التفسير المنير - ج ٢١

الدكتور وهبة الزحيلي

٥ ـ إن حال المشركين يوم القيامة يدعو للعجب ، فهم عند محاسبة ربهم وجزاء أعمالهم خافضو الرؤوس من الحياء والندم ، والخزي ، والذل والغم والحزن ، ويقولون : ربّنا أبصرنا ما كنا نكذب ، وسمعنا ما كنا ننكر ، فارجعنا إلى الدنيا نعمل العمل الصالح الذي يرضيك ، إنا مصدّقون بالبعث وبالذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه حق.

قال سفيان الثوري : فأكذبهم الله تعالى ، فقال : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام ٦ / ٢٨].

وقال محمد بن كعب القرظيّ : لما قالوا : (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا ، فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً ، إِنَّا مُوقِنُونَ) ردّ عليهم بقوله : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) يقول : لو شئت لهديت الناس جميعا ، فلم يختلف منهم أحد (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي حق القول مني لأعذبنّ من عصاني بنار جهنم ، وعلم الله تعالى أنه لو ردّهم لعادوا.

وهذه الهداية : معناها خلق المعرفة في القلب. وتأويل المعتزلة : ولو شئنا لأكرهناهم على الهداية بإظهار الآيات الهائلة ، لكن لا يحسن منه فعله ؛ لأنه ينقض الغرض المجرى بالتكليف إليه ، وهو الثواب الذي لا يستحق إلا بما يفعله المكلف باختياره.

وقالت الإمامية في تأويلها : إنه يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة ولم يعاقب أحدا ، لكن حق القول منه أنه يملأ جهنم ، فلا يجب على الله تعالى عندنا هداية الكل إليها ؛ قالوا : بل الواجب هداية المعصومين ، فأما من له ذنب فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله. وفي جواز ذلك منع ؛ لقطعهم بأن المراد : هداها إلى الإيمان.

وللإمامية جواب آخر : هو أن هداية الله سبحانه بالإلجاء والإجبار

٢٠١

والإكراه ممنوعة ، والمراد الهداية إلى الإيمان والطاعة بالاختيار ، حتى يصح التكليف ، فمن شاء الله آمن وأطاع اختيارا ، لا جبرا ، قال الله تعالى : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) [التكوير ٨١ / ٢٨] وقال : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) [الدهر ٧٦ / ٢٩] ثم عقّب هاتين الآيتين بقوله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الدهر ٧٦ / ٣٠] فوقع إيمان المؤمنين بمشيئتهم ، ونفى أن يشاءوا إلا ان يشاء الله.

وتوسط أهل السنة فلم يقولوا بالإجبار كالمجبرة ، ولا بالاختيار المطلق كالقدرية ، وخير الأمور أوساطها ، وقالوا : نحن نفرق بين ما اضطررنا إليه وبين ما اخترناه ، كالتفرقة بين حركة الارتعاش غير الإرادية وحركة الاختيار ، وسموا هذه المنزلة الوسطى كسبا ، وأخذوا هذه التسمية من كتاب الله العزيز ، وهو قوله سبحانه : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة ٢ / ٢٨٦].

٦ ـ يقال للمجرمين يوم القيامة على سبيل التقريع والتوبيخ : ذوقوا العذاب بسبب تكذيبكم رسل الله ، وإنكاركم البعث ، وترككم العمل له كالناسين ، والله يعاملكم معاملة الناسي والمنسيين ؛ لأن الجزاء من جنس العمل ، وذوقوا العذاب المخلّد ، وهو الدائم الذي لا انقطاع له في جهنم بسبب أعمالكم في الدنيا من المعاصي.

صفة المؤمنين في الدنيا وجزاؤهم عند ربهم في الآخرة

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦)

٢٠٢

فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧))

الإعراب :

(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ ..) جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير (خَرُّوا). وكذلك جملة (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) منصوبة على الحال ، وكذلك (سُجَّداً) حال ، وكذلك موضع (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) وكذلك موضع (مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) كلها منصوبات على الحال من ضمير (خَرُّوا) و (سَبَّحُوا).

(خَوْفاً وَطَمَعاً) إما منصوبان على المفعول لأجله أو منصوبان على المصدر.

(ما أُخْفِيَ لَهُمْ ما) : إما اسم موصول بمعنى الذي ، وصلته (أُخْفِيَ) والعائد مقدر ، أي لهم ، وهو منصوب ب (تَعْلَمُ). وإما استفهامية في موضع رفع مبتدأ ، و (أُخْفِيَ) خبره. هذا على قراءة (أُخْفِيَ) فعل مضارع. وأما على قراءة (أُخْفِيَ) المبني للمجهول ، يكون (ما) منصوبا ب (أُخْفِيَ) أي فلا تعلم نفس أي شيء أخفي لهم ، ولا يجوز أن يعمل فيه (تَعْلَمُ) لأن الاستفهام له صدر الكلام ، فلا ينصب بما قبله وإنما ينصب بما بعده.

البلاغة :

(خَوْفاً وَطَمَعاً) بينهما طباق.

(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) كناية عن كثرة العبادة ليلا.

المفردات اللغوية :

(بِآياتِنَا) القرآن (ذُكِّرُوا) وعظوا (خَرُّوا سُجَّداً) سقطوا ساجدين ، خوفا من عذاب الله (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) نزّهوه عما لا يليق به ، كالعجز عن البعث ، حامدين له ، خوفا من عذاب الله ، وشكرا على ما وفقهم للإسلام وآتاهم الهدى ، فقالوا : سبحان الله وبحمده (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن الإيمان والطاعة ، كما يفعل من يصرّ مستكبرا.

(تَتَجافى) ترتفع وتتنحى (جُنُوبُهُمْ) جمع جنب ، وهو شق الإنسان (عَنِ الْمَضاجِعِ) الفرش ومواضع النوم ، جمع مضجع ، وهو مكان النوم أو الاضطجاع (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) داعين إياه (خَوْفاً) من سخطه وعقابه (وَطَمَعاً) في رحمته ، فسرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقيام العبد من الليل (يُنْفِقُونَ) يتصدقون ، أو ينفقون في وجوه الخير.

٢٠٣

(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ) لا ملك مقرب ولا نبي مرسل (ما أُخْفِيَ لَهُمْ) خبئ لهم (مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) أي من شيء تقرّ به عيونهم وتسرّ ، يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة : «يقول الله : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ذخرا ، بله (١) ما أطلعكم عليه ، اقرؤوا إن شئتم : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)».

سبب النزول :

نزول الآية (١٦):

(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) : أخرج البزار عن بلال قال : كنا نجلس في المسجد ، وناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلون بعد المغرب إلى العشاء ، فنزلت هذه الآية : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) لكن في إسناده ضعيف. وذكره الواحدي النيسابوري عن مالك بن دينار قال : سألت أنس بن مالك عن هذه الآية فيمن نزلت ، فقال : كان أناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلون من المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وهذا مروي عن قتادة وعكرمة.

وأخرج الترمذي وصححه عن أنس : أن هذه الآية نزلت في انتظاره الصلاة التي تدعى «العتمة» أي العشاء.

وعن معاذ بن جبل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) قال : هي قيام العبد أول الليل.

وقال الحسن البصري ومجاهد ومالك والأوزاعي : نزلت في المتهجدين الذين يقومون الليل إلى الصلاة.

ويدل على صحة هذا السبب ما أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم ، وابن جرير والحاكم وابن مردويه عن معاذ بن جبل قال : «كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر (٢) ، فأصبحت يوما قريبا منه ، ونحن نسير ، فقلت : يا نبي

__________________

(١) بله : اسم فعل مبني على الفتح مثل كيف ، ومعناها : دع عنكم ما أطلعكم عليه ، فالذي لم يطلعكم أعظم.

(٢) في غزوة تبوك.

٢٠٤

الله ، أخبرني عما يدخلني الجنة ، ويباعدني عن النار ، قال : لقد سألت عن عظيم ، وإنه ليسير على من يسّره الله تعالى عليه : تعبد الله ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحجّ البيت ؛ ثم قال :

ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنّة ، والصدقة تطفئ الخطيئة ، وصلاة الرجل في جوف الليل ، ثم قرأ : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) ـ حتى بلغ ـ (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ فقلت : بلى ، يا رسول الله ، فقال : رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ، ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فقلت : بلى ، يا نبي الله ، فأخذ بلسانه ، ثم قال : كفّ عليك هذا ، فقلت : يا رسول الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال : ثكلتك أمّك يا معاذ ، وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم ـ أو قال على مناخرهم ـ إلا حصائد ألسنتهم».

المناسبة :

بعد بيان حال الكافرين في موقف الحساب يوم القيامة من ذلة وخزي وخجل ، وما يتعرضون له من عذاب شديد مخلّد ، أبان الله تعالى حال أهل الإيمان في الدنيا من طاعة ربهم وتعظيمه وحمده والتقرب إليه بالنوافل ، وما أعد لهم من نعيم وسرور ، جزاء على أعمالهم.

التفسير والبيان :

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً ، وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي إنما يصدّق بآيات القرآن والآيات الكونية وبالرسل المرسلين

٢٠٥

الذين إذا وعظوا بها واستمعوا لها بعد تلاوتها عليهم ، سقطوا بأعضائهم وجباههم ساجدين لله ، تذللا وخضوعا ، وإقرارا بالعبودية ، ونزّهوه في سجودهم عما لا يليق به من أوضار الشرك كاتخاذ الصاحبة والولد والشريك ، حامدين ربهم على آلائه ونعمه ، أي جامعين بين التسبيح والتحميد بأن يقولوا : سبحان الله وبحمده ، سبحان ربي الأعلى ، وهم لأن قلوبهم عامرة بالإيمان لا يستكبرون عن طاعة ربهم ، واتباع الآيات والانقياد لها ، كما يفعل الكفرة الجهلة الفجرة الذين يتولون مستكبرين ، فلهم عذاب أليم ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر ٤٠ / ٦٠].

هذه أوصاف المؤمنين : العبادة ، والتقديس مع الحمد ، والطاعة والانقياد ، ثم ذكر الله تعالى لهم أوصافا أخرى : هي التهجد أو قيام الليل ، والدعاء الخالص لله ، والإنفاق في وجوه الخير : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي تترفع جوانبهم عن أماكن النوم والراحة ، يبادرون إلى قيام الليل تهنأ نفوسهم بمناجاة ربهم ، وتقرأ عينهم وترتاح ضمائرهم بالعبادة ، ويدعون ربهم دعاء خالصا موقنين بالإجابة ، خوفا من العقاب ، وطمعا بالرحمة وجزيل الثواب ، وينفقون بعض أموالهم في سبل الخير والبر ومرضاة الله ، فيجمعون بين فعل القربات الشخصية والقربات الاجتماعية.

روى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «عجب ربنا من رجلين : رجل ثار من وطائه ولحافه من بين حبّه وأهله إلى صلاته ، رغبة فيما عندي ، وشفقة مما عندي ؛ ورجل غزا في سبيل الله تعالى ، فانهزموا ، فعلم ما عليه من الفرار ، وما له في الرجوع ، فرجع حتى أهريق دمه ، رغبة فيما عندي ، وشفقة مما عندي ، فيقول الله عزوجل للملائكة : انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي ، ورهبة مما عندي حتى أهريق دمه».

٢٠٦

وذكر الثعلبي مرفوعا عن أسماء بنت يزيد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا جمع الله الأولين والآخرين ، جاء مناد ، فنادى بصوت تسمعه الخلائق كلّهم : سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع ، فيقومون ، وهم قليل ، ثم يرجع ، فينادي : ليقم الذين كانوا يحمدون الله على كل حال في السرّاء والضّرّاء ، فيقومون وهم قليل ، فيسرّحون جميعا إلى الجنة ، ثم يحاسب سائر الناس».

ثم ذكر الله تعالى جزاء أولئك المؤمنين الموصوفين بما تقدم فقال :

(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي فلا يعلم أحد على الإطلاق من الملائكة والرسل عظمة ما أخفى الله لهم في الجنات من النعيم المقيم واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد ، جزاء عدلا مقابلا لصالح أعمالهم التي أخفوها فلم يراءوا بها الناس ، فأخفى الله ثوابهم.

روى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ).

وروى الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : «إنه لمكتوب في التوراة : لقد أعدّ الله تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين ، ولم تسمع أذن ، ولم يخطر على قلب بشر ، ولا يعلم ملك مقرّب ، ولا نبي مرسل ، وإنه في القرآن : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ).

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ من صفات المؤمنين أنهم يخرون سجدا لله تعالى على وجوههم ، تعظيما

٢٠٧

لآياته ، وخوفا من سطوته وعذابه ، وأنهم يقرنون التسبيح أي التنزيه بالتحميد ، فيقولون في سجودهم : سبحان الله وبحمده ، سبحان ربي الأعلى وبحمده ؛ أي تنزيها لله تعالى عن قول المشركين.

وهم أيضا ينقادون لأمر ربهم ، فلا يستكبرون عن عبادته ، كما استكبر أهل مكة وأمثالهم بعدهم عن السجود لله تعالى.

٢ ـ ومن صفات المؤمنين أيضا : ملازمة قيام الليل ، أي صلاة التهجد في الثلث الأخير من الليل ، وقيل عن قتادة وعكرمة : التنفل ما بين المغرب والعشاء. ومع تجافي جنوبهم عن المضاجع هم أيضا في كل حال يدعون ربهم ليلهم ونهارهم ، خوفا من العذاب ، وطمعا في الثواب ، ويتصدقون بفضول أموالهم وتلك هي النوافل بعد أداء الزكاة المفروضة.

وقد وردت أحاديث كثيرة ذكرت بعضها في فضل قيام الليل.

٣ ـ إن جزاء أولئك المؤمنين مفتوح وعظيم جدا ، لا يعلم حقيقته غير الله عزوجل ، فلا يدري أحد ما لهم من النعيم الذي لم تعلمه نفس ولا بشر ولا ملك. وهذه الكرامة إنما هي لأعلى أهل الجنة منزلا ، كما جاء مبيّنا في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة يرفعه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «سأل موسى عليه‌السلام ربّه فقال : يا ربّ ، ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال : هو رجل يأتي بعد ما يدخل أهل الجنة الجنة ، فيقال له : ادخل الجنة ، فيقول : أي ربّ ، كيف وقد نزل الناس منازلهم ، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول : رضيت ربّ ، فيقول : لك ذلك ، ومثله ، ومثله معه ، ومثله ومثله ومثله ، فقال في الخامسة : رضيت ربّ ، فيقال : هذا لك وعشرة أمثاله ، ولك ما اشتهت نفسك ، ولذّت عينك ، فيقول : رضيت ربّ.

٢٠٨

قال : فأعلاهم منزلة؟ قال : أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي ، وختمت عليها ، فلم تر عين ولم تسمع أذن ، ولم يخطر على قلب بشر. قال : ومصداقه من كتاب الله قوله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

جزاء المؤمنين وجزاء الفاسقين

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢))

البلاغة :

(أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى .. وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ) بينهما ما يسمى بالمقابلة ، وذلك بين الوصفين والجزاءين.

(الْأَدْنى الْأَكْبَرِ) بينهما طباق ؛ لأن الأكبر هو الأقصى.

المفردات اللغوية :

(مُؤْمِناً) مصدقا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره (فاسِقاً) كافرا خارجا من الإيمان والطاعة وأحكام الشرع ، فهو أعم من الكفر ، وقد يرادفه كما في آية : (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [النور ٢٤ / ٥٥] وأصل الفسق : الخروج ،

٢٠٩

يقال : فسقت الثمرة : إذا خرجت من قشرها (لا يَسْتَوُونَ) المؤمنون والفاسقون في الشرف والمثوبة ، وجمع الفعل بعد كلمتي (مُؤْمِناً) و (فاسِقاً) للحمل على المعنى.

(جَنَّاتُ الْمَأْوى) جنات المسكن الحقيقي ، أما مساكن الدنيا فمرتحل عنها (نُزُلاً) المراد هنا : ثوابا وجزاء ، وأصل النزل : ما يعد للضيف من الطعام والشراب والمبيت ، ثم أطلق على كل عطاء (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بسبب أعمالهم أو على أعمالهم.

(فَسَقُوا) بالكفر وتكذيب الرسل (أُعِيدُوا فِيها) يراد به خلودهم فيها (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ ..) إهانة لهم وزيادة في غيظهم (الْعَذابِ الْأَدْنى) أي الأقرب والأقل ، وهو عذاب الدنيا الذي تعرضوا له بالجدب سبع سنين والقتل والأسر والأمراض (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) أي قبل عذاب الآخرة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لعل من بقي منهم يتوبون عن الكفر ، روي أن الوليد بن عقبة فاخر عليا يوم بدر ، فنزلت هذه الآيات.

(بِآياتِ رَبِّهِ) الآيات القرآنية والكونية (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) فلم يتفكر فيها. و (ثُمَ) لاستبعاد الإعراض عنها ، مع فرط وضوحها وإرشادها إلى أسباب السعادة ، بعد التذكير بها عقلا (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) أي من المشركين منتقمون.

سبب النزول :

نزول الآية (١٨):

أخرج الواحدي وابن عساكر عن ابن عباس قال : قال الوليد بن عقبة بن أبي معيط لعلي بن أبي طالب : أنا أحدّ منك سنانا ، وأبسط منك لسانا ، وأملأ للكتيبة منك ، فقال له علي : اسكت ، فإنما أنت فاسق ، فنزلت (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) قال : يعني بالمؤمن عليا ، وبالفاسق الوليد بن عقبة.

المناسبة :

بعد بيان حال المجرم والمؤمن ، سأل العقلاء : هل يستويان؟ وبعد الجواب

٢١٠

أو البيان بأنهما لا يستويان ، ذكر الله تعالى تفاوتهما في المنزلة والحكم يوم القيامة ، عملا بمقتضى عدله وكرمه.

التفسير والبيان :

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً؟ لا يَسْتَوُونَ) أي هل يستوي المؤمن بالله ورسوله ، المطيع لأمر ونهيه ، والكافر الخارج عن طاعة ربه ، المكذب رسل الله إليه؟ والجواب : لا يستوي المؤمنون والفاسقون عند الله يوم القيامة.

ونظير الآية قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الجاثية ٤٥ / ٢١] وقوله سبحانه : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص ٣٨ / ٢٨] وقوله عزوجل : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر ٥٩ / ٢٠].

ثم ذكر الله تعالى جزاء الفريقين في الآخرة فقال :

١ ـ (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى ، نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إن الذين صدقت قلوبهم بآيات الله ورسله ، وعملوا صالح الأعمال ، فلهم جنات المأوى التي فيها المساكن والدور والغرف العالية ، ثوابا وجزاء وتكريما لهم على أعمالهم الحسنة وأفعالهم الطيبة التي فعلوها في الدنيا. وقوله في حق المؤمنين (فَلَهُمْ) بلام التمليك زيادة إكرام.

٢ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي وأما الذين فسقوا أي كفروا بالله ، وخرجوا عن الطاعة ، وعملوا السيئات ، فمأواهم النار التي يأوون إليها ويستقرون فيها ، ثم ذكر تعالى سوء حالهم فيها ، فقال :

٢١١

(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) أي كلما عزموا على الخروج منها من شدة العذاب والأهوال ، أعيدوا فيها ، ودحروا إليها ، أي أنهم مخلّدون فيها ، كما قال تعالى : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ ، أُعِيدُوا فِيها) [الحج ٢٢ / ٢٢].

قال الفضيل بن عياض : والله إن الأيدي لموثقة ، وإن الأرجل لمقيدة ، وإن اللهب ليرفعهم ، والملائكة تقمعهم.

ويقال لهم تقريعا وتوبيخا وتهديدا :

(وَقِيلَ لَهُمْ : ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي تذوقوا وتحملوا عذاب النار الذي كذبتم به في الدنيا فإن الله أعدّه للمشركين به.

وهناك عذاب آخر سابق له :

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ولنذيقن الكفار والعصاة شيئا من العذاب الأقرب والأقل وهو عذاب الدنيا من المصائب والآفات كالجوع والقتل والسبي ، قبل مجيء وحدوث العذاب الأشد الأعظم وهو عذاب القيامة ، ليرجعوا عن ضلالهم إلى الهدى والرشد ، ويثوبوا عن الكفر ، ويؤمنوا بربهم ، ويصدقوا برسولهم.

والترجي في قوله (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) محال على الله تعالى ، فيراد به تعليل ذلك الفعل بأمر الرجوع ، كما يقال : فلان اتجر ليربح ، أو يكون معناه : لنذيقنهم إذاقة الراجين ، أو إذاقة يقول القائل : لعلهم يرجعون بسببه.

ثم ذكر الله تعالى سببا عاما للعقاب وهو ظلم الناس ، فقال :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها ، إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) أي لا أحد أظلم ممن ذكّره الله بآياته القرآنية ومعجزات رسله ، وبيّنها

٢١٢

له ووضحها ، ثم تركها بعد ذلك وجحدها ، وأعرض عنها وتناساها كأنه لا يعرفها ، فإننا سننتقم أشد الانتقام من الكفار الذي كفروا بالله واقترفوا المعاصي والمنكرات.

روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ثلاث من فعلهن فقد أجرم : من عقد لواء في غير حق ، أو عقّ والديه ، أو مشى مع ظالم ينصره ، فقد أجرم ، يقول الله تعالى : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ)» (١).

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ ليس في حكم الله وعدله ولا في ميزان العقل السليم أن يسوّى بين المؤمن والفاسق في الثواب والجزاء في يوم القيامة.

٢ ـ يترتب على نفي المساواة بين المؤمن والكافر منع القصاص ـ في رأي الجمهور غير الحنفية ـ بينهما ؛ إذ من شرط وجوب القصاص المساواة بين القاتل والمقتول. ورأى أبو حنيفة قتل المسلم بالذمي ، وقال : أراد نفي المساواة هاهنا في الآخرة في الثواب ، وفي الدنيا في العدالة.

وحمله الجمهور على عمومه ، إذ لا دليل يخصه.

٣ ـ مقر المؤمنين في الآخرة ثوابا وجزاء : جنات المأوى ، أي يأوون إلى الجنات ؛ فأضاف الجنات إلى المأوى ؛ لأن ذلك الموضع يتضمن جنات.

ومقام الفاسقين الخارجين عن الإيمان إلى الكفر النار ، وهم فيها خالدون ،

__________________

(١) قال ابن كثير عن هذا الحديث : وهذا حديث غريب جدا.

٢١٣

فكلما دفعهم لهب النار إلى أعلاها ، ردّوا إلى موضعهم فيها ؛ لأنهم يطمعون في الخروج منها.

وتقول خزنة جهنم لهم ، أو يقول الله لهم : ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ، ذوقا حسيا ومعنويا.

ويلاحظ من قوله تعالى : (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أن العمل الصالح له مع الإيمان أثر ، أما الكفر إذا جاء فلا التفات بعده إلى الأعمال ، لذا قال تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) ولم يقل : وعملوا السيئات ؛ لأن المراد من (فَسَقُوا) كفروا.

٤ ـ للكافرين أيضا عذاب آخر في الدنيا وهو مصائب الدنيا وأسقامها ، مما يبتلى به العبيد حتى يتوبوا. وينتظرهم العذاب الأكبر وهو عذاب يوم القيامة.

وذلك العذاب إنذار ، لعله يرجع من بقي منهم إلى الرشاد والهداية ؛ فإن عذاب الدنيا لا يقارن بعذاب الآخرة ؛ لأن عذاب الدنيا لا يكون شديدا ولا مديدا ؛ لأنه يعقبه الموت ، أما عذاب الآخرة فهو شديد ومديد.

٥ ـ لا أحد أظلم لنفسه ممن ذكرت له آيات ربه أي حججه وعلاماته ، ثم أعرض عنها ، وترك قبولها ، فإن الله منتقم أشد الانتقام من المشركين ؛ لتكذيبهم وإعراضهم.

٢١٤

عقد الصلة بين الرسالتين

إنزال التوراة على موسى عليه‌السلام وموقف اليهود منها

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥))

الإعراب :

(مِنْ لِقائِهِ) الهاء عائدة إلى الكتاب ، فيكون المصدر مضافا إلى المفعول ، والفاعل مقدر ، وتقديره : من لقاء موسى الكتاب ، ويصح أن تكون عائدة إلى موسى ، فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل ، والمفعول به محذوف وهو (الْكِتابَ) وتقديره : فلا تكن في مرية من لقاء موسى الكتاب ، وهو التوراة ، ويصح أن تكون عائدة إلى «ما لاقى موسى» وتقديره : فلا تكن في مرية من لقاء ما لاقى موسى من التكذيب والإنكار من قومه.

(لَمَّا صَبَرُوا لَمَّا) ظرف زمان بمعنى «حين» في موضع نصب ، والعامل فيه (يَهْدُونَ) ومن قرأ بالتخفيف وكسر اللام ، كانت (لَمَّا) مصدرية ، وتقديره : لصبرهم.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) هو هنا : ضمير فصل ؛ لأن (يَفْصِلُ) فعل مضارع ، ولو كان فعلا ماضيا لم يجز ، فإنهم يجيزون : زيد هو يقوم ، قال تعالى : (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) [فاطر ٣٥ / ١٠] وقال سبحانه : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) [التوبة ٩ / ١٠٤] ولا يجيزون : زيد هو قام. وإنما جاز لأن الفعل المضارع أشبه الأسماء شبها أوجب له الإعراب ، بخلاف الفعل الماضي.

المفردات اللغوية :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة ، كما آتيناك. (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) لا تكن يا محمد في شك من لقائك الكتاب ، كما قال تعالى : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) [النمل ٢٧ / ٦]

٢١٥

فإنا آتيناك من الكتاب مثل ما آتيناه منه ، فليس ذلك ببدع لم يكن قط حتى ترتاب فيه. ويحتمل : من لقاء موسى الكتاب أو من لقائك موسى ، وقد التقيا ليلة الإسراء ، قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت ليلة أسري بي موسى عليه‌السلام رجلا آدم طوالا جعدا ، كأنه من رجال شنوءة».

(وَجَعَلْناهُ) أي الكتاب المنزل على موسى. (هُدىً) هاديا. (يَهْدُونَ) الناس إلى ما فيه من الحكم والأحكام. (بِأَمْرِنا) إياهم ، أو بتوفيقنا لهم. (لَمَّا صَبَرُوا) أي لصبرهم على طاعة دينهم وعلى البلاء في الدنيا. (وَكانُوا بِآياتِنا) الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا. (يُوقِنُونَ) يصدقون ، لإمعانهم النظر فيها. (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) يقضي ، فيميز الحق من الباطل والمحق من المبطل. (يَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين.

المناسبة :

بعد تقرير الأصول الثلاثة في أول السورة وهي التوحيد والبعث والرسالة ، عاد في آخرها إلى الأصل الثالث مرة أخرى وهو الرسالة المذكورة أولا في قوله تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ).

واختار موسى لقربه من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجود من كان على دينه ، إلزاما لهم ، وإنما لم يختر ذكر عيسى عليه‌السلام ؛ لأن اليهود ما كانوا يوافقون على نبوته. وأما النصارى ، فكانوا يعترفون بنبوة موسى عليه‌السلام ، فذكر المجمع عليه.

التفسير والبيان :

(لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ، فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ ، وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) يخبر الله تعالى عبده ورسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه آتى موسى عليه‌السلام التوراة ، فلا تكن يا محمد في شك من لقائك الكتاب ، فإنا آتيناك القرآن كما آتينا موسى التوراة ، فأنت لست ببدع من الرسل قط ، كما قال تعالى : (قُلْ : ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف ٤٦ / ٩] والصلة قائمة بين الرسالتين والمهمة واحدة ، فإن التوراة جعل أيضا هاديا ومرشدا لبني إسرائيل ، كما أنك مرشد لأمتك ، كما قال تعالى : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ، وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) [الإسراء ١٧ / ٢].

٢١٦

والمقصود بالآية حمل اليهود على الإيمان برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتحريض المشركين وغيرهم على التصديق بتلك الرسالة ، فإن التشابه بين الرسالتين قائم والمهمة واحدة ، وكذلك تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حزنه الشديد بسبب إعراض قومه عن رسالته ، فإن موسى عليه‌السلام لقي من قومه الأهوال وأنواع الأذى ، فقالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء ٤ / ١٥٣] ، وقالوا : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) [المائدة ٥ / ٢٤] ، واتخذوا العجل إلها ونحو ذلك.

(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا ، وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) أي وجعلنا من بني إسرائيل قادة يدعون الناس إلى الخير والإيمان ، بإذننا وتوفيقنا وإعانتنا لهم ؛ لأنهم صبروا على طاعة دينهم وتصديق رسلهم واتباعهم ، وعلى البلاء الذي تعرضوا له في الدنيا ، كإيذاء فرعون لهم واستعباده إياهم ، وكانوا بآياتنا الدالة على الوحدانية والقدرة مصدقين على وجه اليقين.

وهذا إيماء آخر إلى أن القرآن هاد للناس كالتوراة ، وأن أتباعه هداة مخلصون ، وهو أمر بالصبر والإيمان بأن وعد الله حق.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن ربك يقضي يوم القيامة بين عباده فيما اختلفوا فيه من أمور الاعتقاد والدين والحساب والثواب والعقاب ، والأعمال ، فيثيب المطيع بالجنة ، ويعاقب العاصي بالنار.

وهذا باعث آخر على الإيمان الصحيح والعمل الصالح ، وتهديد ضمني لمن يعرض عن هداية الله التي صارت متمثلة بالقرآن بعد فقد التوراة وافتقاد الأصل الصحيح للإنجيل.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

٢١٧

١ ـ لقد أنزل الله القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أنزل التوراة على موسى عليه‌السلام ، فالإيمان بهما والعمل بأحكامهما واجب ، إلا أن فقد التوراة جعل العمل بالقرآن من الناحية الواقعية متعينا ، كما أن المنزل عليه القرآن خاتم النبيين ، ونسخت رسالته بنص القرآن وتشريعه الرسالات السماوية السابقة ، حتى لو فرض بقاء شيء ثابت صحيح منها.

٢ ـ إن أتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم الدعاة إلى دين الله وشرعه ، كما أن أتباع موسى عليه‌السلام كانوا قادة يقتدى بهم في الدين ، ويدعون الناس إلى الإيمان بالأصل الصحيح للتوراة والإنجيل ، وإطاعة الله فيما أمر ، والانتهاء عما نهى عنه وزجر ، وذلك كله بإذن الله وتوفيقه. فحيث جعل الله كتاب موسى هدى ، وجعل منهم أئمة يهدون ، كذلك يجعل القرآن المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتاب هدى ، ويجعل من أمته صحابة يهدون.

٣ ـ إن اتخاذ بعض الناس أئمة سببه الصبر على الطاعة للدين ، والرضا بأمر الله ، والعمل على إعلاء كلمة الله ، والصبر على البلاء والمحن في سبيل الله تعالى ، فإن جعل الأئمة هادين يحصل بالصبر ، وهذا أمر بالصبر والإيمان بأن وعد الله حق.

٤ ـ إن الله سبحانه هو القاضي العدل والحاكم المطلق بحق بين المؤمنين والكفار ، فيجازي كلا بما يستحق ، ويفصل بين المختلفين من أمة واحدة ، كما يفصل بين المختلفين من الأمم.

٢١٨

تأكيد ثبوت التوحيد والقدرة والحشر

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠))

الإعراب :

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) فاعل (يَهْدِ) مقدر وهو المصدر ، أي أولم يهد الهدى لهم. وقيل : إن الفاعل هو الله تعالى ، أي أولم يهد الله لهم. وقرى «نهد» وتقدير الفاعل : نهد نحن لهم. و «كم» في موضع نصب ب (أَهْلَكْنا).

(مَتى هذَا الْفَتْحُ هذَا) مبتدأ ، و (الْفَتْحُ) صفته ، و (مَتى) خبره ؛ لأن الفتح مصدر وهو حدث ، و (مَتى) ظرف زمان ، وظروف الزمان يجوز أن تكون أخبارا عن الأحداث ، لوجود الفائدة في الإخبار بها عنها.

البلاغة :

(إِنَّا مُوقِنُونَ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أَفَلا يَسْمَعُونَ) سجع لمراعاة الفواصل ورؤوس الآيات.

المفردات اللغوية :

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) أي أولم يتبين لكفار مكة كثرة من أهلكناهم من القرون أي الأمم الماضية بكفرهم (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) أي يمرّ أهل مكة في أسفارهم ومتاجرهم إلى الشام وغيرها على ديارهم ، فيعتبروا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) دلالات على قدرتنا (أَفَلا يَسْمَعُونَ) سماع تدبر واتعاظ.

٢١٩

(الْأَرْضِ الْجُرُزِ) اليابسة التي لا نبات فيها ؛ لأنه جرز نباتها ، أي قطع وأزيل ، لا التي لا تنبت (تَأْكُلُ مِنْهُ) من الزرع (أَنْعامُهُمْ) كالتبن والورق (وَأَنْفُسُهُمْ) كالحب والثمر (أَفَلا يُبْصِرُونَ) هذا ، فيستدلون به على كمال قدرته وفضله ، فيعلموا أنا نقدر على إعادتهم؟

(وَيَقُولُونَ) للمؤمنين (الْفَتْحِ) النصر أو الفصل بالحكم ، أي متى هذا الحكم الحاسم بيننا وبينكم؟ (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في الوعد به (قُلْ : يَوْمَ الْفَتْحِ) بإنزال العذاب بهم يوم القيامة ، فإنه يوم نصر المؤمنين على الكفرة والفصل بينهم. وقيل : يوم بدر ، أو يوم فتح مكة (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) يمهلون لتوبة أو معذرة. (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي لا تبال بتكذيبهم (وَانْتَظِرْ) النصرة عليهم أو إنزال العذاب بهم (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) الغلبة عليك ، أو الموت أو القتل.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٩):

(قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ) : أخرج ابن جرير عن قتادة : قال الصحابة : إن لنا يوما يوشك أن نستريح فيه وننعم ، فقال المشركون : متى هذا الفتح إن كنتم صادقين؟ فنزلت.

المناسبة :

في القسم الأخير من السورة عود على بدء في تقرير الأصول الثلاثة وهي الرسالة والتوحيد والبعث ، فبعد أن ذكر تعالى بقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) تقرير رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإعادة بيان ما سبق في قوله : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ..) أعاد هنا ذكر التوحيد وبرهانه وإثبات القدرة الإلهية بالمشاهدات المحسوسة بقوله : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ) وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ ..) ثم أعاد ذكر الحشر وإثباته بقوله : (وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْفَتْحُ)؟

التفسير والبيان :

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ ، إِنَّ فِي

٢٢٠