التفسير المنير - ج ٢٠

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

تتمة قصة لوط عليه‌السلام

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨))

المفردات اللغوية :

(آلَ لُوطٍ) أهله. (يَتَطَهَّرُونَ) ينزهون أنفسهم عن أفعالنا. (قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) قضينا وحكمنا أنها من الباقين في العذاب. (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) أنزلنا عليهم حجارة السجيل ، فأهلكتهم. (فَساءَ) بئس. (مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) أي بئس المطر مطرهم ، وهم المنذرون بالعذاب.

التفسير والبيان :

هذه تتمة قصة لوط عليه‌السلام مع قومه ، تتضمن جوابهم عن إنذاره : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا : أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) أي لقد أعلن القوم إصرارهم على تعاطيهم الفاحشة المنكرة ، وأجابوا لوطا عليه‌السلام بعد التشاور فيما بينهم : أخرجوا لوطا وأهله ومن معه من بلدتنا ، فإنهم لا يصلحون لمجاورتكم في بلادكم ، ونرتاح من وعظهم وإرشادهم ، فإن البلدة بلدتنا ، ولوط وجماعته قوم أغراب عنا.

وسبب هذا الإخراج أو الإبعاد :

(إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي إنهم يتحرجون من أفعالنا ، ولا يقروننا على

٥

صنيعنا ، وهذا صنيع الفساق في كل زمان ، لا يريدون تعكير فسادهم بكلام المصلحين ، ليبقوا منغمسين في الرذيلة دون منغص أو معترض.

فلما عزموا على إخراج لوط وأهله من بلدتهم دمّر الله عليهم ، وللكافرين الفاسقين أمثالها ، وأنجى الله المؤمنين الصالحين ، قال تعالى :

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) أي نجينا لوطا ومن آمن معه برسالته من أهله ، أما امرأته التي كانت راضية بأفعالهم القبيحة ، ومتواطئة معهم ، فتدل قومها على ضيفان لوط ليأتوا إليهم ، فإنا حكمنا بجعلها من الباقين في العذاب ، لأن من رضي بالمنكر وإن لم يفعله فهو مقرّ به ، فله جزاء الفاعلين.

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) أي وأنزلنا عليهم حجارة من سجيل وهو الحاصب ، فأبادهم وخسف بهم الأرض ، فبئس المطر مطر المنذرين بالعذاب الذين قامت عليهم الحجة ، ووصلهم الإنذار الإلهي ، فخالفوا الرسول وكذبوه ، وهمّوا بإخراجه من قريتهم ، وتلك هي عاقبة الفاسقين.

فقه الحياة أو الأحكام :

اقتضت عدالة الله تعالى ألا يعذب قوما إلا بعد إنذار ، وألا يعجل لهم العقاب إلا بعد نصح وإرشاد وإمهال. وهذا ما فعله نبي الله لوط عليه‌السلام مع قومه أهل سدوم ، فإنه وبخهم وأنكر عليهم بشدة فعلتهم القبيحة الشنيعة التي يعلمون أنها فاحشة ، وذلك أعظم تجريما وأكبر إثما ومعصية ، ويقال : إنهم كانوا يتعاطون هذه الفاحشة جهارا نهارا ، ولا يستترون من بعضهم بعضا ، عتوا منهم وتمردا.

ثم صرح لوط عليه‌السلام بذكر تلك الفعلة الشنيعة ، وأعلنها لفرط قبحها

٦

وسوئها ، ووصفهم بأنهم جاهلون أمر التحريم أو العقوبة ، والآن يعلمهم بشدة الحرمة ، وينذرهم بقبح العقاب وألم العذاب.

لكن القوم أمعنوا في ضلالهم ، وازدادوا غيا في فسقهم ، وأصروا على معصيتهم ، وتآمروا فيما بينهم على طرد لوط وأهله من قريتهم ، قائلين على سبيل الاستهزاء منهم : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) يتنزهون عن أدبار الرجال.

فكان مقتضى الرحمة الإلهية أن ينجي الله لوطا وأهله الذين آمنوا برسالته ، وتورعوا من التدنس برجس هؤلاء العصاة الفساق ، إلا امرأته التي كانت راضية بأفعال قومها القبيحة ، أضحت باقية معهم في العذاب.

وكان من مقتضى العدل أن يجازي الله هؤلاء المصرين على العصيان وارتكاب الفاحشة ، والذين أنذروا بالعقاب فلم يقبلوا الإنذار ، فأنزل الله عليهم من السماء حجارة من سجيل منضود ، مسوّمة عند ربك ، وما هي من الظالمين ببعيد ، فأهلكوا جميعا ، وما أسوأ ذلك المصير المشؤوم!!

أدلة الوحدانية والقدرة الإلهية

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ

٧

اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤))

الإعراب :

(آللهُ خَيْرٌ ...) مبتدأ وخبر ، والأظهر ـ كما قال ابن الأنباري ـ أن كلمة (خَيْرٌ) هنا للمفاضلة ، فإنه وإن لم يكن في آلهتهم خير ، فهو بناء على اعتقادهم ، فإنهم كانوا يعتقدون أن في آلهتهم خيرا. (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) بدل من (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).

(قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ ما) صلة زائدة ، (قَلِيلاً) صفة مصدر مقدر ، أي تذكرا قليلا يذكرون ، والمراد به النفي ، مثل : قل ما يأتيني ، أي لا يأتيني.

البلاغة :

(آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) استفهام يقصد به التبكيت والتهكم.

(بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) استعارة ، أي أمام نزول المطر ، استعار اليدين للإمام.

(يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) بينهما طباق.

(قَراراً أَنْهاراً يُشْرِكُونَ يَعْدِلُونَ يَعْلَمُونَ تَذَكَّرُونَ) فيها مراعاة الفواصل ، الذي هو من محاسن الكلام.

المفردات اللغوية :

(قُلِ) أيها الرسول. (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على هلاك الكفار الفجار من الأمم الخالية. (اصْطَفى) اختار ، والأنبياء هم المصطفون المختارون. (خَيْرٌ) لمن يعبده. (أَمَّا يُشْرِكُونَ) أصله أم ما يشركون فأدغم الميمان ببعضهما ، وهم أهل مكة الذين يشركون بالله تعالى آلهة أخرى ، أي هل شركهم خير لهم؟ وهو تهكم بهم وتسفيه لرأيهم ؛ إذ من المعلوم ألا خير أصلا فيما أشركوه ، حتى يوازن بينه وبين من هو مبدأ كل خير وهو الله. (أَمَّنْ) أي بل أم من. (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) التي هي أصول الكائنات ومبادئ المنافع. (وَأَنْزَلَ لَكُمْ) لأجلكم. (فَأَنْبَتْنا) فيه

٨

التفات من الغيبة إلى التكلم لتأكيد اختصاص الفعل بذاته والتنبيه على أن إنبات الحدائق البهية المختلفة الأنواع لا يقدر عليه غيره تعالى ، لذا قال : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) أي لعدم قدرتكم عليه.

(حَدائِقَ) بساتين مسورة ، جمع حديقة. (ذاتَ بَهْجَةٍ) حسن ورونق. (شَجَرَها) شجر الحدائق. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أغيره يقرن به ويجعل له شريكا ، وهو المتفرد بالخلق والتكوين؟ (يَعْدِلُونَ) يميلون أو ينحرفون عن الحق الذي هو التوحيد ، فيشركون بالله غيره.

(قَراراً) مكانا يستقر عليه الإنسان ، فلا يميد بأهله. (خِلالَها) وسطها ، وبين جهاتها المختلفة ، جمع خلل : أي وسط. (رَواسِيَ) جبالا ثوابت ، ثبّت بها الأرض. (بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ) بين العذب والمالح ، لا يختلط أحدهما بالآخر. (حاجِزاً) فاصلا بين الشيئين. (لا يَعْلَمُونَ) الحق ، وهو التوحيد ، فيشركون به.

(الْمُضْطَرَّ) الذي أحوجته الشدة إلى اللجوء والضراعة إلى الله ، واللام فيه للجنس ، لا للاستغراق ، فلا يلزم منه إجابة كل مضطر. (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) أي يرفع السوء عنه وعن غيره. (خُلَفاءَ الْأَرْضِ) خلفاء فيها ، بأن ورّثكم سكناها والتصرف فيها ممن قبلكم ، من الخلافة : وهي الملك والتسلط ، والإضافة بمعنى في ، أي يخلف كل قرن القرن الذي قبله. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) الذي خصكم بهذه النعم العامّة والخاصة. (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) تتعظون ، و (ما) زائدة لتقليل القليل ، والمراد به العدم أو الحقارة التي لا فائدة منها.

(أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ) يرشدكم إلى مقاصدكم. (فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) بالنجوم ليلا ، وبعلامات الأرض نهارا. والظلمات : ظلمات الليالي ، أضافها إلى البر والبحر للملابسة. (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي أمام المطر. (عَمَّا يُشْرِكُونَ) به غيره ، فهو تعالى القادر الخالق ، المنزه عن مشاركة العاجز المخلوق. (يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) بداية خلق الإنسان الأول من التراب ، وبدء خلق سلالة الإنسان في الأرحام من نطفة. (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد الموت. والكفرة وإن أنكروا الإعادة فهم محجوجون بالبراهين عليها. (مِنَ السَّماءِ) بالمطر. (وَالْأَرْضِ) بالنبات. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) يفعل ذلك؟ الحق أنه لا يفعل شيئا مما ذكر إلا الله ، ولا إله معه. (بُرْهانَكُمْ) حجتكم على أن غيره يقدر على شيء من ذلك. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في إشراككم ، فإن كمال القدرة من لوازم الألوهية.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى قصص أربعة أنبياء مع أقوامهم ، وإهلاكهم بسبب شركهم ووثنيتهم ، والإدلال على كمال قدرته ونصر رسله على أعدائهم ، أمر

٩

رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحمد الله تعالى على تلك النعمة ، والسلام على الأنبياء كافة ، لأدائهم واجب التبليغ لرسالة ربهم على أكمل وجه ، ثم رد على عبدة الأوثان ببيان الأدلة المختلفة على وحدانيته وتفرده بالخلق ، وقدرته ، وإخلاص العبادة له.

التفسير والبيان :

(قُلِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) يأمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلم بحمد الله وشكره على نعمه على عباده التي لا تعدّ ولا تحصى ، وعلى ما اتصف به من الصفات العلا والأسماء الحسنى ، وأن يسلّم على عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم لتبليغ رسالته ، وهم رسله وأنبياؤه الكرام على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه. وأما كون الخطاب لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلأن القرآن منزل عليه ، وكل ما فيه فهو مخاطب به صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا ما لم يصح معناه إلا لغيره.

ومن تلك النعم نجاة رسله ونصرتهم وتأييدهم ، وإهلاك أعدائه.

ونظير الآية قوله تعالى : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الصافات ٣٧ / ١٨٠ ـ ١٨٢].

وهذا تعليم لنا بأن نحمد الله تعالى على جميع أفعاله ، ونسلّم على عباده المصطفين الأخيار.

(آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) أي هل الله الذي يتصف بالعظمة والقدرة التامة خير أم ما يشركون به من الأصنام؟ وهذا استفهام إنكار على المشركين في عبادتهم مع الله آلهة أخرى ، وتبكيت لهم ، وتهكم بحالهم ؛ لإيثارهم عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى. والمقصود به التنبيه على نهاية ضلالهم وجهلهم ، علما بأنه لا خير أصلا فيما أشركوه حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه ، وإنما كانت الموازنة بحسب اعتقادهم وجود منفعة في آلهتهم المزعومة.

١٠

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرأ هذه الآية قال : «بل الله خير وأبقى ، وأجل وأكرم».

ثم انتقل من التوبيخ والتبكيت إجمالا إلى الرد المفصل على عبدة الأوثان ببيان الأدلة على أنه تعالى إله واحد لا شريك له ، قادر على كل شيء ؛ لأنه الخالق لأصول النعم وفروعها ، فكيف تصح عبادة ما لا منفعة منه أصلا؟ وتلك الأدلة أنواع :

١ ـ ما يتعلق بالسموات : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً ، فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ، ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها ، أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) أي أعبادة الأوثان التي لا تضر ولا تنفع خير أم عبادة من خلق السموات في ارتفاعها وصفائها ، وما جعل فيها من كواكب نيّرة ونجوم زاهرة وأفلاك دائرة ، وخلق الأرض الصالحة للحياة الهادئة ، وجعل فيها الجبال والسهول ، والأنهار والوديان ، والزروع والأشجار ، والثمار والبحار ، والحيوانات المختلفة الأصناف والأشكال والألوان ، وأنزل لأجل عباده من السماء مطرا جعله رزقا لهم ، فأنبت به بساتين ذات بهجة ونضارة ، وشكل حسن ومنظر بهي ، ولولاه ما حصل الإنبات ، ولم تكونوا تقدرون على إنبات الأشجار والزروع.

فهو المنفرد بالخلق والرزق ، فهل يصح بعدئذ وجود إله مع الله يعبد؟ كما قال تعالى : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) [المؤمنون ٢٣ / ٩١].

بل هؤلاء المشركون قوم يميلون عن الحق إلى الباطل ، وينحرفون عن جادة الصواب ، فيجعلون لله عدلا ونظيرا.

ونظير الآية كثير مثل : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل ١٦ / ١٧] (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف ٤٣ / ٨٧] ونحو

١١

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها ، لَيَقُولُنَّ اللهُ) [العنكبوت ٢٩ / ٦٣].

هذا .. وقد ذكر الزمخشري الفرق بين أم في (أَمَّنْ) وأم في (أَمَّا يُشْرِكُونَ) وهو أن (أَمَّا) متصلة ؛ لأن المعنى أيهما خير ، وفي (أَمَّنْ) منقطعة بمعنى «بل».

٢ ـ ما يتعلق بالأرض : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً ، وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً ، وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ ، وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً ، أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي أعبادة الأوثان العديمة النفع والضرر خير أم عبادة الذي جعل الأرض مستقرا للإنسان وغيره ، لا تميد ولا تتحرك بأهلها ، وجعل فيها الأنهار العذبة الطيبة لسقاية الإنسان والحيوان والنبات ، وجعل فيها جبالا ثوابت شامخة ترسي الأرض وتثبتها لئلا تميد بكم ، وجعل بين المياه العذبة والمالحة حاجزا ، أي مانعا يمنعها من الاختلاط ، لئلا يفسد هذا بذاك ، لتبقى الغاية من التفرقة بينهما متحققة ، فإن الماء العذب الزلال لسقي الإنسان والحيوان والنبات والثمار ، والماء المالح في البحار ليكون مصدرا للأمطار ، وليبقى الهواء فوقه نقيا صافيا لا يفسد بالرائحة الكريهة التي تحدث عادة في تجمعات المياه العذبة.

أيوجد إله مع الله فعل هذا وأبدع هذه الكائنات؟! بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون الحق فيتبعونه ، ولا يعرفون قدر عظمة الإله المستحق للعبادة.

ونظير الجزء الأول من الآية : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً) [غافر ٤٠ / ٦٤] ونظير آية حاجز البحرين : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ، هذا عَذْبٌ فُراتٌ ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ ، وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) [الفرقان ٢٥ / ٥٣].

١٢

٣ ـ ما يتعلق عموما باحتياج الخلق إلى الله تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ ، وَيَكْشِفُ السُّوءَ ، وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ ، أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ، قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي أتلك الآلهة الجمادات الصماء خير أم من يجيب المضطر إذا دعاه وهو الذي أحوجه المرض أو الفقر أو المحنة إلى التضرع إلى الله تعالى ، ويرفع عنه السوء أو الضرر الذي أصابه من فقر أو مرض أو خوف أو غيره ، ويجعلكم ورثة من قبلكم من الأمم في سكنى الأرض والديار والتصرف فيها ، فيخلف قرنا لقرن وخلفا لسلف ، كما قال : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) [الأنعام ٦ / ١٦٥].

أيعقل وجود إله مع الله بعد هذا؟ وهل يقدر أحد على ذلك غير الله المتفرد بهذه الأفعال؟ ولكن ما أقل تذكركم نعم الله عليكم ، ومن يرشدكم إلى الحق ويهديكم إلى الصراط المستقيم.

٤ ـ ما يتصل باحتياج الخلق إلى الله تعالى في وقت خاص : (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ، أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ، تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي أتلك الآلهة التائهة خير أم من يرشدكم في أثناء الظلمات البرية أو البحرية إذا ضللتم الطريق بما خلق من الدلائل السماوية والأرضية ، كما قال تعالى : (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) [النحل ١٦ / ١٦] وقال سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الأنعام ٦ / ٩٧].

ومن يرسل الرياح مبشرات أمام نزول الغيث الذي يحيي به الأرض بعد موتها ، أيكون هناك إله مع الله فعل هذا؟ تنزه الله المتفرد بالألوهية المتصف بصفات الكمال عن شرك المشركين الذين يعبدون مع الله إلها آخر؟!

٥ ـ ما له صلة بإبداع الخلق والحشر والنشر : (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ،

١٣

وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ، قُلْ : هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي أتلك الآلهة العاجزة خير ، أم الذي بقدرته وسلطانه يبدأ الخلق من غير مثال سبق ، ثم يميته ، ثم يعيده إلى الحياة الأولى مرة أخرى ، كما قال تعالى : (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) [البروج ٨٥ / ١٣] وقال : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم ٣٠ / ٢٧] وهو الذي يرزقكم بما ينزّل من السماء من أمطار ، وبما ينبت من بركات الأرض.

أيوجد إله آخر فعل هذا مع الله حتى يتخذ شريكا له؟ قل لهم أيها الرسول : قدّموا برهانكم على صحة ما تدّعون من عبادة آلهة أخرى إن كنتم صادقين في ذلك مع أنفسكم ومع غيركم. والواقع أنه لا حجة لهم ولا برهان يقبله عاقل ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ ، فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ١١٧].

قال أبو حيان : ناسب ختم كل استفهام بما تقدمه ، فلما ذكر العالم العلوي والسفلي وما امتنّ به من إنزال المطر وإنبات الحدائق ، ختمه بقوله : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) أي عن عبادته أو يعدلون به غيره مما هو مخلوق ، فلا يعبد إلا موجد العالم ، ولما ذكر جعل الأرض مستقرا وتفجير الأنهار وإرساء الجبال ، وكان ذلك تنبيها على ضرورة تعقل ذلك والتفكر فيه ، ختمه بقوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ). ولما ذكر إجابة دعاء المضطر وكشف السوء واستخلافهم في الأرض ختمه بقوله : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) إشارة إلى توالي النسيان إذا صار في خير وزال اضطراره ، ولما ذكر الهداية في الظلمات وإرسال الرياح مبشرات ، ومعبوداتهم لا تهدي وهم يشركون بها ، ختمه بقوله : (تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ). واعتقب كل واحدة من هذه الجمل قوله : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) على سبيل التوكيد والتقرير أنه لا إله إلا هو تعالى (١).

__________________

(١) البحر المحيط : ٧ / ٩١.

١٤

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت هذه الآيات الأدلة على إثبات وجود الله تعالى ووحدانيته وقدرته الشاملة ، وتتلخص هذه الأدلة بالخلق والإيجاد ، والتفرد في دفع الضرر ، وجلب النفع والخير ، والقدرة على الحشر والنشر ، ويتجلى ذلك فيما يأتي :

١ ـ إهلاك كفار الأمم الخالية جميعا لإصرارهم على الشرك والوثنية وارتكابهم كبائر المعاصي وعظائم الفواحش.

وقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) تعليم وإرشاد إلى حمد الله على هلاك كفار الأمم الخالية الذين زرعوا الشرك والمعصية في ديارهم ، مما يجب التخلص منهم ، وفي هذا عبرة وعظة.

ويؤخذ من ذلك الاستفتاح بالتحميد لله والسلام على الأنبياء والمصطفين من عباده ، ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ جيلا عن جيل هذا الأدب ، فحمدوا الله وصلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فواتح الأمور المفيدة وفي المواعظ والخطب.

٢ ـ قوله سبحانه : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) تبكيت للمشركين وتوبيخ وتهكم على حالهم وضلالهم ، لإيثارهم عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى.

٣ ـ الله تعالى هو خالق السموات والأرض ، ومنزل المطر ، ومنبت الشجر والزرع والثمر في الحدائق الغنّاء ذات الأنواع والأشكال والألوان المختلفة ، والمناظر الجميلة الرائعة الحسن والبهاء ، فيكون قطعا هو المستحق للعبادة دون غيره ؛ لأنه لا يتهيأ للبشر ولا لغيرهم ولا يتيسر لهم ولا يمكنهم أن يخلقوا شيئا مما ذكر ، فهم عجزة عن مثل ذلك.

٤ ـ قال القرطبي في قوله تعالى : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) :

١٥

يستدل به لقول مجاهد على منع تصوير أي شيء ، سواء أكان له روح أم لم يكن. ويعضده ما رواه مسلم في صحيحة من حديث أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله عزوجل : ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي ، فليخلقوا ذرة ، أو ليخلقوا حبّة ، أو ليخلقوا شعيرة».

وذهب الجمهور إلى أن تصوير ما ليس فيه روح يجوز ، كما يجوز الاكتساب به ؛ أخرج مسلم أيضا أن ابن عباس قال للذي سأله أن يصنع الصور : إن كنت لا بد فاعلا ، فاصنع الشجر وما لا نفس له.

٥ ـ الله عزوجل هو الذي جعل كرة الأرض اليابسة صالحة للحياة ، بجعلها قارّة ساكنة ثابتة لا تميد ولا تتحرك بأهلها ، وزودها بالهواء الذي لا تمكن الحياة بدونه ، وجعل فيها الأنهار للسقي ، والجبال الثوابت لتمسكها وتمنعها من الحركة ، وجعل بين البحرين : العذب والمالح مانعا من قدرته ، لئلا يختلط الأجاج بالعذب.

إذا ثبت أنه لا يقدر على هذا غير الله ، فلم يعبد المشركون ما لا يضر ولا ينفع؟ ولكن أكثرهم يجهلون الله ، فلا يعلمون ما يجب له من الوحدانية.

٦ ـ الله تعالى وحده مصدر الرحمة الذي يدفع الضرر ، فيجيب دعاء المضطر (وهو ذو الضرورة المجهود) ويكشف السوء (الضر) ويجعل الناس خلفاء الأرض أي سكانها جيلا بعد جيل ، فيموت قوم وينشئ الله آخرين ، أمع الله ويلكم أيها الناس إله؟ ولكنكم تتذكرون تذكرا قليلا نعم الله عليكم ، والمراد نفي التذكر ، والقلة تستعمل في معنى النفي.

وهذا دليل على أن الله تعالى ضمن إجابة المضطر إذا دعاه ، وأخبر بذلك عن نفسه ، لأن التضرع إليه ينشأ عن الإخلاص ، وعدم تعلق القلب بسواه ، وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمّة ، سواء وجد من مؤمن أو كافر ، طائع أو

١٦

فاجر ، كما قال تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ ، وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ، وَفَرِحُوا بِها ، جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ ، وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ، دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [يونس ١٠ / ٢٢] وقوله : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت ٢٩ / ٦٥] أي أن الله تعالى أجابهم عند ضرورتهم وإخلاصهم ، مع علمه أنهم يعودون إلى شركهم وكفرهم ، وقال تعالى : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ ، دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [العنكبوت ٢٩ / ٦٥].

وفي الحديث الصحيح : «ثلاث دعوات مستجابات ، لا شكّ فيهن : دعوة المظلوم ، ودعوة المسافر ، ودعوة الوالد على ولده» وفي صحيح مسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاذ لما وجّهه إلى أرض اليمن : «واتق دعوة المظلوم ، فليس بينها وبين الله حجاب».

٧ ـ الله تعالى وحده مصدر الخير والنفع ، فهو الذي يرشد الطريق في ظلمات البر والبحر حال السفر إلى البلاد البعيدة ، وهو الذي يرسل الرياح مبشرات قدام المطر ، فهل يوجد إله مع الله يفعل ذلك ويعينه عليه؟ تنزه الله عما يشرك به المشركون من دونه.

٨ ـ الله الذي يقرّ المشركون أنه الخالق الرازق هو الذي يعيد الخلق يوم القيامة إلى الحياة الجديدة ؛ لأن من قدر على ابتداء الخلق فهو قادر حتما على الإعادة ، وهو أهون عليه ، أيوجد إله مع الله يخلق ويرزق ويبدئ الخلق ويعيده؟ فيا أيها المشركون مع الله إلها آخر ، قدّموا حجتكم أن لي شريكا ، أو حجتكم في أنه صنع أحد شيئا من هذه الأشياء غير الله ، إن كنتم صادقين مع أنفسكم في ادعاء أن له شريكا.

١٧

لا يعلم الغيب إلا الله

(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦))

الإعراب :

(الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ اللهُ) : بدل مرفوع من «من» لأنه استثناء من منفي.

(بَلِ ادَّارَكَ) أي تتابع ، وأصله «تدارك» فأبدل من التاء دالا ، وأدغم الدال في الدال.

وقرئ «ادّرك» أي تناهي علمهم وكمل في أمر الآخرة.

(فِي الْآخِرَةِ فِي) بمعنى الباء ، والمضاف محذوف ، أي بل ادّرك علمهم بحدوث الآخرة ، (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) أي من حدوثها.

(عَمُونَ) أصله «عميون» فاستثقلت الضمة على الياء ، فنقلت إلى ما قبلها ، فسكنت الياء ، والواو بعدها ساكنة ، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين ، وكان حذفها أولى من حذف واو الجمع ، لأن واو الجمع دخلت لمعنى ، وهي لم تدخل لمعنى ، فكان حذفها أولى.

البلاغة :

(بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) استعارة ، استعار العمى للتعامي عن الحق ، وعدم التفكر في أدلة إثباتها.

المفردات اللغوية :

(مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الملائكة والناس (الْغَيْبَ) ما غاب عنهم (إِلَّا اللهُ) لكن الله يعلمه ، فالاستثناء منقطع (وَما يَشْعُرُونَ) أي كفار مكة وغيرهم (أَيَّانَ) أي متى (يُبْعَثُونَ) ينشرون ، أي يخرجون من القبور للحساب والجزاء (بَلِ) أي هل (ادَّارَكَ) تتابع وتلاحق واستحكم ، وقرئ : «ادّرك» بوزن أكرم ، أي انتهى علمهم وتكامل. والمراد أن ما انتهى وتكامل فيه أسباب علمهم من الحجج والبينات على أن القيامة كائنة لا محالة ، لا يعلمونه كما

١٨

ينبغي ، وإذا سألوا عن وقت مجيء القيامة فليس الأمر كذلك ، فهم في شك منها (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) أي فهم في الحقيقة في شك وحيرة عظيمة من حصول القيامة ، كمن تحير في أمر لا يجد عليه دليلا (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) لا يدركون دلائلها لاختلال بصيرتهم ، وهو جمع عم : وهو أعمى القلب والبصيرة ، وهو أبلغ مما قبله.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى أنه المختص بالقدرة التامة الفائقة العامة ، أتبعه بما هو أيضا من لوازم الألوهية وهو أنه المختص بعلم الغيب ، فثبت أنه هو الإله المعبود ؛ لأن الإله هو المتمكن من المجازاة لأهل الثواب والعقاب.

التفسير والبيان :

(قُلْ : لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) أي قل أيها الرسول لجميع الخلق : لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب إلا الله. فقوله : (إِلَّا اللهُ) استثناء منقطع ، أي لا يعلم أحد ذلك إلا الله عزوجل ، فإنه المنفرد بذلك وحده لا شريك له ، كما قال : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) [الأنعام ٦ / ٥٩] وقال : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان ٣١ / ٣٤].

روى مسلم وابن أبي حاتم عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : من زعم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم ما يكون في غد ، فقد أعظم الفرية على الله ؛ لأن الله يقول : (قُلْ : لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ).

ولما نفى عنهم علم الغيب على العموم ، نفى عنهم علم الغيب المخصوص بوقت الساعة فصار منتفيا مرتين ، فقال :

(وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي وما يدري أهل السموات والأرض بوقت

١٩

الساعة ، كما قال تعالى : (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) [الأعراف ٧ / ١٨٧] أي ثقل علمها على أهل السموات والأرض ، فلا يشعر الكفار وغيرهم في أي وقت يكون البعث للحساب والجزاء ، وإنما تأتيهم الساعة فجأة.

ثم أكد الله تعالى جهلهم بيوم القيامة فقال :

(بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي بل انتهى علمهم بالآخرة ، وعجز عن معرفة وقت حدوثها ، والمراد : أن ما توصلوا إليه من أدلة إثبات الآخرة تلاشى شيئا فشيئا ، حتى لم يعد لها قيمة ذات بال.

ثم وصفهم بالحيرة في الآخرة فقال :

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) أي بل الكافرون (أي جنسهم) في حيرة شديدة من تحقق الآخرة ووجودها ، أي شاكون في وجودها ووقوعها ، كما قال تعالى : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا ، لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) [الكهف ١٨ / ٤٨] أي أن لن نجعل للكافرين منكم :

ثم وصفهم الله بالتعامي عن التفكر والتدبر في أمر الآخرة ، فقال :

(بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) أي بل هم في عماية وجهل كبير في أمرها وشأنها ، لا يفكرون فيها في أعماق نفوسهم ، فهم عمي البصيرة لا البصر ، وهذا أسوأ حالا من الشك.

قال أبو حيان : هذه الإضرابات الثلاثة ما هي إلا تنزيل لأحوالهم ، وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة ، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه ، والإزالة مستطاعة ، وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه ، فلذلك عدّاه بمن دون «عن» (١).

__________________

(١) التفسير الكبير : ٧ / ٩٣.

٢٠