التفسير المنير - ج ٢١

الدكتور وهبة الزحيلي

المؤمن ، إظهارا للكرم والرحمة ، فقال : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) ثم قال : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) لأنه تهديد ووعيد.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يلي :

١ ـ انتشار ظاهرة الفساد والانحراف في العالم ، من الشرك أعظم الفساد ، والقحط وقلة النبات وذهاب البركة ، والمعاصي وقطع السبيل والظلم وغير ذلك من الآثام والذنوب.

والعالم هو البر والبحر المعروفان المشهوران في اللغة وعند الناس ، لا ما قاله بعض المفسرين : البر : الفيافي ، والبحر : القرى ، والعرب تسمي الأمصار البحار.

٢ ـ إن ظهور الفساد سبب للدمار والهلاك في الدنيا ، والعقاب في الآخرة ، وعقاب الدنيا على المعاصي التي عملها بعض الناس في البر والبحر ، كحبس الغيث وغلاء الأسعار ، وكثرة الحروب ، والفتن والقلاقل ، قد يكون باعثا على التوبة ، وحافزا على الرجوع إلى الله والاستقامة على الطاعة ، واجتناب الذنوب والمنكرات.

٣ ـ على الناس قديما وحديثا أن يعتبروا بمن قبلهم من الأمم السابقة ، وينظروا كيف كان عاقبة من كذب الرسل ، وقد كان أكثرهم مشركين أي كافرين فأهلكوا.

٤ ـ النبي والمؤمنون مخاطبون بتوجيه القصد والعزيمة إلى اتباع الدين القيم ، يعني الإسلام ، في دار التكليف دار الدنيا ، قبل مجيء يوم القيامة الذي لا يردّه الله عنهم ولا عن غيرهم ، وليس لأحد دفعه أو منعه ، لعجزه عن ذلك أمام قدرة الله وقدره وقضائه السابق.

١٠١

وخاطب الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليعلم المؤمن فضيلة ما هو مكلف به ، فإنه أمر به أشرف الأنبياء ، وللمؤمنين في التكليف مقام الأنبياء ، كما قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم عن أبي هريرة : «إن الله أمر المؤمنين ، بما أمر به المرسلين».

٥ ـ يتفرق الناس يوم القيامة فريقين بحسب أعمالهم : فريق في الجنة ، وفريق في السعير.

٦ ـ للكافر جزاء كفره وهو النار ، وللمؤمن الذي عمل صالحا الجنة ، وهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات يوطّئون أو يقدمون لأنفسهم في الآخرة فراشا ومسكنا وقرارا بالعمل الصالح.

٧ ـ اقتضت رحمة الله أن يجزي الله من فضله الذين آمنوا وعملوا الصالحات الذي يمهّدون لأنفسهم ، ليتميز المسلم من الكافر ، وكل إنسان يدخل الجنة بفضل الله ورحمته ، لا بعمله ، حتى الأنبياء.

كذلك كان مقتضى العدل أن يجازى الكافرون ويعاقبوا على كفرهم ومعاصيهم ؛ إذ لا يعقل التسوية بين المسلمين والكافرين كما قال تعالى : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ، أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) [القلم ٦٨ / ٣٥ ـ ٣٨].

الاستدلال بالرياح والأمطار على قدرة الله وتوحيده

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ

١٠٢

كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١))

الإعراب :

(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ) تكرار (قَبْلِ) إما للتأكيد ، وإما مع اختلاف التقدير والضمير ، أي : وإن كانوا من قبل أن ينزل الغيث عليهم من قبل السحاب لمبلسين ، والضمير يعود إلى السحاب في قوله تعالى : (فَتُثِيرُ سَحاباً) والسحاب يجوز تذكيره وتأنيثه.

(فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) ، الهاء يعود إلى الزرع الذي دل عليه. (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) أو إلى السحاب ، وإذا أريد به الزرع فسبب تذكير الضمير : أن تأنيث الرحمة غير حقيقي.

(كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) في موضع نصب على الحال ، حملا على المعنى ؛ لأن اللفظ لفظ الاستفهام ، والحال خبر ، والتقدير : فانظر إلى أثر رحمة الله محيية للأرض بعد موتها.

البلاغة :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ ، وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ .. وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بأسلوب الإطناب ، فإنه أسهب تذكيرا للعباد بالنعم الكثيرة ، وكان يكفي الجملة الأخيرة.

(أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً) فيهما جناس الاشتقاق.

(فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ، فَانْتَقَمْنا) فيه إيجاز بالحذف ، حذف منه : فكذبوهم واستهزءوا بهم.

المفردات اللغوية :

(الرِّياحَ) أي رياح الخير والرحمة وهي الشمال والصبا والجنوب ، وأما الدّبور فريح العذاب ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا». (مُبَشِّراتٍ) تبشر بالخير وهو

١٠٣

المطر. (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي ليذيقكم بها المطر والخصب أي المنافع التابعة لها. (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ) السفن بها بإذنه. (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) لتطلبوا الرزق من فضل الله بالتجارة في البحر. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي ولتشكروا نعمة الله فيها ، فتوحدوه.

(فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالحجج الواضحات على صدقهم في رسالتهم إليهم ، فكذبوهم. (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أهلكنا الذين كذبوا ، ودمرنا الذين فعلوا جرما. (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) على الكافرين بإهلاكهم وإنجاء المؤمنين. وهو إشعار بأن الانتقام لصالح المؤمنين وإظهار كرامتهم ، حيث جعلهم الله مستحقين لديه أن ينصرهم ، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الطبراني وغيره عن أبي الدرداء : «ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم» ثم تلا الآية.

(فَتُثِيرُ) أي تحرك وتهيج. (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ) ينشره متصلا بعضه ببعض. (كَيْفَ يَشاءُ) من قلة وكثرة ، (كِسَفاً) قطعا متفرقة ، وقرئ بسكون السين ، تخفيفا. (الْوَدْقَ) المطر. (مِنْ خِلالِهِ) وسطه. (فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أصاب بالودق بلادهم وأراضيهم. (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) يفرحون بالمطر أمارة الخصب.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) المطر. (مِنْ قَبْلِهِ) كرره للتأكيد والدلالة على طول زمن تأخر المطر. (لَمُبْلِسِينَ) آيسين من إنزاله. (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) آثار الغيث من النبات والأشجار وأنواع الثمار ، وقرئ : إلى أثر. (كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) يبسها ، بأن يجعلها تنبت ، وقرئ : تحيي بإسناده إلى ضمير الرحمة. (لَمُحْيِ الْمَوْتى) لقادر على إحيائهم. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي أن قدرته على جميع الممكنات سواء. (وَلَئِنْ) اللام لام القسم. (أَرْسَلْنا رِيحاً) مضرة على نبات. (فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) فرأوا الأثر أو الزرع ، وقد صار جواب القسم. (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد اصفراره. (يَكْفُرُونَ) يجحدون النعمة بالمطر ، وقوله : (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) جواب سد مسد جزاء الشرط ، وحرف الشرط هو (إن) في قوله (وَلَئِنْ).

المناسبة :

بعد وصف ظاهرة الفساد في العالم بسبب الشرك والمعاصي ، أقام الله تعالى الأدلة القاطعة على وحدانيته بإرسال الرياح والأمطار ، وعلى البعث والنشور وعلى قدرته ورحمته بإحياء الأرض بعد موتها ، وتخلل ذلك التسرية عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه ليس أول من كذبه الناس ، فقد تقدمه رسل كثيرون جاؤوا أقوامهم بالبينات فكذبوهم ، فانتقم الله منهم بالتدمير والهلاك ، فلا يجزع ولا يحزن ، والنصر دائما في جانب المؤمنين.

١٠٤

التفسير والبيان :

يذكر الله تعالى نعمه وفضله على خلقه بإرساله الرياح مبشرات بمجيء الغيث ، فقال :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ ، وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي ومن أدلة وحدانيته تعالى وقدرته ونعمته وآياته الكونية أنه المهيمن على كل شيء في الوجود ، فيرسل الرياح مبشرة بالخير والبركة ونزول المطر الذي يحيي الأرض بعد يبسها ، وينبت الزرع ويخرج الثمر ، وليذيق الناس من آثار رحمته بالمطر الذي ينزله ، فيحيي به العباد والبلاد ، ولتسيير السفن في البحار بالريح ، وللتمكين من ممارسة التجارة والتنقل في البلاد والأقطار للكسب والمعيشة ولشكر الله تعالى على ما أنعم به من النعم الظاهرة والباطنة التي لا تعد ولا تحصى ، كما قال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم ١٤ / ٣٤].

ثم سلّى الله تعالى عبده ورسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ ، فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ، فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ، وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) أي إن كذبك كثير من قومك أيها الرسول ، فلست أول من كذّب ، فلقد كذّبت الرسل المتقدمون بالرغم مما جاؤوا به أممهم من الدلائل الواضحات على أنهم رسل من عند الله ، فكذبوهم كما كذبك قومك ، فانتقم الله ممن كذبهم وخالفهم ، ونجّى المؤمنين الذين صدقوا بالله ورسله ، وما جرى على النظير يجري على نظيره قياسا عقليا وشرعيا ، فسيكون الانتقام من كفرة قومك كالانتقام ممن تقدمهم. والخلاصة : أن الله تعالى بعد إثبات الأصلين : الوحدانية والبعث ، ذكر الأصل الثالث وهو النبوة.

ثم أخبر الله تعالى عن مبدأ عام وهو تأييد المؤمنين بالنصر ، وأنه حق أوجبه

١٠٥

الله على نفسه الكريمة تكرما وتفضلا ، كقوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام ٦ / ٥٤]. وفي هذا وعيد للكفار بالهزيمة ووعد وبشارة بالظفر للمؤمنين.

روى ابن أبي حاتم والطبراني والترمذي وابن مردويه عن أبي الدرداء رضي‌الله‌عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة» ثم تلا هذه الآية : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).

ثم أبان تعالى كيفية خلقه السحاب الذي ينزل منه الماء ، فقال :

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ ، فَتُثِيرُ سَحاباً ، فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) أي الله هو الذي يسير الرياح على وفق الحكمة ومقتضى الإرادة إلى الجهة المرادة ، فتحرك السحاب وتهيجه بعد سكونه ، فينشره في السماء ويجمعه ويكثره ، فيجعل من القليل كثيرا ، ثم يجعله قطعا متفرقة ذات أحجام متنوعة ، فتارة يكون السحاب خفيفا ، وتارة يأتي السحاب من جهة البحر مشبعا بالرطوبة ، ثقيلا مملوءا بذرات الماء ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ، حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً ، سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ ، فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ، كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأعراف ٧ / ٥٧].

(فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ، فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي فتنظر المطر أو القطر يخرج من وسط ذلك السحاب ، فإذا أصاب به الله بمشيئته بعض العباد والبلاد ، فرحوا بنزوله عليهم ووصوله إليهم ، لحاجتهم إليه. فقوله (مِنْ خِلالِهِ) الضمير عائد في الظاهر على السحاب ؛ إذ هو المحدّث عنه.

١٠٦

(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) أي ينزل عليهم هذا المطر بعد أن كانوا قبل نزوله قانطين يائسين من نزوله قبل ذلك ، فكانت الفرحة شديدة التأثير في نفوسهم ، لمفاجأتهم بالغيث الذي كادوا ييأسون من نزوله. وتكرار كلمة (قَبْلِهِ) أي قبل الإنزال للتأكيد.

ومجمل معنى الكلام : أنهم كانوا محتاجين إليه قبل نزوله ، وكانوا قبل ذلك بفترات متفاوتة متقطعة يترقبونه فيها ، فتأخر ، ثم انتظروه مرة أخرى فتأخر ، ثم جاءهم بغتة بعد الإياس منه والقنوط ، فصارت أرضهم الهامدة منتعشة بالنبات من كل زوج بهيج.

(فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ ، كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي فانظر أيها الرسول ومن تبعك نظرة تأمل واستبصار واستدلال إلى المطر الذي هو أثر من آثار رحمة الله ، كيف يكون سببا لإحياء النبات والزرع والأشجار والثمار ، مما يدل على واسع رحمة الله وعظيم قدرته.

ثم نبّه الله تعالى بذلك على إحياء الأجساد بعد موتها وتفرقها وتمزقها ، فقال :

(إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن الذي فعل ذلك لقادر على إحياء الأموات ، أو من يقدر على إحياء الأرض بعد يبسها بالخضرة والنبات قادر على إحياء الموتى ، والله وحده بالغ القدرة على كل شيء ، فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، سواء في الابتداء أو في الإعادة ، كما قال سبحانه : (قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ : يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس ٣٦ / ٧٨ ـ ٧٩].

ثم بيّن تعالى سوء حال الكافرين ، وتنكرهم للمعروف والجميل ، وعدم ثباتهم على منهج واحد ، فتراهم يفرحون بالخير ، ثم ييأسون وينقطع رجاؤهم من الخير إن تعرضوا لسوء ، فقال :

١٠٧

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً ، فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) أي وتالله لئن بعثنا ريحا ضارة ، أو سامة ، حارة أو باردة على نبات أو زرع أو ثمر ، فرأوا ذلك الزرع قد اصفر ، ومال إلى الفساد بعد خضرته ، لظلوا من بعد ذلك الفرح والبشر ، يجحدون نعم الله التي أنعم بها عليهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ من دلائل كمال قدرة الله إرسال الرياح مبشرات بالمطر ؛ لأنها تتقدمه ، والغيث والخصب أثر من آثار رحمة الله ، ومن خواص الرياح أيضا عند هبوبها تسيير السفن في البحر ، وبالسفن ينتقل الركاب والتجار ، وتحمل البضائع من قطر إلى آخر ، فتكون وسيلة الرزق بالتجارة ، وكل ذلك من نعم الله وأفضاله التي تستوجب الشكر بالتوحيد والطاعة.

٢ ـ النبوة والرسالة من نعم الله أيضا التي تتطلب التصديق والتأييد ، ولكن استبداد الكافرين وعنادهم يدفعهم إلى التكذيب برسالات الرسل قديما وحديثا ، فقد أرسل الله رسلا كثيرين إلى مختلف الأمم والأقوام والشعوب ، مؤيدين بالمعجزات والحجج النيرات ، فكذبوهم وآذوهم وسخروا منهم ، وكفروا برسالاتهم ، فانتقم الله ممن كفر ، ونجّى المؤمنين ونصرهم على أعدائهم ، وسنة الله الثابتة أنه ينصر عباده المؤمنين ، وهذا خبر صدق ، والله لا يخلف الميعاد ، ولا خلف في خبره.

٣ ـ أخبر الله تعالى أيضا عن كيفية تكون السحاب ، وهو أن الله يرسل الرياح ، فتحرك الغيوم وتنقلها من مكان إلى آخر ، ثم ينشرها ويجمعها في الجو على وفق مشيئته وإرادته وحكمته ، ويجعلها قطعا متفاوتة الأحجام والأوزان

١٠٨

والنوعية ، تارة تكون خفافا ، وتارة تصبح ثقالا مملوءة بالماء ، فإذا أنزل المطر على بعض العباد فرحوا بنزول المطر عليهم.

وكانوا قبل نزول المطر عليهم يائسين حزينين لاحتباس المطر عنهم ، وأكد تعالى وجود ظاهرة اليأس والاكتئاب قبل إنزال المطر ، ليدل على شدة حال الناس ، ثم تغيرها إلى حال البشر والفرح ، فكلمة (مِنْ قَبْلِهِ) للتأكيد عند أكثر النحويين ، كما في قوله تعالى : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) [الحشر ٥٩ / ١٧]. وقال الرازي : والأولى أن يقال : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل إرسال الرياح ، وذلك لأنه بعد الإرسال يعرف الخبير أن الريح فيها مطر أو ليس فيها مطر ، فقبل المطر إذا هبت الريح ، لا يكون مبلسا ، وإنما قد يكون راجيا غالبا على ظنه المطر برؤية السحب وهبوب الرياح ، فقال : (مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل ما ذكرنا من إرسال الرياح وبسط السحاب ، لبيان حال حدوث الإبلاس أي اليأس (١).

٤ ـ إن النتيجة الطبيعية لإنزال المطر هي الدلالة بذلك على أن من قدر عليه قادر على إحياء الموتى. وقوله تعالى : (إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) نوع من القياس يقال له : قياس الغائب على الشاهد ، أو استدلال بالشاهد على الغائب ، أي إثبات البعث بناء على ثبوت ظاهرة مشابهة هي إحياء النبات.

٥ ـ المشركون مضطربون قلقون في عقيدتهم ، فتراهم عند إقبال الخير فرحين به ، وعند ظهور السوء يائسين مكتئبين ، ومثال ذلك : أنهم إن أحرقت الريح زرعهم ، فاصفر ثم يبس ، كفروا وجحدوا وجود الخالق ، وتنكروا لمن أنعم عليهم

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٥ / ١٣٣ ، وكذلك قال أبو حيان في البحر المحيط (٧ / ١٧٩) : ما ذكره ابن عطية والزمخشري من فائدة التأكيد في قوله : مِنْ قَبْلِهِ غير ظاهر.

١٠٩

في أحيان أخرى ، حيث أغرقهم بسيل متلاحق من النعم ، فهم متقلّبون غير ثابتين ، لا يدومون على حالة واحدة ، وذوو نظر قاصر على الحال دون المآل أو الماضي.

تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلقاه من الإعراض عن دعوته

(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣))

البلاغة :

(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) استعارة تصريحية ، شبه الكفار بالموتى وبالصم في عدم

سماعهم سماع تدبر ووعي العظات والعبر والأدلة على صدق الرسالة النبوية.

المفردات اللغوية :

(لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) أي سماع تدبر واتعاظ ؛ لأنهم سدّوا عن الحق مشاعرهم. (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) قيّد عدم السماع به ليكون أشد استحالة ، فإن الأصم إذا أقبل على السماع ، وإن لم يسمع الكلام ، استفاد منه بواسطة الحركات على اللسان بعض الأشياء.

(الْعُمْيِ) سمى الكفار عميا لفقدهم المقصود الحقيقي من الإبصار. (إِنْ تُسْمِعُ) أي ما تسمع سماع إفهام وقبول إلا المؤمنين ؛ لأن إيمانهم يدعوهم إلى تلقي اللفظ وتدبر المعنى.

(بِآياتِنا) القرآن. (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) مخلصون منقادون لما تأمرهم به.

المناسبة :

بعد بيان أدلة التوحيد والبعث ، ومهام الرسل ، والوعد والوعيد ، والإعراض عن دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سلّاه ربه عما يراه من تماد في الإعراض وعناد ، فهم أشبه بالموتى والصمّ والعمي ، لعدم استعدادهم لسماع أدلة الهداية سماع تدبر واتعاظ ، وقد رتب المشبه بهم على حسب مدى الإعراض ، فإرشاد الميت محال ،

١١٠

ثم إرشاد الأصم الذي لا يفهم الكلام إلا بالإشارة أصعب ، ثم الأعمى الذي يفهم ويعي الشيء الكثير ، لكن إرشاده صعب أيضا.

التفسير والبيان :

(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي لا تحزن ولا تجزع أيها الرسول على إعراض هؤلاء المشركين عن دعوتك ، بعد بيان أدلة التوحيد والقدرة على البعث ، وتهديدهم ووعيدهم ، فإنك لا تستطيع أن تفهم الموتى أو تسمعهم سماع تدبر واتعاظ ، ولا تقدر أن تسمع دعوتك الصم الذي لا يسمعون ، وهم أيضا مع ذلك مدبرون عنك غير مقبلين على كلامك وهدايتك ، وهم مع سماعهم في الظاهر أشبه بالموتى في أجداثهم ، والصم الذين فقدوا حاسة السمع ، لسدهم منافذ الهداية ، وإدبارهم عن سماع كلمة الحق ، وعدم استعدادهم لوعي شيء وفهمه عنك ، وهم أيضا كالعمي كما قال :

(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) أي وليس في مقدورك هداية العميان عن الحق ، وردهم عن ضلالتهم ، بل الهداية إلى الله تعالى ، فإنه بقدرته يسمع الأموات أصوات الأحياء إذا شاء ، ويهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، وليس ذلك لأحد سواه ، ولهذا قال تعالى :

(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا ، فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي لا تسمع أيها الرسول سماعا يؤدي إلى الانتفاع إلا المؤمن المصدق بالقرآن وما اشتمل عليه من دلائل التوحيد والقدرة الإلهية على كل شيء ، فهذا المؤمن إذا سمع آيات الله تتلى عليه ، تدبره وتفهمه ، وأقبل عليه يعمل بما جاء فيه ، وينتهي عما نهى عنه ، وهؤلاء المؤمنون هم المسلمون ، أي الخاضعون المستجيبون المطيعون لله فيما أمر ونهى ، وأولئك هم الذين يسمعون الحق ويتبعونه.

١١١

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ لا فائدة ولا جدوى في هداية المشركين المكابرين المعاندين الذي ألفوا تقليد الأسلاف في الكفر ، فماتت عقولهم ، وعميت بصائرهم.

٢ ـ إنما الفائدة تظهر في إسماع مواعظ الله المؤمنين الذين يصغون إلى أدلة التوحيد ، ويستعدون لقبول الهداية إن ظهرت لهم دلائلها.

٣ ـ المقصود من قوله تعالى : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) سماع التدبر والفهم والاتعاظ ، وهذا لا يعارض الثابت في السنة النبوية من إمكان سماع الأموات كلام الأحياء.

روى عبد الله بن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاطب القتلى الذين ألقوا في قليب (بئر) بدر، بعد ثلاثة أيام ، وعاتبهم وقرعهم ، حتى قال له عمر : يا رسول الله ، ما تخاطب من قوم قد جيّفوا؟ ـ أي أنتنوا ـ فقال : «والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكن لا يجيبون». وهذا هو الصحيح المؤيد بالشواهد الكثيرة ، منها ما رواه ابن عبد البر ، مصحّحا له عن ابن عباس مرفوعا : «ما من أحد يمرّ بقبر أخيه المسلم ، كان يعرفه في الدنيا ، فيسلم عليه إلا ردّ الله عليه روحه ، حتى يرد عليه‌السلام». وثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تعريفه أمته كيفية السلام على أهل القبور أن يقولوا كما يخاطب الأحياء : «السلام عليكم دار قوم مؤمنين» وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل ، ولو لا هذا الخطاب لكانوا بمنزلة خطاب المعدوم والجماد. وروى ابن أبي الدنيا عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من رجل يزور قبر أخيه ، ويجلس عنده إلا استأنس به ، ورد عليه حتى يقوم».

وقال أبو هريرة رضي‌الله‌عنه : إذا مرّ الرجل بقبر يعرفه ، فسلّم عليه ، رد عليه‌السلام.

١١٢

وأجمع السلف على هذا ، وشرع السلام على الموتى ، مما يدل على شعورهم وعلمهم بالمسلّم ، وعلّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمته إذا رأوا القبور أن يقولوا فيما رواه مسلم عن بريدة : «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم حقون ، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين ، نسأل الله لنا ولكم العافية». وكل ذلك دال على أن السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ، ويرد ، وإن لم يسمع المسلّم الرد (١).

أطوار حياة الإنسان

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤))

البلاغة :

(ضَعْفٍ) و (قُوَّةً) بينهما طباق.

(الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) صيغة مبالغة على وزن فعيل ، معناه التام العلم والقدرة.

المفردات اللغوية :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) خلقكم من أصل ضعيف وهو النطفة ، أو ابتدأكم ضعفاء ، وجعل الضعف أساس أمركم ، كقوله : (خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [النساء ٤ / ٢٨] والضعف : ما قابل القوة (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) أي بعد ضعف الطفولة قوة الشباب بعد بلوغ الحلم (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) أي جعل بعد قوة الرجولة ضعف الكبر وشيب الهرم. والشيب : بياض الشعر. والضعف : بفتح الضاد وضمه. (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من الضعف والقوة والشباب والشيبة (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) أي إن تلك الأطوار والأحوال التي يمر بها الإنسان بمشيئة الله دليل العلم والقدرة ، فهو العليم بتدبير خلقه ، القدير على ما يشاء.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ٤٣٨ ـ ٤٣٩

١١٣

المناسبة :

بعد بيان أدلة الآفاق من إرسال الرياح وإنزال المطر على الوحدانية ، ذكر تعالى دليلا آخر عليها من الأنفس ، وهو خلق الآدمي ومروره بأدوار مختلفة تحتاج إلى العلم والقدرة الشاملة ، وذلك لا يتصف بهما غير الله عزوجل.

التفسير والبيان :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) أي إن الله تعالى هو الذي جعل الإنسان يمر في أطوار متفاوتة من الخلق حالا بعد حال ، فجعل أصله من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة ، ثم كون عظامه ، ثم كسا العظام لحما ، ونفخ فيه الروح ، ثم أخرجه من بطن أمه ضعيفا نحيفا واهن القوى ، فقوله (مِنْ ضَعْفٍ) أي ابتدأه ضعيفا.

ثم يشبّ قليلا قليلا فيكون صغيرا ، ثم شابا بالغا ، وهذا دور القوة بعد الضعف ، ثم يأتي دور الضعف من ابتداء الكهولة إلى الهرم والشيخوخة ، وهو الضعف بعد القوة ، فتضعف الهمة والحركة وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة.

هذا الانتقال والتدرج والتحول من حال إلى حال دليل على القدرة الإلهية الخالقة ، وبرهان على البعث الذي ينكره المشركون ، فإن القادر على هذا التغيير والتبديل قادر على الإعادة مرة أخرى إلى الحياة الأولى كما كانت ؛ لأن من كانت قدرته تامة شاملة لا يصح مقارنتها بقدرة الإنسان النسبية ، ولا يعجزه شيء ، سواء في بدء الخلق أم حال إعادته.

(يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) أي يفعل الله ما يشاء ، ويوجد ويبدع ما يشاء من ضعف وقوة ، وبدء وإعادة ، ويتصرف في عبيده بما يريد ،

١١٤

وهو العليم التام العلم بتدبير خلقه ، القدير الشامل القدرة على ما يشاء ، ومن آثار قدرته إحياء الناس وإماتتهم ثم بعثهم أحياء عند ما يريد.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآية تتضمن استدلالا آخر على قدرة الله في نفس الإنسان ، ليعتبر ويبادر إلى الإيمان بالله واليوم الآخر ، فإن الآلة الجامدة تظل على وتيرة واحدة ؛ لأن صانعها وهو الإنسان محدود القدرة ، أما الإنسان الذي يمر بمراحل ثلاث ، متفاوتة هبوطا وصعودا ، ضعفا وقوة ، لا يبقى على حال واحدة ، وإنما يتغير.

والتغير والتدرج ليس مجرد طبيعة دون مدبر ولا مغير ، وإنما يحتاج كل طور من مراحل التغير إلى خالق مبدع ، وقادر عظيم ، ولا يستطيع ذلك أحد غير الله صاحب التكوين والإرادة ، والأمر والنفوذ الشامل ، فهو وحده الخالق ما يشاء من قوة وضعف ، وهو العليم بتدبيره ، القدير على إرادته ، وهو الفعال لما يريد ، المتصرف في مخلوقاته كيف يشاء.

أحوال البعث ومقارنتها بأحوال الدنيا

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧))

١١٥

الإعراب :

(لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) قرئ ينفع بالياء وبالتاء ، أما قراءة التاء فعلى الأصل من التطابق بين الفعل والفاعل ، وأما قراءة الياء فبسبب وجود الفاصل بينهما.

(فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) الفاء لجواب شرط محذوف ، تقديره : إن كنتم منكرين البعث ، فهذا يومه ، أي فقد تبين بطلان إنكاركم.

البلاغة :

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) جناس تام بين قوله (السَّاعَةُ) التي هي القيامة ، وقوله (السَّاعَةُ) التي هي المدة الزمنية المعروفة.

المفردات اللغوية :

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) القيامة ، سميت بها ، لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا ، أو لأنها تحدث بغتة ، وصارت علما للقيامة بالتغليب كالكوكب للزهرة (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا) يحلف الكافرون ما أقاموا في الدنيا أو في القبور (غَيْرَ ساعَةٍ) مدة زمنية قليلة (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) أي مثل ذلك الصرف عن الواقع في مدة اللبث كانوا يصرفون في الدنيا عن الحق الذي هو البعث وغيره من قول الحق والنطق بالصدق. يقال : أفك الرجل : إذا صرف عن الصدق والحق والخير.

(أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) الملائكة أو الإنس المؤمنون (فِي كِتابِ اللهِ) فيما كتبه في سابق علمه أو قضائه (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) الذي أنكرتموه (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أنه حق واقع ؛ لتفريطهم في النظر (مَعْذِرَتُهُمْ) أي عذرهم في إنكارهم له (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) لا يطلب منهم العتبى ، أي الرجوع إلى ما يرضي الله تعالى ، يقال : استعتبني فلان فأعتبته ، أي استرضاني فأرضيته.

المناسبة :

بعد بيان أدلة التوحيد في خلق الإنسان في النشأة الأولى ، ودلائل البعث والإعادة مرة أخرى إلى الحياة ، ذكر الله تعالى أحوال البعث ومقارنتها بأحوال الدنيا ، وما يحدث يوم القيامة من مناقشات بين أهل الإيمان وبين المجرمين ،

١١٦

واكتشاف جهل الكفار في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فعكوفهم على عبادة الأوثان ، وأما في الآخرة فإقسامهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا.

التفسير والبيان :

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) أي حين تقوم القيامة ويبعث الله الناس من قبورهم ، وما يتعرضون له من أهوال جسام طويلة الأمد ، يحلف الكفار الآثمون أنهم ما أقاموا في الدنيا أو في القبور غير ساعة واحدة ، أي مدة قليلة من الزمان ، قاصدين بذلك عدم قيام الحجة عليهم ، وأنهم لم ينظروا مدة معقولة ، حتى يعذرون فيما هم عليه من تقصير.

وهذا دليل واضح على قصر مدة الدنيا مهما طالت ، إذا قورنت بالآخرة ، وأن الذي يوعد بالشر يستقل المدة التي عاشها ، أما الموعود بالخير فيستكثر المدة مهما قلت : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) [النازعات ٧٩ / ٤٦].

(كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) أي مثل ذلك الصرف عن تقدير الحقيقة والواقع في مدة اللبث ، كانوا يصرفون من الحق إلى الباطل ، ومن الصدق إلى الكذب ، والمراد أنهم كاذبون في قولهم : ما لبثنا غير ساعة ، وفي حلفهم على الكذب ، وأنهم مغترون بزينة الدنيا ومتاعها وزخرفها ، فإذا عرفوا ذلك ربما حملهم على ترك العناد ، وسلوك طريق الرشاد.

وفي هذا دلالة على أن إصرارهم على الكفر ، صرفهم عن التفكير فيما هو حق وعن الاعتقاد بالبعث واليوم الآخر.

ثم ذكر جواب المؤمنين لهم في موقف القيامة ، فقال تعالى :

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ : لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ

١١٧

الْبَعْثِ) أي فردّ المؤمنون العالمون بالآخرون على منكري البعث القائلين الحالفين بأنهم لم يلبثوا غير ساعة : لقد لبثتم في علم الله وقضائه مدة طويلة في الدنيا من يوم خلقتم إلى أن بعثتم.

وفي هذا إشارة إلى أن المؤمن العالم يستكثر مدة المكث في الدنيا ؛ لأنه متطلع مشتاق إلى نعيم الجنة وخلودها ، وهو يعلم أن مصيره إلى الجنة ، فيستكثر المدة ، ولا يريد التأخير.

(فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ ، وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم منكرين للبعث فهذا يومه الواقع الذي لا سبيل لإنكاره ، وبه يتبين بطلان إنكاركم إياه ، غير أنكم تجهلون أنه حق واقع ، لتفريطكم في النظر وغفلتكم عن أدلة ثبوته.

(فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي ففي يوم القيامة لا ينفع هؤلاء الظالمين الكافرين عذرهم أو اعتذارهم عما فعلوا ، ولا تقبل منهم توبتهم ؛ لأن وقت التوبة في دار الدنيا ، وهي دار العمل ، أما الآخرة فهي دار الجزاء ، لا وقت العمل.

وقوله : (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) معناه أنه لا يطلب منهم الإعتاب ، وهو إزالة العتب بالتوبة والطاعة التي تزيل آثار الجريمة ؛ لأنها لا تقبل منهم ، ولا يعاتبون على ذنوبهم ، وإنما يعاقبون عليها ، كما قال تعالى : (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) [فصلت ٤١ / ٢٤] فليست حالهم حال من يستعتب ويرجع عما هو عليه.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يلي :

١ ـ إن عمر الدنيا قصير جدا إذا قورن بالآخرة.

١١٨

٢ ـ قوله تعالى : (ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) لا يعني إنكار عذاب القبر أو التهوين من شأنه ، فقد صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه تعوذ منه ، وأمر أن يتعوذ منه ، أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن مسعود قال : سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم حبيبة وهي تقول : اللهم أمتعني بزوجي رسول الله ، وبأبي أبي سفيان ، وبأخي معاوية ، فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد سألت الله لآجال مضروبة وأرزاق مقسومة ، ولكن سليه أن يعيذك من عذاب جهنم وعذاب القبر».

٣ ـ دل قوله عزوجل : (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) على أن الكفار كانوا يكذبون في الدنيا ، وينصرفون من الحق إلى الباطل ، وأنهم كما صرفوا عن الحق في قسمهم أنهم ما لبثوا غير ساعة ، كذلك كانوا يصرفون عن الحق في الدنيا ، كما وصفهم القرآن : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً ، فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) [المجادلة ٥٨ / ١٨] وقال تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا : وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ، انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا) [الأنعام ٦ / ٢٣ ـ ٢٤].

٤ ـ العلماء بالآخرة المؤمنون بها وبالله تعالى من الملائكة والناس يستكثرون مدة الدنيا شوقا إلى الآخرة والجنة ، أما الكافرون فيستقلّون مدة اللبث في الدنيا ، ويختارون تأخير الحشر ، والإبقاء في القبر ، تحاشيا من عذاب الآخرة ، لذا يقول المؤمنون للكفار ردا عليهم : لقد لبثتم في الدنيا أو في قبوركم إلى يوم البعث.

٥ ـ الواقع خير شاهد ودليل ، لذا يقول المؤمنون للكفار : إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث الذي كنتم تنكرونه.

٦ ـ إذا جاء الموت أو يوم القيامة لا ينفع العلم بالقيامة ولا الاعتذار يومئذ ، ولا يطلب من الكفار العتبى ، أي إزالة العتب بالتوبة التي تسقط الذنب ،

١١٩

ولا تقبل التوبة حينئذ ؛ لأن وقتها ووقت التكليف وهو دار الدنيا قد فات ، ولم يبق أمامهم إلا دار الجزاء والعقاب ، فيعاقبون على أعمالهم التي عملوها.

مهمة القرآن في بيان أدلة العقيدة

وأمر النبي بالصبر على الأذى والدعوة

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))

المفردات اللغوية :

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي بينا لهم في القرآن أدلة التوحيد والبعث وصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقرونة بالأمثلة ، تنبيها لهم ، والمثل : الصفة التي هي في الغرابة كالأمثال (وَلَئِنْ) اللام لام القسم (جِئْتَهُمْ) يا محمد (بِآيَةٍ) من آيات القرآن (لَيَقُولَنَ)(١)(الَّذِينَ كَفَرُوا) منهم ، من فرط عنادهم وقساوة قلوبهم (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) ما أنتم أي الرسول والمؤمنون إلا مزورون أصحاب أباطيل متبعون الباطل.

(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي مثل ذلك الطبع يطبع على قلوب هؤلاء الجهلة الذين لا يطلبون العلم ، ويصرّون على خرافات اعتقدوها ؛ فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق ، ويوجب تكذيب المحق.

(فَاصْبِرْ) أيها النبي على أذى قومك وعلى دعوتك (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بنصرك عليهم وإظهار دينك على الدين كله (حَقٌ) لا بد من إنجازه (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ) أي ولا يحملنك على الخفة والطيش والقلق بترك الصبر أي لا تتركه (الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) بتكذيبهم وإيذائهم ، فإنهم ضالون.

__________________

(١) حذفت منه نون الرفع لتوالي النونات ، وحذفت وأو الجماعة لالتقاء الساكنين.

١٢٠