التفسير المنير - ج ٢١

الدكتور وهبة الزحيلي

قصة لقمان الحكيم ووصيته لابنه

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩))

الإعراب :

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ إِذْ) : ظرف متعلق بفعل مقدر ، أي اذكر إذ قال لقمان. و (لُقْمانُ) : ممنوع من الصرف للتعريف (العلمية) والألف والنون الزائدتين ، كعثمان وعمران.

١٤١

(وَهْناً) منصوب بحرف جر محذوف ، تقديره : حملته أمه بوهن ، فحذف حرف الجر ، فاتصل الفعل به فنصبه. أو حال من فاعل (حَمَلَتْهُ) على التأويل بالمشتق ، أي حملته أمه حال كونها ذات وهن وعلى وهن أي ذات ضعف على ضعف متتابع.

(أَنِ اشْكُرْ لِي) منصوب بحرف جر محذوف ، أي بأن اشكر ، وقيل : أن : مفسرة بمعنى أي ، كقوله تعالى : (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا) [ص ٣٨ / ٦] ولا موضع لها من الإعراب.

(إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِثْقالَ) خبر تكون الناقصة ، أي إن تكن الخصلة الموزونة مثقال حبة. وعلى قراءة الرفع فاعل تكون التامة ، وأنث (فَتَكُنْ) وإن كان المثقال مذكرا ، لاكتساء المضاف التأنيث من المضاف إليه ، كقولهم : ذهبت بعض أصابعه ، وكقوله تعالى: (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) [يوسف ١٢ / ١٠].

(مَرَحاً) مصدر منصوب في موضع الحال ، كقولهم : جاء زيد ركضا.

البلاغة :

(يَشْكُرْ) و (كَفَرَ) بينهما طباق.

(غَنِيٌّ حَمِيدٌ لَطِيفٌ خَبِيرٌ فَخُورٍ) صيغة مبالغة على وزن فعيل وفعول ، أي كثير الغنى والحمد والفخر.

(بِوالِدَيْهِ ، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ) ذكر الخاص بعد العام لزيادة العناية والاهتمام بالأم.

(إِلَيَّ الْمَصِيرُ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) فيه تقديم ما حقه التأخير لإفادة الحصر ، أي إليّ لا إلى غيري.

(إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) من باب التمثيل ، مثل بذلك لبيان سعة علم الله ودقته وشموله جميع الأشياء حقيرها وجليلها.

(فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) من باب التتميم ، تمم خفاء الأشياء في نفسها بخفاء مكانها.

(وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) مقابلة بين اللفظين.

(إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) استعارة تمثيلية ، شبه الرافعين أصواتهم برفع الحمير أصواتهم ، ولم يذكر أداة التشبيه ، وإنما أورده بطريق الاستعارة للمبالغة في الذم والتنفير عن رفع الصوت.

١٤٢

المفردات اللغوية :

(لُقْمانَ) هو كما ذكر البيضاوي لقمان بن باعورا من أولاد آزر ، ابن أخت أيوب أو ابن خالته ، أسود من سودان مصر من النوبة ، وعاش حتى أدرك داود وأخذ منه العلم ، آتاه الله الحكمة ، أي العقل والفطنة والعلم والإصابة في القول ، والجمهور على أنه كان حكيما ، ولم يكن نبيا. من أقواله : «الصمت حكم وقليل فاعله» وقيل له : أي الناس شر؟ قال : الذي لا يبالي إن رآه الناس مسيئا.

(الْحِكْمَةَ) هي في عرف العلماء : استكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية ، واكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة ، على قدر طاقتها (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) أي بأن اشكر ، أو أي اشكر ما أعطاك من الحكمة ، والشكر : الثناء على الله تعالى وطاعته فيما أمر به ، واستعمال الأعضاء فيما خلقت له من الخير (فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأن نفعه وثواب شكره عائد له وهو دوام النعمة واستحقاق المزيد منها. (غَنِيٌ) عن خلقه ، لا يحتاج إلى الشكر (حَمِيدٌ) حقيق بالحمد ، وإن لم يحمد ، ومحمود في صنعه ، نطق بحمده جميع مخلوقاته بلسان الحال.

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ) أي واذكر ، واسم ابنه : أنعم ، أو أشكم ، أو ماتان أو ثاران في قول السهيلي (وَهُوَ يَعِظُهُ) العظة : تذكير بالخير بأسلوب رقيق يرقّ له القلب (يا بُنَيَ) التصغير للإشفاق والتحبب (إِنَّ الشِّرْكَ) بالله (لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) الظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، وكون الشرك ظلما ؛ لأنه تسوية بين المنعم وحده وغير المنعم (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) أي أمرناه وألزمناه (بِوالِدَيْهِ) أي بأن يبرهما (وَهْناً) أي بوهن ، أي ضعف (عَلى وَهْنٍ) أي تضعف ضعفا فوق ضعف ، من الحمل ، فالطّلق ، فالولادة (وَفِصالُهُ) أي فطامه (فِي عامَيْنِ) في انقضاء عامين ، وفيه دليل على أن أقصى مدة الرضاع حولان (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) تفسير لوصيّنا (الْمَصِيرُ) المرجع ، فأحاسبك على الشكر أو الكفر.

(ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) مطابق للواقع (فَلا تُطِعْهُما) في ذلك (مَعْرُوفاً) أي بالمعروف وهو البر والصلة ، أو صحابا معروفا يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم.

(وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) أي اتبع في الدين طريق من رجع إلي بالتوحيد والإخلاص في الطاعة. و (أَنابَ) رجع إلى ربه بالتوبة والاستغفار (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي أخبركم بأعمالكم ، وأجازيكم على الإيمان والكفر. والآيتان : (وَوَصَّيْنَا .. وَإِنْ جاهَداكَ ..) معترضتان ضمن وصية لقمان ، تأكيدا لما فيها من النهي عن الشرك ، كأنه قال : وقد وصينا بمثل ما وصى به.

(إِنَّها إِنْ تَكُ) أي إن الخصلة السيئة أو الحسنة (مِثْقالَ حَبَّةٍ) وزن أصغر شيء (مِنْ

١٤٣

خَرْدَلٍ) وزن حبة خردل (فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) أي في أخفى مكان فيهما (يَأْتِ بِهَا اللهُ) فيحاسب عليها (لَطِيفٌ) باستخراجها ، يصل علمه إلى كل خفي (خَبِيرٌ) بمكانها ، عالم بكنه الأشياء وحقائقها (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من الشدائد ، وبسبب الأمر والنهي (إِنَّ ذلِكَ) المذكور من كل ما أمر به ونهى عنه (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) معزوماتها التي يعزم عليها لوجوبها ، أو من الأمور المعزومة التي قطعها الله قطع إيجاب (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) لا تمله عنهم ولا تولّهم صفحة وجهك ، كما يفعل المتكبرون ، والأصعر : المعرض بوجهه كبرا ، مأخوذ من الصّعر ، وهو داء يعتري البعير فيلوي منه عنقه (مَرَحاً) خيلاء وبطرا (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي يعاقب كل متبختر في مشيه ، فخور على الناس. وهو علة للنهي. والمختال : فاعل الخيلاء ، وهي التبختر في المشي كبرا ، والفخور من الفخر : وهو المباهاة بالمال والجاه ونحو ذلك.

(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) توسط فيه غير مختال ولا مستضعف ، وغير مسرع ولا مبطئ وفي الحديث الذي رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة وهو ضعيف : «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن» والمقصود بقول عائشة في عمر رضي‌الله‌عنهما : «كان إذا مشى أسرع» أنه يسير ما فوق دبيب المتماوت (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أي أنقص منه وأقصر أو اخفض (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ) أي أقبحها وأزعجها وأصعبها على السامع (لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) أوله زفير وآخره شهيق.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى فساد اعتقاد المشركين وأن المشرك ظالم ضال ، ذكر ما يدل على ضلالهم وظلمهم بمقتضى الحكمة والعلم المرشد إلى الإقرار بوحدانيته ، وإن لم يكن هناك نبوة ، فإن لقمان توصل إلى إثبات التوحيد وإطاعة الله والتزام مكارم الأخلاق دون نبي ولا رسول.

وهذا إشارة إلى أن اتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لازم فيما لا يعقل معناه ، إظهارا للتعبد ، ولازم من باب أولى فيما يدرك بالعقل معناه.

التفسير والبيان :

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ، وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي وتالله لقد أعطينا لقمان (١) الحكمة وهي التوفيق

__________________

(١) روى ابو القاسم الطبراني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتخذوا السودان ، فإن ـ

١٤٤

إلى العمل بالعلم والفهم ، وشكر الله وحمده على نعمه وأفضاله ، وحب الخير للناس ، واستعمال الأعضاء فيما خلقت له من الخير والنفع.

وهذا دليل على أن لقمان الحكيم هداه الله إلى المعرفة الصحيحة ، من غير طريق النبوة.

ومن يشكر الله على ما منحه وأعطاه ربه ، فيطيعه ويؤدي فرضه ، فإنما يحقق النفع والثواب لنفسه ، وينقذها من العذاب ، كما قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت ٤١ / ٤٦] وقال عزوجل : (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) [الروم ٣٠ / ٤٤].

ومن جحد نعمة الله عليه ، فأشرك به غيره ، وعصى أوامره ، فإنه يسيء إلى نفسه ، ولا يضر ربّه ، فإن الله غني عن العباد وشكرهم ، لا يتضرر بذلك ، فلا تنفعه طاعة ، ولا تضره معصية ، وهو المحمود في السماء والأرض بلسان الحال أو المقال ، وإن لم يحمده أحد من الناس.

ثم ذكر تعالى وصية لقمان (وهو كما ذكر ابن كثير لقمان بن عنقاء بن سدون) لابنه (وهو ثاران في قول السهيلي والطبري والقتبي) فقال :

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ ، وَهُوَ يَعِظُهُ : يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) واذكر حين أوصى لقمان ابنه بوصية أو موعظة ، حرصا عليه ؛ لأن الأب يحب ابنه وهو أشفق الناس عليه ، فقال له : يا ولدي ، اعبد الله ولا تشرك به شيئا ، فإن الشرك أعظم الظلم ، أما إنه ظلم فلكونه وضع الشيء في غير موضعه ، وأما كونه أعظم الظلم فلتعلقه بأصل الاعتقاد وتسويته بين الخالق والمخلوق ، وبين المنعم وحده وبين غير المنعم أصلا ، وهي الأصنام والأوثان.

__________________

ـ ثلاثة منهم من سادات أهل الجنة : لقمان الحكيم ، والنجاشي ، وبلال المؤذن» قال الطبراني : أراد الحبش (تفسير ابن كثير : ٣ / ٤٤٧).

١٤٥

والآية عطف على معنى ما سبق ، وتقديره : ولقد آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكرا في نفسه ، وحين جعلناه واعظا لغيره.

روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت آية (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ، أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام ٦ / ٨٢] شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا : أيّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه ليس بذلك ، ألا تسمع إلى قول لقمان : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)».

ثم أمر الله تعالى ببرّ الوالدين ، جريا على عادة القرآن ، فإنه كثيرا ما يقرن الله تعالى في القرآن بين الأمر بعبادة الله واجتناب الشرك وبين الأمر ببرّ الوالدين ، كما في قوله سبحانه : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء ١٧ / ٢٣] ، فقال :

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ ، وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي وأمرنا الإنسان وألزمناه ببرّ والديه وطاعتهما ، وأداء حقوقهما ، ولا سيما برّ الأم التي حملته في ضعف فوق ضعف ، من الحمل إلى الطلق إلى الولادة والنفاس ، ثم الرضاع والفطام في مدة عامين والتربية ليلا ونهارا ، كما قال تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة ٢ / ٢٣٣] وقد بيّن الحديث النبوي أحقية الأم بالبرّ ، فأوصى بها ثلاث مرات ، ثم أوصى بالأب في المرة الرابعة ، فجعل له ربع المبرة.

لقد وصيناه ، أي أمرناه وعهدنا إليه بالشكر لي أي لله على نعمتي عليك ، وبالشكر للوالدين ؛ لأنهما سبب وجودك ، ومصدر الإحسان إليك بعد الله تعالى. وقوله تعالى : (أَنِ اشْكُرْ لِي) لبيان علة الوصية أو وجوب امتثالها ، و (الْإِنْسانَ) هنا في رأي الزمخشري تفسيرية ، والجملة بيان لفعل التوصية ، إذ هو متضمن معنى القول ، أي قلنا له : (اشْكُرْ لِي).

١٤٦

وكذا علة الأمر بطاعة الله وطاعة الأبوين أو السبب فيه : هو أن المصير أو المرجع إلي ، فسأجزيك على ذلك أوفر الجزاء في الآخرة. وهذا تهديد وتخويف من عاقبة المخالفة والعقوق والعصيان ، كما هو وعد بالجزاء الحسن على امتثال أمر الله وطاعته وبرّ الوالدين وصلتهما.

وهذه الآية وما بعدها من كلام لقمان الذي وصى به ابنه ، أخبر الله عنه بذلك ، فلما بيّن لقمان لابنه أن الشرك ظلم ونهاه عنه ، كان ذلك حثّا على طاعة الله ، ثم بيّن أن الطاعة تكون للأبوين ، وبيّن السبب في ذلك.

وقيل : هو من كلام الله قاله للقمان ، أي قلنا له : (اشْكُرْ) ، وقلنا له : (وَوَصَّيْنَا) ، وقيل : هذه الآية اعتراض بين وصية لقمان تؤكد النهي عن الشرك ، قال القرطبي: والصحيح أن هذه الآية وآية العنكبوت السابقة : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) [٨] نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية التي حلفت ألا تأكل حتى يرتد سعد ، وعليه جماعة من المفسرين (١). والمختار عند المفسرين أن هذه الآية إلى آخر الآيتين بعدها كلام مستأنف من الله تعالى ، جاء معترضا بين وصايا لقمان لابنه ، تأكيدا للنهي عن الشرك.

ثم قيّد الله طاعة الأبوين مستثنيا حقوقه تعالى ، فقال :

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، فَلا تُطِعْهُما) أي وإن ألحّ والداك في الطلب ، وحرصا عليك كل الحرص على أن تتابعهما في دينهما ، وتشرك بي في عبادتي غيري مما لا تعلم أنه شريك لي ، فلا تقبل منهما ذلك ، ولا تطعهما فيما أمراك به من الشرك أو المعصية ، فإنه لا طاعة لمخلوق في

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٤ / ٦٣ ، البحر المحيط : ٧ / ١٨٦ وما بعدها.

١٤٧

معصية الخالق. والمراد بنفي العلم نفي الشريك ، أي لتشرك بي ما ليس بشيء وهي الأصنام.

(وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ، ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي لا يمنعك عدم طاعتك لأبويك في الشرك والمعصية من أن تصاحبهما في الدنيا بالمعروف ، بأن تحسن إليهما ، فتمدهما بالمال عند الحاجة ، وتطعمهما وتكسوهما ، وتعالجهما عند المرض ، وتواريهما عند الموت في القبور ، وتبرّ صديقهما ، وتفي بعهدهما. وقوله (مَعْرُوفاً) أي صحابا معروفا على مقتضى الكرم والمروءة ، أو مصاحبا حسا بخلق جميل ، وحلم واحتمال ، وبرّ وصلة.

وقوله : (فِي الدُّنْيا) تهوين شأن الصحبة ، فهي لأيام محدودة ، وسنوات معدودة ، سريعة الزوال والانقضاء. والمعروف هنا : ما يعرفه الشرع ويرتضيه ، وما يقتضي به الكرم والمروءة في إطعامهما وكسوتهما والإحسان إليهما في القول والفعل.

وإياك والمحاباة في شأن الدين ، فالزم سبيل المؤمنين التائبين في دينك ، ولا تتبع في كفرهما سبيلهما فيه ، وإن كنت مأمورا بحسن مصاحبتهما في الدنيا.

ثم إليّ مرجعك ومرجعهما ، فأجازيك على إيمانك ، وأجازيهما على كفرهما ، وأخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من خير أو شر. والجملة مقررة لما قبلها ومؤكدة لوجوب الإحسان إلى الوالدين وبرهما وطاعتهما في غير معصية.

ثم أخبر تعالى عن بقية وصايا لقمان الحكيم النافعة ، ليمتثلها الناس ويقتدوا بها ، فقال:

١ ـ (يا بُنَيَّ ، إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ ، يَأْتِ بِهَا اللهُ ، إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) أي يا ولدي ، إن

١٤٨

الحسنة والسيئة أو المظلمة والخطيئة ، لو كانت تساوي وزن أو مثقال حبة خردل ، ولو كانت في أخفى مكان كجوف صخرة ، أو في أعلى مكان كالسماوات ، أو في أسفل موضع كباطن الأرض ، لأحضرها الله يوم القيامة حين الحساب ، ووزن الأعمال ، والمجازاة عليها خيرا أو شرا ، كما قال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) [الأنبياء ٢١ / ٤٧] وقال سبحانه : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة ٩٩ / ٧ ـ ٨]. وقوله : (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) يراد به المبالغة والانتهاء في التفهيم.

إن الله لطيف العلم ، يصل علمه إلى كل شيء خفي ، فلا تخفى عليه الأشياء ، وإن دقت ولطفت وتضاءلت ، خبير عالم بكنه الأشياء ، يعلم ظواهر الأمور وبواطنها.

والمقصود من الآية بيان سعة علم الله ، فهو يعلم الغيب والشهادة ، ويطلع على جميع أعمال عباده ، لموافاتهم بجزائها يوم القيامة.

٢ ـ (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ ، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ ، إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي بعد أن منعه من الشرك ، وخوفه بعلم الله وقدرته ، أمره بصالح الأعمال اللازمة للتوحيد وهي الصلاة أي العبادة لوجه الله مخلصا ، وإقامتها أي أداؤها كاملة بحدودها وفروضها وأوقاتها ، وهي عماد الدين ، ودليل الإيمان واليقين ، ووسيلة القربى إلى الله وتحقيق رضوانه ، كما أنها تساعد على اجتناب الفحشاء والمنكر ، وصفاء النفس.

والأمر بالمعروف أي أمر النفس والغير بما هو معروف شرعا وعقلا ، كمكارم الأخلاق ، ومحاسن الأفعال ، مما يهذب النفس ويدعو إلى التحضر والتمدن ، كما قال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس ٩١ / ٩ ـ ١٠].

١٤٩

والنهي عن المنكر ، أي منع النفس والآخرين من المعاصي والمنكرات المحرّمة شرعا والقبيحة عقلا ، والتي تغضب الله ، وتوجب عذاب جهنم.

والصبر على الأذى والشدائد والأوامر الإلهية ، فإن الآمر بالمعروف ، والناهي عن المنكر يؤذى عادة ، فطلب منه الصبر. وقد بدئت الوصايا بالصلاة ؛ لأنها عماد الدين وختمت بالصبر ؛ لأنه أساس المداومة على الطاعات ، وعماد رضوان الله ، كما قال تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة ٢ / ٤٥].

(إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي إن ذلك المذكور مما أمر الله به ونهى عنه ، ومنه الصبر على أذى الناس ، لمن الأمور الواجبة المعزومة ، أي المقطوعة قطع إيجاب وإلزام (١) ، ويكون المصدر «عزم» بمعنى المفعول.

وبعد أمره بما يكمل نفسه وغيره ، نهى عن أشياء وحذر من أشياء ، فقال :

١ ـ (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) أي لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلموك تكبرا واحتقارا ، والمعنى : لا تتكبر فتحتقر عباد الله ، ولا تتكلم وأنت معرض ، بل كن متواضعا سهلا هينا لينا منبسط الوجه ، مستهل البشر ، كما جاء في الحديث النبوي الذي رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري : «لا تحقرنّ من المعروف شيئا ، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط ، وإياك وإسبال الإزار ، فإنها من المخيلة ، والمخيلة لا يحبها الله».

٢ ـ (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي لا تسر في الأرض مختالا بطرا متبخترا ، جبارا عنيدا ، فإن تلك المشية يبغضها ، والله يكره كل مختال معجب في نفسه ، فخور على غيره ، كما قال تعالى : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ ، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً)

__________________

(١) ومنه الحديث : «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل» أي لم يقطعه بالنية ، ومنه الحديث الآخر : «إن الله يحب أن يؤخذ برخصة ، كما يحب أن يؤخذ بعزائمه».

١٥٠

[الإسراء ١٧ / ٣٧]. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن ابن عمر : «من جرّ ثوبه خيلاء ، لا ينظر الله إليه يوم القيامة». والفخور : هو الذي يعدد ما أعطي ، ولا يشكر الله تعالى». وروى ابن أبي الدنيا عن أنس رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «طوبى للأتقياء الأثرياء الذين إذا احضروا لم يعرفوا ، وإذا غابوا لم يفتقدوا ، أولئك مصابيح مجردون من كل فتنة غبراء مشتتة» وروى أيضا عن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ربّ ذي طمرين لا يؤبه له ، لو أقسم على الله لأبره ، لو قال : اللهم إني أسألك الجنة ، لأعطاه الله الجنة ، ولم يعطه من الدنيا شيئا».

وروى يحيى بن جابر الطائي عن غضيف بن الحارث قال : جلست إلى عبد الله بن عمرو بن العاص ، فسمعته يقول : إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه ، فيقول : يا ابن آدم ، ما غرّك بي! ألم تعلم أني بيت الوحدة! ألم تعلم أني بيت الظلمة! ألم تعلم أني بيت الحق! يا ابن آدم ما غرّك بي! لقد كنت تمشي حولي فدّادا (مختالا متكبرا).

٣ ـ (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أي امش مشيا متوسطا عدلا ، ليس بالبطيء المتثبّط المتماوت الذي يظهر الضعف تزهدا ، ولا بالسريع المفرط ، الذي يثب وثب الشيطان ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة ، وهو ضعيف : «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن» ، وأما قول عائشة في عمر رضي‌الله‌عنهما : «كان إذا مشى أسرع في مشيته» فالمراد السرعة التي تتجاوز دبيب المتماوتين. وقد رأى عمر رجلا متماوتا ، فقال له : «لا تمت علينا ديننا ، أماتك الله» ، ورأى رجلا مطأطئا رأسه ، فقال له : «ارفع رأسك ، فإن الإسلام ليس بمريض».

٤ ـ (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ، إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) أي لا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه ، وأخفضه ، فإن شدة الصوت تؤذي آلة السمع ، وتدل على الغرور والاعتداد بالنفس وعدم الاكتراث بالغير ، واعتدال الصوت أوقر

١٥١

للمتكلم ، وأقرب لاستيعاب الكلام ووعيه وفهمه ، وقد علل النهى عن رفع الصوت بأنه يشبه صوت الحمير في علوه ورفعه ، وإن أقبح الأصوات لصوت الحمير ، وهو بغيض إلى الله تعالى ، والسبب أن أوله زفير وآخره شهيق.

وفيه دلالة على ذمّ رفع الصوت من غير حاجة ، لأن التشبيه بصوت الحمار يقتضي غاية الذمّ ، وقد ورد في السّنة أيضا ما يدل على التنفير منه ، روى الجماعة إلا ابن ماجه عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا سمعتم صياح الديكة ، فاسألوا الله من فضله ، وإذا سمعتم نهيق الحمير ، فتعوذوا بالله من الشيطان ، فإنها رأت شيطانا».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن الشرك بالله أو اتخاذ عبد من عباده أو صنم من الأصنام شريكا في العبادة مع الله ظلم عظيم ، بل هو أعظم الظلم ، لما فيه من الافتئات على الخالق الرازق ، وسخف هذا الاعتقاد ، وخلوة من أي فائدة للمشرك. وقد حققت وصية لقمان لابنه هدفها ، فقد ورد في التفسير أن ابنه كان مشركا ، فوعظه وكرر الوعظ عليه حتى أسلم.

٢ ـ برّ الوالدين وطاعتهما في معروف غير معصية فرض واجب على الإنسان ، مقابلة للمعروف بمثله ، ووفاء للإحسان ، وتقدير الفضل ، واحترام نظام الأسرة. وأمر الله بالإحسان إلى الوالدين عام في الوالدين المسلمين والكافرين ، وأن طاعة الوالدين على أي دين كانا واجبة.

غير أن طاعة الأبوين غير مطلوبة ، بل هي حرام في ارتكاب معصية كبيرة كالإشراك بالله ، وترك فريضة عينية ؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وتلزم طاعتهما في المباحات ، وتندب الطاعة في ترك المندوبات ومنها الجهاد

١٥٢

الكفائي ، وإجابة الأم في الصلاة النافلة إذا شقّ عليها الانتظار أو خيف هلاكها.

وتختصّ الأم بزيادة البرّ والطاعة لمعاناتها في سبيل تربية أولادها ، وبما أنها كما ذكرت الآية تعرضت لمراتب ثلاث من المشاق : الحمل ، والرضاع ، والوضع ، جعل لها ثلاثة أرباع المبرّة ، وللأب الربع ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لرجل سأله فيما رواه البخاري وغيره : «من أبرّ؟ قال : أمّك ، قال : ثم من؟ قال : أمّك ، قال : ثم من؟ قال : أمّك ، قال : ثم من؟ قال : أبوك».

٣ ـ أقصى مدة الرضاع في أحكام النفقات والتحريم بالرضاع عامان ، وقصر مدة الرضاع الذي يتعلق به التحريم على عامين هو رأي العلماء غير أبي حنيفة. ورأى أبو حنيفة أن مدة الرضاع المحرم ثلاثون شهرا لقوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً).

واستنبط العلماء أيضا أن أقل مدة الحمل ستة أشهر من مجموع آيتين ، قال تعالى في آية : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة ٢ / ٢٣٣] ، وقال في آية أخرى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف ٤٦ / ١٥].

٤ ـ الشكر لله على نعمة الإيمان وغيرها من النعم الكثيرة التي لا تعدّ ولا تحصى ، وللوالدين على نعمة التربية ، قال سفيان بن عيينة : من صلّى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى ، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما.

٥ ـ آية (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) دليل على جواز صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين ، وإلانة القول والدعوة إلى الإسلام برفق. ويؤيده أن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البخاري

١٥٣

ومسلم ـ وقد قدمت عليها أمها من الرضاعة ، أو خالتها ـ : «يا رسول الله ، إن أمي قدمت علي ، وهي راغبة ، أفأصلها؟ قال : نعم» قال ابن عطية : والظاهر عندي أنها راغبة في الصلة ، وما كانت لتقدم على أسماء لو لا حاجتها.

ووالدة أسماء : هي قتيلة بنت عبد العزّى بن عبد أسد. وأم عائشة وعبد الرحمن هي أم رومان قديمة الإسلام.

ودلّ قوله تعالى : (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) على أن الولد لا يستحق القصاص على أحد والديه ، وأنه لا يحدّ له إذا قذفه ، ولا يحبس له بدين عليه ، وأن على الولد نفقة والديه عند الحاجة.

٦ ـ قوله تعالى : (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) المراد به العموم ، كما هو ظاهر اسم الموصول ، فهو وصية لجميع العالم ، والمأمور الإنسان ، وهي سبيل الأنبياء والمؤمنين الصالحين. وأناب معناه : مال ورجع إلى الشيء ، والمراد هنا : تاب من الشرك ، ورجع إلى الإسلام ، واتبع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورجع إلى الله بالتوحيد والإخلاص بالطاعة ، لا سبيل الوالدين اللذين يأمران بالشرك. وهذا الأمر باتباع السبيل دليل على صحة إجماع المسلمين ، وأنه حجة لأمر الله تعالى إيانا باتباعهم ، وهو مثل قوله تعالى : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء ٤ / ١١٥].

٧ ـ قوله سبحانه : (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ..) توعد من الله عزوجل ببعث من في القبور ، والرجوع إليه للجزاء والاعلام بصغير الأعمال وكبيرها.

٨ ـ قوله تعالى : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ ..) قصد به إعلام قدرة الله تعالى ، وتخويف منه ورجاء ، فمهما تكن الحسنة أو الخطيئة أو الطاعات والمعاصي مثقال حبة خردل يأت بها الله ، لأن الحسّ لا يدرك ثقلا للخردلة ، إذ لا ترجّح ميزانا.

١٥٤

وفسّر القرطبي الآية بأنه لو كان للإنسان رزق مثقال حبة خردل في أي مكان في العالم العلوي (السموات) والسفلي (الأرض) جاء الله بها ، حتى يسوقها إلى من هي رزقه ؛ أي لا تهتم للرزق حتى تشتغل به عن أداء الفرائض ، وعن اتّباع سبيل من أناب إلي. ومن هذا المعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الله بن مسعود فيما رواه البيهقي في القدر ، وهو ضعيف : «لا تكثر همّك ، ما قدّر يكن ، وما ترزق يأتك». وقد نطقت هذه الآية بأن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما ، وأحصى كل شيء عددا ؛ سبحانه لا شريك له.

٩ ـ في الآية تعظيم الطاعات وهي الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا يشمل جميع الطاعات والفضائل ، والحضّ على تغيير المنكر والصبر ، وإن نال الإنسان ضرر ، وفيه إشعار بأن المغيّر يؤذى أحيانا.

كما أن الصبر مندوب إليه عند التعرض لشدائد الدنيا كالأمراض وغيرها ، وعلى الإنسان ألا يخرج من الجزع إلى معصية الله عزوجل ، فإن من حقيقة الإيمان الصبر على المكاره.

وإن إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عزم الأمور ، أي مما عزمه الله وأمر به ، وجعله من الأمور الواجبة.

١٠ ـ دلّ قوله تعالى : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) على تحريم التكبر ، ومعنى الآية : ولا تمل خدك للناس تكبرا عليهم ، وإعجابا بالنفس ، واحتقارا لهم ، وأقبل عليهم متواضعا مؤنسا مستأنسا ، وإذا حدّثك أصغر الناس ، فاصغ إليه حتى يكمل حديثه ، كما كان يفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والخلاصة : لا تدبر عن المتكلم ، كما روى مالك عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا ، وكونوا عباد الله إخوانا ، ولا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث» فالتدابر والإعراض وترك

١٥٥

الكلام والسلام من المحظورات.

١١ ـ يحرم على الإنسان أن يمشي في الأرض متبخترا متكبرا ، بل يحرم التكبر في كل الحالات.

١٢ ـ يندب للإنسان القصد أي التوسط في المشي ، وهو ما بين الإسراع والبطء ، فلا تدبّ دبيب المتماوتين ، ولا تثب وثب الشيطان.

١٣ ـ كما يندب إليه عدم التكلف في رفع الصوت ، والتكلم حسب الحاجة والمعتاد ، فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلّف يؤذي ، والمراد بذلك كله التواضع.

وقد شبّه رفع الصوت الزائد عن الحاجة بصوت الحمير ، والحمار ونهاقه مثل في الذمّ البليغ والشتيمة.

وفي الآية دليل على تعريف قبح رفع الصوت في المخاطبة بقبح أصوات الحمير ، لأنها عالية.

والآية أدب من الله تعالى بترك الصياح في وجوه الناس تهاونا بهم ، أو بترك الصياح جملة ، وقد نهى الله عنه ، لأنه من أخلاق الجاهلية وعاداتها ، فقد كانت العرب تفخر بجهارة الصوت الجهير وغير ذلك.

وتلك إشارة إلى التوسط في جميع الأفعال والأقوال.

والخلاصة : جمعت وصية لقمان بين فضائل الدين والآخرة ومكارم الأخلاق في الدنيا ، واشتملت تسعة أوامر ، وثلاثة نواه ، وسبع علل أو أسباب :

أما الأوامر : فهي الأمر ببرّ الوالدين ، والشكر لله وللوالدين ، ومصاحبة الوالدين في الدنيا بالمعروف ، واتباع سبيل الأنبياء والصالحين ، وإقامة الصلاة ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والاعتدال في المشي ، وإخفاض الصوت.

١٥٦

وأما النواهي : فهي النهي عن الشرك ، والنهي عن تصعير الخد (الإعراض عمن تكلم تكبرا) والنهي عن المشي مرحا (اختيالا وتبخترا).

والتعليلات أو الأسباب هي :

١ ـ (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).

٢ ـ (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

٣ ـ (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) ، (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

٤ ـ (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ).

٥ ـ (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).

٦ ـ (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ).

٧ ـ (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ).

توبيخ المشركين على الشرك مع مشاهدة دلائل التوحيد

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١))

الإعراب :

(نِعَمَهُ ظاهِرَةً) أراد : نعم الله ، جمع نعمة ، و (ظاهِرَةً) حال. وقرئ : نعمة ، ونعمته.

١٥٧

البلاغة :

(ظاهِرَةً وَباطِنَةً) بينهما طباق.

(أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ) إنكار وتوبيخ ، مع الحذف ، أي : أيتبعونهم ولو كان الشيطان. إلخ ...

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ) أي ألم تعلموا أيها المخاطبون أن الله ذلل لكم جميع ما في السموات من الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغير ذلك ، بأن جعله أسبابا محصلة لمنافعكم. (وَما فِي الْأَرْضِ) بأن مكنكم من الانتفاع به ، كالثمار والأنهار والدواب والمعادن وما لا يحصى. (وَأَسْبَغَ) أكمل وأوسع وأتمّ. (نِعَمَهُ) جمع نعمة : وهي كل نفع قصد به الإحسان. (ظاهِرَةً وَباطِنَةً) محسوسة ومعقولة ، ما تعرفونه وما لا تعرفونه ، فالظاهرة : كل ما يعلم بالمشاهدة كحسن الصورة وتسوية الأعضاء ، والباطنة : ما لا يعلم إلا بدليل ، أو لا يعلم أصلا ، فكم في بدن الإنسان من نعمة لا يعلمها ، ولا يهتدي إلى العلم بها!!

(وَمِنَ النَّاسِ) بعض الناس كأهل مكة في صدر الإسلام. (مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) في توحيده وصفاته. (بِغَيْرِ عِلْمٍ) مستفاد من دليل أو بغير حجة. (وَلا هُدىً) أي ولا هداية من رسول. (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أنزله ، بل بالتقليد. (بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي ما سار عليه الأسلاف ، وهو منع صريح من التقليد في الأصول كالاعتقاد. (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) أي أيتبعونهم ، ولو دعاهم الشيطان إلى موجبات عذاب جهنم ، وهو الإشراك أو التقليد ، وجواب (لَوْ) محذوف ، أي لا تبعوه ، والاستفهام للإنكار والتعجيب.

المناسبة :

بعد أن استدل الله تعالى بقوله : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) على الوحدانية وذكر أن لقمان عرف ذلك بالحكمة ، لا بالنبوة ، عاد إلى توبيخ المشركين على إصرارهم على الشرك ، مع مشاهدتهم دلائل التوحيد عيانا في عالم السموات والأرض ، وتسخير ما فيها لمنافعهم ، وإنعامه عليهم بالنعم المحسوسة والمعقولة ، المعروفة لهم وغير المعروفة.

١٥٨

التفسير والبيان :

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) أي ألم تعلموا أيها الناس دلائل التوحيد الناطقة بوحدانية الله سبحانه في كل شيء ، وإنعامه عليكم ، فهو الذي ذلل لكم جميع ما في السموات من شمس وقمر ونجوم ، تستضيئون بها في الليل والنهار ، وما خلق فيها من سحاب ينزل منه المطر ، لسقي الإنسان والحيوان والنبات ، ويسر لكم جميع ما في الأرض من قرار ومعادن ، وأنهار وبحار ، وأشجار وزروع ، وثمار ، ونحو ذلك من المنافع الغذائية ، وأكمل وأتم عليكم نعمه الظاهرة والباطنة أي المحسوسة والمعقولة ، المعروفة وغير المعروفة ، ومنها إنزال الكتب وإرسال الرسل ، وإزالة الشّبه والعلل والأعذار.

وقيل : الظاهرة : الإسلام ، والباطنة : الستر ؛ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عباس ـ وقد سأله عن هذه الآية ـ : «الظاهرة : الإسلام وما حسن من خلقك ، والباطنة : ما ستر عليك من سيء عملك».

وقيل : الظاهرة : ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال في الناس ، وتوفيق الطاعات ، والباطنة : ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله ، وحسن اليقين ، وما يدفع عن العبد من الآفات.

ومع هذا كله ، ما آمن الناس كلهم ، فقال تعالى :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَلا هُدىً ، وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي وبالرغم من ثبوت الألوهية بالخلق والإنعام ، فهناك فريق من الناس يجادل في توحيد الله وصفاته وإرساله الرسل ، كزعماء الوثنية في مكة وغيرها ، بغير دليل معقول ، ولا مستند أو حجة صحيحة على يد رسول ، ولا كتاب مأثور صحيح ينير الطريق الحق.

١٥٩

فقوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) معناه : لا من علم واضح ، من هدى أتاه من هاد ، ولا من كتاب مبين واضح.

وإنما حجتهم الوحيدة هو التقليد الأعمى ، واتباع الهدى والشيطان ، لذا تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ : اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ ، قالُوا : بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي وإذا قيل لهؤلاء المجادلين في توحيد الله : اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الشرائع المطهرة ، لم يكن لهم حجة إلا اتباع الآباء الأقدمين فيما اعتقدوه من دين. وهذا في غاية القبح ، فإن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوهم إلى كلام الله الهادي إلى الحق والخير ، وهم يأخذون بكلام آبائهم.

وهذا منع صريح من التقليد في أصول العقيدة ، لذا وبخهم الله على سوء مقالتهم فقال :

(أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ؟) أي أيتبعونهم بلا دليل ، ولو كان اعتقادهم قائما على الهوى وتزيين الشيطان الذي يدعوهم إلى عذاب جهنم ، والله يدعو إلى النجاة والثواب والسعادة؟! وهذا كقوله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) [البقرة ٢ / ١٧٠] أي ولو كان آباؤهم المحتجون بصنيعهم على ضلالة ، فلا عقل عندهم ولا هداية معهم؟! وهم خلف فيما كانوا فيه.

وهذا استفهام على سبيل التعجب والإنكار ، يتضمن التهكم عليهم ، وتسفيه عقولهم ، والسخرية من آرائهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١٦٠