التفسير المنير - ج ٢٠

الدكتور وهبة الزحيلي

الأشقياء الذين يعملون السيئات ، فيكبّون على وجوههم في النار ، جزاء عملهم.

التفسير والبيان :

العلامة الثانية ـ نفخ الصور :

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) أي اذكر أيها الرسول للناس هول يوم نفخة الفزع في الصور ، وهو كما جاء في الحديث : قرن ينفخ فيه ، إذ يخاف جميع من في السموات ومن في الأرض خوفا شديدا ، يؤدي بهم إلى الموت إلى من شاء ربك ، بأن ثبت قلبه فلا يخاف ، وهم بعض الملائكة كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ، وقيل : هم الشهداء ، فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون.

وهناك نفختان : نفخة الفزع في هذه الآية وهي النفخة الأولى ، ونفخة الصعق (أي الموت) المذكورة في قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ، فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [الزمر ٣٩ / ٦٨] والنفخة الثانية : نفخة البعث التي في تتمة الآية السابقة : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) وفي آية أخرى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) [يس ٣٦ / ٥١].

وفي حديث الصور : إن إسرافيل هو الذي ينفخ فيه بأمر الله تعالى ، فينفخ فيه أولا نفخة الفزع ويطولها ، وذلك في آخر عمر الدنيا حين تقوم الساعة على شرار الناس من الأحياء ، فيفزع من في السموات ومن في الأرض.

فالنفخ إذن مرتان : مرة ليموت الكل إلا من شاء الله ، ومرة ليحيي الكل للحساب ، ومن استثني أولا يموت بعد النفخة الأولى وقبل الثانية.

(وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) أي وكل واحد من الخلائق يأتون إلى الموقف بين

٤١

يدي الله للسؤال والحساب أذلاء صاغرين ، صغار ذل إن كانوا كفارا ، وصغار هيبة وخشية إن كانوا مؤمنين ، لا يتخلف أحد عن أمر ربه ، كما قال : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم ١٩ / ٩٣] وقال : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ ، فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) [الإسراء ١٧ / ٥٢] وقال : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم ٣٠ / ٢٥] وقال : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) [المعارج ٧٠ / ٤٣].

العلامة الثالثة ـ تسيير الجبال :

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً ، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) أي وتنظر إلى الجبال فتراها كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه ، وهي تزول بسرعة عن أماكنها ، وتسير كما يسير الغمام بتأثير الرياح ، لأن الجسم الكبير إذا تحرك برتابة لا تكاد حركته تبين ، كما قال تعالى : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً ، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) [الطور ٥٢ / ٩ ـ ١٠] وقال : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ ، وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) [الكهف ١٨ / ٤٧] وقال : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) [النبأ ٧٨ / ٢٠] وقال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ : يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً ، فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً ، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه ٢٠ / ١٠٥ ـ ١٠٧].

وتسير الجبال ـ وإن دكت عند النفخة الأولى ـ يحدث بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق ، ليشاهدها أهل المحشر ، فيبدل الله الأرض غير الأرض والسموات ، كما قال تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ ، وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [إبراهيم ١٤ / ٤٨]. وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على دوران الأرض حول الشمس بسرعة فائقة ، لكن الظاهر أن ذلك في الآخرة ؛ لأن الكلام هنا عن يوم القيامة.

(صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أي ذلك الصنع هو فعل الله بقدرته

٤٢

العظيمة ، الذي أحكم كل شيء ، وأودع فيه من الحكمة ما أودع.

(إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) هذا علة النفخ في الصور والبعث للحساب والجزاء ، أي إن الله تعالى عليم بما يفعل عباده من خير وشر ، وسيجازيهم عليه أتم الجزاء.

ثم بيّن الله تعالى حال المكلفين السعداء والأشقياء بعد قيام القيامة فقال :

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) أي من جاء مؤمنا بالله وحده لا شريك له ، عاملا الصالحات ، فله على ذلك الثواب الجزيل عند ربه في جنات النعيم ، يأمن من الفزع الأكبر ، وهو الخوف من عذاب القيامة ، كما قال تعالى : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٣] وقال سبحانه : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [فصلت ٤١ / ٤٠] وقال عزوجل : (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) [سبأ ٣٤ / ٣٧].

والحسنة : الإيمان والعمل الصالح ، وقال ابن عباس والنخعي وقتادة : هي لا إله إلا الله. و (خَيْرٌ) هنا ليس أفعل تفضيل ، فليس شيء خيرا من لا إله إلا الله ، كما قال عكرمة ، وإنما المراد مضاعفة الثواب ودوامه ؛ لأن العمل ينقضي ، والثواب يدوم ، فالخير : الثواب ، وقيل : للتفضيل ، أي ثواب الله خير من عمل العبد وقوله. و (مَنْ) لابتداء الغاية أي له خير من الخيور ، مبدؤه ونشوؤه منها أي من جهة هذه الحسنة. وقد رتب الله على مجيء المكلف بالحسنة شيئين : الثواب والأمن من العذاب.

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ومن أشرك بالله وارتكب المعاصي ، ومن لقي الله مسيئا لا حسنة له ، أو قد رجحت سيئاته على حسناته ، كل بحسبه ، فيلقى في النار ، ويقال لهم أي للكفار والعصاة : هل هذا إلا جزاء عملكم في الدنيا من شرك ومعصية؟

٤٣

ويلاحظ أن هذه الآيات كلها في قمة البلاغة والفصاحة والإيجاز المفيد معاني عديدة متلاحقة ، قال الزمخشري : فانظر إلى بلاغة هذا الكلام ، وحسن تنظيمه وترتيبه ، ومكانة إضماده ، ورصانة تفسيره ، وأخذ بعضه بحجزة بعض ، كأنما أفرغ إفراغا واحدا ، ولأمر ما أعجز القوي ، وأخرس الشّقاشق (١).

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن نفخ إسرافيل في الصور نفخة مرعبة وهي النفخة الأولى ونفخة الصعق يموت من رعبها الخلائق كلهم إلا من شاء ربك من الملائكة أو الناس. وهي العلامة الثانية لقيام القيامة.

قال القرطبي : والصحيح في الصور : أنه قرن من نور ينفخ فيه إسرافيل. قال مجاهد : كهيئة البوق. والصحيح في النفخ في الصور أنهما نفختان ، لا ثلاث ، وأن نفخة الفزع إنما ترجع إلى نفخة الصعق ؛ لأن الأمرين لازمان لهما ، أي فزعوا فزعا ماتوا منه ، ثم تأتي نفخة البعث وهي النفخة الثانية التي يحيى بها العباد ليجتمعوا في أرض الجزاء (٢).

ولا يتخلف أحد من الخلائق من عهد آدم إلى قيام الساعة عن المثول حيا أمام الله تعالى ، لقوله سبحانه : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) أي ذليلين صاغرين.

٢ ـ وبعد قيام القيامة وبعد النفخة الثانية عند حشر الخلائق يحدث تسيير الجبال من أماكنها ، ثم تتلاشى وتتبدد كالعهن ، أي الصوف المندوف. يقال : إن الله تعالى وصف الجبال بصفات مختلفة ، ترجع كلها إلى تفريغ الأرض منها ،

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٤٦٣ ، والشقاشق : الخطباء الماهرون في الكلام ، جمع شقشقة وهي في الأصل لهاة البعير.

(٢) تفسير القرطبي : ١٣ / ٢٤٠.

٤٤

وإبراز ما كانت تواريه ؛ فأول الصفات : الاندكاك ، وذلك قبل الزلزلة ، ثم تصير كالعهن المنفوش ؛ وذلك إذا صارت السماء كالمهل (أي الزيت المذاب) وقد جمع الله بينهما فقال : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) [المعارج ٧٠ / ٨ ـ ٩]. والحال الثالثة : أي تصير كالهباء ، وذلك أن تتقطع بعد أن كانت كالعهن. والحال الرابعة : أن تنسف ، والحال الخامسة : أن الرياح ترفعها على وجه الأرض ، فتظهرها شعاعا في الهواء كأنها غبار ، والحال السادسة : أن تكون سرابا (١).

٣ ـ إن تغيير معالم الأرض من جبال وغيرها ، وتبديد السموات وغير ذلك من فعل الله الذي أتقن بصنعه كل شيء ، وأودع فيه من الحكمة ما أودع.

٤ ـ الناس صنفان يوم القيامة : سعداء وأشقياء ، فالسعداء : هم المؤمنون الذين عملوا الأعمال الصالحة ، وهؤلاء لهم الثواب الجزيل ، والأمن من عذاب الله. والأشقياء : هم الكفار والمشركون والعصاة الذين ارتكبوا في الدنيا السيئات ، وهؤلاء يطرحون في النار على وجوههم ، ويقال لهم : هل هذا إلا جزاء أعمالكم؟

والثواب الممنوح من الله للسعداء وهو الخير اسم جنس ، فسر بمضاعفته بعشرة أمثاله في آية أخرى ، فإن الله تعالى يعطي بالحسنة الواحدة عشرا ، أما جزاء السيئة فلا يضاعف فقال : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [الأنعام ٦ / ١٦٠].

__________________

(١) المرجع السابق : ٢٤٢ ـ ٢٤٣.

٤٥

الاشتغال بعبادة الله وحمده وتلاوة القرآن

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣))

المفردات اللغوية :

(هذِهِ الْبَلْدَةِ) مكة ، وتخصيصها بهذه الإضافة : إضافة (رَبَ) إليها تشريف لها وتعظيم لشأنها. (الَّذِي حَرَّمَها) أي الله الذي جعلها حرما آمنا لا يسفك فيها دم الإنسان ، ولا يظلم فيها أحد ، ولا يصاد صيدها ، ولا يختلى خلاها (عشبها الرطب) وذلك من نعم الله على قريش حيث رفع عن بلدهم العذاب والفتن الشائعة في جميع بلاد العرب. وقرئ : التي حرمها.

(وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) أي له تعالى كل شيء خلقا وملكا ، فهو ربه وخالقه ومالكه. (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) لله بتوحيده ، أي المنقادين الثابتين على ملة الإسلام. (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) أي وأن أواظب على تلاوته لينكشف لي حقائقه في تلاوته شيئا فشيئا ، وأتلوه أيضا عليكم تلاوة الداعية إلى الإيمان. (لِنَفْسِهِ) لأجلها ، فإن ثواب اهتدائه له. (وَمَنْ ضَلَ) عن الإيمان وأخطأ طريق الهدى (فَقُلْ) له (إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) المخوفين قومهم من عذاب الله ، فليس علي إلا التبليغ.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) على نعمة النبوة أو على ما علمني ووفقني للعمل به. (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها) يريكم آياته القاهرة في الدنيا كوقعة بدر ، أو في الآخرة ، فتعرفون أنها آيات الله ، ولكن حين لا تنفعكم المعرفة. (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي إنما يمهلهم لوقتهم ، فلا تحسبوا أن تأخير عذابكم لغفلته عن أعمالكم.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى أحوال المبدأ والمعاد والنبوة ومقدمات القيامة ، وصفة أهل القيامة من الثواب والعقاب ، أمر رسوله بهذه الخاتمة اللطيفة بأن يقول

٤٦

للمشركين هذه المقالة ، مبينا لهم أنه قد أتم أمر الدعوة ، وقد كملت ، ولم يبق عليه إلا الاشتغال بعبادة الله وحده لا شريك له ، وبحمده وشكره على نعمه العظمى ، وبتلاوة القرآن ، أي أن مهمة إعلان الدعوة من جانبه انتهت ، وبقي عليهم التفكير في الاستجابة لهذه الدعوة ، وتدبر آي القرآن التي تكفي في إرشادهم ، وأنها إن لم تفدهم فقد أفادته ، فسواء قبلتم هذه الدعوة أو أعرضتم عنها ، فإني مصرّ عليها ، غير مرتاب فيها.

التفسير والبيان :

قل : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها) أي قل لهم أيها الرسول : إنما أمرت أن أعبد رب مكة الذي حرمها على الناس ، فجعلها شرعا وقدرا حرما آمنا ، لا يسفك فيها دم ، ولا يظلم فيها أحد ، ولا يصاد فيها صيد ، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفّر طيرها ، ولا يخوّف فيها خائف ، يجبى إليها ثمرات الدنيا من كل ناحية.

وخص مكة بالذكر تشريفا لها ، لأن أول بيت وضع للعبادة كان فيها ، كما قال تعالى : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ ، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش ١٠٦ / ٣ ـ ٤]. وفي هذا توبيخ لأهل مكة على ترك عبادة الله ، والاتجاه نحو عبادة الأصنام.

ونظير الآية : (قُلْ : يا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي ، فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) [يونس ١٠ / ١٠٤].

وقد أبان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مظاهر تحريم مكة ، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة : «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يعضد

٤٧

شوكة ، ولا ينفّر صيده ، ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها ، ولا يختلى خلاها» أي عشبها الرطب.

(وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) أي له تعالى كل شيء خلقا وملكا وتصرفا ، دون أي شريك ، وهذا من عطف العام على الخاص ، أي هو رب هذه البلدة ، ورب كل شيء ومليكه ، لا إله إلا هو.

(وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي وأمرني ربي أن أكون من الموحّدين ، المخلصين ، المنقادين لأمره ، المطيعين له.

(وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) أي وأمرني ربي أن أتلو القرآن على الناس ، وأن أتلوه وحدي ليل نهار ، لتتكشف لي أسراره ، وأتعرف دائما على أدلة الكون المودعة في آياته ، فيزداد إيماني ، وتشرق نفسي.

(فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي فمن اهتدى إلى الحق والإيمان فإنما يهتدي لأجل نفسه ، ومن آمن برسالتي واتبعني فقد رشد ، وأمن عذاب ربه.

(وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) أي ومن ضل وأخطأ طريق الحق والإيمان والرشاد ، وكذب بدعوتي وبما جاءني من عند الله وهو القرآن ، فعليه وزر ضلاله ، وإنما أنا من المنذرين المخوفين قومهم عذاب الله ، وليس علي إلا الإنذار والتبليغ ، وقد أديت المهمة وأبلغتكم ما يوحى إلي ، وخلصت من العهدة ، وحسابكم على الله ، كما قال تعالى : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرعد ١٣ / ٤٠] وقال : (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [هود ١١ / ١٢].

(وَقُلِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها) أي وقل أيها الرسول : لله الحمد الذي لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه ، والإنذار إليه ، ولله الحمد على ما أنعم على من نعمة النبوة ، وعلى ما علّمني ووفقني لتحمل أعباء الرسالة

٤٨

والعمل بما أنزل علي ، وإنه سبحانه سيريكم آياته الدالة على عظمته وحكمته وقدرته وأمارات عذابه وسخطه ، ويتبين لكم صدق دعوتي ، فتعرفون كل ذلك ، ولكن حين لا ينفعكم الإيمان.

ونظير الآية : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت ٤١ / ٥٣].

(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وما الله بغافل عما يعمله المشركون وغيرهم ، بل هو شهيد على كل شيء ، ولكن يؤخر عذابهم إلى أجل على وفق إرادته وحكمته. وهذا تقرير لما سبق من الوعد والوعيد ، وتبشير للنبي بأن الله ناصره ومخزي أعدائه الكافرين.

روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا أيها الناس لا يغترنّ أحدكم بالله ، فإن الله لو كان غافلا شيئا لأغفل البعوضة والخردلة والذرّة». وروى أيضا عن عمر بن عبد العزيز قال : فلو كان الله مغفلا شيئا لأغفل ما تعفي الرياح من أثر قدمي ابن آدم.

فقه الحياة أو الأحكام :

أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومثله أمته في هذه الآيات بأوامر ثلاثة هي :

١ ـ تخصيص الله وحده بالعبادة دون اتخاذ شريك له. ووصف الله نفسه بأمرين :

أحدهما ـ أنه رب هذه البلدة أي مكة ، واختصها من بين سائر البلاد بإضافة اسمه إليها ؛ لأنها أحب بلاده إليه وأكرمها عليه ، وأشار إليها إشارة تعظيم لها ، دالا على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه.

وقد حرمها لتحريمه فيها أشياء على من يحج ، ولأن اللاجئ إليها آمن ،

٤٩

ولأنه لا ينتهك حرمتها إلا ظالم ، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفر صيدها.

والثاني ـ (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) خلقا وملكا وتصرفا ، فهو خالق لجميع النعم ، ومالك جميع من في الكون ، ومتصرف بملكه كما يشاء ، جلّ جلاله.

٢ ـ أن يكون من المسلمين : أي المنقادين لأمره ، الموحّدين له.

٣ ـ أن يتلو القرآن ، أي يقرأه لنفسه وعلى الناس لتبليغهم إياه. فمن اهتدى في هذه الأصول الثلاث المقررة في هذه السورة وهي التوحيد والحشر والنبوة فله ثواب هدايته ، ومنفعة اهتدائه راجعة إليه ، ومن ضل أو انحرف عن هذه الأصول ، فما على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا البلاغ المبين ، وما هو إلا رسول منذر من جملة المنذرين ، أي المخوفين قومهم من العذاب.

ثم ختم تعالى السورة بهذا التوجيه الحميد لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكل مؤمن وهو أن يحمد الله على نعمه وعلى هدايته ، والله تعالى سيري خلقه آياته في أنفسهم وفي غيرهم ، فيعرفون بها دلائل قدرته ووحدانيته في أنفسهم وفي السموات وفي الأرض ، كقوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات ٥١ / ٢٠ ـ ٢١].

والله شهيد على كل شيء ، وليس هو بغافل عما يعمله الخلائق أجمعون ، فيجازيهم على أعمالهم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

٥٠

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة القصص

مكية ، وهي ثمان وثمانون آية

تسميتها :

سميت سورة (القصص) لما فيها من البيان العجيب لقصة موسى عليه‌السلام من حين ولادته إلى حين رسالته ، التي يتضح فيها أحداث جسام ، برز فيها لطف الله بالمؤمنين وخذلانه الكافرين. ثم ذكر فيها قصة قارون من قوم موسى المشابهة للقصة الأولى في تقويض أركان الطغيان ، طغيان السلطة عند فرعون ، وطغيان المال عند قارون.

مناسبتها لما قبلها :

تظهر مناسبة هذه السورة لسورتي النمل والشعراء في أنها تفصيل لما أوجز فيهما من قصة موسى عليه‌السلام ، مبتدئا ببيان استعلاء فرعون وظلمه ، وذبحه أبناء بني إسرائيل الموجب لإلقاء موسى عند ولادته في اليم ، خوفا عليه من الذبح ، ثم انتشال فرعون له وتربيته في قصره عنده إلى سن الشباب ، حيث حدثت حادثة قتله القبطي ، التي استوجبت فراره من مصر إلى مدين ، وزواجه بابنة شعيب عليه‌السلام ، ثم مناجاته ربه وبعثه إياه رسولا ، وما تبع ذلك.

كذلك فصلت هذه السورة موقف القرآن من توبيخ المشركين على إنكارهم يوم القيامة ، من خلال الإخبار بإهلاك الكثيرين من أهل القرى بسبب ظلمهم ، والتساؤل عن شركاء الله يوم القيامة وما يدور بينهم وبين عبدتهم من

٥١

نقاش انتهى بتبرئهم من عبادتهم ، وإيراد الأدلة المتضافرة لإثبات قدرة الله على الخلق والإيجاد والبعث والإعدام.

كما أن هناك ربطا من وجه آخر بين سورتي النمل والقصص ، فقد أوجز هنا ما فصّل في السورة المتقدمة من إهلاك قوم صالح وقوم لوط ، ومن بيان مصير من جاء بالحسنة ومن جاء بالسيئة.

ما اشتملت عليه السورة :

تلتقي هذه السورة مع ما سبقها من سورتي الشعراء والنمل في بيان أصول العقيدة : التوحيد والرسالة والبعث في ثنايا قصص الأنبياء ، وإيضاح الأدلة المثبتة لهذه الأصول في قضايا الكون وعجائبه البديعة ونظمه الفريدة.

وكان الطابع الغالب على هذه السورة تبيان قصة موسى مع فرعون التي تمثل الصراع بين طغيان القوي وضعف الضعيف ، لكن الأول على الباطل والثاني على الحق ، وأعوان الباطل هم جند الشيطان وأعوان الحق هم جند الرحمن.

كان فرعون معتمدا على سلطانه وقوته وثروته ، فطغى وبغى ، واستعبد شعب بني إسرائيل ، وزاد في غلوه أنه ذبح الأبناء ، واستحيا النساء ، وادعى الربوبية (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص ٢٨ / ٣٨] وأفسد في الأرض.

واستوجب ذبح الأطفال إلقاء موسى في اليم ، والتقاط آل فرعون له ، ثم رده إلى أمه ، ثم تربيته في قصر فرعون ، إلى أن بلغ أشده وصار رشيدا قويا ، فقتل قبطيا قتلا خطأ ، فهرب من مصر إلى أرض مدين ، فتزوج بابنة شعيب عليه‌السلام ، ومكث راعيا ماشيته عشر سنين ، ثم عاد إلى مصر ، فناجى ربه في الطور ، وأيده الله بمعجزات أهمها معجزة العصا واليد ، فبلغ رسالة ربه ، لكن كذبه فرعون وقومه علوا واستكبارا ، فأغرقهم الله في البحر.

٥٢

وذلك شبيه بإنكار قريش نبوة الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع ما جاءهم به من الحق ، فوصفوه بالسحر المفترى ، وتنكروا للإيمان برسالته بأعذار واهية ، فأنذرهم القرآن بعذاب مماثل لقوم فرعون ، وأبان لهم أن الله لا يعذب قوما إلا بعد إرسال رسول إليهم ، وأن الرسول باختيار الله تعالى لا بحسب أهواء المشركين ، وأن آلهتهم المزعومة ستتبرأ من عبادتهم يوم القيامة ، وأن الله هو الإله الواحد الذي لا شريك له ، وأنه القادر على بعث الأموات ، كما قدر على بدء الخلق ، وإيجاد تعاقب الليل والنهار. وسيشهد الأنبياء على أممهم بتبليغ رسالات ربهم ، وقد آمن جماعة من أهل الكتاب ، وسيعطون أجرهم مرتين ، وأن الهداية بيد الله تعالى ، لا بيد رسوله ، فلن يتمكن من هداية من أحب.

وأعقب ذلك بقصة مشابهة هي قصة قارون من قوم موسى واعتماده على طغيان الثروة والمال كاعتماد فرعون على طغيان السلطة والحكم ، فكان مصيره أشأم من مصير فرعون وهو الخسف به وبداره الأرض ، فما كان له من فئة ينصرونه وما كان من المنتصرين.

وكل من خبر القصتين برهان قاطع على صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه لم يكن حاضرا معهم ، ولم يتعلم ذلك من معلم.

وختمت القصتان بإعلان مبادئ :

أولها ـ أن ثواب الآخرة يكون للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا.

وثانيها ـ أن الإيمان بالله وباليوم الآخر هو طريق السعادة الموجب لمضاعفة الحسنات ومقابلة السيئات بجزاء واحد ، وتحقيق النصر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أعدائه ، وعودته إلى مكة فاتحا بعد تهجيره منها.

٥٣

وثالثها ـ بيان نهاية العالم كله وهي الهلاك الشامل ، وانفراد الله تعالى بالبقاء والدوام ، والحكم والحساب ، ورجوع البشر كافة إليه : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ، لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ونحوها : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن ٥٥ / ٢٥ ـ ٢٦].

قصة موسى عليه‌السلام

ـ ١ ـ

نصرة المستضعفين

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦))

الإعراب :

(وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أَهْلَها) و (شِيَعاً) مفعولا (جَعَلَ) ؛ لأنه بمعنى (صيّر).

(يَسْتَضْعِفُ) الجملة حال من فاعل (جَعَلَ) أو صفة (شِيَعاً) أو استئناف كلام جديد. و (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ ...) بدل منه.

(وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) الهاء والميم مفعولا (جعل) لأنه بمعنى (صيّر).

(وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) فرعون وما عطف عليه : مفعول أول ل (نُرِيَ) وهو من رؤية البصر ، وهو في الأصل يتعدى إلى مفعول واحد ، فلما تعدى بالهمزة صار متعديا إلى مفعولين ، والمفعول الثاني هو : (ما كانُوا يَحْذَرُونَ).

٥٤

البلاغة :

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) الإشارة بالبعيد عن القريب لبعد مرتبة القرآن في الكمال.

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا نُرِيدُ) حكاية حال ماضية لاستحضار تلك الصورة في الذهن ؛ لأن ذلك معطوف على جملة (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) من حيث إنهما واقعان تفسيرا للنبأ. وإرادة المنة بخلاصهم من فرعون هي في المستقبل ، فلا يمنع ذلك إرادة استضعافهم في الماضي ، ولما كانت الإرادة الأولى قريبة الوقوع من الثانية جعلت كالمقارنة لها.

المفردات اللغوية :

(طسم) تقرأ : طا ، سين ، ميم ، بمد السين والميم وإدغام النون في الميم. وهذه الحروف المقطعة وأمثالها كما بينا مرارا للتنبيه على إعجاز القرآن الكريم ، والإشارة إلى أن هذا الكتاب المعجز في فصاحته وبيانه مركب من أمثال هذه الحروف الهجائية ، فكون العرب أساطين البيان ، وفرسان الفصاحة والبلاغة ، عجزوا عن معارضته ، دليل على أنه فوق مستوى البشر ، وأنه من لدن حكيم حميد ، إله الكون أجمعين. (تِلْكَ) هذه الآيات. (آياتُ الْكِتابِ) الإضافة بينهما بمعنى (من). (الْمُبِينِ) المظهر الحق من الباطل.

(نَتْلُوا) نقرؤه بقراءة جبريل ، ويجوز أن يكون بمعنى (ننزله) مجازا. (نَبَإِ) خبر مهم ، وقوله : (مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ) معناه بعض نبئهما. (بِالْحَقِ) الصدق. (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأجلهم ، وخص المؤمنون ؛ لأنهم المنتفعون به. (عَلا) تجبر واستكبر ، وقوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) أي أرض مصر : استئناف مبين لذلك البعض ، أي بعض خبر موسى وفرعون. (شِيَعاً) فرقا وأصنافا يستخدمهم في أعماله من بناء وحفر وحرث ونحو ذلك من مشاق الأعمال ، ويؤلب بعضهم على بعض ، زارعا بينهم العداوة والبغضاء حتى لا يتفقوا. (يَسْتَضْعِفُ) يجعلهم ضعفاء مقهورين ، وهم بنو إسرائيل. (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ) المولودين. (وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) يبقي نساءهم أحياء ، وسبب هذا الفعل أن كاهنا قال لفرعون : يولد مولود في بني إسرائيل ، يذهب ملكك على يده ، وذلك كان من غاية حمقه ، فإنه لو صدّق لم يندفع الأمر بالقتل ، وإن كذب فما الداعي لما فعل؟!

(إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) بالقتل وغيره ، فاجترأ على قتل خلق كثير من أولاد الأنبياء لتخيل فاسد. (أَنْ نَمُنَ) نتفضل عليهم بإنقاذهم من بأسه. (أَئِمَّةً) قادة يقتدى بهم في الخير في أمر الدين والدنيا. (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) ملك فرعون وقومه. (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أرض مصر والشام ، والتمكين : يراد به هنا التسلط على أرض مصر والتصرف فيها. (وَهامانَ) وزير فرعون. (ما كانُوا يَحْذَرُونَ) يخافون من المولود الذي يذهب ملكهم على يديه.

٥٥

التفسير والبيان :

(طسم) بيّنت المراد بهذه الحروف في المفردات.

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي هذه آيات من الكتاب الواضح الجلي الكاشف لحقائق أمور الدين ، وما كان وما يكون.

(نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي نذكر لك الأمر على ما كان عليه حقا وصدقا كأنك تشاهد ، وكأنك حاضر ، من أجل قوم يصدقون برسالتك وبما أنزل إليك من ربك ، فتطمئن به قلوبهم ، كقوله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف ١٢ / ٣].

وقد ذكر الله تعالى في هذه السورة شيئا أو بعضا من قصة موسى وفرعون ، للعبرة والعظة ، وإقامة الدليل على صدق نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن هذا القرآن العظيم وحي يوحى ، وليس من وضع البشر.

وتخصيص المؤمنين بالذكر مع أن القرآن للناس أجمعين للإشارة إلى أن الانتفاع به لا يكون إلا لمن صدق بأنه كلام الله المنزل على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) أي إن فرعون ملك مصر تجبر في أرضها واستكبر ، وبغى وطغى وقهر أهلها.

(وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) أي جعل أبناء مصر فرقا وأحزابا مختلفة ، وسخر كل طائفة في مصالحه العمرانية والزراعية وغير ذلك من أمور دولته ، وبذر بينهم بذور الفتنة والعداوة والبغضاء ، حتى لا يتفقوا ، أخذا بسياسة المستعمر : «فرّق تسد».

وهذا مضاد لسياسة الإسلام ـ بالمعنى العام ـ والهدي الإلهي كله القائم على التأليف والجميع على قلب واحد ، وإشاعة روح المحبة والتسامح والود والوئام

٥٦

والصفاء بين الرعية ، وهذا في الواقع هو المبدأ الأمثل الذي يريح الحاكم ، ويقوّي الأمة ، ويبني أمجادها ، ويحقق لها الانتصارات المتلاحقة.

(يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) أي يجعل جماعة منهم أذلة مقهورين ، وهم بنو إسرائيل. ومظاهر الاستضعاف هي :

(يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أي يقتل مواليدهم الذكور ، ويبقي إناثهم أحياء ، إهانة لهم واحتقارا ، وخوفا من وجود غلام منهم كان فرعون وأهل مملكته قد تخوفوا من ظهور غلام منهم يكون سبب هلاكهم وذهاب دولتهم على يديه ، وذلك لأن الكهنة قالوا له : إن مولودا يولد في بني إسرائيل يذهب ملكك على يديه ، أو قال المنجّمون له ذلك ، أو رأى رؤيا ، فعبّرت كذلك.

قال الزجّاج : العجب من حمقه ، لم يدر أن الكاهن إن صدق فالقتل لا ينفع ، وإن كذب فلا معنى للقتل.

(إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أي في الأرض بالعمل والمعاصي والتجبر ، فيقتل بلا ذنب ، وينشر الرعب والإرهاب بلا مسوغ ، وهذا شأن الظلمة العتاة الذين يستبد القلق والاضطراب في نفوسهم ، فيرتكبون مثل هذه الفظائع. ولو شعروا يوما أو أكثر بالطمأنينة والراحة ، ونشر عليهم الإيمان أجنحته وظلاله الوادعة ، لعاشوا في استقرار وأمان ، ولم يعيثوا في الأرض فسادا ، ولما احتاجوا إلى مثل هذا العسف والظلم المؤذن بدمارهم.

وبعد أن ذكر تعالى هذه الصفات الخمس الذميمة للعتاة وهي الاستعلاء في الأرض ، والاستضعاف ، وقتل الأبناء ، وإبقاء الإناث ، والإفساد ، ذكر في مقابلها خصائص خمسا للمستضعفين من بني إسرائيل وهي : إنقاذهم من الظلم ، وجعلهم القادة بعد فرعون وقومه ، وجعلهم ورثة مصر والشام ، وجعل السلطة لهم فيها ، وإظهار ما كان يحذره فرعون وهامان وجنودهما من دمارهم وذهاب

٥٧

ملكهم على يد بني إسرائيل ، فقال تعالى :

١ ـ (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) أي وأردنا التفضل والإنعام على المستضعفين من بني إسرائيل الذين استضعفهم فرعون وأذلهم بتخليصهم من بأسه ، وإنقاذهم من ظلمه.

وتساءل الزمخشري بقوله : كيف يجتمع استضعافهم وإرادة الله تعالى المن عليهم ، وإذا أراد الله شيئا كان ، ولم يتوقف إلى وقت آخر؟ ثم أجاب عنه بأنه لما كانت منة الله عليهم بتخليصهم من فرعون قريبة الوقوع ، جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم.

٢ ـ (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) أي ونجعلهم قادة وولاة وحكاما متقدمين في الدين والدنيا.

٣ ـ (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) الذين يرثون ملك فرعون وأرضه وما في يده ، كقوله تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) [الأعراف ٧ / ١٣٧] وقوله سبحانه : (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء ٢٦ / ٥٩].

٤ ـ (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي نجعل لهم السلطة وإنفاذ الأمر وإطلاق الأيدي في أرض مصر والشام.

٥ ـ (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) أي نجعلهم يبصرون ما كانوا خائفين منه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود من بني إسرائيل. وقد أنفذ الله أمره ، وحقق حكمه ، بأن جعل دمار فرعون وقومه على يد من رباه وأنشأه على فراشه وفي داره ، وعلى سفرته وطعامه بعد أن جعله الله رسولا وأنزل عليه التوراة ؛ ليعلم أن رب السموات والأرض هو القاهر الغالب على أمره ، الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن.

٥٨

والواضح أن هذه الخصائص تكون ما دام بنو إسرائيل عاملين بأصل شريعتهم وبكتابهم المنزل غير المبدل ولا المحرف ، والذي فقد ولم يعد له وجود ، ومضمون التوراة في الوضع الأصلي يلتقي مع مضمون القرآن ، فإذا ما انحرفوا عن العقيدة الصحيحة والشريعة المنزلة ، زالت عنهم هذه الخصائص.

فقه الحياة أو الأحكام :

تبين من الآيات ما يأتي :

١ ـ القرآن العظيم أبان الحق من الباطل ، والحلال من الحرام ، وقصص الأنبياء ، ونبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا ينتفع من هديه إلا القوم المصدقون به ، الذين يعلمون أنه من عند الله.

٢ ـ يجب اجتناب الاستعلاء في الأرض ، والتعزز بكثرة الأتباع ، وهما من سيرة فرعون وقارون. وكانت قصتهما حجة على مشركي قريش وأمثالهم ، فكما أن قرابة قارون من موسى لم تنفعه مع كفره ، فكذلك قرابة قريش لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ كان علو فرعون وتجبره من كفره ، وكانت ممارسات ظلمه وعتوه كثيرة متنوعة ، فكان يستذل طائفة من بني إسرائيل ، يذبح أطفالهم الذكور ، ويترك الإناث أحياء ، إهانة لهم واحتقارا ، وكان من البغاة المفسدين في أرض دولته. والظلم والكبرياء سبيل الدمار والهلاك ، فأهلكه الله ، ونجّى بني إسرائيل من العسف والطغيان.

٤ ـ كافأ الله المستضعفين من بني إسرائيل ، وشأنه دائما الرفق بالضعفاء ، فأنقذهم من بأس فرعون ، وجعلهم ولاة وملوكا ، كما قال تعالى : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) [المائدة ٥ / ٢٠] ، وورّثهم ملك فرعون فسكنوا مساكن القبط المصريين ، كما قال سبحانه : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) [الأعراف ٧ / ١٣٧] ، وأقدرهم على أرض مصر والشام وأهلها ، فاستولوا عليها ، وأراد

٥٩

أن يري فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يخافون من تدمير ملكهم على يد مولود من بني إسرائيل ، فلم يفده قتل الألوف من الأولاد الأبرياء ، وتحقق مراد الله تعالى ، فهو النافذ الحكم والسلطان على الإطلاق.

ـ ٢ ـ

إلقاء موسى في اليم بعد ولادته وإرضاعه والبشارة بنبوته

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤))

٦٠