التفسير المنير - ج ٢٠

الدكتور وهبة الزحيلي

ب (أَيَّمَا) وفاء (فَلا ..) مع ما بعده مجزوم لأنه جواب الشرط ، والجملة : في موضع نصب مفعول (قالَ).

(ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) مبتدأ وخبر.

البلاغة :

(رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) استعطاف وترحم.

(وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) بينهما جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(تَوَجَّهَ) قصد بوجهه (تِلْقاءَ) تجاه (مَدْيَنَ) قرية شعيب على مسيرة ثمانية أيام من مصر ، وسميت باسم مدين بن إبراهيم (عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) أي قال ذلك توكلا على الله وحسن ظن به ، لأنه لم يكن يعرف طريقها ، وسواء السبيل : الطريق الأقوم ، والطريق الوسط إليها ، وكان هناك ثلاثة طرق ، فأخذ في أوسطها (وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) وصل إلى بئر فيها كانوا يستقون منها (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً) جماعة كثيرة من الناس مختلفين ، يسقون مواشيهم.

(وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ) سواهم (تَذُودانِ) تمنعان وتطردان أغنامهما عن الماء ، خوفا من السقاة الأقوياء (قالَ) موسى لهما (ما خَطْبُكُما) أي ما شأنكما لا تسقيان مع هؤلاء؟ (يُصْدِرَ الرِّعاءُ) يصرف الرعاة مواشيهم عن الماء ، وحينئذ نسقي خوف الزحام ومزاحمة الرجال ، يقال : صدر عن الماء مقابل ورد : انصرف عنه ، وقرئ : يصدر الرعاء أي يرجعون من سقيهم ، والرعاء : جمع راع (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) لا يقدر أن يسقي.

(فَسَقى لَهُما) مواشيهما من بئر أخرى بقربهما ، رحمة عليهما ، بأن رفع حجرا عنها لا يرفعه إلا عشرة أنفس أو سبعة ، بالرغم من تعبه وجوعه وجرح قدمه. (ثُمَّ تَوَلَّى) انصرف (إِلَى الظِّلِ) ظل شجرة كانت هناك ، هروبا من شدة الشمس ، وكان جائعا (مِنْ خَيْرٍ) قليل أو كثير ، ويطلق على الطعام ، كما في الآية ، وعلى المال كما في آية (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) [البقرة ٢ / ١٨٠] وعلى القوة كما في آية : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) [الدخان ٤٤ / ٣٧] وعلى العبادة كما في آية : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) [الأنبياء ٢١ / ٧٣] (فَقِيرٌ) محتاج.

فرجعتا إلى أبيهما في زمن أقل مما كانتا ترجعان فيه ، فسألهما عن ذلك ، فأخبرتاه بمن سقى لهما ، فقال لأحدهما : ادعيه لي (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) أي شدة حياء ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف حال ، أي مستحيية متخفرة ، قيل : كانت الصغرى منهما ، وقيل :

٨١

الكبرى ، واسمها صفوراء أو صفراء ، وهي التي تزوجها موسى (لِيَجْزِيَكَ) ليكافئك أو ليثيبك (أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) جزاء سقيك لنا. وقد أجابها موسى ليتبرك برؤية الشيخ ، ويستظهر بمعرفته ، لا طمعا في الأجر ، بل روي أنه لما جاءه قدم إليه طعاما ، فامتنع عنه ، وقال : إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا ، أو لا نطلب على عمل خير عوضا ، فأجابه شعيب : هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا ، أو قال : لا ، عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ، ونطعم الطعام. علما بأن من فعل معروفا ، فأهدي إليه شيء ، لم يحرم أخذه.

(قَصَ) روى له القصة وأخبره بحاله (الْقَصَصَ) مصدر بمعنى الحديث المقصوص أي المخبر به ، من قتله القبطي ، وقصدهم قتله ، وخوفه من فرعون (نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فرعون وقومه ؛ إذ لا سلطان له على مدين.

(قالَتْ إِحْداهُما) التي استدعته الكبرى أو الصغرى (اسْتَأْجِرْهُ) اتخذه أجيرا يرعى غنمنا بدلنا (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) فإنها أخبرته عن رفعه حجر البئر ، وعن قوله لها أثناء السير : امشي خلفي ، وقابل حياءها بحياء ، فلما جاءته وعلم بها ، صوّب رأسه فلم يرفعه. والجملة تعليل جامع ، يجري مجرى الدليل على أنه حقيق بالاستئجار. وللمبالغة فيه جعل خيرا اسما ، وذكر الفعل بلفظ الماضي ، للدلالة على أنه أمين مجرب معروف.

(إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) الكبرى أو الصغرى (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) تكون أجيرا لي أو تأجر نفسك مني في رعي غنمي (ثَمانِيَ حِجَجٍ) سنين ، جمع حجة أي سنة (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً) رعي عشر سنين (فَمِنْ عِنْدِكَ) التمام (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) باشتراط العشر (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ) للتبرك (مِنَ الصَّالِحِينَ) في حسن المعاملة ولين الجانب والوفاء بالمعاهدة.

(قالَ) موسى (ذلِكَ) الذي قلته (بَيْنِي وَبَيْنَكَ) أي ذلك الذي عاهدتني فيه قائم بيننا لا نخرج عنه (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ) أطولهما وأقصرهما للرعي (قَضَيْتُ) وفيتك إياه (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) بطلب الزيادة عليه ، أو فلا مجاوزة للحد ، أي فكما لا أطالب بالزيادة على العشر لا أطالب بالزيادة على الثماني (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) أي على ما نقول أنا وأنت حفيظ أو شاهد ، فتم العقد بذلك.

المناسبة :

بعد أن تمالأ فرعون وقومه على قتل موسى ، وأخبره مؤمن من آل فرعون بما عزموا عليه ، ونصحه بالخروج من مصر ، فخرج متجها إلى أرض مدين ، ماشيا ، برعاية الله وهدايته الطريق ، للنسب الذي بين الإسرائيليين وبين أهل مدين ،

٨٢

لأن مدين من ولد إبراهيم ، والإسرائيليون من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام. وهناك تزوج بابنة شعيب عليه‌السلام ، ثم عاد إلى مصر بعد أن أوتي النبوة في الطريق.

التفسير والبيان :

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ ، قالَ : عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) أي لما اتجه موسى جهة مدين تاركا مدينة فرعون ؛ لأنه كما بينا وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة ؛ لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم عليه‌السلام ، وهو كان من بني إسرائيل ، لكن لما لم يكن عالما بالطريق ، اعتمد على فضل الله تعالى ، قائلا : ربي اهدني الطريق الأقوم ، فامتن الله عليه ، وهداه إلى الصراط المستقيم ، واختار الطريق الوسط من بين ثلاث طرق ، وكان يسأل الناس عن كيفية الطريق ، بحكم العادة. قال ابن إسحاق : خرج من مصر إلى مدين بغير زاد ولا ظهر (أي راحلة) وبينهما مسيرة ثمانية أيام ، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر. ومدين : شمال خليج العقبة في بلاد فلسطين.

وكانت أحداث مدين كما يلي :

١ ـ حال الرعاء على الماء : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ، وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ، وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ : ما خَطْبُكُما؟ قالَتا : لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ ، وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) أي ولما وصل إلى مدين ، وورد ماءها ، وكان لها بئر يرده رعاة الماشية ، فوجد جماعة من الناس يسقون أنعامهم ومواشيهم ، ووجد في مكان أسفل من مكانهم امرأتين تمنعان غنمهما من ورود الماء مع الرعاة الآخرين ، لئلا يؤذيا وتختلط أغنامهما مع غيرها ، فلما رآهما موسى عليه‌السلام رقّ لهما ورحمهما ، فسألهما : ما شأنكما وما خبركما لا تردان الماء مع هؤلاء؟ قالتا : لا نسقي غنمنا ، أي لا نتمكن من سقي الغنم إلا بعد فراغ هؤلاء

٨٣

القوم من السقي ، وأبونا شيخ كبير هرم لا يستطيع الرعي والسقي بنفسه ، مما ألجأنا إلى الحال التي ترى. وهذا شأن الضعيف مع القوي دائما ، يشرب القوي أولا من الماء الصافي ، ويشرب الضعيف بقية الماء. وفي هذا اعتذار لموسى عن مباشرتهما السقي بأنفسهما ، وتنبيه على أن أباهما لا يقدر على السقي لشيخوخته وكبره ، واستعطاف لموسى في إعانتهما.

٢ ـ السقي للمرأتين والمناجاة : (فَسَقى لَهُما ، ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ ، فَقالَ : رَبِّ ، إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) أي فسقى غنمهما لأجلهما من بئر مغطى بصخرة ، لا يطيق رفعها إلا عشرة رجال ، كما روى ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، ثم أعاد الصخرة على البئر ، ثم انزوى إلى ظل شجرة للراحة ، فناجى ربه قائلا : إني لمحتاج إلى الخير القليل أو الكثير وهو الطعام ، لدفع غائلة الجوع. وإنما عدى فقيرا باللام ؛ لأنه ضمن معنى سائل وطالب.

وفيه دلالة على أنه سقى لهما في حر من الشمس ، وعلى كمال قوة موسى عليه‌السلام ، وعلى أنه رغم نعومة عيشه في بلاط فرعون كان مخشوشنا جلدا صابرا.

قال ابن عباس : سار موسى من مصر إلى مدين ، ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر ، وكان حافيا ، فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه ، وجلس في الظل ، وهو صفوة الله من خلقه ، وإن بطنه للاصق بظهره من الجوع ، وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه ، وإنه لمحتاج إلى شقّ تمرة.

٣ ـ الفرج بعد الشدة : (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ : إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) أي لما رجعت المرأتان سريعا بالغنم إلى أبيهما استغرب وسألهما عن خبرهما ، فقصتا عليه ما فعل موسى عليه‌السلام ، فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها ، فجاءت إحداهما تمشي مشي الحرائر ، مستحيية ، متخمرة بخمارها ، ساترة وجهها بثوبها ، ليست جريئة على الرجال ،

٨٤

فقالت في أدب وحياء وخفر : إن أبي يطلبك ليكافئك على إحسانك لنا ، ويعطيك أجر سقيك لغنمنا.

واختلف العلماء في تعيين الأب من هو ، والجمهور ـ أو المشهور عند كثير من العلماء ـ على أن الداعي أباهما هو شعيب عليه‌السلام الذي أرسل إلى أهل مدين ، وهما ابنتاه (١). وليس في ذلك شيء يأباه الدين كما قال الرازي.

وقد أجابها موسى عليه‌السلام للتبرك بالشيخ ، لا طلبا للأجرة ، روي أنها لما قالت (لِيَجْزِيَكَ) كره ذلك ، ولما قدم إليه الطعام امتنع ، وقال : إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بدنيانا ، ولا نأخذ على المعروف ثمنا ، حتى قال شعيب عليه‌السلام : هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا. هذا فضلا عن أن الضرورات تبيح المحظورات.

وتبع موسى المرأة إلى منزل أبيها ، وطلب منها أن تسير خلفه كيلا ينظر إليها ، وأن ترشده إلى الطريق ، وهي خلفه ، وهذا من أدب الرجال الذين أعدهم الله للنبوة.

٤ ـ حديث الأمان مع الشيخ الكبير : (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ : لا تَخَفْ ، نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فلما جاء موسى إلى الشيخ ، وأخبره عن قصته مع فرعون وقومه في كفرهم وطغيانهم ، وظلمهم بني إسرائيل ، وتآمرهم على قتله وسبب خروجه من بلده مصر ، قال له : لا تخف واطمئن وطب نفسا ، فإنك نجوت من سطوة الظالمين ، وخرجت من مملكتهم ، ولا سلطان لهم في بلادنا ، فاطمأن موسى وهدأت نفسه من القلق.

٥ ـ طلب البنت استئجار القوي الأمين : (قالَتْ إِحْداهُما : يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) أي قالت إحدى ابنتي الشيخ

__________________

(١) البحر المحيط : ٧ / ١١٤ ، تفسير ابن كثير : ٣ / ٣٨٤

٨٥

الكبير التي ذهبت تدعوه لأبيها : يا أبت استأجره لرعي هذه الغنم ، فإن خير مستأجر هو ؛ لأنه القوي على حفظ الماشية والقيام بشؤونها ، المؤتمن الذي لا تخاف خيانته.

وصفته بأفضل صفات الأجير : القوة في القيام بالأمر ، والأمانة في حفظ الشيء. ومصدر هاتين الصفتين ما شاهدت من حاله ، قال لها أبوها : وما علمك بذلك؟ قالت له : إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال ، وإني لما جئت معه تقدمت أمامه ، فقال لي : كوني من ورائي ، فإذا اختلف عليّ الطريق ، فاقذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدي إليه.

قال عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه : أفرس الناس ثلاثة : أبو بكر حين تفرس في عمر ، وصاحب يوسف حين قال : (أَكْرِمِي مَثْواهُ) وصاحبة موسى حين قالت : (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).

٦ ـ مصاهرة موسى لشعيب : (قالَ : إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ، وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي إن شعيب اقتنع بأن موسى رجل قوي أمين ، فقال له : أريد مصاهرتك وتزويجك إحدى هاتين البنتين ، فاختر ما تشاء ، وهما صفوريا وليا ، والمهر : أن ترعى غنمي ثماني سنين ، فإن تبرعت بزيادة سنتين ، فهو إليك ، وإلا ففي الثماني كفاية.

ولا أشاقك بعد ذلك بشيء من المناقشة في الوقت أو غيره ، وستجدني صالحا على العموم ، ومن ذلك حسن المعاملة ، ولين الجانب. وإنما قال : (إِنْ شاءَ اللهُ) للتبرك والاتكال على توفيق الله ومعونته.

فأجابه موسى بقوله :

(قالَ : ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ، أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) أي قال

٨٦

موسى لصهره : الأمر على ما قلت ، لي الخيار في إحدى البنتين ، وفي إحدى المدتين : ثماني أو عشر سنين ، كل واحد على ما شرط على نفسه ، فإن أتممت عشرا فمن عندي ، وإن قضيت ثمانيا فقد برئت من العهد ، وخرجت من الشرط ، فلا حرج علي من اختيار إحدى المدتين ، وليس لك أن تطالبني بزيادة عليهما ، وإن كان المهيأ للنبوة سيختار الأكمل ، وإن كان مباحا غير لازم ، وقد فعل موسى عليه‌السلام أكمل الأجلين.

روى ابن جرير وغيره عن ابن عباس بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سألت جبريل ، أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال : أتمهما وأكملهما» (١) هو المعاهدة التي حدثت بين موسى وشعيب عليهما‌السلام.

وقوله : (ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) وقوله : (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) أي أطول الأجلين الذي هو العشر أو أقصرهما الذي هو الثمان. وقوله : (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) أي لا يعتدي أحد على آخر في طلب الزيادة.

(وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) أي والله حفيظ أو شاهد على ما ألزم كل واحد نفسه به للآخر. والوكيل في الأصل : الذي وكل إليه الأمر ، ولما استعمل الوكيل في معنى الشاهد عدّي بعلى. وهذا من قول موسى ، وقيل : هو من قول شعيب والد المرأة.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ انتقل موسى عليه‌السلام ماشيا من مصر إلى مدين شمال خليج العقبة بفلسطين مدة ثماني ليال.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ٣٨٦.

٨٧

٢ ـ ليس سقي ابنتي شعيب عليه‌السلام الماشية بمحظور في الدين ، ولا يأباه الدين والمروءة جريا على عادة العرب وأحوالهم.

٣ ـ لم يذق موسى عليه‌السلام طعاما في طريقه إلى مدين سبعة أيام ، حتى التصق بطنه بظهره ، فلجأ إلى الدعاء تعريضا ، ولم يصرح بالسؤال ، وإنما طلب إنزال أي خير قليل أو كثير ، فدل هذا الكلام على الحاجة إلى الطعام أو إلى غيره ، إلا أن المفسرين حملوا هذا الكلام على الطعام. قال ابن عباس : وكان قد بلغ به الجوع ، وأخضر لونه من أكل البقل في بطنه ، وإنه لأكرم الخلق على الله.

وفي هذا إشعار بهوان الدنيا على الله.

٤ ـ إن سقي موسى عليه‌السلام ماشية المرأتين اللتين عجلتا بالذهاب إلى أبيهما كان سببا في دعوته وتناوله الطعام عند شعيب عليه‌السلام ، وإجابة لدعائه ومناجاته ربه.

وبالرغم من حاجته إلى الطعام قال موسى : لا آكل ، إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبا ، فقال شعيب : ليس هذا عوض السقي ، ولكن عادتي وعادة آبائي قرى الضيف ، وإطعام الطعام ، فحينئذ أكل موسى عليه‌السلام.

٥ ـ دل قوله : (نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) على أن سلطان الحكام كان محصورا في إقليم معين ، فكانت مدين خارجة عن مملكة فرعون.

٦ ـ دل قوله تعالى : (قالَتْ إِحْداهُما : يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) على مشروعية الإجارة ، وهي فعلا كانت مشروعة في كل ملة ، لحاجة الناس إليها ، وتحقيق مصالحهم بها.

٧ ـ قوله تعالى : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ) فيه دليل على جواز عرض الولي ابنته على الرجل لخطبتها ، وهذه سنة شائعة قديمة ، فقد عرض صالح

٨٨

مدين ابنته على صالح بني إسرائيل ، وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان ، وعرضت الواهبة نفسها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أخرج البخاري والنسائي عن ابن عمر قال : «لما تأيمت حفصة من حذافة بن خنيس السهمي قال عمر لعثمان : إن شئت أنكحك حفصة بنت عمر» وكذلك قال لأبي بكر ، لكنهما امتنعا لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكرها بخير ، فلم يفشيا سره ، وفهما أنه يريد الزواج بها.

٨ ـ قوله : (أُنْكِحَكَ) دليل على أن النكاح إلى الولي ، لا للمرأة ؛ لأن صالح مدين تولاه ، وهو رأي جمهور العلماء ، وخالف في ذلك أبو حنيفة ، كما تقدم في تفسير آيات النكاح.

٩ ـ والآية تدل أيضا على أن للأب أن يزوّج ابنته البكر البالغ من غير استئمار ، وهو قول الجمهور. وقال أبو حنيفة : إذا بلغت الصغيرة فلا يزوجها أحد إلا برضاها ؛ لأنها بلغت حد التكليف ، فأما إذا كانت صغيرة ، فإنه يزوجها بغير رضاها ، لأنه لا إذن لها ولا رضا ؛ بغير خلاف.

١٠ ـ استدل الشافعية بآية : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ) على أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والإنكاح فقط. وقال المالكية : ينعقد النكاح بكل لفظ. وقال أبو حنيفة : ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد ، بلفظ الهبة وغيره إذا كان قد أشهد عليه ؛ لأن الطلاق يقع بالصريح والكناية ، فكذلك النكاح ، والذي خص به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كون الزواج بلا مهر ، لا الزواج بلفظ الهبة.

١١ ـ قوله تعالى : (إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) عرض للزواج ، لا عقد ؛ لأنه لو كان عقدا لعين المعقود عليها له.

١٢ ـ قال مكّي : في هذه الآية خصائص في النكاح ، منها أنه لم يعين الزوجة ، ولا حدّ أول الأمد ، وجعل المهر إجارة ، ودخل ولم ينقد شيئا.

أما التعيين فالواقع أنه تم في اتفاق آخر ، وإنما عرض الأمر مجملا ، وعيّن بعد ذلك.

٨٩

وأما ذكر أول المدة فليس في الآية ما يقتضي إسقاطه ، بل هو مسكوت عنه ، فإما أنهما اتفقا عليه ، وإلا فهو من أول وقت العقد.

وأما الزواج بمنفعة الإجارة فظاهر من الآية ، وهو أمر أقره شرعنا ، بدليل ما روى الأئمة من الزواج على شيء من القرآن ، وفي بعض طرقه : «فعلّمها عشرين آية وهي امرأتك».

وللعلماء فيه ثلاثة أقوال : كرهه مالك ، ومنعه ابن القاسم ، والحنفية ، وأجازه ابن حبيب والشافعية والحنابلة ، بدليل هذه الآية.

وأما قول مكي : دخل ولم ينقد ، ففيه خلاف ، منعه ابن القاسم ، فليس للزوج الدخول حتى ينقد ولو ربع دينار ، وأجازه متأخر والمالكية ؛ لأن تعجيل الصداق أو شيء منه مستحب.

١٣ ـ دلت الآية على اجتماع عقدين هما الإجارة والزواج ، وقد أجازه ابن العربي المالكي على الصحيح ؛ لأن الآية تدل عليه ، وقد قال مالك : النكاح أشبه شيء بالبيوع ، فأي فرق بين إجارة وبيع ، أو بين بيع ونكاح (١). ومنعه ابن القاسم في المشهور ، وقال : لا يجوز ويفسخ قبل الدخول وبعده ؛ لاختلاف مقاصدهما ، كسائر العقود المتباينة.

١٤ ـ يدل قوله تعالى : (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) على جواز ذكر الخدمة مطلقا ، دون بيان نوع العمل ، مع بيان الأجل فقط ، وقد أجازه مالك وقال : إنه جائز ويحمل على العرف. فلم يكن لصالح مدين إلا رعي الغنم. وقال أبو حنيفة والشافعي : لا يجوز حتى يسمى نوع العمل ؛ لأنه مجهول.

١٥ ـ أجمع العلماء على جواز استئجار الراعي شهورا معلومة ، بأجرة

__________________

(١) أحكام القرآن ٣ / ١٤٦٤.

٩٠

معلومة ، لرعاية غنم معدودة. فإن كانت مطلقة غير مسماة ولا معينة جازت الإجارة عند المالكية عملا بالعرف. وقال أبو حنيفة والشافعي : لا تجوز لجهالتها.

١٦ ـ دلت آية (ثَمانِيَ حِجَجٍ ، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) على مذهب الأوزاعي فيما إذا قال : بعتك هذا بعشرة نقدا ، أو بعشرين نسيئة ، أنه يصح ويختار المشتري ، فبأيهما أخذ يصح ، وحمل الحديث المروي في سنن أبي داود : «من باع بيعتين فله أوكسهما أو الربا» على هذا المذهب.

١٧ ـ استدل الحنابلة بهذه الآية المتقدمة على صحة استئجار الأجير بطعامه وكسوته ، ويؤيدهم ما رواه ابن ماجه في السنن عن عتبة بن المنذر السّلمي قال : كنا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقرأ طسم ، حتى إذا بلغ قصة موسى قال : «إن موسى آجر نفسه ثماني سنين أو عشر سنين على عفة فرجه وطعام بطنه». (١).

١٨ ـ قال مالك : وليس على الراعي ضمان ، وهو مصدّق فيما هلك أو سرق ؛ لأنه أمين كالوكيل ، ولا ضمان عليه فيما تلف عليه باجتهاده ، إن كان من أهل الصلاح ، وممن يعلم إشفاقه على المال ، ولصاحب المال تضمينه إن كان من أهل الفسوق والفساد.

١٩ ـ روى عيينة بن حصن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أجر موسى نفسه بشبع بطنه وعفّة فرجه».

والإجارة بالعوض المجهول كشيء مما تلده الغنم لا تجوز ، فإن ولادة الغنم غير معلومة؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة نهى عن الغرر ، وروى البزار بسند ضعيف عن أبي هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن المضامين والملاقيح.

__________________

(١) لكن فيه راو ضعيف الرواية عند الأئمة هو مسلمة بن علي الخشني الدمشقي البلاطي.

٩١

والمضامين : ما في بطون الإناث ، والملاقيح : ما في أصلاب الفحول. على أن راشد بن معمر أجاز الإجازة على الغنم بالثلث والربع. وقال ابن سيرين وعطاء : ينسج الثوب بنصيب منه ، وبه قال أحمد.

٢٠ ـ الكفاءة في النكاح معتبرة ، واختلف العلماء هل في الدّين والمال والحسب أو في بعض ذلك؟ والصحيح لدى المالكية جواز نكاح الموالي للعربيات والقرشيات ، لقوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات ٤٩ / ١٣]. وقد جاء موسى إلى صالح مدين غريبا طريدا خائفا وحيدا جائعا عريانا ، فأنكحه ابنته لما تحقق من دينه ، ورأى من حاله ، وأعرض عما سوى ذلك.

٢١ ـ إذا اشترط ولي المرأة لنفسه شيئا ، فقد اختلف العلماء فيما يخرجه الزوج من يده ، ولا يدخل في يد المرأة على قولين : أحدهما ـ أنه جائز ، والآخر ـ لا يجوز ، فهو حلوان وزيادة على المهر ، وهو حرام.

ويؤيد الرأي الأول ما جرى من شعيب حيث اشترط لنفسه إجارة الرعي ثماني سنين ، وترك المهر مفوضا ، ونكاح التفويض جائز ، ويجب حينئذ مهر المثل.

٢٢ ـ يكتب في العقود الشروط المتفق عليها ، ثم يقال : وتطوع بكذا ، فينفذ الشرط على حدة ، ويترك الطوع لتنفيذه مختارا على حدة. وهذا ما فعله شعيب حيث ذكر اشتراط الإجارة ثماني سنين ، وترك التطوع لموسى ، وهو سنتان أخريان إن شاء.

٢٣ ـ قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) فيه جعل الإشهاد عليهما في الزواج بالله تعالى ، ولم يشهد شعيب وموسى عليهما أحدا من الخلق ، وقد اختلف العلماء في وجوب الإشهاد في الزواج على قولين :

أحدهما ـ وهو قول الجمهور : أنه لا ينعقد الزواج إلا بشاهدين.

٩٢

والثاني ـ قال مالك : إنه ينعقد دون شهود ؛ لأنه عقد معاوضة ، فلا يشترط فيه الإشهاد ، وإنما يشترط فيه الإعلان والتصريح ، وفرق ما بين النكاح والسفاح : الدّفّ.

ـ ٥ ـ

عودة موسى عليه‌السلام إلى مصر ونبوته

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢))

الإعراب :

(أَنْ يا مُوسى أَنْ) مفسرة لا مخففة في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : بأن يا موسى.

(وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) معطوف على قوله : (أَنْ يا مُوسى).

٩٣

(فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ تَهْتَزُّ) جملة فعلية ، في موضع الحال من الهاء والألف في (رَآها) أي مهتزة مشبهة جانا. (وَلَّى) : أصله (وَلَّى) فتحركت الياء وانفتح ما قبلها ، فقلبها ألفا ، وهو جواب «لمّا». و (مُدْبِراً) حال من ضمير (وَلَّى) وعامله (وَلَّى). و (لَمْ يُعَقِّبْ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير (وَلَّى) وهو العامل فيها أيضا.

(فَذانِكَ بُرْهانانِ) مبتدأ وخبر ، وذان : تثنية ذا ، قرئ بتخفيف النون وتشديدها ، والتشديد عوض عن حذف ألف ذا التي كانت في الواحد.

البلاغة :

(تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ) تشبيه مرسل مجمل ، حذف فيه وجه الشبه ، فصار مجملا.

(وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) كناية ، كنى بالجناح عن اليد ؛ لأنها للإنسان كالجناح للطائر.

المفردات اللغوية :

(قَضى ... الْأَجَلَ) أتم المدة المحددة المتفق عليها بينهما ، وهو رعيه عشر سنين (وَسارَ بِأَهْلِهِ) زوجته بإذن أبيها نحو مصر ، روي أنه قضى أقصى الأجلين ، ثم عزم على الرجوع (آنَسَ) أبصر من بعيد (مِنْ جانِبِ الطُّورِ) من الجهة التي تلي الطور : وهو اسم لجبل في سينا (بِخَبَرٍ) عن الطريق ، وكان قد أخطأها (أَوْ جَذْوَةٍ) جمرة ملتهبة أو عود غليظ في رأسه نار (تَصْطَلُونَ) تستدفئون.

(مِنْ شاطِئِ الْوادِ) من جانب (الْأَيْمَنِ) لموسى (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) المكان الذي بارك الله فيه لموسى لسماعه كلام الله فيها (مِنَ الشَّجَرَةِ) بدل من شاطئ بدل الاشتمال ؛ لأنها كانت نابتة على الشاطئ ، وهي شجرة عناب أو عليق أو عوسج (أَنْ يا مُوسى) أي يا موسى (تَهْتَزُّ) تتحرك (كَأَنَّها جَانٌ) الجانّ : الحية الصغيرة التي توجد في الدور ولا تؤذي ، أي تشبه الحية في الهيئة والجثة ، أو السرعة ، أو الجني في سرعة الحركة وعظم الخلقة (وَلَّى مُدْبِراً) أدبر هاربا منهزما منها من الخوف (وَلَمْ يُعَقِّبْ) لم يرجع (يا مُوسى) أي نودي يا موسى (إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) من المخاوف ، فإنه لا يخاف لدي المرسلون.

(اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أي أدخلها في طوق قميصك وأخرجها (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي عيب كبرص ونحوه (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) يديك المبسوطتين تتقي بهما الحية كالخائف الفزع (مِنَ الرَّهْبِ) الخوف الحاصل من إضاءة اليد ، بأن تدخلها في جيبك (فتحة القميص من جهة الرأس) وعبر عن اليد بالجناح ؛ لأنها للإنسان كالجناح للطائر.

٩٤

(فَذانِكَ) أي العصا واليد (بُرْهانانِ) دليلان مرسلان ، أو حجتان (فاسِقِينَ) خارجين عن حدود الله ، فكانوا أحقاء بأن يرسل إليهم.

المناسبة :

بعد أن أتم موسى عليه‌السلام أوفى الأجلين ، عزم على العودة إلى مصر ، لزيارة أقاربه ، وبينا هو في الطريق ، وكانت الليلة باردة شاتية ، أبصر من ناحية جبل الطور نارا ، فطلب من أهله المكث في مكانهم ، ليحضر لهم جذوة نار ، فناداه ربه ، وآتاه النبوة والرسالة.

التفسير والبيان :

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ ... لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي فلما أكمل الأجلين وأتمهما وهو رعي غنم شعيب عشر سنين ، وهذا مستفاد أيضا من الآية الكريمة حيث قال تعالى (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) أي الأكمل منهما ، وأن ذلك الإيناس حصل عقيب مجموع الأمرين ، وليس فقط عقيب أحدهما ، وهو قضاء الأجل.

وسار إلى ما يريد مع أهله أي زوجته ، أبصر نارا تضيء على بعد من ناحية جبل الطور ، فطلب من أهله المكوث في مكانهم حتى يذهب إلى النار ، فيأتي من أهلها بخبر الطريق أو بقطعة أو شعلة من النار ليستدفئوا بها من البرد ، وذلك لأنه سار في ليلة مظلمة مطيرة باردة ، وكان قد أخطأ الطريق ، وكان موسى منفردا مع أهله.

وخاطب أهله بقوله : (امْكُثُوا) بصيغة الجمع للتعظيم. وقوله : (بِخَبَرٍ) فيه دلالة على أنه ضل الطريق ، وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) فيه دلالة على البرد.

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى : إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي فلما وصل إلى مكان وجود النار التي

٩٥

رآها من بعيد ، ناداه ربه من جانب الوادي الأيمن ، أي عن يمين موسى من ناحية الغرب ، كما قال تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) [القصص ٢٨ / ٤٤] مما يدل على أنه قصد النار إلى جهة القبلة ، والجبل الغربي عن يمينه.

ناداه ربه في البقعة المباركة من ناحية الشجرة : يا موسى ، إني أنا الله رب العالمين ، إني أنا ربك فاخلع نعليك ، إنك بالوادي المقدس طوى ، أي الذي يخاطبك ويكلمك هو رب العالمين ، الفعال لما يشاء ، لا إله غيره ، ولا رب سواه ، تنزه عن مماثلة المخلوقات في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله.

ووصف البقعة بكونها مباركة ، لأنه حصل فيها ابتداء الرسالة ، وتكليم الله تعالى إياه. ومن الأولى : (مِنْ شاطِئِ) والثانية : (مِنَ الشَّجَرَةِ) لابتداء الغاية ، أي أتاه النداء من شاطئ الوادي من قبل الشجرة.

وقد خلق الله تعالى في موسى أثناء ذلك علما يقينيا بأن ذلك الكلام هو كلام الله ، وسمع الكلام القديم من الله تعالى ، لا من الشجرة ، على رأي أبي الحسن الأشعري ، وسمع الصوت والحرف المخلوق في الشجرة والمسموع منها ، على رأي أبي منصور الماتريدي.

ثم أيده بمعجزتين هما :

أولا ـ (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ ، فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ ، وَلَّى مُدْبِراً ، وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي ونودي بأن ألق عصاك التي في يدك ، فألقاها فصارت حية تسعى ، فعرف وتحقق أن الذي يكلمه ويخاطبه هو الذي يقول للشيء : (كُنْ فَيَكُونُ) فلما رآها تتحرك وتضطرب كأنها جان من الحيات أو ثعبان ، لسرعة حركتها ، أو شبهها بالجانّ من حيث الاهتزاز والحركة ، لا من حيث المقدار ، ولّى هاربا ولم يرجع ولم يلتفت إلى ما وراءه ؛ لأن طبع البشر ينفر من ذلك.

٩٦

فهدّأ الحق تعالى روعه قائلا :

(يا مُوسى ، أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ ، إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) أي يا موسى ارجع إلى مكانك أو مقامك الأول ، ولا تخف من الحية أو الثعبان ، فأنت آمن من كل سوء.

ثانيا ـ (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي أدخل يدك في جيب أو فتحة قميصك العليا من جهة الرأس ، ثم أخرجها ، تخرج تتلألأ ، ولها شعاع ، كأنها قطعة قمر ، من غير عيب ولا برص فيها.

وإزالة لخوفه من الآيتين المعجزتين السابقتين قال تعالى له :

(وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) أي وضع يدك على صدرك ، يذهب عنك ما تجده من الخوف ، فكان إذا خاف من شيء ضم إليه يده ، فإذا فعل ذلك ذهب ما طرأ عليه من الخوف. وقوله : (مِنَ الرَّهْبِ) أي من أجل الرهب.

وربما إذا استعمل أحد ذلك على سبيل الاقتداء ، فوضع يده على فؤاده ، فإنه يزول عنه ما يجده أو يخيفه ، إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة سبحانه.

قال ابن عباس : كل خائف إذا وضع يده على صدره ، زال خوفه. (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي فتلك الآيتان المعجزتان وهما إلقاء العصا وجعلها حية تسعى ، وإدخال يدك في جيبك ، فتخرج بيضاء من غير سوء ، هما دائما دليلان قاطعان واضحان على قدرة الله وصحة نبوتك ، يؤيدانك في رسالتك إلى فرعون وقومه من الرؤساء والكبراء والأتباع ، إنهم قوم خارجون عن طاعة الله ، مخالفون لأمره ودينه ، فكانوا جديرين بإرسالك إليهم مؤيدا بهاتين المعجزتين.

٩٧

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى الآتي :

١ ـ يسير المهيّؤون للنبوة بتوجيه وإلهام من الله تعالى ، فلما انتهي موسى من الوفاء بما عاهد عليه شعيب من رعي غنمه مهرا للزواج بابنته ، اتجه عائدا مع زوجته إلى مصر ، في ليلة ظلماء شاتية باردة ، مشيا من دون راحلة في الإياب كما كان الحال في الذهاب من مصر إلى مدين ، وكان قد أتم أكمل الأجلين ، عملا بخلق النبوة ، وأخذا بالأكمل ، كما ثبت في الخبر عن نبينا عليه‌السلام.

وفي أثناء الطريق الذي أخطأه وفي شدة البرد التي ألمت به وبأهله رأى نارا من بعيد ، فطلب من أهله المقام في المكان الذي وقفا فيه ، وبادر إلى الإتيان بشعلة نار أو قطعة جمر للتدفئة ، وللسؤال من أهل النار عن الطريق.

٢ ـ دل قوله : (وَسارَ بِأَهْلِهِ) على أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء ، لما له عليها من فضل القوامة وزيادة الدرجة ، إلا أن يلتزم لها أمرا ، فالمؤمنون عند شروطهم ، وأحق الشروط أن يوفى به شروط الزواج.

٣ ـ كان ترائي النار استدعاء من رب الكون لمائدة تكليم رب العزة وإيتائه النبوة والرسالة ، وهنيئا لموسى عليه‌السلام بتلك الدعوة التي هي أكرم وأشرف دعوة على الإطلاق ، إذ صار بضيافتها كليم الله ، ورسول رب العالمين إلى عظيم الطغاة فرعون وحاشيته.

٤ ـ ناداه ربه بكلام لطيف في بقعة مباركة من شاطئ الوادي المقدس الأيمن : على يمين موسى ، طوى من ناحية شجرة ، على الجانب الغربي اتجاها ، من جبل الطور ، وكان مطلع النداء التعريف بالمنادي : إني أنا الله رب العالمين. وهذا نفي لربوبية غيره سبحانه.

٩٨

فصار بهذا الكلام من أصفياء الله عزوجل ، لا من رسله ؛ لأنه لا يصير رسولا إلا بعد أمره بالرسالة ، وقد أمر بها بعد هذا الكلام وهو : (إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) أي من المرسلين ؛ لقوله تعالى : (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) وقوله (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ)

٥ ـ أيده الله بمعجزتي العصا واليد ، فخاف منهما لأول وهلة ، ثم هدّأ الله روعه ، وسكّن خوفه ، وأعاده بعد الهرب إلى ساحة المناجاة مع ربه ، وجعل له علاجا للخوف بضم يده إلى صدره ، وكان موسى يرتعد خوفا إما من آل فرعون ، وإما من الثعبان ، فأوحى الله له : إذا هالك أمر يدك وشعاعها ، فأدخلها في جيبك وارددها إليه تعد كما كانت.

٦ ـ قدمنا قول ابن عباس : ليس من أحد يدخله رعب بعد موسى عليه‌السلام ، ثم يدخل يده ، فيضعها على صدره إلا ذهب عنه الرعب. وهكذا تكون محن الأنبياء عليهم‌السلام دائما فرجا ومخرجا للأمة. وبه تبين الهدف من قوله : (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) وهو خروج اليد بيضاء ، ومن قوله : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) وهو إخفاء الرهب.

وقد تساءل الزمخشري ثم الرازي بقوله : قد جعل الجناح وهو اليد في أحد الموضعين مضموما : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) وفي الآخرة مضموما إليه : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) والجواب أن المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى ، وبالمضموم إليه اليد اليسرى ، وكل من اليدين جناح (١).

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٤٧٣ ، تفسير الرازي : ٢٤ / ٢٤٧ وما بعدها.

٩٩

ـ ٦ ـ

نبوة هارون وتكذيب فرعون

(قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧))

الإعراب :

(يُصَدِّقُنِي) بالرفع وصف ل (رِدْءاً). وقرئ بالجزم على أنه جواب الأمر بتقدير حرف الشرط ، أو على أن جزم القاف لكثرة الحركات ، كقولهم في : عضد : عضد ، والوجه الأول أوجه.

(بِآياتِنا) متعلق بمحذوف أي اذهبا بآياتنا ، أو متعلق ب (نَجْعَلُ) أي نسلطكما بها.

(بَيِّناتٍ) حال (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) الهاء : ضمير الأمر والشأن.

البلاغة :

(يُصَدِّقُنِي يُكَذِّبُونِ) بينهما طباق.

(سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) مجاز مرسل عن التقوية ، من قبيل إطلاق السبب وإرادة المسبب ؛ لأن شد العضد يستلزم شد اليد ، وشد اليد مستلزم للقوة.

١٠٠