التفسير المنير - ج ٢١

الدكتور وهبة الزحيلي

ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ) أي أولم يتبين لهؤلاء المكذبين بالرسل كثرة من أهلكنا من الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم إياهم ، وهؤلاء المكذبون يمرون أثناء أسفارهم في مساكن وديار أولئك المكذبين ، ويشاهدون آثار تدميرهم كعاد وثمود وقوم لوط ، لم تبق منهم باقية ولا أثر ، كقوله تعالى : (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) [مريم ١٩ / ٩٨] وقوله : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) [هود ١١ / ٦٨] وقوله : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) [النمل ٢٧ / ٥٢] وقوله : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ ، فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ، وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) [الحج ٢٢ / ٤٥].

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ)؟ أي إن في تدمير أولئك القوم بسبب تكذيبهم الرسل ، ونجاة من آمن بهم لدلائل على قدرتنا ، وعبرا وعظات يعتبرون ويتعظون بها ، فهلا يسمعون عظاتنا ، ويتذكرون تذكيرنا لهم ، سماع تدبر واتعاظ وتفكر؟ والخلاصة : أن مساكن المهلكين دالة على حالهم.

وبعد بيان القدرة على الإهلاك ، بيّن الله تعالى القدرة على الإحياء ، فقال :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ ، فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ ، أَفَلا يُبْصِرُونَ) أي أولم يشاهد هؤلاء المكذبون بالبعث أننا قادرون على الإحياء ، فنسوق الماء من السماء أو السيول إلى الأرض اليابسة التي لا نبات فيها ، فنخرج به زرعا أخضر تأكل منه أنعامهم من التبن والشعير والحشيش ، وتتغذى منه أجسامهم ، وتتقوى به أبدانهم ، أفلا يبصرون هذا بأعينهم ، فيعلموا أننا قادرون على الإعادة بعد الموت ، كإحياء الأرض بعد موتها؟

ثم ذكر تعالى تساؤل المشركين عن يوم البعث والحشر ، فقال :

(وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويتساءل هؤلاء

٢٢١

الكفار عن ميعاد وقوع بأس الله وعذابه بهم استبعادا وتكذيبا وعنادا ، قائلين : متى تنتصر علينا يا محمد ، ومتى ينتقم الله لك منا ، وأنت وصحبك ما نراكم إلا مختفين خائفين ذليلين؟ إن كنتم صادقين في تهديدكم ووعيدكم على الكفر وعبادة الأوثان.

فأجابهم الله تعالى موبخا لهم :

(قُلْ : يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ ، وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المكذبين برسالتك : إن يوم الحكم الفاصل والقضاء والفصل النافذ هو يوم القيامة الذي لا ينفع فيه إيمان الكافر ولا توبته ، ولا هم يؤخرون فيه بالإعادة إلى الدنيا للتوبة والإيمان وإصلاح العمل ؛ لأن الإيمان المقبول هو الذي يكون في دار الدنيا ، فلا تستعجلوه ، فهو كائن حتما.

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) أي أعرض أيها الرسول عن هؤلاء المشركين ، ولا تبال بتكذيبهم ، وتابع تبليغ ما أنزل إليك من ربك ، وانتظر النصر من الله الذي وعدك به ، فإن الله سينجز لك ما وعدك ، وسينصرك على من خالفك ، إنه لا يخلف الميعاد.

إنك أنت منتظر نصر الله ، وهم منتظرون الغلبة عليك والموت أو القتل ، كما قال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ : شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور ٥٢ / ٣٠] وسترى أنت عاقبة صبرك عليهم وعلى أداء رسالة ربك ، وسيجدون سوء ما ينتظرونه فيك من عقاب الله بهم وتعذيبه إياهم في الدنيا والآخرة ، وما علموا أن الله عاصمك منهم ومؤيدك بنصره.

٢٢٢

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن إهلاك الأمم الظالمة العاتية دليل على قدرة الله ووحدانيته ، وفي ذلك عبرة للمعتبر ، والمشركون الذين يشاهدون آثار الدمار والهلاك ، لا يسمعون آيات الله وعظاته فيتعظون ، إذ ليس لهم درجة المتعلم الذي يسمع الشيء ويفهمه ، ولا قوة الإدراك بأنفسهم والاستنباط بعقولهم.

٢ ـ إن سوق الماء بقدرة الله إلى الأرض اليابسة التي لا نبات فيها لإحيائها بالنبات الأخضر والزرع النضر دليل آخر على قدرة الله على الإحياء وإعادة البشر لحياة البعث والنشور ، ولكن الكفار لا يتأملون هذا بعين البصيرة ولا يبصرون هذا بحق ، فيعلمون أن الله قادر على الحشر وعلى إعادتهم إلى الحياة يوم القيامة.

وفي هذين الدليلين من الإهلاك والإماتة ، والأحياء والاعادة إشارة إلى أن الضر والنفع بيد الله تعالى.

٣ ـ إن حماقة المشركين دفعتهم إلى استعجال العذاب والعقاب يوم القيامة. ويروى أن المؤمنين قالوا : سيحكم الله عزوجل بيننا يوم القيامة ، فيثيب المحسن ويعاقب المسيء ، فقال الكفار على سبيل الاستهزاء والسخرية : متى يوم الفتح ، أي هذا الحكم؟

٤ ـ كان الرد الحاسم على هؤلاء الحمقى أن يوم الفتح والحكم والفصل بين المؤمنين والكفار كائن حتما لا شك فيه ولا بد منه ، ولكن لا ينفع فيه الإيمان حينئذ ؛ لأن الإيمان المقبول هو الذي يكون في دار الدنيا ، وكذلك لا يؤخرون بالإعادة للدنيا ، ولا يمهلون للتوبة.

٥ ـ النتيجة المطلوبة أن الإعراض عن المكذبين بالقرآن والرسول بعد

٢٢٣

البيانات المتكررة والبراهين المتلاحقة هو الواجب ، ولينتظر نبي الله والمؤمنون يوم الفتح وحكم الله عليهم ، وتحقيق النصر ، ولن يفيد الكفار المكذبين انتظار حوادث الزمان بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه ، فإن الله عاصمه من الناس ، وناصر جنده المؤمنين ، والشعار حينئذ : انتظر عذابهم ، إنهم منتظرون هلاكك؟! وهم هالكون لا محالة.

٢٢٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الأحزاب

مدنية ، وهي ثلاث وسبعون آية.

تسميتها :

سميت سورة الأحزاب لاشتمال الكلام فيها على وقعة الخندق أو الأحزاب الذين تجمعوا حول المدينة ، من مشركي قريش وغطفان ، بالتواطؤ مع المنافقين ويهود بني قريظة ، لحرب المسلمين ومحاولة استئصالهم ، كما سميت (الفاضحة) لأنها افتضحت المنافقين ، وأبانت شدة إيذائهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أزواجه وتألبهم عليه في تلك الموقعة.

مناسبتها لما قبلها :

تظهر صلة هذه السورة بسورة السجدة التي قبلها في وجوه التشابه بين مطلع هذه وخاتمة تلك ، فإن السورة السابقة ختمت بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عن الكافرين ، وانتظار عذابهم ، وهذه بدئت بأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتقوى ، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين ، واتباع ما أوحي إليه من ربه ، والتوكل عليه.

موضوعها :

موضوع هذه السورة كسائر موضوعات السور المدنية ، التي تهتم بالجانب التشريعي للأمة ، ولا سيما تنظيم الأسرة النبوية ، وإبطال بعض عادات الجاهلية كالتبني والظهار واعتقاد وجود قلبين للإنسان ، وعدم إيجاب العدّة على المطلقة

٢٢٥

قبل الدخول ، وفرض الحجاب على نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونساء المؤمنين ، وبيان خطورة أمانة التكليف.

مشتملاتها :

اشتملت هذه السورة على بعض الآداب الاجتماعية ، والأحكام التشريعية وأخبار في السيرة عن غزوتي الأحزاب وبني قريظة وعن المنافقين.

أما الآداب الاجتماعية : فأهمها آداب الدعوة إلى الولائم ، والحجاب وعدم التبرج ، وتعظيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيته ومع الناس ، والقول السديد.

وأما الأحكام الشرعية فكثيرة : منها الأمر بتقوى الله وعدم طاعة الكافرين والمنافقين ، ووجوب اتباع الوحي ، وحكم الظهار ، وإبطال عادة التبني وعادة التوريث بالحلف أو الهجرة ، وجعل الرحم والقرابة أساس الميراث ، وتعداد المحارم وعدد زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفرض الحجاب الشرعي وتطهير المجتمع من مظاهر التبرج الجاهلية ، وعدم إلزام المطلقة قبل الدخول بالعدة ، وتخيير نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الفراق والبقاء معه ، وتخصيص زوجاته بمضاعفة الأجر والثواب عند الطاعة ، ومضاعفة العذاب عند المعصية ، وتحريم إيذاء الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، وخطورة أمانة التكليف ، وعقاب المسيء وإثابة المحسن.

وأما أخبار السيرة : ففي السورة بيان توضيحي عن (غزوة الأحزاب) أو (غزوة الخندق) وغزوة بني قريظة ، ونقضهم العهد مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكشف فضائح المنافقين والتحذير من مكائدهم ، وتهديدهم مع المرجفين في المدينة على جرائمهم بالطرد والتعذيب ، وتذكير المؤمنين بنعم الله العظمى التي أنعم بها عليهم في وقعة الخندق بعد اشتداد الخطب عليهم ، ورد كيد أعدائهم بالملائكة والريح ، حتى صار ذلك معجزة خارقة للعادة ، وبيان قصة زيد بن حارثة مولى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وزينب بنت جحش زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٢٦

الأمر بتقوى الله واتباع الوحي والتوكل على الله

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣))

البلاغة :

(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ، وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) بينهما جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) أي دم على تقواه ، وليتق الله المؤمنون ، بأسلوب يقصد به تنبيه بالأعلى وهو النبي على الأدنى وهم المؤمنون ، فإنه تعالى إذا أمر رسوله بالتقوى ، كان المؤمنون مأمورين بها بطريق الأولى أو أنه أمر قصد به الثبات والاستدامة على التقوى. (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) فيما يخالف شريعتك وأوامر ربك. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أي إن الله كان وما يزال عالما بكل شيء قبل وجوده ، حكيما فيما يخلقه. (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي القرآن. (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) وكل أمرك إلى تدبيره. (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) حافظا لك ، موكولا إليه كل الأمور ، والأمة تبع له في المذكور كله.

سبب النزول :

أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : إن أهل مكة ، ومنهم الوليد بن المغيرة ، وشيبة بن ربيعة دعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرجع عن قوله ، على أن يعطوه شطر أموالهم ، وخوّفه المنافقون واليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه ، فنزلت الآيات.

٢٢٧

وذكر الواحدي في أسباب النزول : أن الآيات نزلت في أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور السّلمي قدموا المدينة بعد قتال أحد ، فنزلوا على عبد الله بن أبيّ (زعيم المنافقين) وقد أعطاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأمان على أن يكلموه ، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق ، فقالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعنده عمر بن الخطاب : ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزّى ومناة ، وقل : إن لها شفاعة ومنفعة لمن عبدها وندعك وربّك ، فشقّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قولهم ، فقال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : ائذن لنا يا رسول الله في قتلهم ، فقال : «إني قد أعطيتهم الأمان» فقال عمر : اخرجوا في لعنة الله وغضبه ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخرجهم من المدينة ، فأنزل الله عزوجل هذه الآية.

التفسير والبيان :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ ، إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أي يا أيها الرسول محمد ، داوم على تقوى الله وخف عقابه بإطاعة أوامره واجتناب محارمه ، ولا تسمع من الكافرين والمنافقين ولا تستشرهم في شيء ، واحترس منهم ، ولا تستجب لمطالبهم بتخصيص بعض المجالس والأوقات لهم وطرد الضعفاء ، إن الله عليم بعواقب الأمور ، حكيم في أقواله وأفعاله ، فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه ، فإن أولئك الكفار أعداؤك الذين يريدون هلاكك.

وقوله : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) نهي مؤكد لمضمون الأمر السابق ، أي اتق الله تقوى تمنعك من طاعتهم.

روي أنه لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، تابعه ناس من اليهود نفاقا ، وكان يلين لهم جانبه ، ويظهرون له النصح خداعا ؛ فحذره الله منهم ، ونبهه إلى عداوتهم.

وقال طلق بن حبيب : التقوى : أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ،

٢٢٨

ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله ، على نور من الله مخافة عذاب الله.

ثم أكد الله تعالى وجوب امتثال أوامر الله ، فقال :

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي اعمل بمقتضى الوحي المنزل إليك من ربك من قرآن وسنة ، فإن الله لا تخفى عليه خافية ، يعلم بدقة بواطن الأشياء وظواهرها ، ثم يجازيكم عليها. وقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ ..) علة للأمر باتباع الوحي ، وإشارة إلى أن التقوى ينبغي أن تكون عن صميم قلبك ، لا تخفي في نفسك تقوى غير الله.

ثم أمر تعالى رسوله بعد التزام الأوامر بتفويض الأمور إلى الله وحده ، فقال :

(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ، وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي فوض جميع أمورك وأحوالك إلى الله ، وكفى به وكيلا لمن توكل عليه ، وأناب إليه. والمقصود أن الله عاصمك وحسبك ، فهو وحده جالب النفع لك ، ودافع الضر عنك.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إيجاب التقوى والمداومة عليها ومتابعة طاعة الله أمر عام مفروض على جميع البشر ، سواء أكانوا أنبياء ورسلا وملائكة أم غيرهم ، إلا أن الأنبياء والملائكة المعصومين من المعصية يؤمرون بالتقوى تعليما وإرشادا لغيرهم ، وتنبيها بالأعلى على الأدنى. ويلاحظ أن الله تعالى لم يخاطب نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بلفظ النبوة والرسالة : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) ولم يخاطبه باسمه ، تعظيما لشأنه ، وإشادة بمقامه ، وتعليما لنا للأدب معه ، مع أنه تعالى خاطب الأنبياء بأسمائهم فقال : (يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا) [هود ١١ / ٤٨] (يا إِبْراهِيمُ ، قَدْ

٢٢٩

صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) [الصافات ٣٧ / ١٠٤ ـ ١٠٥] (يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) [الأعراف ٧ / ١٤٤].

٢ ـ الأمر بالشيء نهي عن ضده ، لذا منع الله سبحانه من طاعة الكافرين من أهل مكة ونحوهم والمنافقين من أهل المدينة وأمثالهم فيما نهى عنه ، والتحذير من الميل إليهم ، فإن الله عليم بكفرهم ونفاقهم ، حكيم فيما يفعل بهم ، والمقصود بذلك الاحتراس من مؤامراتهم ومكائدهم وخططهم المشبوهة.

والمراد بالكافرين من أهل مكة : أبو سفيان وأبو الأعور وعكرمة. والمراد بالمنافقين من أهل المدينة : عبد الله بن أبيّ ، وطعمة بن أبيرق ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح.

٣ ـ ومن الواجب أيضا اتباع الوحي من قرآن وسنة ، وفي ذلك زجر عن اتباع مراسم الجاهلية. وأمر بجهادهم ومنابذتهم ، وفيه دليل على ترك اتباع الآراء مع وجود النص ، فلا مساغ للاجتهاد في مورد النص. والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمته.

٤ ـ على المؤمن بعد اتخاذ الأسباب والوسائل أن يعتمد على الله في جميع أحواله ، فهو الذي ينفع ويمنع ، ولا يضر معه معارضة أحد من البشر أو مخالفته ، وكفى بالله حافظا لجميع الأمور والأحوال.

والخلاصة : أن الله تعالى أراد بهذه الآيات غرس العزة والكرامة في نفوس المسلمين ، والثقة بالذات ، وعدم الالتفات إلى الأعداء ، ومن أجل تحقيق تلك الغايات ، قررت الآيات هذه الأحكام وهي أن الله عليم بالمصلحة والصواب ، حكيم لا يأمر ولا ينهى إلا على وفق الحكمة والصواب ، فالواجب الأول : امتثال الأمر وتنفيذ النهي ، والواجب الثاني : اتباع وحي الله ، فإن الله خبير بما يصلح أمور العباد ، والواجب الثالث : التوكل على الله حقا ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه وكافيه ، وكفى بالله وكيلا.

٢٣٠

تعدد القلب والظهار والتبني

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥))

الإعراب :

(وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي ..) أزواج : جمع زوج ، والزوج ينطلق على الذكر والأنثى ، يقال : هما زوجان ، وقد يقال للمرأة : زوجة ، واللغة الفصحى بغير تاء ، وهي لغة القرآن ، قال تعالى : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة ٢ / ٣٥] (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) [الأنبياء ٢١ / ٩٠].

و (اللَّائِي) : فيه ثلاث قراءات ، بإثبات الياء ، وبحذفها ، وبجعل الهمزة بين بين تسهيلا بعد حذف الياء.

و (تُظاهِرُونَ) : يقرأ بتخفيف الظاء وتشديدها ، وأصلها : يتظاهرون.

(وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ الْحَقَ) منصوب على أنه مفعول به ل (يَقُولُ) أو على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي يقول القول الحق.

(وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ فِيما) : إما مجرور بالعطف على (فِيما) في قوله : (فِيما أَخْطَأْتُمْ) وإما مرفوع بالابتداء ، أي ولكن ما تعمدت قلوبكم يؤاخذكم به.

البلاغة :

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ) تنكير رجل للاستغراق والشمول ، وحرف الجر : لتأكيد

٢٣١

الاستغراق ، وذكر الجوف (فِي جَوْفِهِ) لزيادة تصوير الإنكار.

(أَخْطَأْتُمْ تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ جَعَلَ) خلق ، وهذا رد على من زعم من الكفار أن له قلبين يعقل بكل منهما أفضل من عقل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (تُظاهِرُونَ مِنْهُنَ) الظهار : أن يقول الرجل لزوجته : أنت علي كظهر أمي ، أو كظهر أحد محارمه ، أي أنت في التحريم علي كتحريم الأم ونحوها من المحارم. (أُمَّهاتِكُمْ) أي كالأمهات في التحريم ، فقد كان الظهار في الجاهلية طلاقا ، أما في الإسلام فتجب فيه الكفارة قبل الجماع. (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ) جمع دعيّ : وهو الذي تدّعى بنوته ، فيدعى لغير أبيه ابنا له ، وكان له أحكام الابن في الجاهلية وصدر الإسلام ، وفي الواقع هو ابن غيره. (أَبْناءَكُمْ) أي أبناء في الحقيقة. والمراد : ما جمع تعالى الزوجية والأمومة في امرأة ، ولا الدعوة والنبوة في رجل ، فكما لم يجعل الله قلبين في جوف لأدائه إلى تناقض : (وهو أن يكون كل منهما أصلا لكل القوى وغير أصل) لم يجعل الزوجة والدّعي اللذين لا ولادة بينهما وبينه أما ولا ابنا اللذين بينهما وبينه ولادة.

(ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ ذلِكُمْ) إشارة إلى كلّ ما ذكر ، و (قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) أي مجرد قول في الظاهر ، لا حقيقة له في الواقع. (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) أي يقول ما له حقيقة مطابقة للواقع. (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) سبيل الحق. والمراد : نفي وجود القلبين ، ونفي الأمومة والبنوة عن المظاهر منها والمتبنى.

(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) أي لكن انسبوهم إليهم. (هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) تعليل لما سبق ، و (أَقْسَطُ) أفعل تفضيل ، قصد به الزيادة مطلقا ، أي أعدل ، والمراد : البالغ في الصدق.

سبب النزول :

نزول الآية (٤):

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ) : أخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال : قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما يصلي ، فخطر خطرة ، فقال المنافقون الذي يصلون معه : ألا ترى أن له قلبين ، قلبا معكم وقلبا معه ، فأنزل الله : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ).

٢٣٢

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة : قالوا : كان رجل يدعى ذا القلبين. قيل : إنه أبو معمر ، وقيل : إنه جميل بن أسد الفهري. وكانت الزوجة المظاهر منها كالأم ، ودعيّ الرجل : ابنه.

وأخرج ابن جرير عن الحسن البصري مثل الذي أخرجه ابن أبي حاتم ، وزاد : وكان يقول : لي نفس تأمرني ونفس تنهاني. وأخرج عن مجاهد قال : نزلت في رجل من بني فهر قال : إن في جوفي لقلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي أنها نزلت في رجل من قريش من بني جمح يقال له : جميل بن معمر الفهري ، وكان رجلا لبيبا حافظا لما سمع ، فقالت قريش : ما حفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان ، وكان يقول : إن لي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما كان يوم بدر ، وهزم المشركون وفيهم يومئذ جميل بن معمر ، تلقاه أبو يوسف وهو معلّق إحدى نعليه بيده ، والأخرى في رجله ، فقال له : يا أبا معمر ، ما حال الناس؟ قال : انهزموا ، قال : فما بالك إحدى نعليك في يدك ، والأخرى في رجلك؟ قال : ما شعرت إلا أنهما في رجلي ، وعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده (١).

نزول الآية :

(وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) : نزلت في زيد بن حارثة ، كان عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأعتقه وتبناه قبل الوحي ، فلما تزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب بنت جحش ، وكانت تحت زيد بن حارثة ، قالت اليهود والمنافقون : تزوج محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم امرأة ابنه ، وهو ينهى الناس عنها ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (٢).

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ٢٠١

(٢) المرجع والمكان السابق.

٢٣٣

وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن ابن عمر قال : ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد ، حتى نزلت في القرآن : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ ، هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنت زيد بن حارثة بن شراحيل.

المناسبة :

بعد أن أمر الله تعالى بتقواه وطاعته والخوف منه ، ونهى عن طاعة الكفار والخوف منهم ، نفى تعدد القلب عند الإنسان ، وأبطل الظهار والتبني ، فإذا كان لا يجتمع في قلب إنسان الخوف من الله والخوف من غيره ، فليس للإنسان قلبان حتى يطيع بأحدهما ويعصي بالآخر ، ولا تجتمع الزوجية والأمومة في امرأة ، ولا البنوة الحقيقية والتبني في رجل ، فجمع في الآيات بين أمر معروف حسي ، وبين أمرين معنويين.

التفسير والبيان :

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) أي إن الذات الإنسانية ووحدة التركيب العضوي واحدة في كل إنسان ، وما خلق الله لأي أحد قلبين ، فليس لأي رجل قلبان في صدره ، وإنما هو قلب واحد ؛ لأن القلب محل التوجيه والإرادة والعزم ، فإذا كان الإنسان مؤمنا بالله ورسوله ، فلن يكون كافرا أو منافقا ، أي أنه لا يجتمع في قلب واحد اعتقادان ، ولا يجتمع اتجاهان متضادان ، يأمر أحدهما أو ينهى بنقيض ما يطلبه الآخر.

والآية كما بان في سبيل النزول رد على ما كانت العرب تزعم أن اللبيب الأريب له قلبان ، فقيل لأبي معمر أو لجميل بن معمر الفهري أو لجميل بن أسد الفهري : ذو القلبين. والظاهر أنه أبو معمر الفهري جميل بن معمر الذي اشتهر بين أهل مكة بذي القلبين لقوة حفظه.

٢٣٤

والقلب : المضغة الصنوبرية في داخل التجويف الصدري ، وهو محل الخطرات والوساوس ، ومكان الكفر والإيمان ، وموضع الإصرار والإنابة ، ومحل الانزعاج والطمأنينة. والجعل : الخلق. وفائدة ذكر الجوف كفائدة ذكر الصدر في قوله : (الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج ٢٢ / ٤٦] ليحصل للسامع زيادة التصور ، والإسراع في الإنكار.

(وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) أي وما جعل الزوجات المظاهر منهن كالأمهات في الحرمة ، بأن يقول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، فذلك كذب موجب العقوبة ، كما قال تعالى : (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ ، إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ ، وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً ..) [المجادلة ٥٨ / ٢].

وكان حكم الظهار في الجاهلية طلاقا يفيد التحريم المؤبد ، فجعل الإسلام الحرمة مؤقتة ، تزول بالكفارة (تحرير رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ستين مسكينا قبل الجماع) كما جاء في أوائل سورة المجادلة ، لتحريم ما أحل الله تعالى.

(وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) أي وما جعل الله المدّعى بنوتهم بالتبني أبناء في الحقيقة ، فهم أبناء آبائهم الحقيقيين ، والتبني حرام ، وهذا أيضا إبطال لما كان عليه العرب في الجاهلية وصدر الإسلام من جعل الابن بالتبني كالابن النسبي. وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد إعتاق زيد بن حارثة مولاه قد تبناه قبل النبوة ، فكان يقال له ؛ زيد بن محمد ، وتبنى الخطّاب عامر بن أبي ربيعة ، وأبو حذيفة سالما ، وكثير من العرب تبنى ولد غيره.

والخلاصة : أجمع أهل التفسير على أن هذه الآية نزلت في زيد بن حارثة.

وقد أبطل الله هذا الإلحاق الوهمي وهذا النسب المزعوم بهذه الآية ، وبقوله

٢٣٥

تعالى بعدئذ في هذه السورة : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ..) [٤٠].

وهذا هو المقصود بالنفي ، قدّم الله له نفي أمر حسي معروف وهو ازدواج القلب في الإنسان ، ثم أردفه بنفي أمرين معنويين هما اجتماع الزوجية مع الظهار ، والتبني مع النسب ، فالثلاثة باطلة لا حقيقة لها ، لذا قال تعالى مؤكدا النفي :

(ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) أي ذلكم المذكور كله في الجمل الثلاث من ادعاء وجود قلبين في صدر واحد ، واجتماع الزوجية مع الظهار ، والتبني مع النسب هو مجرد قول باللسان ، لا صلة له بالحقيقة ، فلا تصبح الزوجة بالظهار أما ، ولا المتبني ابنا. وزيادة قوله تعالى : (بِأَفْواهِكُمْ) للتنبيه على أنه قول صادر من الأفواه فقط ، من غير أن يكون له حقيقة في الواقع ، كما أن زيادة (فِي جَوْفِهِ) لتأكيد الإنكار وزيادة تصويره للنفوس.

(وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أي والله هو الذي يقرر الصدق والعدل ، ويقول الواقع ، ويرشد إلى السبيل الأقوم الصحيح والطريق المستقيم ، فدعوا قولكم ، وخذوا بقوله عزوجل. ثم فصل تعالى هذا الحق المقصود أصالة بالآية فقال :

(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) أي انسبوا أولئك الذين تبنيتموهم وألحقتم نسبهم بكم إلى آبائهم الحقيقيين ، فذلك أعدل في حكم الله وشرعه ، وأصوب من نسبة الابن لغير أبيه. فقوله (أَقْسَطُ) أفعل التفضيل ، وهو ليس على بابه ، أي لا يراد به المفاضلة بين اثنين ، بل قصد به الزيادة مطلقا ، ويجوز أن يكون على بابه على سبيل التهكم بهم.

(فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) أي فإن جهل آباء هؤلاء الأدعياء ، فهم إخوانكم في الدين إن كانوا قد أسلموا ، وهم مواليكم في الدين

٢٣٦

أيضا أي أنصاركم ، إن كانوا عتقاء محرّرين ، فينادى الواحد منهم : يا أخي أو يا مولاي ، لذا قيل لسالم بعد نزول الآية : مولى حذيفة. جاء في الحديث الذي رواه أحمد والشيخان عن أبي ذر : «ليس من رجل ادعى لغير أبيه ، وهو يعلمه ، إلا كفر» قال ابن كثير : هذا تشبيه وتهديد ووعيد أكيد في التبري من النسب المعلوم.

(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ ، وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) أي لا إثم عليكم بنسبة بعضهم إلى غير أبيه خطأ قبل النهي ، أو بعده نسيانا أو سبق لسان ، أو بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع ، فإن الله قد وضع الحرج في الخطأ ورفع إثمه ، كما قال تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) [البقرة ٢ / ٢٨٦] وثبت في صحيح مسلم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله عزوجل : قد فعلت». وفي صحيح البخاري عن عمرو بن العاصرضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر» وفي الحديث الآخر الذي رواه ابن ماجه عن أبي ذر : «إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».

لا إثم في الخطأ ، ولكن الإثم على من تعمد الباطل ، فنسب الابن أو البنت إلى غير الأب المعروف ، فتلك معصية موجبة للعقاب. ولا إثم ولا تحريم فيما غلب عليه اسم التبني كالمقداد بن عمرو ، فإنه غلب عليه نسب التبني ، فيقال له : المقداد بن الأسود ، والأسود : هو الأسود بن عبد يغوث ، كان قد تبناه في الجاهلية ، فلما نزلت الآية ، قال المقداد : أنا ابن عمرو ، ومع ذلك بقي الإطلاق عليه.

أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه قال في الآية : «لو دعوت رجلا لغير أبيه ، وأنت ترى أنه أبوه ، لم يكن عليك بأس ، ولكن ما تعمدت وقصدت دعاءه لغير أبيه».

وأخرج الإمام أحمد عن عمر رضي‌الله‌عنه أنه قال : إن الله تعالى بعث محمدا

٢٣٧

صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحق ، وأنزل معه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فرجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجمنا بعده. ثم قال : قد كنا نقرأ : «ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم» وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم عليه‌السلام ، فإنما أنا عبد الله ، فقولوا : عبده ورسوله» وربما قال معمر : «كما أطرت النصارى ابن مريم».

وروى أحمد في حديث آخر : «ثلاث في الناس كفر : الطعن في النسب ، والنياحة على الميت ، والاستسقاء بالنجوم».

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان الله وما يزال ساترا لذنب المخطئ ، والمتعمد إذا تاب ، رحيما بهما فلا يعاقبهما ، فمن رحمته أنه رفع الإثم عن المخطئ ، وقبل توبة المسيء عمدا.

قصة زيد بن حارثة في السيرة والسنة النبوية :

أخرج الشيخان والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما : أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنت زيد بن حارثة بن شراحيل. وقد سبي من قبيلته «كلب» وهو صغير.

وكان من أمره ما رواه ابن مردويه عن ابن عباس أنه كان في أخواله بني معن من بني ثعل من طيّ ، فأصيب في نهب من طيّ ، فقدم به سوق عكاظ ، وانطلق حكيم بن حزام بن خويلد إلى عكاظ يتسوق بها ، فأوصته عمته خديجة أن يبتاع لها غلاما ظريفا إن قدر عليه ، فلما قدم وجد زيدا يباع فيها ، فأعجبه ظرفه ، فابتاعه ، فقدم به عليها ، وقال لها : إني قد ابتعت لك غلاما ظريفا عربيا ، فإن أعجبك فخذيه ، وإلا فدعيه ، فإنه قد أعجبني ، فلما رأته خديجة أعجبها ، فأخذته.

٢٣٨

فتزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو عندها ، فأعجب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظرفه ، فاستوهبه منها ، فقالت : أهبه لك ، فإن أردت عتقه ، فالولاء لي ، فأبى عليها عليه الصلاة والسلام ، فوهبته له ، إن شاء أعتق ، وإن شاء أمسك.

قال : فشب عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم إنه خرج في إبل لأبي طالب بأرض الشام ، فمرّ بأرض قومه ، فعرفه عمه ، فقام إليه ، فقال : من أنت يا غلام؟ قال : غلام من أهل مكة ، قال : من أنفسهم؟ قال : لا ، قال : فحرّ أنت أم مملوك؟ قال : بل مملوك ، قال : لمن؟ قال : لمحمد بن عبد المطلب ، فقال له : أعربي أنت أم عجمي؟ قال : عربي ، قال : ممن أصلك؟ قال : من كلب ، قال : من أي كلب؟ قال : من بني عبد ودّ ، قال : ويحك ، ابن من أنت؟ قال : ابن حارثة بن شراحيل. قال : وأين أصبت؟ قال : في أخوالي ، قال : ومن أخوالك؟ قال : طي ، قال : ما اسم أمك؟ قال : سعدى ، فالتزمه ، وقال : ابن حارثة.

ودعا أباه ، فقال : يا حارثة ، هذا ابنك ، فأتاه حارثة ، فلما نظر إليه عرفه ، قال : كيف صنع مولاك إليك؟ قال : يؤثرني على أهله وولده ، فركب معه أبوه وعمه وأخوه حتى قدموا مكة ، فلقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له حارثة : يا محمد ، أنتم أهل حرم الله وجيرانه وعند بيته ، تفكّون العاني ، وتطعمون الأسير ، ابني عندك ، فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه ، فإنك ابن سيد قومك ، وإنا سنرفع إليك في الفداء ما أحببت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أعطيكم خيرا من ذلك ، قالوا : وما هو؟ قال : أخيّره ، فإن اختاركم فخذوه بغير فداء ، وإن اختارني فكفوا عنه.

فقالوا : جزاك الله خيرا ، فقد أحسنت. فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «يا زيد ، أتعرف هؤلاء»؟ قال : نعم. هذا أبي وعمي وأخي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

٢٣٩

«فهم من قد عرفتهم ، فإن اخترتهم ، فاذهب معهم ، وإن اخترتني فأنا من تعلم». فقال زيد : ما أنا بمختار عليك أحدا أبدا ، أنت معي بمكان الوالد والعم ، قال : أبوه وعمه : أيا زيد ، أتختار العبودية؟ قال : ما أنا بمفارق هذا الرجل ، فلما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرصه عليه ، قال : «اشهدوا أنه حر ، وأنه ابني يرثني وأرثه» ، فطابت نفس أبيه وعمه ، لما رأوا من كرامة زيد عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يزل في الجاهلية يدعى زيد بن محمد حتى نزل القرآن : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) فدعي زيد بن حارثة.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ أعلم الله عزوجل أنه لا أحد بقلبين ، وإنما هو قلب واحد ، فإما فيه إيمان وإما فيه كفر ، ولا يجتمع في القلب الكفر والإيمان ، والهدى والضلال ، والإنابة والإصرار.

وفي هذا رد على بعض أهل مكة الذين كانوا يقولون : إن لي في جوفي قلبين ، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهو ردّ أيضا على المنافقين الذين هم على درجة من النفاق ، متوسطة بين الإيمان والكفر ؛ إذ ليس هناك إلا قلب واحد فيه إيمان أو كفر.

٢ ـ أبطل الله تعالى في هذه الآية حكم الظهار الجاهلي ، وهو قول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، فتصبح محرمة على التأبيد ، أما في الإسلام فالحرمة مؤقتة تنتهي بالكفارة.

٣ ـ التبني حرام في الإسلام ؛ لأنه يصادم الحقيقة ، والأولى والأعدل أن ينسب الرجل إلى أبيه نسبا ، ويحرم على الإنسان أن يتعمد دعوة الولد لغير

٢٤٠