التفسير المنير - ج ٢١

الدكتور وهبة الزحيلي

(قُلْ : سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ، ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) [العنكبوت ٢٩ / ٢٠].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ وجوب الخوف من الله تعالى وتوحيده ، وخشية يوم المعاد الذي لا بد من حصوله.

٢ ـ البعد عن الاغترار بزينة الحياة وزخارفها ، والاتكال عليها والركون إليها ، وترك العمل للآخرة.

٣ ـ إن الدنيا غرارة ، وإن الشيطان يغرّ الناس ويمنّيهم الدنيا ويلهيهم عن الآخرة ، فيصبح الإنسان مغرورا يعمل بالمعصية ويتمنى بالمغفرة!!

٤ ـ لا يعلم أحد إلا الله تعالى بأمور خمسة : هي وقت الساعة ، ووقت إنزال الغيث ومكانه ، وعلم ما في الأرحام من أحوال الجنين وأوصافه العارضة له ، وأعمال المستقبل القريب والبعيد ، ومكان وفاة الإنسان.

قال ابن عباس : هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى ، ولا يعلمها ملك مقرّب ، ولا نبي مرسل ؛ فمن ادّعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن ؛ لأنه خالفه.

أما الأنبياء فيعلمون كثيرا من الغيب بتعريف الله تعالى إياهم. وبذلك يبطل كون الكهنة والمنجمين ومن يستسقي بالأنواء (١) عالمين بالغيبيات.

__________________

(١) الأنواء : جمع نوء : وهو سقوط نجم في المنازل في المغرب مع الفجر ، وطلوع آخر من المشرق يقابله في ساعته ، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها.

١٨١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة السجدة

مكية ، وهي ثلاثون آية.

تسميتها وفضلها :

سميت سورة السجدة لما فيها من وصف المؤمنين الذين يسجدون لله تعالى ويسبحونه عند سماع آيات القرآن العظيم : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً ، وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) [١٥].

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة (الم تَنْزِيلُ) السجدة ، و (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) [الإنسان ٧٦ / ١].

وروى الإمام أحمد عن جابر رضي‌الله‌عنه قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينام حتى يقرأ (الم تَنْزِيلُ) السجدة ، و (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [الملك ٦٧ / ١].

مناسبتها لما قبلها :

تظهر صلة هذه السورة بما قبلها وهي سورة لقمان من ناحية اشتمال كل منهما على أدلة التوحيد وهو الأصل الأول للعقيدة ، وبعد أن ذكر الله تعالى في السورة المتقدمة الأصل الثاني وهو الحشر أو المعاد ، وختم تلك السورة بهذين الأصلين ، بدأ هذه السورة ببيان الأصل الثالث وهو الرسالة أو النبوة ، فقال تعالى : (الم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ ..).

١٨٢

كذلك تعد بعض آيات هذه السورة شرحا وتفصيلا للسورة السالفة ، فقوله تعالى هنا : (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [٥] توضيح لقوله تعالى في بيان مفاتح الغيب هناك : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [٣٤].

وقوله سبحانه هنا : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) [٢٧] تفصيل لقوله هناك : (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) [٣٤].

وقوله هنا : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [٧] شرح لقوله هناك : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) [٣٤].

وقوله هنا : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) [٥] شرح لقوله هناك : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) [٣٤].

وقوله هنا : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) إلى قوله : (قُلْ : يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [١٠ ـ ١١] إيضاح لقوله : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [٣٤].

موضوعها :

موضوع هذه السورة كموضوع سائر السور المكية وهو إثبات أصول الاعتقاد : «الإيمان بالله واليوم الآخر والكتب والرسل والبعث والجزاء» ومحور الكلام إثبات (البعث) بعد الموت الذي أنكره المشركون والماديون ، واتخذوه سببا لتكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

مشتملاتها :

افتتحت السورة بتقرير كون القرآن العظيم بلا أدنى شك هو كتاب الله المنزل على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإثبات رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإبطال مزاعم المشركين بأن

١٨٣

الرسول افترى هذا القرآن ، وبيان أنه لم يأتهم رسول مثله قبله.

ثم أوردت السورة أدلة وحدانية الله وقدرته من تدبيره الكون ، وخلقه الإنسان ورعايته له في أطواره التي يمر بها ، ثم بعثه الخلق مرة أخرى ليوم مقداره ألف سنة مما تعدّون ، بأسلوب يرد على إنكار المشركين البعث والنشور ، لظنهم بسبب عجزهم أن التفتت إلى ذرّات مبعثرة مشتتة يحيل بعدئذ تجمعها وإعادتها إلى خلق جديد.

ثم وصفت السورة حال المجرمين الكافرين وحال المؤمنين الطائعين لله ، فالأولون تلبسهم الذلة والمهانة ، ويتمنون الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا ، ويذوقون العذاب الأليم. والمؤمنون لا تفارقهم في الدنيا الطاعة في الليل والنهار ، ويدعون ربهم خوفا وطمعا ، وينفقون أموالهم في مرضاة الله ، ولهم في الآخرة جزاء عملهم الثواب الجزيل ، والفضل العظيم الذي تقرّ به أعينهم ، وجنات المأوى والاستقرار والخلود.

وعقّبت السورة على حال هذين الفريقين باستبعاد التسوية بينهما ؛ إذ لا يعقل مكافأة العصاة كمكافأة الطائعين.

ثم ختمت السورة بتقرير ما بدأت به ، فذكرت الرسالة ، وأبانت الهدف من إنزال التوراة على موسى عليه‌السلام ، وهو هداية بني إسرائيل ، تنبيها على وجه الشبه بين رسالة محمد ورسالة موسى عليهما الصلاة والسلام.

ثم ذكرت التوحيد والقدرة وأقامت البرهان عليهما بإهلاك الأمم الظالمة في الماضي ، وأخيرا أكدت حدوث الحشر الذي استبعد الكفار حصوله.

فصار مطلع السورة ومضمونها وخاتمتها إثبات أصول العقيدة وهي كما ذكرت : التوحيد ، والرسالة ، والبعث.

١٨٤

إثبات النبوة (الرسالة)

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣))

الإعراب :

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ ، لا رَيْبَ فِيهِ تَنْزِيلُ) : مبتدأ ، و (لا رَيْبَ فِيهِ) : خبره. ويجوز جعل (تَنْزِيلُ) خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذا تنزيل الكتاب ، ويجوز أن يكون (لا رَيْبَ فِيهِ) في موضع نصب على الحال من (الْكِتابِ) و (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) خبر المبتدأ ، و (مِنْ) : متعلقة بالخبر المحذوف. وإذا جعلت (لا رَيْبَ فِيهِ) خبر المبتدأ كانت (مِنْ) متعلقة ب (تَنْزِيلُ) و (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) خبر ثان.

المفردات اللغوية :

(الم) هذه الحروف الهجائية المقطعة سيقت كما بان سابقا للتحدي والتنبيه على إعجاز القرآن. (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أي إنزال القرآن ، أو المنزّل. (لا رَيْبَ فِيهِ) لا شك فيه. (أَمْ) بل. (يَقُولُونَ : افْتَراهُ) أي يقول المشركون : اختلقه محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند نفسه ، منكرين كونه من رب العالمين. (بَلْ هُوَ الْحَقُ) أي إن القرآن هو الحق الثابت المنزل من الله. (ما أَتاهُمْ قَوْماً) نافية. (نَذِيرٍ) منذر. (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) بإنذارك.

قال في الكشاف وأوجز البيضاوي كلامه : إنه تعالى أشار أولا إلى إعجاز القرآن ، ثم رتب عليه أن تنزيله من رب العالمين ، وقرر ذلك بنفي الريب عنه ، ثم أضرب عن ذلك إلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك إنكارا له وتعجبا منه ، فإن (أَمْ) منقطعة (١) ، ثم أضرب عنه إلى إثبات أنه

__________________

(١) هذه أَمْ المنقطعة التي تقدّر بمعنى : بل وألف الاستفهام ، أي بل أيقولون؟! وهي تدل على خروج من حديث إلى حديث.

١٨٥

الحق المنزل من الله ، وبيّن المقصود من تنزيله ، فقال : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) إذ كانوا أهل الفترة ، لعلهم يهتدون بإنذارك إياهم.

التفسير والبيان :

(الم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ ، لا رَيْبَ فِيهِ ، مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) افتتحت هذه السورة بهذه الأحرف كغالب السور المكية لبيان إعجاز القرآن وعظمته ، والرد على المشركين المنكرين نزوله من عند الله ، والمكذبين برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. هذا القرآن العظيم لا شك في أنه منزل من عند الله على قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فليس بسحر ولا شعر ولا سجع كاهن ، وإنما هو كلام رب العوالم جميعهم من إنس وجنّ ، وذلك رد على قولهم : (وَقالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها ، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان ٢٥ / ٥].

(أَمْ يَقُولُونَ : افْتَراهُ ، بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ ، لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي بل إنهم يقولون زورا وبهتانا : اختلقه وافتعله محمد من عنده ، فرد الله عليهم : بل هو الحق الثابت أي هو حق من الله ربه ، أنزله إليك لتخوف وتنذر به قوما ـ أي قريشا ونحوهم ـ بأس الله وعذابه إن كفروا وعصوا ، علما بأنه لم يأتهم نذير قبلك ، فتبين لهم طريق الرشاد ، ولعلهم يهتدون بإنذارك إياهم.

وهذا إثبات لرسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبرهان واضح على صدقه ، وردّ لقول المشركين : (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ ، وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) [الفرقان ٢٥ / ٤].

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات أن القرآن الكريم كلام الله الذي لا شك فيه أنه من عند

١٨٦

الله ، فليس بسحر ولا شعر ولا كهانة ولا أساطير الأولين ، كما يزعم المشركون الأفاكون الوثنيون ، والكفار المتعصبون لدين سابق.

وبعد أن أثبت الله تعالى أنه تنزيل من رب العالمين ، وأن ذلك مما لا ريب فيه ، أضرب عن ذلك (أي انتقل) إلى قوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) ثم كذبهم في دعوى الافتراء.

ثم بيّن الله تعالى مهمة القرآن والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي إنذار الكافرين عذاب الله ، ومنهم قريش ، قال قتادة في تفسير قوله تعالى : (قَوْماً) يعني قريشا ، كانوا أمّة أمّية لم يأتهم ندير من قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

دلائل التوحيد والقدرة الإلهية

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩))

الإعراب :

(كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) خلق : فعل ماض ، وموضع الجملة إما النصف صفة لكل ، وإما الجر

١٨٧

صفة لشيء ، ومعناه : أحسن كلّ شيء مخلوق له. ومن قرأ بسكون اللام جعله بدل اشتمال أي بدلا من قوله تعالى : (كُلَّ شَيْءٍ) أو مفعولا ثانيا ل (أَحْسَنَ) بمعنى أفهم فيتعدى إلى مفعولين.

(مِنْ وَلِيٍ) من زائدة لتأكيد النفي ، أي ليس لكم ناصر مطلقا.

البلاغة :

(الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) بينهما طباق.

(وَجَعَلَ لَكُمُ) فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب ، وكان الأصل أن يقال : وجعل له فعدل إلى ضمير الجماعة ، مراعاة لخطاب الإنسان الذي صار حيّا بنفخ الروح فيه مع ذريته.

المفردات اللغوية :

(فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) من الأحد إلى الجمعة ، والأيام : جمع يوم ، وهو عند العرب جزء من اليوم ، ويراد به لغة : الوقت. (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) العرش : أعظم المخلوقات ، وهو لغة : سرير الملك ، والاستواء عليه : هو شيء يليق بالله عزوجل دون حصر ولا كيف ولا تحديد بجهة معينة. (ما لَكُمْ) أيها الكفار وغيركم. (مِنْ دُونِهِ) من غيره. (مِنْ وَلِيٍ) أي ناصر. (وَلا شَفِيعٍ) يشفع بكم ليدفع العذاب عنكم. والمعنى : ليس لكم غير الله ناصر ولا شفيع ، بل هو الذي يتولى مصالحكم ، وينصركم في مواطن النصر. (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) بمواعظ الله فتؤمنوا؟!

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) أي يدبر أمر الدنيا مدة بقائها ، وينظم شؤونها وأحوالها الواقعة فيها تدبيرا وتنظيما شاملا مبتدئا من السماء ومنتهيا إلى الأرض. (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) ثم يصعد إليه ويرجع الأمر والتدبير ويثبت في علمه. (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) في الدنيا ، أي يصعد إليه في برهة من الزمان متطاولة وهو يوم القيامة ، وتقديره بألف سنة لشدة أهواله بالنسبة إلى الكافر ، وأما المؤمن فيكون أخف عليه من صلاة مكتوبة ، يصليها في الدنيا ، كما جاء في الحديث الثابت. (ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي ذلك الخالق المدبر يدبر الكون على وفق الحكمة ، وعلى وفق علمه الشامل الذي يعلم ما غاب عن الخلق وما حضر ، المنيع في ملكه ، الغالب على أمره ، الرحيم بأهل طاعته وتدبيره أمر العباد. قال البيضاوي : وفيه إيماء إلى أنه تعالى يراعي مصالح الناس تفضلا وإحسانا.

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أي أتقن ما خلقه ، موفرا له كل ما يحتاجه على وفق الحكمة والمصلحة. (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ) يعني آدم (نَسْلَهُ) ذريته ، سميت به ؛ لأنها تنسل منه أي تنفصل. (مِنْ سُلالَةٍ) نطفة. (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) ممتهن ضعيف ، وهو النطفة. (ثُمَّ سَوَّاهُ) قوّمه بتصوير أعضائه على ما ينبغي وأتّمه. (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) أضافه إلى نفسه تشريفا ،

١٨٨

وإشعارا بأنه خلق عجيب ، وأن له شأنا ، والمعنى : جعله حيا حساسا بعد أن كان جمادا. (وَجَعَلَ لَكُمُ) لذريته. (السَّمْعَ) أي الإسماع. (وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) خصص هذه الحواس لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا. (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) تشكرون شكرا قليلا ، و (ما) زائدة مؤكدة للقلة.

المناسبة :

بعد ما أثبت الله تعالى صحة الرسالة ، ذكر ما يجب على الرسول من الدعوة إلى توحيد الله ، وزوده بما يحتاجه من إقامة الأدلة والبراهين على ذلك ، لإنجاح مهمته.

التفسير والبيان :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي إن الله تعالى هو خالق الأشياء ، فخلق السموات والأرض وأبدعهما وفطرهما وما بينهما لا على مثال سابق ، في مدة ستة أيام ، أي في أجزاء ستة من الوقت ، ليست هي الأيام المعروفة ؛ لأنه قبل خلقها لم يكن ليل ولا نهار. وقال الحسن البصري : «من أيام الدنيا» ولو شاء لخلقها بلمح البصر ، ولكن أراد أن يعلّم عباده التأني في الأمور.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي استولى على ملكه يدبر أمره ويحكم شأنه ، أو استوى استواء يليق بجلاله وعظمته على العرش الذي هو أعظم المخلوقات ، من غير تشبيه ولا تمثيل ، ولا يحده زمان ومكان ، ولا تدركه الأبصار إدراك إحاطة وشمول ، وهو يدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير.

(ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) أي ليس لكم أيها الناس ، ولا سيما الكفار من غير الله ناصر يدفع عنكم عذابه ويلي أموركم ، ولا شافع يشفع لكم عنده إلا بإذنه ، بل هو المالك المطلق لكل شيء ، فيتولى ما فيه المصلحة ، ويدبر الأمور ، دون تدخل من أحد ، ولا حاجة لأحد ؛ لأنه وحده القادر على كل شيء ، والمهيمن على جميع الأشياء.

١٨٩

(أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)؟ أي أفلا تتدبرون وتتعظون ، فتؤمنوا بالله وحده لا شريك له. ولا نظير ولا وزير ، ولا عديل له ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه.

والمراد : حمل الناس على الإيمان بالله إلها وربا ، يعبد وحده ، ويطاع لذاته ، فهو المستعان على كل أمر ، وهو المانع من السوء ، والجالب للخير والنفع ، والمحقق للمصلحة ، دون حاجة لأحد ولا لشيء ، لذا قال مبينا الأمر بعد بيان الخلق : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف ٧ / ٥٤].

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) أي يدبر أمر الكون كله في العالم العلوي والسفلي ، ثم يصعد إليه أثر الأمر وتنفيذه بواسطة الملائكة ، وهذا تمثيل لعظمة الله وامتثال المخلوقات جميعا لمراده وتدبيره ، كالحاكم المطلق الذي يصدر أوامره ، ثم يتلقى من أعوانه ما يدل على تنفيذها.

(فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أي ترفع الأمور الحاصلة في الدنيا صغيرها وكبيرها إلى الله تعالى يوم القيامة ليفصل فيها ويحكم في شأنها ، ويوم القيامة مقداره ألف سنة من أيام الدنيا التي نعدّها في هذه الحياة.

والمراد بالألف : الزمن المتطاول الذي هو في لغة العرب أقصى نهاية العدد.

وفي موضع آخر وصف الله تعالى مقدار هذا اليوم بخمسين ألف سنة : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج ٧٠ / ٤] قال القرطبي : المعنى أن الله تعالى جعله في صعوبته على الكفار كخمسين ألف سنة ، قاله ابن عباس ، والعرب تصف أيام المكروه بالطول وأيام السرور بالقصر.

وقيل : إن يوم القيامة فيه أيام ؛ فمنه ما مقداره ألف سنة ، ومنه ما مقداره خمسون ألف سنة (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٤ / ٨٨

١٩٠

(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي المدبر لهذه الأمور هو العالم بجميع الأشياء ، يعلم ما يغيب عن الأبصار ، مما يجول في خلجات النفس ، وما لا تدركه العين المجردة ، ويعلم ما هو مشاهد تعاينه الأبصار ، وهو العزيز الذي قد عزّ كل شيء ، فقهره وغلبه ، ودانت له العباد والرقاب ، القوي الشديد في انتقامه ممن كفر به وأشرك معه غيره ، وكذب رسله ، وهو الرحيم بعباده المؤمنين الطائعين القانتين التائبين الذين يعملون الصالحات ، يرحمهم في تدبير شؤونهم في الدنيا وفي الآخرة.

وبعد إثبات الوحدانية بالآفاق من خلق السموات والأرض ، ذكر تعالى الدليل الدال عليها من الأنفس ، فقال :

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ، وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) أي إن ذلك المدبر للأمور العليم الخبير القوي الرحيم هو الذي أحسن خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها ، وبدأ خلق أبي البشر آدم من طين ، والطين مكوّن من ماء وتراب.

وكذلك يعتمد الإنسان في تكوينه وبقاء حياته على الطين ؛ لأن المني ناشئ من الغذاء ، والغذاء إما من الحيوان وإما من النبات ، وكلاهما يعتمد على ما تخرجه الأرض الترابية.

(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي ثم جعل ذرية الإنسان يتناسلون من امتزاج نطفة الرجل بماء المرأة الذي فيه البويضة التي تتلقح بنطفة الرجل ، فيتم التوالد والتناسل وبقاء النوع الإنساني من خلاصة من ماء ضعيف ممتهن عادة وهو المني.

(ثُمَّ سَوَّاهُ ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي ثم بعد خلقه من تراب جعله سويا مستقيما ، فقوّم أعضاءه ، وعدّلها ، وأتمها ، ونفخ فيه الروح التي هي من أمر الله والتي لا يعرف حقيقتها إنسان ، فبدأ

١٩١

يتحرك وينمو ، وأنعم عليكم بالحواس مفاتيح المعرفة وصمامات الأمان ، فمنحكم السمع الذي تسمع به الأصوات ، والأبصار التي تبصر بها المرئيات ، والعقول التي تفكرون بها ، وتميزون بين الخير والشر ، والحق والباطل.

وهكذا يلاحظ التدرج في الخلقة وأطوار الإنسان ، فهو ينشأ أولا من مادة هي الطين اللازب ، ثم تصبح هذه المادة ذات إفرازات حية ، يتم بها تكوين الجنين ، ثم تتحرك المادة بالروح التي هي من الحق تعالى ، فيصبح خلقا جديدا سويا في أحسن تقويم ، فتبارك الله أحسن الخالقين.

(قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي أنكم أيها الناس لا تقابلون هذه النعم بالعرفان والوفاء ، والشكر والامتنان ، وإنما تشكرون ربكم قليلا على هذه النعم التي رزقكم الله تعالى ، باستعمال تلك الحواس في طاعة الله واتباع مرضاته.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ هناك دلائل كثيرة على توحيد الله وكمال قدرته ليسمعوا القرآن ويتأملوه ، منها إبداع السموات والأرض وإيجادها بعد العدم ، وبعد أن لم تكن شيئا ، في أجزاء من الزمن الله أعلم بمقدارها ، وقد قرّبها لعقولنا وعبر عن طولها بقوله (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ).

وقد اختلف المفسرون في تفسير هذه الأيام الستة ، فقال ابن عباس : إن اليوم من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض مقداره ألف سنة من سنيّ الدنيا.

وقال الضحاك : في ستة آلاف سنة ؛ أي في مدة ستة أيام من أيام الآخرة.

٢ ـ والاستواء على العرش استواء يليق بجلال الله وكماله دون تحديد ولا

١٩٢

حصر ، وهو الأصح أو التمكن والسلطة على الكون المخلوق حاصل مع خلق السموات والأرض ، فليست (ثُمَ) للترتيب ، وإنما هي بمعنى الواو.

٣ ـ إن الله عزوجل ولي المؤمنين الذي يتولى مصالحهم وناصرهم وشفيعهم ، فإذا تجاوز الناس رضاه لم يجدوا لأنفسهم وليا ، أي ناصرا ينصرهم ولا شفيعا يشفع لهم ، وعليه ، ليس للكافرين من ولي يمنع عنهم العذاب ، ولا شفيع يتوسط لهم فيرفع عنهم العقاب.

فهل من متذكر معتبر في قدرة الله ومخلوقاته؟!

٤ ـ ويأتي الأمر بعد الخلق ، للدلالة على عظمة الله ، فإن نفاذ أمر الله في الكون دليل على عظمته ، لذا كان الأمر والتدبير في الكون وإنزال القضاء والقدر ، ونفاذ هذا التدبير من مظاهر عظمة الله تعالى ، ومجموع هذه الأوامر النافذة كلها عائد إلى الله يوم القيامة ، فقوله : (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) معناه يرجع ذلك الأمر والتدبير إليه بعد انقضاء الدنيا ، (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) هو يوم القيامة ، وقد يكون لشدة أهواله وبحسب أحوال بعض الناس في مدة مقدارها خمسون ألف سنة ، كما قال تعالى : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج ٧٠ / ٤].

ورأى الزمخشري في الكشاف أن المراد من الأمر : المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبرا من السماء إلى الأرض ، ثم يصعد إليه المأمور خالصا في مدة متطاولة لقلة عمال الله والخلّص من عباده وقلة الأعمال الصاعدة ؛ لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص ، ثم يثبت ذلك الأمر الصاعد ويصير إلى الله في كل وقت إلى أن تبلغ المدة آخرها في يوم القيامة الذي هو من أيام الله ، ويوم الله كألف سنة ، ثم يدبر الله أيضا الأمر ليوم آخر ، وهلم جرا إلى أن تقوم الساعة (١)

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٥٢٢ ـ ٥٢٣

١٩٣

٥ ـ الله تعالى في خلقه وتدبيره وحسمه أمر الدنيا بالقيامة يعلم ما غاب عن الخلق وما حضرهم ، فلا تفوته مصلحة ، ولا تخفى عليه خافية من أعمال المخلوقات. وفي هذا الكلام معنى التهديد والوعيد ، يراد به أن أخلصوا أفعالكم وأقوالكم ، فإني أجازي عليها.

٦ ـ لله القدرة البالغة التي لا توصف عظمتها وحدودها ، فقد خلق أصل الإنسان من طين ، ثم جعل ذريته يتناسلون كذلك من ماء ممتهن ضعيف ، ثم أكمله وأتمه وعدّله ونفخ فيه الروح ، وخلق فيه حواس السمع والبصر والعقل أدوات المعرفة ووسائل إدراك الحق والهدى ، وتلك نعم عظمي تستحق الشكر والوفاء بالمعروف ، لكن أكثر الناس كافرون لا يشكرون ، وقليل من عباده الشكور.

ويلاحظ أن الترتيب في السمع والأبصار والأفئدة على مقتضى الحكمة ؛ لأن الإنسان يسمع أولا الأمور فيفهمها ، ثم يبصر الأمور ، ثم يحصل له بعد السمع والبصر الإدراك التام والذهن الكامل ، فيستخرج الأشياء مما سمع ورأى.

وسبب ذكر السمع مصدرا ، والأبصار والأفئده اسما ، فجمع الأبصار والأفئدة ولم يجمع السمع : هو لحكمة هي أن الإنسان لا يسمع في زمان واحد كلامين على وجه يضبطهما ، ولا اختيار لمحل السمع وهو الاذن ، ويدرك في زمان واحد صورتين فأكثر بالعين ويعيهما ويستبينهما في القلب ، ولمحل البصر وهو العين شبه اختيار ، فإنها تتحرك إلى جانب مرئي دون غيره ، وكذلك الفؤاد محل الإدراك له نوع اختيار ، فذكر في السمع المصدر الذي هو القوة ، وفي الأبصار والأفئدة الاسم الذي هو محل القوة.

١٩٤

إثبات البعث وحال الكفار يوم القيامة

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤))

الإعراب :

(أَإِذا ضَلَلْنا إِذا) : ظرف متعلق بفعل مقدر ، تقديره : أنبعث إذا ضللنا في الأرض ، أي غبنا وبلينا.

(إِذِ الْمُجْرِمُونَ إِذِ) تتعلق ب (تَرى) و (الْمُجْرِمُونَ) مبتدأ ، وناكسو رؤوسهم : خبره ، و (رَبَّنا أَبْصَرْنا) تقديره : يقولون : ربنا أبصرنا ، فحذف القول ، كما هو المعتاد الكثير في كلام العرب.

البلاغة :

(أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ ، أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) استفهام إنكاري بقصد الاستهزاء.

(رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) فيه إضمار تقديره : يقولون : ربنا أبصرنا وسمعنا.

١٩٥

(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) تقديم الجار والمجرور للاختصاص ، أي إليه لا إلى غيره مرجعكم يوم القيامة.

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ..) حذف جواب «لو» للتهويل. أي لرأيت أمرا مهولا.

(نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ) بينهما مشاكلة : وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى ، فإن الله تعالى لا ينسى ، وإنما المراد نترككم في العذاب ترك الشيء المنسي.

المفردات اللغوية :

(وَقالُوا) أي منكرو البعث. (ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) غبنا فيها وبلينا وهلكنا ، بأن صرنا ترابا مختلطا بتراب الأرض لا نتميز منه. (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي أنبعث أو يجدد خلقنا ، والقائل أبي بن خلف ، وإسناده إلى جميعهم لرضاهم به. وهو استفهام إنكار غرضه الاستهزاء. (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) أي بل هم بالبعث جاحدون.

(قُلْ) لهم. (يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) أي يقبض أرواحكم ملك الموت ، حتى لا يبقى أحد منكم. (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أي تعودون أحياء للحساب والجزاء ، فيجازيكم ربكم بأعمالكم. (الْمُجْرِمُونَ) الكافرون. (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) خافضوها ومطأطئوها حياء وخزيا. (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) أي يقولون : يا ربنا أبصرنا ما وعدتنا من البعث وسمعنا منك تصديق الرسل فيما كذبناهم فيه. (فَارْجِعْنا) إلى الدنيا لنعمل صالحا فيها. (إِنَّا مُوقِنُونَ) الآن ، ولم يبق لنا شك بما شاهدنا ، ولكن لا ينفعهم ذلك ، ولا يرجعون. وجواب (وَلَوْ تَرى ..) محذوف تقديره : لرأيت أمرا فظيعا مهولا.

(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) أي ما تهتدي به إلى الإيمان والعمل الصالح بالتوفيق له والاختيار من النفس. (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أي ثبت قضائي وسبق (الْجِنَّةِ) الجن. (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي تقول لهم خزنة النار إذا دخلوها : ذوقوا العذاب بترككم الإيمان باليوم الآخر ، فهذا سبب العذاب. (إِنَّا نَسِيناكُمْ) تركناكم في العذاب ترك المنسي. (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) أي عذاب جهنم الدائم. (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الكفر وتكذيب الرسل. وقد كرر الأمر للتأكيد. وفي التعليل بأمرين : وهما الأفعال السيئة من التكذيب والمعاصي ، وترك التفكر في أمر الآخرة دلالة على أن كلا منهما يقتضي ذلك.

المناسبة :

بعد بيان الوحدانية ودليلها في قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ

١٩٦

وَالْأَرْضَ) وبيان الرسالة وبرهانها في قوله سبحانه : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) أخبر الله تعالى عن البعث وطريق إثباته للرد على المشركين المنكرين له ، وهذا على عادة القرآن كلما ذكر أصلين من أصول الاعتقاد الثلاثة ذكر الأصل الثالث ، وهو هنا الحشر في قوله تعالى : (وَقالُوا : أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ).

التفسير والبيان :

(وَقالُوا : أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ : أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)؟ أي يخبر الله تعالى عن المشركين الذين استبعدوا المعاد حيث قالوا : أءذا صارت أجسامنا ترابا في الأرض ، أيمكن أن نعود خلقا جديدا بعد تلك الحال؟!

وهذا الاستبعاد إنما هو بتقديرهم وقياسهم حيث قاسوا قدرة الله على قدراتهم ، فهم يرون أن البعث بعيد بالنسبة إلى قدراتهم العاجزة ، لا بالنسبة إلى قدرة الإله الخالق الذي بدأهم وخلقهم من العدم ، والذي أمره إذا أراد شيئا أن يقول له : (كُنْ فَيَكُونُ) ولهذا قال تعالى منكرا قياسهم وآراءهم :

(بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) أي إن هؤلاء المشركين لم ينكروا قدرة الله على ما يشاء فحسب ، بل تجاوزوا ذلك إلى إنكار البعث ، فهم جاحدون لقاء ربهم يوم القيامة للحساب والجزاء.

فرد الله عليهم بقوله :

(قُلْ : يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أي قل للمشركين يا محمد : إن ملك الموت الموكّل بقبض الأرواح يقبض أرواحكم في الوقت المحدد لانتهاء الأجل ، ثم في نهاية الدنيا بعد الموت ستعودون أحياء كما كنتم قبل الوفاة ، وذلك يوم المعاد وبعد القيام من القبور ، للحساب والجزاء ، فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته.

١٩٧

وهذا إثبات للبعث مع التهديد والوعيد ، وبيان أن القادر على خلق الناس أول مرة قادر على إحيائهم مرة أخرى.

ثم أخبر الله تعالى عن حال المشركين حين معاينة البعث والحساب يوم القيامة فقال :

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً ، إِنَّا مُوقِنُونَ) أي ولو تشاهد أيها الرسول حين يقوم هؤلاء المشركون بين يدي ربهم خافضي رؤوسهم من الحياء منه والخزي والعار لرأيت عجبا وأمرا فظيعا ، فتراهم يقولون : ربّنا نحن الآن نسمع قولك ونطيع أمرك ، لقد أبصرنا الحشر وسمعنا تصديقك للرسل فيما كذبناهم فيه ، فارجعنا إلى دار الدنيا نعمل ما يرضيك من صالح الاعتقاد والقول والعمل ، فهم يلومون أنفسهم حين دخول النار ، كما أخبر تعالى عنهم : (وَقالُوا : لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) [الملك ٦٧ / ١٠]. قال الزجاج في قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى) : المخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخاطبة لأمته.

وإنا الآن قد أيقنا بوحدانيتك ، واستحقاقك العبادة دون غيرك ، وتحققنا أن وعدك بالبعث حق ولقاءك حق ، وأنك القادر على الإحياء والإماتة.

ولكن الله يعلم أنه لو أعادهم إلى الدنيا ، لكانوا فيها كفارا كما كانوا ، يكذبون بآيات الله ، ويخالفون رسله ، كما قال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ ، فَقالُوا : يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ، وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام ٦ / ٢٧ ـ ٢٨].

وقال تعالى هنا :

(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) أي ولو أردنا أن نوفق كل نفس

١٩٨

ونلهمها الهداية إلى الإيمان والعمل الصالح لفعلنا ، كما قال تعالى في آية أخرى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس ١٠ / ٩٩].

ولكن حكمتنا قضت ترك أمر الإيمان والعمل الصالح للاستعدادات والخيار ، دون الإكراه والاضطرار ، كما قال سبحانه :

(وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي ولكن ثبت قضائي ، وسبق أنه لا بد من ملء جهنم من صنفي الجن والإنس الذين هم أهل لها بحسب استعدادهم وسوء اختيارهم ، وفحش اعتقادهم وعملهم ، فهم الظالمون أنفسهم ، وقد علم الله مسبقا قبل خلقهم أن مآلهم إلى النار ، فحقّ الوعيد ، وحق الجزاء.

لذا استحقوا أيضا التوبيخ ، فقال تعالى :

(فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ، إِنَّا نَسِيناكُمْ ، وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي يقال لأهل النار على سبيل التقريع والتوبيخ : ذوقوا هذا العذاب بسبب تكذيبكم بيوم القيامة ، واستبعادكم وقوعه ، وتناسيكم له ، وعملكم عمل الناسي له ، لذا فإنا سنعاملكم معاملة الناسي ؛ لأنه تعالى لا ينسى شيئا ، ولا يضل عنه شيء ، وهذا ما يسمى بأسلوب المقابلة أو المشاكلة ، مثل قوله : (وَقِيلَ : الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) [الجاثية ٤٥ / ٣٤] وقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى ٤٢ / ٤٠].

ويقال لهم أيضا على سبيل التأكيد : وذوقوا عذاب النار الدائم الذي تخلدون فيه بسبب كفركم وتكذيبكم وسوء أعمالكم ، كما قال تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً ، جَزاءً وِفاقاً ، إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً ، وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً ، فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) [النبأ ٧٨ / ٢٤ ـ ٣٠].

١٩٩

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ أنكر المشركون البعث ؛ لأنهم قاسوا قدرة الله الخالق على قدرة العبد المخلوق العاجز ، فقالوا : أءذا هلكنا وصرنا ترابا نخلق بعد ذلك خلقا جديدا؟

٢ ـ الحقيقة أن المشركين لا يجحدون قدرة الله تعالى بالإعادة ؛ لأنهم يعترفون بقدرته ، ولكنهم اعتقدوا ألا حساب عليهم ، وأنهم لا يلقون الله تعالى.

٣ ـ من مظاهر قدرة الله سبحانه أنه المميت الذي يتوفى الأنفس ويقبض الأرواح عند انتهاء آجالها ، وأن ملك الموت واسمه عزرائيل ومعناه عبد الله يتصرف كل تصرفه بأمر الله تعالى وبخلقه واختراعه ، فيخلق الله على يديه قبض الأرواح ، ذكر ابن عطية حديثا أن «البهائم كلها يتوفى الله أرواحها دون ملك الموت» كأنه يعدم حياتها ، وكذلك الأمر في بني آدم ، فالله هو الفاعل حقيقة ، والملك واسطة ووكيل ، قال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزمر ٣٩ / ٢٤] وقال سبحانه : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك ٦٧ / ٢] وقال عزوجل : (يُحْيِي وَيُمِيتُ) [آل عمران ٣ / ١٥٦] فملك الموت يقبض ، والأعوان يعالجون ، والله تعالى يزهق الروح ، لكنه لما كان ملك الموت متولّي ذلك بالوساطة والمباشرة ، أضيف التوفّي إليه ، كما أضيف الخلق للملك.

روي أن ملك الموت لما وكله الله تعالى بقبض الأرواح قال : «ربّ جعلتني أذكر بسوء ، ويشتمني بنو آدم ، فقال الله تعالى له : إني أجعل للموت عللا وأسبابا من الأمراض والأسقام ينسبون الموت إليها ، فلا يذكرك أحد إلا بخير».

٤ ـ استدل بعض العلماء بقوله تعالى : (وُكِّلَ بِكُمْ) أي بقبض الأرواح على جواز الوكالة.

٢٠٠