التفسير المنير - ج ٢١

الدكتور وهبة الزحيلي

المناسبة :

بعد بيان أدلة التوحيد والبعث وصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ختم الله السورة بوصف إجمالي للقرآن وهو أنه كتاب العبر والأمثال لإزالة الأعذار ، والكتاب المخلص غاية الإخلاص للبشرية بتقديم الإنذارات الكافية ، ثم أردفه ببيان تحقيق جميع أهدافه على يد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي بلغ الغاية القصوى في تبليغ دعوته ، وأنه لم يبق منه تقصير.

فإن طلب الكفار شيئا آخر غير القرآن وهذا النبي ، فذلك عناد ، لم يفدهم بعده أي بيان ؛ إذ من هان عليه تكذيب دليل ، سهل عليه تكذيب الأدلة كلها.

التفسير والبيان :

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي ولقد بينا لهم الحق ووضحناه ، وضربنا لهم فيه الأمثال الدالة على وحدانية الخالق وعلى البعث وصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليستبينوا الحق ويتبعوه ، ولم يحصل تقصير من جانب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تبليغ الدعوة إلى الله ، فإن طلب الناس شيئا بعد ذلك ، فهو عناد ، ومن هان عليه تكذيب دليل ، لم يصعب عليه تكذيب الدلائل كلها كفرا وعنادا ، لذا قال :

(وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي وتالله لو رأوا أي آية كانت ، سواء كانت باقتراحهم أو غيره ، لا يؤمنون بها ، ويعتقدون أنها سحر وباطل ، وما أنتم أيها الرسول والمؤمنون إلا جماعة مبطلون تأتون بالباطل وتتبعونه؟!.

وذلك كما قالوا في انشقاق القمر ونحوه : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ

١٢١

رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ ، حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس ١٠ / ٩٦ ـ ٩٧].

وترتب على إعراضهم عن الإيمان عنادا واستكبارا الطبع على القلوب كما قال تعالى :

(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي مثل ذلك الختم وحجب الخير والحق يختم الله على قلوب الجهلة الذين لا يتعلمون ولا يعلمون حقيقة الآيات البينات في القرآن المجيد ، لسوء استعدادهم ، وإصرارهم على تقليد الأسلاف ، واعتقاد الخرافات.

ثم أمر الله رسوله بالصبر على مخالفتهم وأذاهم وعنادهم ، فقال :

(فَاصْبِرْ ، إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي فاصبر أيها الرسول على أذى المشركين وتابع في تبليغ رسالتك ، فإن وعد الله الذي وعدك به من نصره إياك عليهم وظفرك بهم ، وجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة ، حق ثابت لا شك فيه ، ولا بد من إنجازه والوفاء به.

(وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) ولا يحملنك على الخفة والقلق جزعا مما يقول الذين لا يوقنون بالله واليوم الآخر ، فإنهم قوم ضالون ، واثبت على ما بعثك الله به ، فإنه الحق الذي لا محيد عنه ، بل الحق كله منحصر فيه. وهذا إشارة إلى وجوب مداومة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الدعوة إلى الإيمان.

روى ابن جرير وابن أبي حاتم وابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم والبيهقي أن رجلا من الخوارج نادى عليا رضي‌الله‌عنه ، وهو في صلاة الغداة (الفجر) فقال : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ، وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الزمر ٣٩ / ٦٥] فأنصت له عليّ حتى فهم ما قال ، فأجابه وهو في الصلاة : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ، وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ).

١٢٢

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن القرآن المجيد هو النعمة العظمى على الإنسانية وعلى المسلمين ؛ لأنه يرشد ببيانه العجيب وأمثلته التوضيحية إلى ما يحتاجون إليه ، وينبههم على التوحيد وصدق الرسل.

٢ ـ إن أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بآية قرآنية أو بمعجزة مثل المعجزات المادية المحسوسة للأنبياء السابقين كفلق البحر والعصا وغيرهما ، لقال الكفار : ما أنتم يا معشر المؤمنين إلا قوم مبطلون ، أي تتبعون الباطل والسحر.

٣ ـ كما طبع أو ختم الله على قلوب صناديد الكفر وزعماء الشرك ، حتى لا يفهموا الآيات عن الله ، فكذلك يطبع على قلوب الذين لا يعلمون التوحيد وأصول الاعتقاد ، وحقيقة العبر والعظات ، وآيات الله البينات ، فيصبحون عديمي الفهم لكل ما يتلى عليهم من القرآن ، بسبب عنادهم وإعراضهم ، وسوء استعدادهم لقبول دعوة الحق والخير والتوحيد.

٤ ـ على المؤمن أن يثبت على الحق الذي لا مرية فيه ، وهو دين الإسلام ، ولا يتأثر بسفاهات المشركين الذين لا يؤمنون بالله ولا بالبعث. والخطاب في قوله : (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد أمته. فإن قصر الخطاب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالمراد به وجوب المداومة على الدعوة إلى الإيمان ، فإنه لو سكت لقال الكافر : إنه متقلب الرأي ، لا ثبات له على مبدئه.

١٢٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة لقمان

مكية ، وهي أربع وثلاثون آية.

تسميتها :

سميت سورة لقمان لاشتمالها على قصة (لقمان الحكيم) الذي أدرك جوهر الحكمة ، بمعرفة وحدانية الله وعبادته ، والأمر بفضائل الأخلاق والآداب ، والنهي عن القبائح والمنكرات.

موضوعها :

تضمنت الكلام عن موضوعات السور المكية وهي إثبات أصول العقيدة من الإيمان بالله ووحدانيته ، وتصديق النبوة ، والإقرار بالبعث واليوم الآخر. وسبب نزولها أن قريشا سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قصة لقمان مع ابنه وعن بره والديه ، فنزلت.

صلتها بما قبلها أو مناسبتها لما قبلها :

تظهر صلة هذه السورة بسورة الروم قبلها من وجوه :

١ ـ قال تعالى في آخر السورة السابقة : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) إشارة إلى كون القرآن معجزة ، وقال في مطلع هذه السورة : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ، هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ).

١٢٤

٢ ـ كذلك قال سبحانه في آخر السورة المتقدمة : (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) إشارة إلى أن المشركين يكفرون بالآيات ، وقال في هذه السورة : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً) [٧].

٣ ـ وصف الله تعالى قدرته على بدء الخلق والبعث في كلتا السورتين ، فقال في السورة السالفة : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [٢٧] وقال هنا : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [٢٨].

٤ ـ أثبت الله تعالى في كلتا السورتين إيمان المؤمنين بالبعث ، فقال في السورة السابقة: (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ : لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ ، فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) [٥٦] وهذا عين إيقانهم بالآخرة المذكور في مطلع هذه السورة : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ).

٥ ـ حكى الله تعالى في السورتين ما عليه حال المشركين من القلق والاضطراب ، إذ يضرعون إلى الله في وقت الشدة ، ويكفرون به وقت الرخاء ، فقال في السورة المتقدمة : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ...) [٣٣] وقال في هذه السورة : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ...) [٣٢].

٦ ـ ذكر في سورة الروم : (فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) [١٥] وقد فسر بالسماع ، وفي لقمان : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) [٦] وقد فسر بالغناء وآلات الملاهي.

٧ ـ قابل تعالى بين السورتين ، فذكر في سورة الروم مدى اعتزاز المشركين بأموالهم ورفضهم إشراك غيرهم فيها ، وذكر هنا قصة لقمان الحكيم العبد الصالح الذي أوصى ابنه بالتواضع وترك التكبر ، كما ذكر في الأولى محاربة الروم والفرس

١٢٥

في معركتين عظيمتين ، وذكر في السورة الثانية في قصة لقمان الأمر بالصبر والمسالمة وترك المحاربة.

مشتملات السورة :

اشتملت هذه السورة على الموضوعات التالية : فبدأت ببيان معجزة النبي الخالدة وهي القرآن دستور الهداية الربانية ، وموقف الناس منه ، ففريق المؤمنين يصدّقون بكل ما جاء فيه ، فيظفرون بالجنان ، وفريق الكافرين الساخرين الهازئين الذي يعرضون عما فيه من الآيات ، ويضلون عن سبيل الله جهلا وسفها ، فيتلقون العذاب الأليم.

ثم تحدثت عن أدلة الوحدانية والقدرة الباهرة لله ربّ العالمين من خلق العالم والكون ، وتلا ذلك بيان قصة لقمان الحكيم ووصاياه الخالدة لابنه ، تعليما للناس وإرشادا لهم ، وعلى رأسها نبذ الشرك ، وبر الوالدين ، ورقابة الله على كل صغيرة وكبيرة ، وإقامة الصلاة ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والتواضع واجتناب الكبر ، ومشي الهوينى ، وإخفاض الصوت.

وأردف ذلك توبيخ المشركين على إصرارهم على الشرك مع مشاهدتهم أدلة التوحيد ، والنعي عليهم في تقليدهم الآباء ، وجحودهم نعم الله الكثيرة التي لا حصر لها ، وإعلامهم أن طريق النجاة هو إسلام النفس لله والإحسان بالعمل الصالح ، وبيان تناقضهم حين يقرّون بأن الله هو خالق كل شيء ثم يعبدون معه غيره ، مع أن الله هو مالك السموات والأرض والمنعم بجلائل النعم ، وعلمه محيط بكل شيء ، وأن خلق جميع البشر وبعثهم كخلق نفس واحدة وبعثها ، فهو المدبر والمصرف الذي لا يعجزه شيء ، وأنهم يتضرعون إليه وقت الشدة ويشركون به وقت الرخاء.

ثم أضافت السورة أدلة أخرى على القدرة الإلهية من إيلاج الليل في النهار وبالعكس ، وتسخير الشمس والقمر ، وتسيير السفن في البحار وغير ذلك.

١٢٦

وختمت السورة ببيان الأمر بالتقوى والخوف من عذاب يوم القيامة الذي لا بد من إتيانه ، ولا أمل فيه بنصرة أحد ، وعدم الاغترار بمتاع الدنيا وزخارفها ، والتنبيه على مفاتيح الغيب الخمسة التي اختص الله بعلمها ، وأن الله محيط علمه بالكائنات جميعها ، خبير بكل ما يجري فيها.

خصائص القرآن وأوصاف المؤمنين به

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

الإعراب :

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) مبتدأ وخبر والإضافة بمعنى «من» و (هُدىً وَرَحْمَةً) بالنصب والرفع ، فالنصب على الحال من (آياتُ) والعامل فيهما معنى الإشارة ، ولا يجوز أن يكون منصوبا على الحال من (الْكِتابِ) لأنه مضاف إليه ، ولا عامل يعمل في الحال ، وفيه خلاف. والرفع : إما خبر (تِلْكَ) و (آياتُ) : بدلا من (تِلْكَ) وإما خبر بعد خبر ، كقولهم : هذا حلو حامض ، وإما خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هو هدى.

البلاغة :

(هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) عبر بالمصدر عن اسم الفاعل للمبالغة.

(تِلْكَ آياتُ) إشارة بالبعيد عن القريب لبيان علو الرتبة وسمو القدر.

(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ، أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) إطناب بتكرار الضمير (هُمْ) واسم الإشارة (أُولئِكَ) لزيادة الثناء عليهم وتكريمهم. وقوله (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) يفيد الحصر ، أي هم المفلحون لا غيرهم.

١٢٧

المفردات اللغوية :

(الم) يشبه افتتاح سورة البقرة المدنية ، وجاء على وفق المعروف غالبا في السور المكية التي تبدأ بأحرف هجائية ، للتنبيه على إعجاز القرآن ، وللإشارة إلى أن هذه الأحرف «ألف ، لام ، ميم» ينطق بها العرب قاطبة ، ولكنهم عاجزون عن معارضتها بالإتيان بمثل سورة أو عشر سور من القرآن ، مما يدل على أنه تنزيل من حكيم حميد. (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) أي هذه الآيات آيات القرآن المتصف بالحكمة.

(هُدىً وَرَحْمَةً) أي الآيات هادية راحمة (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) بيان للمحسنين (هُمْ يُوقِنُونَ) هم الثانية للتأكيد (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون ، لاستجماعهم العقيدة الحقة والعمل الصالح.

التفسير والبيان :

(الم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) أي إن هذا القرآن مكوّن من الحروف ذاتها التي تنطقون بها ، فهل تأتون بمثل آياته؟ فهذه آيات القرآن ذي الحكمة ، الذي لا خلل فيه ولا عوج ، ولا تناقض فيه ولا اختلاف ، بل هو آيات بينات واضحات.

ثم ذكر تعالى الغاية من تنزيله فقال :

(هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) أي هذه الآيات القرآنية هدى وشفاء من الضلال ، ورحمة تنقذ المؤمنين بها من العقاب ، وهم الذين أحسنوا العمل ، واتبعوا الشريعة ، فأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها وفي أوقاتها ، مع نوافلها ، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها ، وصدقوا وأيقنوا بوجود الآخرة وبالجزاء العادل فيها ، ورغبوا إلى الله في الثواب ، دون مراءاة ولا جزاء ولا شكور من الناس.

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي هؤلاء الموصوفون بما ذكرهم في قمة الهداية والفلاح ، فهم المهديون أي على بصيرة ونور ومنهج

١٢٨

واضح من الله ، وهم الفائزون وحدهم في الدنيا والآخرة. وقوله : (أُولئِكَ) إشارة إلى علو المرتبة والتعظيم الذي يستحقونه ، إذ لا فلاح إلا بإحسان العمل ، ولا خير إلا في الإيمان.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما هو آت :

١ ـ إن آيات القرآن العظيم محكمة لا خلل فيها ولا تناقض ، ولا عيب فيها ولا تعارض ، وهي دستور الهداية الربانية ، وسبيل استحقاق الرحمة الإلهية ، التي لا يستحقها إلا المحسنون. والمحسن : الذي يعبد الله كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه ، فإنه يراه ، أو هو الآتي بالإيمان ، المتقي الشرك والعناد.

٢ ـ إن من أخص صفات المحسنين إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والإيمان باليوم الآخر.

٣ ـ هؤلاء المحسنون استنارت قلوبهم وعقولهم بمنهج الله تعالى ، فالتزموا أوامره ، واجتنبوا نواهيه ، ففازوا وحدهم بسعادة الدنيا والآخرة.

٤ ـ إن وصف القرآن بالحكمة في قوله تعالى : (الْكِتابِ الْحَكِيمِ) مناسب لموضوع السورة في بيان الحكمة في قصة لقمان وما يؤيدها من آي السورة في تقرير التوحيد ، وهدم الشرك وإثبات البعث والنبوة ، والدعوة إلى مكارم الأخلاق ، والإيمان بعالم الغيب والشهادة ، المنعم على عباده بالنعم الكثيرة الظاهرة والباطنة.

١٢٩

إعراض الكافرين عن القرآن وإقبال المؤمنين عليه

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩))

الإعراب :

(وَيَتَّخِذَها) بالنصب عطفا على (لِيُضِلَ) وبالرفع عطفا على (يَشْتَرِي) أو على الاستئناف. وهاء (يَتَّخِذَها) يعود على السبيل لأنها مؤنثة كما في قوله تعالى : (قُلْ : هذِهِ سَبِيلِي) [يوسف ١٢ / ١٠٨] وتذكّر كما في قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) [الأعراف ٧ / ١٤٦]. وباء (بِغَيْرِ عِلْمٍ) للحال ، تقديره : ليضل عن سبيل الله جاهلا.

(وَلَّى مُسْتَكْبِراً) حال من ضمير (وَلَّى) وكاف (كَأَنْ لَمْ) في موضع نصب على الحال ، تقديره : ولّى مستكبرا مشبها من في أذنيه وقر ، وقوله : (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ) حال أخرى أو بيان للحال الأولى.

(لَهُمْ جَنَّاتُ) مرفوع بالجار والمجرور ؛ لوقوعه خبرا عن المبتدأ و (خالِدِينَ) منصوب على الحال من هاء وميم (لَهُمْ).

البلاغة :

(مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) استعارة تصريحية ، شبه حاله بحال من يشتري سلعة وهو خاسر فيها ، واستعار لفظ (يَشْتَرِي) لمعنى «يستبدل» بطريق الاستعارة.

(كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) تشبيه مرسل مجمل ، حذف منه وجه الشبه ، وذكر فيه أداة التشبيه.

١٣٠

(فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أسلوب تهكم ؛ لأن البشارة المستعملة في الخير استعملت في الشر تهكما وسخرية.

(بِعَذابٍ أَلِيمٍ جَنَّاتُ النَّعِيمِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) مراعاة الفواصل في الحرف الأخير ، وهو السجع الحسن غير المتكلف.

المفردات اللغوية :

(لَهْوَ الْحَدِيثِ) ما يلهي منه عما يعني ويفيد من الحكايات والأساطير والمضاحك وفضول الكلام ، وكتب الأعاجم ، والجواري المغنيات. واللهو : كل باطل ألهى عن الحق والخير. وقد اشتريت تلك الملاهي بالفعل ، والإضافة بيانية بمعنى «من» إن أراد بالحديث المنكر ، وتبعيضية إن أراد به الأعم منه (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ليصرف الناس عن دين الله وهو طريق الإسلام ، أو قراءة كتابه (بِغَيْرِ عِلْمٍ) غير عالم بحال ما يشتريه ، أو بالتجارة ، حيث استبدل اللهو بقراءة القرآن (وَيَتَّخِذَها هُزُواً) ويتخذ السبيل سخرية مهزوءا بها (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) عذاب فيه غاية الإهانة ؛ لإهانتهم الحق باستئثار الباطل عليه.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) القرآن (وَلَّى مُسْتَكْبِراً) متكبرا لا يعبأ بها (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) مشابها حاله حال من لم يسمعها (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) مشابها من في أذنيه صمم أو ثقل يمنع من السماع (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أعلمه بوقوعه في عذاب مؤلم لا محالة ، وذكر البشارة تهكم به (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) أي لهم نعيم جنات ، فعكس للمبالغة (خالِدِينَ فِيها) أي مقدرا خلودهم فيها إذا دخلوها (وَعْدَ اللهِ ، حَقًّا) مصدران مؤكدان : الأول لنفسه ، والثاني لغيره ، أي وعدهم الله ذلك وحقه حقا ؛ لأن قوله (لَهُمْ جَنَّاتُ) وعد ، وليس كل وعد حقا (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغلبه شيء ، فيمنعه من إنجاز وعده ووعيده (الْحَكِيمُ) الذي لا يضع شيئا إلا في محله ، ولا يفعل إلا ما تستدعيه حكمته.

سبب النزول :

نزول الآية (٦):

أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) قال: نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية. وأخرج جويبر عن ابن عباس قال : نزلت في النضر بن الحارث اشترى قينة (مغنية)

١٣١

وكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام ، إلا انطلق به إلى قينته ، فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه ، هذا خير مما يدعوك إليه محمّد من الصلاة والصيام ، وأن تقاتل بين يديه ، فنزلت.

وقال مقاتل : نزلت في النضر بن الحارث ، كان يخرج تاجرا إلى فارس ، فيشتري كتب الأعاجم ، فيرويها ويحدّث بها قريشا ، ويقول لهم : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحدثكم حديث عاد وثمود ، وأنا أحدثكم حديث رستم وإسفنديار ، وأخبار الأكاسرة ، فيستملحون حديثه ، ويتركون سماع القرآن.

المناسبة :

بعد بيان أن القرآن كتاب حكيم يشتمل على آيات حكيمة ، وبعد بيان حال السعداء المهتدين بهديه ، المنتفعين بسماعه ، بيّن الله تعالى حال الكفار الأشقياء التاركين له المشتغلين بغيره ، وأعقبه بوعيدهم بالعذاب المهين المؤلم ، وعطف عليه وعد المؤمنين به المقبلين على تلاوته ، الملتزمين حدوده من أوامر ونواه.

التفسير والبيان :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَيَتَّخِذَها هُزُواً ، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي وهناك فريق من الناس يستبدل بالنافع الضار ، وبالقرآن الشافي ما يتلهى به من الحكايات والأساطير وفضول الكلام ، والمضاحك ، والاستماع إلى غناء الجواري ، كالنضر بن الحارث الذي كان يشتري كتب الفرس ويحدّث بها الناس ، ويقتني المغنيات لاجتذاب الشبان ، وإغراء من أسلم حديثا ، لحملة على ترك الإسلام ، وإضلاله عن دين الله وهو دين الإسلام ، والصد عنه ، واتخاذه هزوا وسخرية ، جهلا بخطورة ما يفعل من استبدال اللهو بقراءة القرآن ، وأولئك وهم الموغلون في الكفر والضلال يحيق بهم عذاب بالغ الإهانة. وقوله (عَذابٌ مُهِينٌ) للتفرقة بين عذاب الكافر وعذاب

١٣٢

المؤمن ، فإن عذاب المؤمن للتطهير ، فهو غير مهين ، وأما عذاب الكافر فهو في غاية الإهانة ، فكما استهان بآيات الله وسبيله أهين يوم القيامة في العذاب الدائم المستمر.

وقوله (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بضم الياء معناه لمخالفة الإسلام وأهله ومعاداتهم ، واللام لام التعليل ، أي ارتكب هذا الفعل من أجل الإضلال والصد عن سبيل الله. وعلى قراءة فتح الياء تكون اللام لام العاقبة ، أي لتكون عاقبة أمره الإضلال ، واتخاذ آيات الله هزوا وسخرية.

ثم وصف الله تعالى هؤلاء المضلين بالإمعان في الضلال والكفر ، وازدياد الإعراض والنفور عن دين الله ، فقال :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً ، كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها ، كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً ، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي إن من يشتري الحديث الباطل إذا تليت عليه آيات القرآن أدبر وأعرض عنها متكبرا ، وتصامم عن سماعها ، وإن لم يكن به صمم ، كأنه ما سمعها ، وكأن في أذنيه صمما وثقلا ؛ لأنه يتأذى بها ، ولا ينتفع منها ، ولا أرب له فيها ، فبشر هذا المعرض بعذاب يؤلمه يوم القيامة ، كما تألم بسماع كتاب الله وآياته.

وبعد بيان حال هؤلاء الأشقياء ، ذكر الله تعالى مآل الأبرار السعداء في الدار الآخرة ، فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ، خالِدِينَ فِيها ، وَعْدَ اللهِ حَقًّا ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي إن الذين آمنوا بالله ، وصدقوا المرسلين ، وعملوا الأعمال الصالحة من الائتمار بالأوامر الشرعية ، واجتناب المحظورات والمناهي ، لهم جنات يتنعمون فيها بأنواع الملاذ والمسارّ من المآكل والمشارب ، والملابس والمساكن ، والمراكب وغير ذلك من المتع مما لم يخطر لأحدهم ببال ، وهم

١٣٣

فيها مقيمون دائما لا يظعنون ، ولا يبغون عنها حولا.

وهذا كائن لا محالة ؛ لأنه وعد الله الذي لا يخلف وعده ؛ لأنه الكريم المنّان ، الفعال لما يشاء ، القادر على كل شيء.

وهو العزيز القوي الذي قهر كل شيء ودان له كل شيء ، فلا ينجو منه مشرك ولا غيره ، وهو الحكيم في أقواله وأفعاله ، الذي جعل القرآن هدى للمؤمنين. ونحو موضوع الآيتين السابقتين قوله تعالى : (قُلْ : هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) [فصلت ٤١ / ٤٤] وقوله سبحانه : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء ١٧ / ٨٢].

فقه الحياة أو الأحكام :

١ ـ إن من أعظم الجرائم الإعراض عن سماع القرآن كلام الله ، وشغل الناس بسماع غيره من أنواع الكلام غير المفيد من القصص والأساطير والمضاحيك ونحو ذلك من ألوان اللهو والعبث ، بقصد الإضلال والصد عن دين الله تعالى ، ويستحق المعرض المتولي تكبرا عن القرآن عذابا أليما.

٢ ـ استدل ابن مسعود وابن عباس وغيرهما بقوله : (لَهْوَ الْحَدِيثِ) على منع استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب.

وهذه الآية إحدى الآيات الثلاث التي استدل بها العلماء على كراهة الغناء والمنع منه. والآية الثانية : قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) [النجم ٥٣ / ٦١] قال ابن عباس : هو الغناء ، بالحميريّة ؛ اسمدي لنا ، أي غنّي لنا. والآية الثالثة : قوله تعالى : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) [الإسراء ١٧ / ٦٤] قال مجاهد : الغناء والمزامير.

١٣٤

روى الترمذي وغيره من حديث أنس وغيره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «صوتان ملعونان فاجران أنهى عنهما : صوت مزمار ، ورنّة شيطان عند نغمة ومرح ، ورنّة عند مصيبة لطم خدود ، وشق جيوب» وأخرج أبو طالب الغيلاني عن علي رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت بكسر المزامير» وأخرج ابن بشران عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بعثت بهدم المزامير والطبل» وروى ابن المبارك عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من جلس إلى قينة يسمع منها ، صبّ في أذنه الآنك (١) يوم القيامة». وبناء عليه ، قال العلماء بتحريم الغناء.

حكم الغناء عند الفقهاء :

للفقهاء ، ومنهم علماء المذاهب الأربعة على المعتمد لديهم تفصيل في حكم الغناء هو ما يأتي (٢) :

أ ـ الغناء الحرام : هو الذي يحرّك النفوس ، ويبعثها على الهوى والغزل ، والمجون ، بكلام يشبّب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن ، وذكر الخمور والمحرّمات ؛ لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق. وإذا لم يجز فأخذ الأجرة عليه لا يجوز

ب ـ الغناء المباح : هو ما سلم مما ذكر ، فيجوز القليل منه في أوقات الفرح ؛ كالعرس والعيد ، وعند التنشيط على الأعمال الشاقة ، كما كان في حفر الخندق حول المدينة ، وحدو أنجشة (٣).

__________________

(١) الآنك : الرصاص. إلا أن الحديث ضعيف.

(٢) تفسير القرطبي : ١٤ / ٥٤

(٣) أنجشة : هو عبد أسود كان يسوق إبل نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام حجة الوداع ، وكان حسن الحداء ، وكانت الإبل تزيد في الحركة بحدائه.

١٣٥

ج ـ أما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة من الشبّابات (١) والطار والمعازف والأوتار فحرام. وفي اليراعة (٢) تردد ، والدف مباح.

د ـ وأما طبل الحرب فلا حرج فيه ؛ لأنه يهيج النفوس ، ويرهب العدو ، فقد ضرب بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم دخل المدينة ، فهمّ أبو بكر بالزجر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح» فكنّ يضر بن ويقلن :

نحن جوار من بني النجار

يا حبّذا محمد من جار

ه ـ لا بأس من استعمال الدّفّ في حفلات الزفاف ، وكذا الآلات المشهرة بالزواج والغناء بحسن الكلام الذي لا فحش فيه.

و ـ سماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم لا يجوز. والاشتغال بالغناء على الدوام سفه ترد به الشهادة ، فإن لم يدم لم تردّ.

ونقل عن أبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل القول بكراهة الغناء. وقال الطبري : أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه.

٣ ـ عادة القرآن مقابلة الأشياء بأضدادها لبيان الفرق والترغيب والترهيب ، فبعد أن ذكر عذاب الكفار ذكر نعيم المؤمنين ، وهو أن للمؤمنين الذي يعملون صالح الأعمال المأمور بها شرعا نعيم الجنان ، دائمين فيها ، ووعدهم الله هذا وعدا حقا لا خلف فيه ، وهو وعد العزيز الذي لا يغلب ولا يعجزه شيء ، الحكيم في صنعه وفعله.

__________________

(١) الشبّابة : قصبة الزمر.

(٢) اليراعة : مزمار الراعي.

١٣٦

الاستدلال بخلق السموات والأرض على وحدانية الله وإبطال الشرك

(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١))

الإعراب :

(بِغَيْرِ عَمَدٍ) الباء في موضع نصب على الحال من (السَّماواتِ). و (تَرَوْنَها) جملة فعلية في موضع جر على الصفة ل (عَمَدٍ) أي بغير عمد مرئية ، فالضمير راجع إلى العمد ، والعمد : قدرة الله وإرادته ، أو أن الضمير راجع إلى السموات ، أي ليست هي بعمد ، وأنتم ترونها كذلك بغير عمد ، وحينئذ تكون الجملة مستأنفة لا محل لها.

(فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ ..) الياء في (فَأَرُونِي) المفعول الأول ، و (فَأَرُونِي) : معلق عن العمل و (ما ذا خَلَقَ) : سد مسد المفعول الثاني. و (ما ذا) : ما : استفهام إنكار : مبتدأ ، وذا بمعنى الذي مع صلته : خبره.

البلاغة :

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ) التفات من الغيبة إلى التكلم ، تعظيما لشأن الرحمن ، بعد قوله (خَلْقُ وَأَلْقى وَبَثَ).

(هذا خَلْقُ اللهِ) أي مخلوقه ، من قبيل إطلاق المصدر على اسم المفعول مبالغة.

(ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) الاستفهام للتوبيخ والتبكيت.

(بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الأصل أن يقال : بل هم ، فوضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التوبيخ.

١٣٧

المفردات اللغوية :

(خَلَقَ السَّماواتِ) استئناف كلام جديد (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) العمد : جمع عماد: وهو الأسطوانة التي يعمد بها أي يسند به ، و (تَرَوْنَها) إما صفة العمد أي بغير عمد مرئية ، أو يعود الضمير إلى (السَّماواتِ) ، أي لا عمد لها أصلا ، وأنتم ترونها بلا عمد ، فهو استشهاد برؤيتهم لها غير معمودة (رَواسِيَ) جبالا ثوابت مرتفعة (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أي لئلا تميد ، أي تتحرك وتضطرب بكم (وَبَثَ) نشر وفرق (زَوْجٍ كَرِيمٍ) صنف حسن ، كثير المنافع. والآية دليل على عزة الله التي هي كمال القدرة ، والحكمة التي هي كمال العلم ، لتقرير أصل التوحيد.

(هذا خَلْقُ اللهِ) هذا الذي ذكر مخلوق الله (فَأَرُونِي) أخبروني يا أهل مكة وأمثالكم الكفار (ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) ماذا خلق الذين من غيره وهم آلهتكم التي أشركتموها بالله تعالى (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) بل : للانتقال والإضراب عن تبكيتهم إلى تسجيل الضلال عليهم ، فهم في ضلال بيّن لا يخفى على ناظر ، بإشراكهم. ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنهم ظالمون بإشراكهم.

المناسبة :

بعد قوله تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الدال على عزته وحكمته وكمال قدرته وعلمه وإتقان صنعه ، ذكر الله تعالى الأدلة على قدرته العظيمة من خلق السموات والأرض وما فيهما وما بينهما ، لتقرير وحدانيته ، وإبطال الشرك ، والتنبيه إلى وجوب اتباع الحق الذي جاءت به الرسل.

التفسير والبيان :

(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) أي من أدلة قدرته تعالى العظيمة ، وحكمته السديدة أنه خلق السموات بغير أعمدة ، لا مرئية ولا غير مرئية ، والسموات كالأرض في الظاهر مبسوطة ، وفي الحقيقة مستديرة ، لقوله تعالى : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٣٣] والفلك : اسم لشيء مستدير ، وهي على أي حال مخلوقة بقدرة الله ، لا بالطبيعة ، وهي فضاء والفضاء لا نهاية له ، ولا تزول إلا بقدرة الله تعالى.

١٣٨

وليس لها عمد أصلا ، بدليل رؤية الناس لها غير معمودة. وقيل : إن لها عمدا غير مرئية ، والله عمدها بعمد لا ترى ، وهي إمساكها بقدرته.

والخلاصة : أنه تعالى خلق السموات بغير أعمدة تستند إليها ، بل هي قائمة بقدرة الله تعالى.

(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أي وجعل في الأرض جبالا شوامخ ثوابت أرست الأرض وثقلتها ؛ لئلا تضطرب بأهلها ، وتغمرها مياه البحار والمحيطات المحيطة بها ، والتي تكوّن أكثر الكرة الأرضية.

(وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) أي وذرأ فيها ونشر ووزع من أصناف الحيوان التي لا يحصي عددها ، ولا يعلم أشكالها وألوانها إلا الذي خلقها.

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً ، فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) أي وأنزلنا من السحاب مطرا يكون سببا لإنبات كل صنف كريم ، أي حسن المنظر ، كثير المنفعة.

ثم وبخ الله تعالى أولئك المشركين الذين يتركون عبادة الخالق ويشتغلون بعبادة المخلوق ، فقال :

(هذا خَلْقُ اللهِ ، فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ، بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي هذا الذي ذكر من المخلوقات هو من خلق الله وفعله وتقديره وحده لا شريك له في ذلك ، والخلق بمعنى المخلوق ، فأخبروني أيها الكفرة ماذا خلق الذين تعبدونهم من غيره من الأصنام والأنداد. وقوله : (خَلْقُ) واقع على هاء محذوفة ، تقديره : فأروني أي شيء خلق الذين من دونه ، أو أروني الأشياء التي خلقها الذين من دونه.

وبعد توبيخهم على شركهم ، وصفهم تعالى بما يترتب عليه وهو الضلال ، فهم

١٣٩

في شركهم وعبادتهم مع الله غيره في ضلال واضح ، فقال : (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي بل هؤلاء المشركين بالله العابدون معه غيره في جهل وعمى وانحراف وكفر بيّن واضح ظاهر ، لا خفاء به ، ولا اشتباه فيه لمن تأمله ، جعلهم في غاية الضلال الذي ليس بعده ضلال.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ الدليل على وجود الله وقدرته العظمى وحكمته البالغة : هو خلق السموات بغير أعمدة تستند إليها ، وإنما أمسكها الله بقدرته وإرادته ؛ وخلق الأرض ذات الجبال الشوامخ الثوابت لئلا تضطرب بأهلها ؛ وجعلها ذات أنس بما وزّع فيها من أصناف الحيوان في البر والبحر والجو ، ذوات الأشكال المختلفة ، والمناظر البديعة ، والأصوات المختلفة ؛ وإنزال الأمطار عليها لإنبات النباتات البهية المنظر ، البديعة التكوين ، الكثيرة المنافع ، سواء بثمرها إن كانت مثمرة ، أو بظلها المريح وخضرتها الممتعة للنظر والمفرحة للنفس ، أو بجعلها أسبابا لزيادة المطر.

٢ ـ أكد تعالى قدرته الخلاقة بأن هذا المذكور المعاين هو مخلوق الله من غير شريك ، ثم تحدى ووبخ قائلا : أخبروني معاشر المشركين عما خلقت الآلهة المزعومة من الأصنام والأنداد ، ثم وصفهم بالوصف الملازم لهم : وهو أن المشركين في خسران ظاهر.

١٤٠