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) على أنه ينبغي أن يكون قول الإنسان إما عن حقيقة يقرها العقل السليم أو عن شرع ثابت ، فمن تزوج بامرأة فولدت لستة أشهر ولدا ، وكانت الزوجة سابقا زوجة شخص آخر يحتمل أن يكون الولد منه ، فإنا نلحقه بالزوج الثاني لقيام الفراش أي رابطة الزوجية.

٩ ـ قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) يدل على أنه سبحانه يغفر الذنوب للمستغفر ، ويرحم المذنب التائب.

٢٤٢

مكانة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومهمته وتشريع الميراث بقرابة الرحم

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨))

الإعراب :

(وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) مبتدأ وخبر ، أي إنهن بمنزلة الأم في التحريم ، فلا يجوز لأحد أن يتزوج بهن ، احتراما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا ..) أن وصلتها : في موضع نصب على الاستثناء المنقطع.

البلاغة :

(وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) تشبيه بليغ ، حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه ، أي وأزواجه مثل أمهاتهم في الحرمة والتعظيم.

(أَوْلى بِبَعْضٍ) مجاز بالحذف ، أو أولى بميراث بعض.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) عطف الخاص على العام للتشريف والتنويه بشأنهم ، بالرغم من دخول محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام في جملة النبيين.

(مِيثاقاً غَلِيظاً) استعارة ، استعار الغلظ في الأجسام الحسية للشيء المعنوي ، وهو بيان حرمة الميثاق وخطورته وعظمه ، للوفاء به.

٢٤٣

(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ) التفات من التكلم للغيبة لتبكيت المشركين وتقبيح فعلهم.

المفردات اللغوية :

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) في الأمور كلها في الدين والدنيا ، فإنه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم ، فهو أرأف بهم وأعطف عليهم فيما دعاهم إليه مما دعتهم أنفسهم إليه إذ هو يدعو إلى النجاة وأنفسهم تدعوهم إلى الهلاك. (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أي منزّلات منزلة الأمهات في حرمة زواجهن واستحقاق التعظيم ، وفيما عدا ذلك فكالأجنبيات ، ولذلك قالت عائشة : لسنا أمهات النساء. (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) ذوو القرابات. (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) في التوارث من الإرث بالحلف والمؤاخاة ، وهو نسخ لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والموالاة في الدين. (فِي كِتابِ اللهِ) فيما فرض الله تعالى وشرع أو في اللوح المحفوظ. (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) بيان لأولي الأرحام ، أو صلة لأولي ، أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الدين ، والمهاجرين بحق الهجرة ، وبعبارة أخرى : الإرث بقرابة الرحم مقدم على الإرث بالإيمان والهجرة الذي كان أول الإسلام ، فنسخ. (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي كان المذكور في الآيتين ثابتا في اللوح المحفوظ ، أو في القرآن.

(وَإِذْ أَخَذْنا) أي واذكر. (مِيثاقَهُمْ) أي عهودهم بتبليغ الرسالة والدعوة إلى الدين القويم ، والميثاق : العهد المؤكد. (وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي بأن يعبدوا الله ، ويدعوا إلى عبادته ، وذكر هؤلاء الأنبياء الخمسة من عطف الخاص على العام ؛ لأنهم مشاهير أصحاب الشرائع وأولو العزم من الرسل. وقدم نبينا تعظيما له. (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) ميثاقا شديدا عظيم الشأن بالوفاء بواجب التبليغ لما أنزل إليهم من ربهم. وقيل : ميثاقا مؤكدا باليمين.

(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) أي فعلنا ذلك ليسأل الله يوم القيامة أولئك الأنبياء الصادقين الذين صدقوا عهدهم عن صدقهم في تبليغ الرسالة وعما قالوه لقومهم ، تبكيتا للكافرين برسالاتهم. (وَأَعَدَّ) تعالى ، معطوف على (أَخَذْنا) والمعنى : أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه ، لأجل إثابة المؤمنين ، وتبكيت الكافرين ، وأعد للكافرين بهم عذابا مؤلما.

المناسبة :

بعد أن أبطل الله تعالى حكم التبني الخاص وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس أبا لزيد بن حارثة ، أبان تعالى أن أبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عامة لكل الأمة ، وأزواجه بالنسبة للرجال في حكم حرمة الأمهات ، وهي أشرف من أبوة النسب ؛ لأنها إنقاذ أبدي من

٢٤٤

الهلاك ، قال مجاهد : كل نبي أبو أمته. ثم أردف ذلك بعلو منزلته وسمو مهمته وهو تبليغ دعوة الله ، وفاء بالميثاق (العهد المؤكد) الذي أخذه الله عليه وعلى سائر الأنبياء من قبله.

التفسير والبيان :

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي إن النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرأف بجماعة المؤمنين من أمته وأعطف عليهم من أنفسهم ؛ إذ هو يدعوهم إلى النجاة ، وأنفسهم تدعوهم إلى الهلاك ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا آخذ بحجزكم عن النار ، وأنتم تقتحمون فيها تقّحم الفراش» (١) ولأنه ينزّل لهم منزلة الأب ، فالنفس قد تأمر بالسوء ، وأما محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو لا يأمر إلا بالخير ولا ينطق إلا بالوحي.

فإذا كان زيد يعتز بدعوته لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنها تكسبه جاها كبيرا في الدنيا والآخرة ، فإن المؤمنين أصبحوا جميعا يعتزون بأبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم العامة لهم ، وقد نزلت الآية تسلية لزيد ، وبيانا للانتقال من الأبوة الخاصة لزيد إلى الأبوة العامة ، والرأفة الشاملة التي تعم المسلمين جميعا ، لا فرق فيها بين الابن الصلبي وغيره فهو يرعاهم حق الرعاية ويهديهم الطريق المستقيم.

وجعلت الولاية مطلقة لتشمل جميع الأمور الدينية والدنيوية.

وما دام محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى من النفس ، فهو أولى من جميع الناس بطريق الأولى ، وحكمه مقدّم على اختيارهم لأنفسهم ، ومحبته مقدمة أيضا على حب النفس التي بين الجنبين ، كما قال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء ٤ / ٦٥].

__________________

(١) نص الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة : «إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا ، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه ، وأنا أخذ بحجزكم وأنتم تقحّمون فيه». قال العلماء : الحجزة للسراويل ، والمعقد للإزار.

٢٤٥

وثبت في صحيح البخاري وغيره : «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين» وروى البخاري في صحيحة أيضا عن أبي هريرة قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة ، اقرؤوا إن شئتم : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فأيّما مؤمن ترك مالا ، فلترثه عصبته من كانوا ، ومن ترك دينا أو ضياعا ـ عيالا ـ فليأتني ، فأنا مولاه».

وفي الصحيح أيضا أن عمر رضي‌الله‌عنه قال : «يا رسول الله ، والله لأنت أحبّ إلي من كل شيء إلا من نفسي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا ، يا عمر ، حتى أكون أحبّ إليك من نفسك ، فقال : يا رسول الله ، والله لأنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الآن يا عمر».

ومبعث هذا ما علم الله تعالى من توافر شفقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمته ، ونصحه لهم ، فجعله أولى بهم من أنفسهم.

(وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أي إن أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منزلات منزلة الأمهات في الحرمة والاحترام ، أي في تحريم زواجهن بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستحقاق التكريم والتعظيم والتوقير ، وأما في غير ذلك فهن أجنبيات ، فلا يقال لبناتهم أخوات المؤمنين ، ولا يحرمن على المؤمنين ، ولا يحل النظر إليهن ولا الخلوة بهن ، ولا ارثهن ونحو ذلك.

وهذا بالنسبة للرجال ، فهم كأمهاتهم ، وأما النساء فلا يقال لهن عند البعض : أمهات المؤمنات ، لذا قالت عائشة رضي‌الله‌عنها لمن قالت لها : يا أمه : أنا أم رجالكم ، لا أم نسائكم. وسيأتي بيان الخلاف.

ويثبت هذا الوصف لجميع أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى المطلّقة ، لكن صحح إمام الحرمين وغيره قصر التحريم على المدخول بها فقط. واختار الرازي والغزالي

٢٤٦

القطع بحل المرأة التي اختارت الدنيا من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول آية التخيير الآتية.

ثم بيّن الله تعالى بقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) حكم الميراث ، وبقوله : (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ) حكم الوصية ، ليبين الفرق بين ولاية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمؤمنين ، وولاية المؤمنين لأقاربهم ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يورث ، فلا توارث بينه وبين أقاربه ، لولايته العامة ، والمؤمنون يرث بعضهم من بعض إذا كانوا ذوي قرابة ، وهم أولى ببعضهم في النفع بميراث وغيره ، إلا في حال بر صديق أو محتاج بالوصية ، فيصير أولى من قريبه ، فتقطع الوصية الإرث ، فقال :

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) أي وذوو القرابات مطلقا ، سواء أكانوا أصحاب فروض أم عصبات أم ذوي أرحام أولى بمنافع بعضهم بالتوارث وغيره من بقية المؤمنين المهاجرين والأنصار ، أي بحق الدين وهو الإيمان ، أو بحق الهجرة ، وذلك في فرض الله وشرعه وما كتبه على عباده ، أو في القرآن ، أو في اللوح المحفوظ.

وقوله : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) كما ذكر الزمخشري إما بيان راجع لأولي الأرحام (أي الأقرباء) والمعنى : وأولو القرابة من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى بنفع بعض أو بميراثه من الأجانب. وإما لابتداء الغاية ، والمعنى : وأولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية في الدّين ، ومن المهاجرين بحق الهجرة (١). وعلى هذا المعنى الثاني وهو المشهور تكون الآية إبطالا لما كان في بدء الإسلام من التوارث بالحلف والمؤاخاة بين المسلمين ، فكان المهاجري يرث الأنصاري ، دون قراباته وذوي رحمه ، بسبب الأخوّة التي آخى بينهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد آخى بين أبي بكر رضي‌الله‌عنه وخارجة بن زيد ، وآخى

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٥٣١

٢٤٧

بين عمر وشخص آخر ، وآخى بين عثمان ورجل من بني زريق ، وآخى بين الزبير وكعب بن مالك (١).

ويؤكد هذا المعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الشيخان عن ابن عباس : «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» والمراد : بطل حكم الهجرة وزالت الأحكام المترتبة عليها كالتوارث بها.

(إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) أي ذهب الميراث بالتآخي ، وبقي حكم الوصية والنصر والبر والصلة والإحسان ، أي إلا أن توصوا إلى أصدقائكم الذين توالونهم وتودونهم من المؤمنين والمهاجرين وصية ، والمعروف هنا : الوصية ، ومن المعلوم أن الدّين والوصية مقدّمان شرعا على الميراث ، كما قال تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) [النساء ٤ / ١١].

ومعنى الآية : إن أوصيتم فغير الوارثين أولى ، وإن لم توصوا فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم.

(كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي إن هذا الحكم (وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض) حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الأول الذي لا يبدّل ولا يغير ، وإن كان تعالى قد شرع خلافه في وقت ما ، لمصلحة مؤقتة ، وحكمة بالغة ، وهو يعلم أنه سيغيره إلى ما هو جار في قدره الأزلي ، وقضائه القدري التشريعي.

وبعد بيان مكانة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المؤمنين ، أبان الله تعالى سمو مهمته وعلو منزلته في تبليغ الشرائع ، والدعوة إلى دين الله ورسالة ربه ، ووفائه بتلك المهمة ، عملا بمقتضى ميثاق النبيين في أنهم يبلغون رسالات الله ، وكأنه تعالى من بداية السورة إلى هنا قال لنبيه تعليما للأمة ، اتق الله ، ولا تخف أحدا ، واذكر

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ٤٦٨

٢٤٨

أن الله أخذ ميثاق النبيين في أنهم يبلغون شرائع الله ، ولا يمنعهم من ذلك خوف ولا طمع ، فقال :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أي واذكر أيها الرسول أننا أخذنا العهد المؤكد على جميع الأنبياء ولا سيما أولو العزم منهم وهم الخمسة المذكورون في الآية في أنهم يبلغون رسالة الله إلى أقوامهم ، ويقيمون دين الله تعالى ، ويتناصرون ويتعاونون فيما بينهم بإكمال بعضهم رسالة من تقدمه ، كما قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ ، مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ، قالَ : أَأَقْرَرْتُمْ ، وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟ قالُوا : أَقْرَرْنا ، قالَ : فَاشْهَدُوا ، وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران ٣ / ٨١] أي أخذ عليهم أن يعلنوا أن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويعلن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا نبي بعده.

ثم أكد الله تعالى ذلك الميثاق بعينه ، فوصفه بالشدة والغلظ مبالغة في حرمته وعظمته وثقل تبعته (مسئوليته) والمعنى : وأخذنا منهم بذلك الميثاق ميثاقا غليظا ، فالميثاق الثاني هو الأول مؤكدا باليمين ، أو مكررا لبيان صفته ، من طريق استعارة الغلظ من صفة الأجسام المادية إلى الأشياء المعنوية ، مبالغة في بيان حرمته وعظمه وخطورته ، كما بينت.

وقد خص الله تعالى بالذكر خمسة رسل هم أولو العزم ، تنويها بشأنهم ، وتبيان أهمية رسالاتهم ، من باب عطف الخاص على العام ، كما في آية أخرى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ، وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى ٤٢ / ١٣].

ثم ذكر الله تعالى أنه سائل الأنبياء عن التبليغ والمؤمنين عن الإجابة والمكذبين عن التكذيب ، فقال :

٢٤٩

(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ، وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) اللام في (لِيَسْئَلَ) قيل : إنها لام الصيرورة ، أي أخذ الميثاق على الأنبياء ، ليصير الأمر إلى السؤال عما فعلوا ، كما قال تعالى : (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف ٧ / ٦]. قال الرازي : يعني أرسل الرسل ، وعاقبة المكلفين إما حساب وإما عذاب ؛ لأن الصادق محاسب ، والكافر معذب (١). والظاهر ـ كما قال أبو حيان ـ أنها لام التعليل ، لام كي ، أي بعثنا الرسل ، وأخذنا عليهم المواثيق في التبليغ ، لكي يجعل الله خلقه فرقتين : فرقة يسألها عن صدقها ، على معنى إقامة الحجة ، فتجيب بأنها قد صدقت الله في إيمانها وجميع أفعالها ، فيثيبها على ذلك ؛ وفرقة كفرت ، فينالها ما أعد لها من العذاب ، فالصادقون المسؤولون على هذا المعنى : هم المؤمنون ، والهاء في (صِدْقِهِمْ) عائدة عليهم ، ويجوز أن يراد : وليسأل الأنبياء ، أو ليسأل عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم أو ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم ، وفي هذا تنبيه : أي إذا كان الأنبياء يسألون فكيف بمن سواهم؟ (٢) أو ليسأل المبلّغين الذين بلغتهم الرسل. وعلى هذا ، يكون المعنى : وأخذنا من الأنبياء ميثاقهم في تبليغ الدعوة إلى دين الله ، لكي نسأل المرسلين عن قيامهم بواجب التبليغ ، ومعرفة ما أجابتهم به أممهم ، ولأجل إثابة المؤمنين على إيمانهم وصدقهم ، وعقاب الكافرين من أممهم المكذبين رسلهم الذين أعد الله لهم عذابا شديدا مؤلما موجعا هو عذاب جهنم. فقوله تعالى : (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ) معطوف على قوله : (أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ).

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٥ / ١٩٧

(٢) البحر المحيط : ٧ / ٢١٣

٢٥٠

١ ـ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرأف وأعطف وأشفق على المؤمنين من أنفسهم ؛ لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك ، وهو يدعوهم إلى النجاة.

٢ ـ آية (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أزال الله تعالى بها أحكاما كانت في صدر الإسلام ؛ منها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يصلّي على ميّت عليه دين ، فلما فتح الله عليه الفتوح قال كما جاء في الصحيحين : «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فمن توفّي وعليه دين فعليّ قضاؤه ، ومن ترك مالا فلورثته». وفي الصحيحين أيضا «فأيكم ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه» والضياع : مصدر ضاع ، ثم جعل اسما لكل ما يتعرض للضياع من عيال وبنين لا كافل لهم ، ومال لا قيّم له. وسميت الأرض ضيعة ؛ لأنها معرضة للضياع ، وتجمع ضياعا.

قال بعض العلماء : يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فإنه قد صرح بوجوب ذلك عليه ، حيث قال : «فعلي قضاؤه».

٣ ـ جعلت أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمهات المؤمنين في وجوب التعظيم والبرّ والإجلال ، وحرمة النكاح على الرجال ، وتحريم النظر إليهن ، وحجبهن عن الرجال ، بخلاف الأمهات. وهذه الأمومة لا توجب ميراثا كأمومة التبني ، وجاز تزويج بناتهن ، ولا يجعلن أخوات للناس ، ولا أخوالهن أخوال المؤمنين وخالاتهم ، فقد تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر الصديق ، وهي أخت عائشة ، ولم يقل : هي خالة المؤمنين. ولا يقال لمعاوية وأمثاله خال المؤمنين.

وهن في قول أمهات الرجال خاصة ، لا أمهات الرجال والنساء ، عن عائشة رضي‌الله‌عنها أن امرأة قالت لها : يا أمّه ؛ فقالت لها : لست لك بأمّ ، إنما أنا أمّ رجالكم. قال ابن العربي : وهو الصحيح (١).

__________________

(١) أحكام القرآن : ٣ / ١٤٩٧

٢٥١

وقال القرطبي : لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء ، والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء ؛ تعظيما لحقّهن على الرجال والنساء. يدل عليه صدر الآية : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة ؛ فيكون قوله : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) عائدا إلى الجميع (١).

٤ ـ قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) ناسخ للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين ، وللتوارث بالهجرة ؛ لأن المراد بأولي الأرحام ذوي القرابة مطلقا أيا كان نوعهم ، والمراد بالمؤمنين الأنصار ، وبالمهاجرين قريشا ، وقد فسر الإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه الآية بذلك ، وتبعه في هذا أبو بكر الرازي الجصاص من الحنفية. إلا أن الجصاص يرى فيها دليلا للحنفية على توريث ذوي الأرحام ، لا من حيث إن الآية قد أريد منها هذا النوع الخاص من الوارثين ، بل من حيث إن الآية اقتضت أن ذا القرابة مطلقا أولى من غيره ، وأما تقديم بعض ذوي القرابة على بعض ، فهذا له أدلته الخاصة.

ويقتضي ذلك أن يكون ذو الرحم (هو الصنف الذي يدلي إلى الميت بواسطة الأنثى) أولى من بيت المال ، فتكون الآية حجة على من قدم بيت المال عليهم.

وظاهر الآية يدل على أن ذا الرحم أولى من مولى العتاقة ، ويرى بعضهم أن مولى العتاقة مقدم على ذوي الأرحام ، وهو أولى من الرد ؛ لأنه من العصبات ، والعصبات أولى بالميراث من غيرهم ، وقد روي أن ابنة حمزة أعتقت عبدا ، ومات وترك بنتا ، فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصف ميراثه لابنته ونصفه لابنة حمزة. ونوقش

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٤ / ١٢٣

٢٥٢

هذا بأنه لم يقل لنا الرواة : هل كان للميت ذو رحم ، حتى يتم الدليل. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر : «الولاء لحمة كلحمة النسب» ونوقش هذا أيضا بأن التشبيه يقتضي مطلق الاستحقاق ، ولكنه لا يدل على تقديمه على غيره.

٥ ـ قال قوم : لا يجوز أن يسمّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا ؛ لقوله تعالى : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) ولكن يقال : مثل الأب للمؤمنين ؛ كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أبو داود : «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلّمكم». وقال القرطبي : والصحيح أنه يجوز أن يقال : إنه أب للمؤمنين ، أي في الحرمة لا في النسب ، وأما قوله تعالى : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) فهو في النسب. وقرأ ابن عباس : «من أنفسهم ، وهو أب لهم ، وأزواجه أمهاتهم» وهي في مصحف أبيّ.

٦ ـ لا مانع من الإحسان لغير الوارثين في الحياة ، والوصية عند الموت لهم ؛ لقوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) أي إن ذلك جائز.

وقال محمد بن الحنفية : «إنها نزلت في جواز وصية المسلم لليهودي والنصراني» (١) أي أنه تجوز الوصية للقريب والوليّ وإن كان كافرا ؛ لأن الكافر ولي في النسب لا في الدين ، فيوصى له بوصية. ويكون معنى الآية : وأولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى بميراث بعض ، إلا إذا كان لكم أولياء من غيرهم ، فيجوز أن توصوا إليهم.

٧ ـ رسالات الأنبياء في الأصول العامة كأصول الاعتقاد والأخلاق واحدة ، وهم متناصرون متعاونون فيما بينهم ، ويكمّل بعضهم رسالة البعض الآخر ؛ لقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ ...) الآية ، أي أخذنا عهدهم على الوفاء بما أوحي إليهم ، وأن يبشر بعضهم ببعض ، ويصدّق بعضهم بعضا ، وذلك

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٣٥٥

٢٥٣

حكم قديم مسطور حين كتب الله ما هو كائن ، وحين أخذ الله تعالى المواثيق من الأنبياء ، وهو عهد وثيق عظيم على الوفاء بما التزموا من تبليغ الرسالة ، وأن يصدق بعضهم بعضا.

وقد خص الله تعالى خمسة أنبياء بالذكر (وهم محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى). تفضيلا لهم ؛ لأنهم أولو العزم من الرسل وأئمة الأمم ، ولأنهم أصحاب الشرائع والكتب. وقدّم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الذكر ؛ لما رواه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ ...) فقال : «كنت أولهم في الخلق ، وآخرهم في البعث ، فبدأ بي قبلهم» (١).

٨ ـ قوله تعالى : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) فيه أربعة أوجه (٢) :

أحدها ـ ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم ، وفي هذا تنبيه ؛ أي إذا كان الأنبياء يسألون ، فكيف من سواهم؟

الثاني ـ ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم.

الثالث ـ ليسأل الأنبياء عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم.

الرابع ـ ليسأل الأفواه الصادقة عن القلوب المخلصة ، كما قال تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ، وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف ٧ / ٦].

وفائدة سؤال الأنبياء : توبيخ الكفار ، كما قال تعالى لعيسى عليه‌السلام : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) [المائدة ٥ / ١١٦].

__________________

(١) لكن فيه راو ضعيف.

(٢) تفسير القرطبي : ١٤ / ١٢٨

٢٥٤

غزوة الأحزاب أو الخندق وبني قريظة

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ

٢٥٥

فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧))

الإعراب :

(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ) (١٠) (إِذْ) : في موضع نصب على البدل من (إِذْ) في قوله تعالى : (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) و (إِذْ) هذه منصوبة ب (اذْكُرُوا).

(وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) (١٠) يقرأ (الظُّنُونَا) بإثبات الألف ، لأنها فاصلة ، وفواصل الآيات تشبه رؤوس الأبيات. ويقرأ بترك الألف على الأصل.

(وَإِذْ يَقُولُ) و (إِذْ قالَتْ) (١٢ ، ١٣) : (إِذْ) فيهما منصوب بفعل مقدر ، أي اذكر.

(وَيَسْتَأْذِنُ) (١٣) الواو : واو الحال ، والجملة بعدها في موضع نصب على الحال من الطائفة المرفوعة ب (قالَتْ). وقال بعضهم : تم الكلام عند قوله : (فَارْجِعُوا) وليست الواو واو الحال.

٢٥٦

و (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) أي ذات عورة ، فحذف المضاف.

(عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ ، لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) (١٥) (عاهَدُوا اللهَ) : بمنزلة القسم ، و (لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) : جوابه.

(أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) (١٩) : إما منصوب على الحال من واو (يَأْتُونَ) أو منصوب على الذم.

(يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ، تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ ، كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) (١٩) : (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) : جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الهاء والميم في (رَأَيْتَهُمْ) من رؤية العين. و (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) : إما حال من واو (يَنْظُرُونَ) أو حال بعد حال. و (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) تقديره : تدور أعينهم دورانا كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت ، فحذف المصدر وهو «دورانا» وما أضيفت الكاف إليه وهو دوران ، وما أضيف «دوران» إليه وهو «عين» وأقيم «الذي» مقام «عين» وإنما وجب هذا التقدير ليستقيم معنى الكلام ؛ لأن تشبيه الدوران بالذي يغشى عليه تشبيه العرض بالجسم ، والأعراض لا تشبه بالأجسام ، و (مِنَ الْمَوْتِ) أي من حذر الموت.

(أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) (١٩) : (أَشِحَّةً) : منصوب على الحال من واو (سَلَقُوكُمْ) وهو عامله.

(بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) (٢٠) : الجار والمجرور إما مرفوع على أنه خبر بعد خبر ، أي كائنون في جملة الأعراب ، وإما منصوب على الحال من ضمير (بادُونَ).

(لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ) (٢١) : الجار والمجرور بدل من لكم أو في موضع رفع ؛ لأنه صفة بعد صفة ل (أُسْوَةٌ) أي أسوة حسنة كائنة لمن كان. ولا يتعلق ب (أُسْوَةٌ) إذا جعل مصدرا بمعنى التأسي ؛ لأنها وصفت والمصدر إذا وصف لم يعمل.

(وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً) (٢٢) أي ما زادتهم الرؤية إلا إيمانا ، وإنما جعل الفعل (زادَهُمْ) بالتذكير ؛ لأن الرؤية بمعنى النظر.

(ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) (٢٣) : (ما) هنا : مصدرية ، في موضع نصب ب (صَدَقُوا) أي صدقوا الله في العهد ، أي وفّوا به.

البلاغة :

(مِنْ فَوْقِكُمْ) و (أَسْفَلَ مِنْكُمْ) بينهما طباق.

(تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) تشبيه تمثيلي ؛ لأن وجه الشبه منتزع من

٢٥٧

(وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) مبالغة في التمثيل ، صور القلوب في خفقانها واضطرابها ، كأنها وصلت إلى الحلقوم.

(لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) كناية عن الفرار من الزحف.

(سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) استعارة مكنية ، شبه اللسان بالسيف المصلت ، وحذف المشبه به ، ورمز له بشيء من لوازمه وهو السلق أي الضرب ، بطريق هذه الاستعارة ، و (حِدادٍ) ترشيح.

(مَسْطُوراً بَصِيراً غُرُوراً فِراراً يَسِيراً كَثِيراً) توافق الفواصل في الحرف الأخير.

(هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) إطناب بتكرار اسم الله والرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم للتعظيم والتشريف.

(قَضى نَحْبَهُ) استعارة ، أستعير النحب وهو النّذر للموت نهاية كل حي ؛ كأنه نذر لازم في رقبة كل إنسان.

(وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) قوله : (إِنْ شاءَ) اعتراض للدلالة على أن العذاب أو الرحمة بمشيئة الله تعالى.

المفردات اللغوية :

(إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) يعني الأحزاب وهم قريش بقيادة أبي سفيان ، وغطفان بقيادة عيينة بن حصن ، وبنو أسد بإمرة طليحة ، وبنو عامر بزعامة عامر بن الطّفيل ، وبنو سليم يقودهم أبو الأعور السلمي ، وبنو النّضير من اليهود برئاسة حييّ بن أخطب وأبناء أبي الحقيق ، وبنو قريظة من اليهود أيضا وسيدهم كعب بن أسد ، وقد نقض هؤلاء اليهود عهدهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتواطؤوا مع قريش. وبلغ مجموع الأحزاب عشرة آلاف ، أو زهاء اثني عشر ألفا.

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) ريح الصبا (وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) هم الملائكة (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من حفر الخندق ، وعلى قراءة : يعملون تحزيب المشركين ومحاربتهم (بَصِيراً) رائيا مطلعا تمام الاطلاع (مِنْ فَوْقِكُمْ) أي من أعلى الوادي ، من جهة المشرق (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) من أسفل الوادي من جهة المغرب (زاغَتِ الْأَبْصارُ) مالت عن مستوى نظرها ، فلم تلتفت إلا إلى عدوها حيرة ودهشة (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) المراد أنها فزعت فزعا شديدا ، والحناجر : جمع حنجرة : وهي منتهى الحلقوم وهو مدخل الطعام والشراب والتنفس ، وتصوير ذلك : أن الرئة تنتفخ من شدة الرعب ، فترتفع بارتفاعها إلى رأس الحنجرة (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) أي تظنون مختلف الظنون من نصر ويأس ، فالمؤمنون المخلصون خافوا الزلل وضعف الاحتمال ، والمنافقون

٢٥٨

ومرضى القلوب كذبوا بوعد الله ، وتشككوا فيه ، وأعلنوا بطلانه.

(ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) اختبروا وامتحنوا ، فظهر المخلص من المنافق والثابت من المتزلزل (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) اضطربوا كثيرا من شدة الفزع وكثرة العدو (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ضعف اعتقاد ، وهم قوم كان المنافقون يستميلونهم بالإغراءات وزرع الشّبه في قلوبهم ، لحداثة عهدهم بالإسلام (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) بالنصر أو الظفر وإعلاء دينه (إِلَّا غُرُوراً) إلا وعدا باطلا لا حقيقة له ، أو خداعا.

(طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي المنافقين (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) أهل المدينة ممنوع من الصرف للعلمية ووزن الفعل (لا مُقامَ لَكُمْ) أي لا إقامة ولا مكانة لكم هاهنا (فَارْجِعُوا) إلى منازلكم في المدينة هاربين ، وذلك بعد أن خرجوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى «سلع» : جبل خارج المدينة للقتال (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ) في الرجوع (يَقُولُونَ : إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) قاصية غير حصينة ، يخشى عليها الاقتحام من الأعداء (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) بل هي حصينة (إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) أي ما يريدون إلا هروبا من القتال مع المؤمنين.

(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ) المدينة (مِنْ أَقْطارِها) نواحيها وجوانبها (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) طلب منهم الداخلون الشرك والردة ، ومقاتلة المسلمين (لَآتَوْها) لأعطوها وفعلوها ، وقرئ : لأتوها أي لجاؤوها (وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) ما أخّروها ، أو ما أخروا إعطاء الفتنة إلا لوقت يسير (لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) المراد لا ينهزمون ولا يفرون من الزحف. والأدبار : جمع دبر وهو ما قابل القبل ، ويطلق على الظهر (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) عن الوفاء به ، ومجازي عليه. وهم بنو حارثة عاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد حين فشلوا ، ثم تابوا ألا يعودوا لمثله.

(وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ) إذا فررتم لا تتمتعون في الدنيا بعد فراركم (إِلَّا قَلِيلاً) أي لم يكن ذلك التمتيع إلا تمتيعا أو زمانا قليلا (يَعْصِمُكُمْ) يمنعكم أو يجيركم (إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) هلاكا وهزيمة (أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) فيه محذوف أي : أو يصيبكم بسوء إن أراد الله بكم خيرا ، فقد يكون المصاب خيرا (مِنْ دُونِ اللهِ) غيره (وَلِيًّا) مواليا ينفعهم (وَلا نَصِيراً) ناصرا يدفع الضر عنهم.

(الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) المثبّطين منكم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم المنافقون (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ) من ساكني المدينة (هَلُمَّ إِلَيْنا) تعالوا ، وأقبلوا إلينا ، أو قرّبوا أنفسكم إلينا (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) أي لا يأتون الحرب والقتال إلا إتيانا أو زمانا قليلا ، رياء وسمعة أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) بخلاء عليكم بما ينفعكم بالمعاونة أو النفقة في سبيل الله ، جمع شحيح (عَلَى الْخَيْرِ) حريصين على مال الغنائم ، يطلبونها (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) تدير أعينهم أحداقهم (الَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي كنظر أو دوران عين المغشي عليه من سكرات الموت خوفا (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ) زالت حالة الخوف وحيزت الغنائم (سَلَقُوكُمْ) آذوكم بالكلام ورموكم (بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) أي ألسنة ذربة سليطة قاطعة

٢٥٩

كالحديد يطلبون الغنيمة (لَمْ يُؤْمِنُوا) حقيقة (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) أبطل ثمرة أعمالهم (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي وكان ذلك الإحباط هينا سهلا على إرادة الله ، فإذا أراد شيئا كان ، ولم يمنعه عنه أحد. (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ) من الكفار (لَمْ يَذْهَبُوا) إلى مكة ، لخوفهم منهم ، المعنى : يظنون أن الأحزاب لم ينهزموا ، وقد انهزموا ، ففروا إلى داخل المدينة (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) كرة أخرى (يَوَدُّوا) يتمنوا (بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) كائنون معهم في البادية (يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) أخباركم مع الكفار ، وما جرى عليكم (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ) هذه الكرة ولم يرجعوا إلى المدينة (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) أي ما كان قتالهم إلا قتالا ظاهريا قليلا ، رياء وخوفا من التعيير.

(أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) قدوة صالحة ، يتأسى به ، كالثبات في الحرب ومقاساة الشدائد (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي يرجو ثواب الله أو لقاءه ، ونعيم الآخرة (وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) قرن بالرجاء كثرة ذكر الله المؤدية إلى ملازمة الطاعة ، فإن المؤتسي بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم من كان كذلك ، بخلاف غيره.

(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) من الكفار الذين تجمعوا لحرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقضاء عليه (قالُوا : هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) من الابتلاء والنصر ، بقوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ ..) [البقرة ٢ / ٢١٤] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنهم سائرون إليكم بعد تسع أو عشر» «سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم ، والعاقبة لكم عليهم». (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) في الوعد والابتلاء (وَما زادَهُمْ) ذلك الذي رأوه من الخطب أو البلاء (إِلَّا إِيماناً) تصديقا بوعد الله (وَتَسْلِيماً) لأمره ومقاديره.

(صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) من الثبات مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمقاتلة لإعلاء الدين (قَضى نَحْبَهُ) مات أو قتل في سبيل الله شهيدا ، ووفّى نذره ، كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر ، والنحب : النذر ، فجعل كناية عن الموت (مَنْ يَنْتَظِرُ) الشهادة ، كعثمان وطلحة (وَما بَدَّلُوا) العهد ولا غيروه ، بخلاف حال المنافقين (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ ، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) تعليل للمنطوق وهم المؤمنون المخلصون ، وللمعرّض به وهم المنافقون ، فكأن المنافقين قصدوا بالتبديل عاقبة السوء ، كما قصد المخلصون بالثبات والوفاء العاقبة الحسنى ، لكن التوبة عليهم مشروطة بتوبتهم ، والمراد به التوفيق للتوبة (غَفُوراً رَحِيماً) لمن تاب.

(وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) الأحزاب (بِغَيْظِهِمْ) متغيظين (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) غير ظافرين (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) بالريح والملائكة (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا) على إيجاد ما يريد (عَزِيزاً) غالبا على كل شيء (ظاهَرُوهُمْ) ظاهروا الأحزاب أي عاونوهم (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني من بني قريظة (مِنْ صَياصِيهِمْ) من حصونهم ، جمع صيصة وهي كل ما يتحصن به

٢٦٠