التفسير المنير - ج ٢٠

الدكتور وهبة الزحيلي

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى أنه لا يعلم أحد الغيب إلا الله ، فذلك مما اختص الله به ، فيكون هو الإله المستحق للعبادة.

ودلت على أن الكفار وغيرهم لا يشعرون بوقت القيامة حتى تأتيهم فجأة ، وعلى أن علمهم بأدلة إثباتها معدوم ، فهم جهلة بها ولا علم لهم فيها ، وهم أيضا في شك منها في الدنيا وفي حيرة شديدة من شأن وجودها ، وقلوبهم عمياء عن إدراكها وعما يوصل إلى الحق في شأنها.

إنكار المشركين البعث

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥))

الإعراب :

(رَدِفَ لَكُمْ) أي ردفكم ، واللام زائدة ، كاللام في قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ) أي بوأنا إبراهيم.

٢١

البلاغة :

(أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) استفهام إنكاري ، وتكرار همزة (أَإِنَّا) للمبالغة في التعجب والإنكار.

(قُلْ : سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) وعيد وتهديد.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ) تأكيد بإن ، واللام لترسيخ المعنى.

(ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) بين (تُكِنُ) أي تخفي و (يُعْلِنُونَ) طباق.

المفردات اللغوية :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي قالوا أيضا في إنكار البعث بعد بيان عماهم عن الآخرة. (لَمُخْرَجُونَ) من القبور أو من حال الفناء إلى الحياة. (إِنْ هذا) ما هذا. (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أكاذيب الأقدمين ، جمع أسطورة : وهي ما سطره الأقدمون من خرافات وأحاديث. (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) أي هلاكهم بالعذاب لإنكارهم البعث.

(ضَيْقٍ) في ضيق صدر. (مِمَّا يَمْكُرُونَ) من مكرهم ، أي فإن الله يعصمك من الناس ، وهذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي لا تهتم بمكرهم وتآمرهم عليك ، فإنا ناصروك عليهم. (مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي العذاب الموعود ، أو الوعد بالعذاب. (رَدِفَ لَكُمْ) أي ردفكم بمعنى تبعكم ولحقكم. (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) أي أصابهم بعض العذاب وهو القتل ببدر ، وباقي العذاب يأتيهم بعد الموت.

(لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أي ومنه تأخير العذاب عن الكفار. (لا يَشْكُرُونَ) نعم الله عليهم ومنه تأخير العذاب لإنكارهم وقوعه. (تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) تخفيه. (وَما يُعْلِنُونَ) بألسنتهم. (غائِبَةٍ) التاء المربوطة أو الهاء للمبالغة ، والمعنى : أيّ شيء في غاية الخفاء على الناس ، كالتاء في علّامة ونسابة ، والأصل : غائب. (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) بيّن ، وهو اللوح المحفوظ ، فكل شيء يعلمه الله قديما ، ومنه تعذيب الكفار.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى جهل الكفار بالآخرة ، أردفه بما قالوا عنها ، مما يدل على إنكارهم لها. وأما مناسبة هذه الآيات لجملة السورة فهي أنه تعالى لما تكلم في حال مبدأ الخلق ، تكلم بعده في حال المعاد ؛ لأن الشك في المعاد لا ينشأ إلا من

٢٢

الشك في كمال القدرة أو في كمال العلم ، فإذا ثبت كونه تعالى قادرا على كل الممكنات ، وعالما بكل المعلومات ، ثبت أنه تعالى يمكنه تمييز أجزاء بدن كل إنسان عن أجزاء بدن غيره ، وثبت أنه قادر على إعادة التركيب والحياة إلى تلك الأجزاء ، وإذا ثبت إمكان ذلك ، ثبت صحة القول بالحشر أو المعاد.

التفسير والبيان :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا ، أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) أي وقال المشركون منكرو البعث ، الذين كفروا بالله وكذبوا رسله : أنخرج من قبورنا أحياء ، بعد مماتنا ، وبعد أن بليت أجسادنا وصارت ترابا؟ فهذا حكاية لاستبعادهم إعادة الأجساد بعد صيرورتها عظاما ورفاتا وترابا.

(لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) أي ما زلنا نسمع كثيرا بهذا نحن وآباؤنا ، ولا نلمس له حقيقة ولا وقوعا ولم نر قيام أحد بعد موته ، والمراد أن هذا تاريخ غابر محكي ، أكل عليه الدهر وشرب.

(إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي ما هذا الوعد بإعادة الأبدان إلا أسطورة ، أي خرافة وأكذوبة ، يتناقلها الناس عن بعضهم ، وليس لها حقيقة ، ولم يقم عليها دليل مقبول.

ثم أرشدهم الله تعالى إلى الصواب في ذلك وعما ظنوا من الكفر وعدم المعاد بصيغة الوعيد والتهديد ، فقال : (قُلْ : سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) أي قل لهم أيها الرسول : سيروا في أرض الحجاز والشام واليمن وغيرها ، فانظروا مصير من سبقكم من المكذبين ، إنهم اغتروا بدنياهم ، وفتنوا بزخارفها ، وكذبوا رسلهم ، وأنكروا وجود البعث ، فأهلكهم الله بذنوبهم ، وبقيت ديارهم آثارا شاهدة عليهم للعبرة والعظة ، ونجى الله رسله ومن اتبعهم من المؤمنين ، فدل ذلك على صدق ما جاءت به الرسل وصحته من الإيمان بالله

٢٣

وبالبعث ، وتلك سنة الله في كل من كذب رسله ، وسيعاقبكم بمثل عقابهم إن لم تبادروا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر.

ثم سلّى الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن إعراضهم عن قوله ورسالته فقال : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ، وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي ولا تحزن يا محمد على إعراض هؤلاء المكذبين عن رسالتك ، ولا تكن ضيق الصدر حزينا مكروبا مهموما من كيدهم وتآمرهم عليك ، فإن الله مؤيدك وناصرك وعاصمك من الناس ، ومظهر دينك على من خالفه وعانده في المشارق والمغارب.

ثم حكى الله تعالى إنكارا آخر من الكفار غير الساعة ، وهو إنكار عذاب الله ، فقال : (وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي يقول هؤلاء المشركون في مكة وغيرهم في سؤالهم عن يوم القيامة واستبعادهم وقوع ذلك : متى وقت هذا العذاب الذي تعدنا به ، إن كنتم أيها الرسول والمؤمنون به صادقين في ادعائكم وقولكم؟ يقولون ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء.

فأجابهم الله تعالى بقوله :

(قُلْ : عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) أي قل لهم يا محمد : عسى أن يكون ردفكم أي لحقكم وتبعكم واقترب منكم بعض ما تستعجلون وقوعه من العذاب ، وهو القتل والعذاب والنكال يوم بدر. فقوله : (رَدِفَ لَكُمْ) أي ردفكم واللام زائدة ، وقال ابن كثير : وإنما دخلت اللام في قوله : (رَدِفَ لَكُمْ) لأنه ضمن معنى : عجل لكم ، كما قال مجاهد في تفسير ذلك.

قال الزمخشري : عسى ولعل وسوف في وعد الملوك ووعيدهم يدل على صدق الأمر وجدّه ، وما لا مجال للشك بعده ، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم ، وأنهم لا يعجّلون بالانتقام ؛ لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم ووثوقهم أن عدوهم لا يفوتهم ،

٢٤

وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم ، فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده (١).

ثم ذكر تعالى سبب تأخير العقاب ، فقال :

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) أي وإن الله لهو المنعم المتفضل على الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم حيث يسبغ إنعامه عليهم في الدنيا ، مع ظلمهم لأنفسهم ، ويترك معاجلتهم بالعقوبة على كفرهم ومعاصيهم ، ولكنهم مع ذلك كله لا يشكره أكثرهم على فضله ، ولا يشكره إلا القليل منهم.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) أي وإن ربك ليعلم الضمائر والسرائر ، كما يعلم الظواهر ، كما قال : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) [الرعد ١٣ / ١٠] وقال : (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [طه ٢٠ / ٧] والمراد أنه تعالى عالم بمكائد المشركين للرسول ، وسيجازيهم على ذلك.

ثم أبان الله تعالى حقيقة شاخصة عامة وهي أن كل ما في الكون محفوظ في اللوح المحفوظ ، فقال :

(وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي وما من شيء غائب مخفي في السموات والأرضين إلا وهو موجود معلوم محفوظ في اللوح المحفوظ الذي أثبت فيه الله تعالى كل ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، فهو سبحانه عالم الغيب والشهادة وهو ما غاب عن العباد وما شاهدوه ، وعالم غيب السموات والأرض من أمر الخلائق قاطبة ، كما قال تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [الحج ٢٢ / ٧٠] وقال حكاية عن لقمان : (يا بُنَيَّ ، إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ، فَتَكُنْ

__________________

(١) الكشاف ٢ / ٤٦٠.

٢٥

فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ ، يَأْتِ بِهَا اللهُ ، إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان ٣١ / ١٦].

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ تكرر في القرآن الكريم حكاية إنكار المشركين البعث ، فهم يعدّونه من خرافات الأقدمين المتوارثة ، وكانت الأنبياء يقرّبون أمر البعث مبالغة في التحذير ، وكل ما هو آت قريب.

٢ ـ وبما أن واقعة البعث أمر غيبي يحدث في المستقبل ، فإن الله تعالى أجاب المنكرين له بالنظر في مصير المكذبين لرسلهم ، المنكرين وقوع البعث ، نظرة تأمل في القلوب والبصائر في بلاد الشام والحجاز واليمن وغيرها ، هل دام لهم العز والسلطان ، أم دمّر الله ديارهم بسبب كفرهم؟.

٣ ـ كانت درجة إحساس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عالية جدا ، ومرهفة إرهافا مفرطا ، فتألم وحزن لإعراض قومه عنه ، فسرّى عنه القرآن همومه ، ونهاه عن حمل الهموم والأحزان على كفار مكة إن لم يؤمنوا ، كما نهاه عن الضيق أي الحرج من مكرهم وتدبيرهم وقولهم : متى أو أي وقت يجيئنا العذاب بتكذيبنا؟

٤ ـ أجابهم الحق تعالى عن استبطاء نزول العذاب بالترهيب مرة وبالترغيب مرة أخرى ، فأنذرهم بأن بعض عذابهم قد اقترب منهم ودنا من ساحتهم ، وذلك في أول لقاء عسكري فاصل بينهم وبين المؤمنين في موقعة بدر ، فيقتل رؤساؤهم ويؤسر أشرافهم ، ورغّبهم بالتوبة والإيمان ، وذكّرهم بفضله سبحانه على الناس في تأخير العقوبة وإدرار الرزق ، ولكن أكثرهم لا يشكرون فضله ونعمه.

٥ ـ وأبان لهم أن مصير خططهم ومؤامراتهم إلى الخيبة والفشل ، فإن الله يعلم

٢٦

ما تخفي صدورهم وما يظهرون من الأمور ، فيحبط مشاريعهم ، كما أنه تعالى يعلم جميع ما أخفى عن خلقه وغيّبه عنهم ، وهذا عام بعد خاص ، وقد أثبت تعالى في اللوح المحفوظ ما أراد ، ليعلم بذلك من يشاء من ملائكته ، فكيف يخفى عليه ما يسرّ هؤلاء وما يعلنونه؟!

وإذا كان الله عليما بكل نشاطاتهم المشبوهة وتحركاتهم المريبة ، فيستحيل وقوع ما يريدون من إيذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو النيل من رسالته ، أو تحقيق الظفر على المسلمين.

إثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن الكريم

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١))

البلاغة :

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُ) : في هذا الفعل المضارع استعارة تبعية ، استعار ما يتكلم به الإنسان الناطق إلى القرآن ، لتضمنه نبأ الأولين ، فكان كالإنسان الذي يقصّ على الناس الأخبار.

(الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) صيغة مبالغة على وزن فعيل.

(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ، وَلا تُسْمِعُ الصُّمَ بِهادِي الْعُمْيِ) استعارة تمثيلية ، فقد عبر بالموتى والصم والعمي تمثيلا لأحوال الكفار في عدم انتفاعهم بالإيمان بأنهم كالموتى والصم والعمي.

٢٧

المفردات اللغوية :

(يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) الموجودين في زمان نبينا (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي يخبرهم بأكثر نواحي الاختلاف كالتشبيه والتنزيه وأحوال الجنة والنار وعزير والمسيح (لَهُدىً) من الضلالة (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) من العذاب وخص بالمؤمنين ؛ لأنهم المنتفعون به (يَقْضِي بَيْنَهُمْ) يفصل بين بني إسرائيل كغيرهم يوم القيامة (بِحُكْمِهِ) بما هو حكمه الذي هو الحق والعدل (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب ، فلا يرد قضاؤه (الْعَلِيمُ) بحقيقة ما يقضي فيه ، فلا معقب لحكمه.

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ثق به ، ولا تبال بمعاداتهم (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) الدين البيّن ، وصاحب الحق جدير بالثقة بنصر الله وحفظه ، فإنه سينصرك على الكفار (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) تعليل آخر للأمر بالتوكل ، من حيث إنه يقطع الأمل بمتابعتهم ومعاضدتهم ، فضرب أمثالا لهم بالموتى وبالصم وبالعمي ، لعدم انتفاعهم باستماع ما يتلى عليهم ، ولا برؤية ما يرشدهم إلى الإيمان (مُدْبِرِينَ) راجعين فارّين هاربين ؛ لأن إسماعهم في هذه الحال أبعد.

(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) لأن الهداية لا تحصل إلا بالصبر (إِنْ تُسْمِعُ) أي ما يجدي إسماعك سماع فهم وقبول (إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) يصدق بالقرآن (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) مخلصون بتوحيد الله.

المناسبة :

بعد أن أتمّ الله تعالى الكلام في إثبات المبدأ والمعاد بالأدلة الكونية ، الحسية والعقلية ، أعقب ذلك بإثبات النبوة بأدلة أعظمها القرآن الكريم المشتمل على المعجزات ، وإذا كان معجزا دل على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يدعيه.

التفسير والبيان :

إن الكتاب الذي أورد الأدلة على إثبات صفات الكمال لله تعالى ، وإثبات البعث لإقامة العدل بين الخلائق بالثواب والعقاب ، وهما أصلان للدين ، هو هذا القرآن المتضمن وجوه الإعجاز التالية :

١ ـ الإخبار عن قصص الأنبياء المتقدمين : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن هذا القرآن العزيز يخبر بني

٢٨

إسرائيل ، وهم حملة التوراة والإنجيل ، بالحق في كثير من الأمور التي اختلفوا فيها ، كاختلافهم في عيسى عليه‌السلام ، فاليهود افتروا عليه ، والنصارى غلوا في شأنه ، فجاء القرآن بالقول الوسط الحق العدل : أنه عبد من عباد الله ، ونبي من أنبيائه ورسله الكرام. وهذه الحقيقة وغيرها من القصص لا تعرف إلا بالوحي الإلهي من عند الله تعالى ؛ لأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنزل عليه القرآن كان أميا لا يقرأ لا يكتب ، ولم يتتلمذ على أحد من العلماء للتعلم ومعرفة شؤون الثقافة ، ولأن هذه القصص المذكورة في القرآن موافقة لما في التوراة والإنجيل.

٢ ـ إثبات التوحيد والبعث والنبوة وأحكام التشريع بدلائل عقلية : (وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي إن هذا القرآن لهاد للمؤمنين إلى طريق الرشاد ، ورحمة لهم في الأحكام التشريعية المتعلقة بالعقيدة ، كالتوحيد والحشر والنبوة وصفات الله الحسنى ، والمتعلقة بالأحكام العملية الملائمة لحاجات البشر وتحقيق مصالحهم في الدنيا والآخرة.

وهو أيضا هدى ورحمة للمؤمنين لبلوغه غاية الفصاحة والبلاغة حتى عجزت البشر عن معارضته ، فدل على إعجازه ، وخروجه عن طاقتهم ، وأنه وحي منزل من إله حكيم حميد قدير. وخص المؤمنين في الآية ؛ لأنهم المنتفعون به.

وبعد بيان خصائص إعجاز القرآن الدالة على صدق الرسالة النبوية أتبعه بذكر أمرين:

الأول ـ إقامة الدليل على عدل الله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أي إن ربك الذي يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون يقضي بين المصيب والمخطئ منهم بحكمه العادل ، وهو القوي القادر على الانتقام من المبطل منهم ، ومكافأة المحسن منهم ، فلا يرد قضاؤه ، العليم بأفعال عباده وأقوالهم ، فيقضي بالصواب المطابق للواقع ؛ لأنه العليم بمن يقضي له وبمن يقضي عليه.

٢٩

ومعنى (يَقْضِي) .. (بِحُكْمِهِ) أي يقضي يوم القيامة بما يحكم به وهو عدله ، لأنه لا يقضي إلا بالعدل ، فسمى المحكوم به حكما ، أو أراد أنه يقضي بحكمته.

الثاني ـ أمر النبي بالتوكل على الله وقلة المبالاة بأعداء الدين : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ، إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) أي ثق بالله واعتمد عليه وفوض جميع أمورك إليه ، وبلّغ رسالة ربك ، ولا تلتفت إلى أعداء الله ، فإنك أنت على الحق الواضح ، وإن خالفك فيه من خالفك من أهل الشقاء. وهذه هي العلة الأولى للتوكل على الله ، ثم علل ذلك بعلة أخرى فقال :

(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ ، إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي إنك لا تستطيع أن تسمعهم شيئا ينفعهم ، فهم حين توليهم مدبرين معرضين عنك كالموتى لا يتأثرون بما يتلى عليهم ولا يفهمونه ، وكالصم الذين لا أمل في سماعهم فلا يسمعون بحال ، وكالعمي الذين لا يبصرون ولا يلتفتون إلى شيء أصلا ؛ لأن على قلوبهم غشاوة ، وفي آذانهم وقر الكفر ، وفي نفوسهم استعلاء واستكبارا عن الرضوخ للحق. وفي هذه العلة الثانية قطع طمع النبي عن الكفار ، فيقوى قلبه على إظهار مخالفة أعداء الله ، بأن بيّن له أنهم كالموتى وكالصم وكالعمي ، فلا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون ولا يلتفتون إلى شيء من الدلائل ، ولأن الإنسان ما دام يطمع في أن يأخذ من أحد شيئا ، فإنه لا يجرأ على مخالفته.

وهذا سبب قوة قلبه عليه الصلاة والسلام على إظهار الدين كما ينبغي. ومعنى قوله : (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) تأكيد لحال الأصم ؛ لأنه إذا تباعد وأدبر عن الداعي كان أبعد عن إدراك صوته.

والخلاصة : إنه تعالى أمر رسوله بالتوكل عليه والإعراض عما سواه ؛ لأنه على الحق المبين ، وغيره على الباطل ، ولأنه لا أمل ولا مطمع في مساندة المشركين ، ولا في استجابتهم لدعوة الحق.

٣٠

والمراد من نفي الإسماع للموتى الإسماع الذي يمكن أن يعقبه إجابة وتفاعل وتفاهم ، فلا يعارضه ثبوت السماع من جانبهم دون أن يتمكنوا من الرد أو إجابة من يكلمهم ، كما ثبت أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلّم على قبور أهل بدر ، وكما ثبت في صحيح البخاري ومسلم «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاطب القتلى في قليب (بئر) بدر ، فقيل له : يا رسول الله ، إنما تكلّم أجسادا لا أرواح لها ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم».

ثم أكد الله تعالى ما سبق فقال :

(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ ، إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي وما أنت أيها الرسول بمستطيع أن تهدي العمي عن ضلالتهم ، أي تردهم عن الضلال بالهدى ؛ لأن على أبصارهم غشاوة تمنعهم عن النظر فيما أتيت به نظرا مؤديا إلى الحق ، وما يجدي إسماعك إلا الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته ، أي يصدقون بها ، فهم مسلمون مخلصون التوحيد لله ، خاضعون لله ، ولا يستجيب لك إلا من هو مبصر القلب ، يستخدم سمعه وبصره في إدراك الأمور على وجهها الصحيح ، مستعد لقبول الحق ، فهذا هو المسلم الذي أسلم وجهه لله ، يعني جعله سالما لله تعالى خالصا له.

فقه الحياة أو الأحكام :

يثبت الله تعالى بهذه الآيات صدق النبوة وصحة رسالة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك بالقرآن الذي أنزله على قلب نبيه ، مشتملا على وجوه عديدة من الإعجاز.

منها : أنه يبين لبني إسرائيل الموجودين حال نزوله ما اختلفوا فيه ، لو أخذوا به ، وذلك ما حرّفوه من التوراة والإنجيل ، وما سقط من كتبهم من الأحكام.

٣١

ومنها : أن القرآن هاد من الضلالة إلى الحق والاستقامة والرشاد ، ورحمة لمن صدّق به بما اشتمل عليه من الأدلة العقلية على التوحيد والبعث والنبوة وشرح صفات الله تعالى ونعوت جلاله ، وبما انطوى عليه نظمه من سمو الفصاحة والبلاغة ، حتى عجز البشر عن معارضته ، مما يدل على أنه كلام الله المعجز الدال على صدق الرسالة النبوية.

ثم ذكر الله تعالى دليل عدله ، فهو سبحانه يقضي بين بني إسرائيل وغيرهم فيما اختلفوا فيه في الآخرة ، فيجازي المحق والمبطل ، وهو العزيز أي المنيع الغالب الذي لا يردّ أمره ، العليم الذي لا يخفى عليه شيء.

ثم أمر الله تعالى نبيه بالتوكل على الله ، أي تفويض أمره إليه واعتماده عليه ، فإنه ناصره ، لأنه على الحق المبين ، أي الظاهر ، ولأن هؤلاء الكفار أشبه بالموتى لتركهم التدبر ، فلا حسّ لهم ولا عقل ، وبمنزلة الصم عن قبول المواعظ ، فإذا دعوا إلى الخير أعرضوا وولّوا كأنهم لا يسمعون ، وكالعميان الذين لا يميزون طريقهم ، فهم تائهون حائرون ، كما قال سبحانه : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ، فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [البقرة ٢ / ١٧١].

ثم ذكر الله تعالى قاعدة عامة في مسيرة الدعوة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) أي ليس في وسعك خلق الإيمان في قلوبهم ، وما تسمع إلا المستعد لقبول الحق ، المهيأ للإيمان بآيات الله ، المخلوق للسعادة ، فهم مخلصون في التوحيد. أما الكافر المعاند المعرض عن آيات ربه فلا أمل في إيمانه ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) [يونس ١٠ / ٩٦ ـ ٩٨].

٣٢

من أمارات القيامة ومقدماتها

ـ ١ ـ

إخراج دابة الأرض وحشر الظالمين المكذبين بآيات الله ورسله أمام ربهم

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦))

الإعراب :

(أَنَّ النَّاسَ أَنَ) بالفتح : إما في موضع نصب مفعول به ل (تُكَلِّمُهُمْ) أي تخبرهم ، أي تخبرهم أن الناس ، وإما في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر ، أي تكلمهم بأن الناس ، و (بِآياتِنا) في موضع نصب متعلق ب (يُوقِنُونَ) أي كانوا لا يوقنون بآياتنا. ومن قرأ بالكسر : «إن» فعلى الابتداء والاستئناف.

البلاغة :

(أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيه أسلوب التوبيخ والتأنيب.

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) فيه ما يسمى في علم البديع بالاحتباك ، وهو أن يحذف من أوله ما أثبت في آخره وبالعكس ، وبيانه هنا : جعلنا الليل مظلما

٣٣

ليسكنوا فيه ، والنهار مبصرا ليتصرفوا فيه ، فحذف «مظلما» لدلالة (مُبْصِراً) عليه ، وحذف «ليتصرفوا فيه» لدلالة (لِيَسْكُنُوا فِيهِ).

المفردات اللغوية :

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) أي إذا دنا أو قرب وقوع معنى القول وهو ما وعدوا به من البعث والعذاب الذي ينزل بالكفار (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) كائنا حيا يدب على الأرض ، وهو الجسّاسة (تُكَلِّمُهُمْ) تنبئهم وتخبرهم (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) أي أن أكثر الناس كانوا لا يؤمنون بآيات الله الدالة على مجيء الساعة ، والله أعلم بحقيقة تلك الدابة ، ولعلها إنسان عادي ، والمهم الإخبار عن تكذيب الجم الغفير من الناس بوقوع القيامة.

(وَيَوْمَ) أي واذكر يوم القيامة (نَحْشُرُ) نجمع (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) من للتبعيض (فَوْجاً) جماعة (مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا) من للتبيين ، وهم الرؤساء المتبعون (يُوزَعُونَ) يجمعون بمنع أولهم وإيقافه من أجل آخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا في موقف المناقشة والحساب (حَتَّى إِذا جاؤُ) مكان الحساب أو المحشر (قالَ) تعالى لهم (أَكَذَّبْتُمْ) أنبيائي (وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) الواو للحال ، أي أكذبتم بآياتي بادي الرأي ، ولم تتأملوا بحقيقتها ، ولم تنظروا نظرا يحيط علمكم بكنهها ، وأنها حقيقة بالتصديق أو التكذيب ، فمعنى : لم تحيطوا بها علما : لم تدركوا حقيقة كنهها. والواو للعطف ، أي أجمعتم بين التكذيب بها وعدم إلقاء الأذهان لتحققها؟ أي النظرة السطحية لها (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أم أي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك ، وهو استفهام للتبكيت ، إذ لم يفعلوا غير التكذيب من الجهل ، وأما : فيه إدغام «ما» الاستفهامية ب «ذا» الموصول ، أي ما الذي كنتم تعملون فيما أمرتم به؟

(وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) حلّ بهم العذاب ، وهو كبّهم في النار بعد ذلك (بِما ظَلَمُوا) بسبب ظلمهم ، وهو الشرك والتكذيب بآيات الله (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) باعتذار إذ لا حجة لهم (أَلَمْ يَرَوْا) ألم يعلموا (أَنَّا جَعَلْنَا) خلقنا (لِيَسْكُنُوا فِيهِ) ليستريحوا فيه ويهدأوا (مُبْصِراً) يبصر فيه بضوئه أسباب المعيشة ليتصرفوا فيه ، وجعل الإبصار للنهار وهو لأهله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) دلالات على قدرة الله تعالى ، وهي تدل على الأمور الثلاثة : التوحيد والحشر وبعثة الرسل (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) خصوا بالذكر لانتفاعهم بها في الإيمان ؛ لأن تعاقب النور والظلمة على وجه مخصوص لا يكون إلا بقدرة قاهرة ، وإن من قدر على إبدال الظلمة بالنور من مادة واحدة قدر على إبدال الموت بالحياة من مواد الأبدان.

٣٤

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى الدلائل على كمال قدرته وكمال علمه ، وفرع على ذلك القول بإمكان البعث والحشر والنشر ، ثم أوضح كون القرآن معجزا ، ونبّه بإعجازه على إثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أردف ما سبق ببيان مقدمات قيام القيامة ، وهي إما كالعلامة للقيامة كإخراج دابة الأرض ، وإما أن تقع عند قيام القيامة كنفخ الصور.

وإنما أخر تعالى الكلام عن علامات القيامة عن إثبات النبوة ، لأن هذه الأشياء لا يمكن معرفتها إلا بقول النبي الصادق.

التفسير والبيان :

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) أي أنه في آخر الزمان عند فساد الناس ، وتركهم أوامر الله ، وتبديلهم الدين الحق ، واستحقاقهم العذاب الموعود به ، وذلك قرب مجيء الساعة ، يخرج الله للناس دابة من الأرض تحدثهم أن أكثر الناس كانوا بآيات الله لا يوقنون.

ولعل تلك الدابة هي إنسان كما قال بعض المفسرين الجدد ؛ لوصفها بالكلام ؛ ولأن كل ما يدب على الأرض فهو دابة.

وسميت تلك الدابة في الآثار بالجسّاسة ، وورد في شأنها أحاديث آحاد ، منها ما رواه مسلم وأهل السنن عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : أشرف علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غرفة ، ونحن نتذاكر أمر الساعة ، فقال : «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وخروج عيسى بن مريم عليه‌السلام ، والدجال ، وثلاثة

٣٥

خسوف : خسف بالمغرب ، وخسف بالمشرق ، وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن ، تسوق أو تحشر الناس ، تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا».

وأما موضع خروجها فهو : سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أين تخرج الدابة؟ فقال : «من أعظم المساجد حرمة على الله تعالى ، يعني المسجد الحرام» (١).

وبعد ذكر العلامة الأولى لقيام الساعة ذكر تعالى العلامة الثانية وهي : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً ، مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا ، فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ : أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً ، أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ويوم نجمع يوم القيامة جماعة من رؤساء كل أمة من الظالمين المكذبين بآيات الله ورسله ، ونحبس أولهم على آخرهم ، ليجتمعوا في موقف الحشر والحساب ، حتى إذا جمعوا ووقفوا بين يدي الله عزوجل للحساب والنقاش ، فيقول الله لهم توبيخا وتبكيتا : أكذبتم بآياتي الدالة على لقاء هذا اليوم ، غير ناظرين بما يحيطكم علما بحقيقة الآيات ، وإذا لم تتأملوا فيها ، فبما ذا كنتم تشغلون أنفسكم أو تعملون فيها من تصديق أو تكذيب؟! فقوله : (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بمعنى : بل ما ذا كنتم تعملون؟!

(وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا ، فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) أي وحينئذ يحل العذاب بأولئك المكذبين بآيات الله بسبب ظلمهم ، أي تكذيبهم وكفرهم ، فيشغلهم عن النطق والاعتذار ، كما قال تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) [المرسلات ٧٧ / ٣٥].

ثم ذكر الله تعالى دليل التوحيد والحشر والنبوة ، فقال :

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي ألم يعلم هؤلاء المكذبون بآياتنا أنا خلقنا الليل للسكن والنوم

__________________

(١) انظر تفسير ابن كثير : ٣ / ٣٧٥ وما بعدها.

٣٦

والراحة والقرار بعد عناء التعب في النهار ، وخلقنا النهار منيرا مشرقا للتصرف أو التقلب في المعايش والمكاسب والأسفار والتجارات وغيرها من شؤونهم التي يحتاجونها ، إن في ذلك الخلق والإيجاد لدلالات على قدرة الله على البعث بعد الموت ، للجزاء والحساب ، وعلى توحيده ، لقوم يصدقون بالله ورسله.

فمن تأمل في تعاقب الليل والنهار والانتقال من حال شبيهة بالموت إلى حال الحركة والحياة ، أدرك أن القيامة كائنة لا محالة ، وأن الله سيبعث من في القبور.

فقه الحياة أو الأحكام :

إن مفاجات يوم القيامة وأهوالها كثيرة وغريبة ومذهلة ، فمن مقدماتها : إخراج دابة من الأرض عند استحقاق العذاب تخبر بأن أكثر الناس كانوا لا يصدقون بآيات الله. جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض».

واختلف المفسرون في تعيين هذه الدابة وصفتها ومن أين تخرج اختلافا كثيرا ، قال القرطبي : أول الأقوال أنه فصيل ناقة صالح عليه‌السلام ، وهو أصحها ـ والله أعلم ـ لما ذكر أبو داود الطيالسي في مسنده عن حذيفة قال : ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدابة فقال : «لها ثلاث خرجات من الدهر ، فتخرج في أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية ـ يعني مكة ـ ثم تكمن زمانا طويلا ، ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك ، فيفشو ذكرها في البادية ، ويدخل ذكرها القرية ـ يعني مكة ـ ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة ، خيرها وأكرمها على الله المسجد الحرام ، لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام تنفض عن رأسها التراب ، فارفضّ الناس منها شتّى ومعا ..» الحديث.

٣٧

وموضع الدليل من هذا الحديث أنه الفصيل قوله : «وهي ترغو» والرغاء إنما هو للإبل ؛ وذلك أن الفصيل لما قتلت الناقة هرب ، فانفتح له حجر ، فدخل في جوفه ، ثم انطبق عليه ، فهو فيه حتى يخرج بإذن الله عزوجل (١).

ثم ذكر الله تعالى بعض الأمور الواقعة بعد قيام القيامة وهو حشر زمرة وجماعة من كل أمة ، ممن يكذب بالقرآن وبالأدلة الدالة على الحق ، فهم يوزعون أي يدفعون ويساقون إلى موضع الحساب ، وقال قتادة : أي يردّ أولهم على آخرهم ، حتى إذا حضروا الموقف قال الله : أكذبتم بآياتي التي أنزلتها على رسلي ، وبالآيات التي أقمتها دليلا على توحيدي ، ولم تعلموا بحقيقتها ، وإنما أعرضتم عنها مكذبين جاهلين غير مستدلين؟ ثم يقول لهم تقريعا وتوبيخا : ما ذا كنتم تعملون حين لم تبحثوا عنها ولم تتفكروا ما فيها.

ولكن وجب العذاب عليهم بظلمهم أي بشركهم ، فهم لا ينطقون ، أي ليس لهم عذر ولا حجة.

ثم أقام الله تعالى دليلا على البعث والتوحيد والنبوة مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر ، وهو خلق الليل للنوم والاستقرار ، وخلق النهار المنير المشرق الذي يبصر فيه الناس الأشياء للحركة ونشاط الحياة وسعي الرزق ، إن في ذلك لدلالات على قدرة الله وتوحيده وإمكانه الحشر لقوم يؤمنون بالله. أما وجه دلالته على التوحيد فهو أن التقليب من النور إلى الظلمة ومن الظلمة إلى النور بدقة متناهية لا يحصل إلا بقدرة قاهرة عالية. وأما وجه دلالته على الحشر فلأنه لما ثبتت قدرة الله تعالى على هذا التقليب فهو قادر على القلب من الحياة إلى الموت ومن الموت إلى الحياة ، وأما وجه دلالته على النبوة فلأنه تعالى يقلب الليل والنهار لمنافع الناس ، وفي بعثة الأنبياء والرسل إلى الناس منافع عظيمة ، فما المانع من بعثتهم إلى الناس لتحصيل تلك المنافع؟

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٣ / ٢٣٥.

٣٨

ـ ٢ ـ

النفخ في الصور وتسيير الجبال

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠))

الإعراب :

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ .. يَوْمَ) منصوب بفعل مقدر ، تقديره : اذكر يوم ينفخ.

(صُنْعَ اللهِ) منصوب على المصدر ؛ لأن ما قبله يدل أنه تعالى صنع ذلك ، فكأنه قال : صنع صنعا الله ، ثم أضاف المصدر إلى الفاعل.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ .. مَنْ) شرطية مبتدأ ، و (فَلَهُ) الجواب ، خبر المبتدأ.

(وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) من قرأ «فزع» بالتنوين ، كان (يوم) منصوبا بالمصدر ، أو ب (آمِنُونَ) تقديره : وهم آمنون يومئذ من فزع ؛ ومن قرأ بغير تنوين كان (يوم) مجرورا بالإضافة ، كقوله تعالى : (مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ) [المعارج ٧٠ / ١١]. أي أنه في حالة إضافة «فزع» تكسر ميم «يومئذ» وتفتح ، وفي حال تنوين «فزع» تفتح ميم «يومئذ».

البلاغة :

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) بينهما طباق.

(تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) تشبيه بليغ ، أي تمر كمرّ السحاب في السرعة ، حذفت فيه الأداة ووجه الشبه.

٣٩

المفردات اللغوية :

(الصُّورِ) البوق الذي ينفخ فيه ، والمقصود هنا : النفخة الأولى من إسرافيل (فَفَزِعَ) خاف ، والمراد هنا الخوف الشديد المفضي إلى الموت من الهول ، وعبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) ألا يفزع بأن ثبّت قلبه ، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ملك الموت. وعن ابن عباس : هم الشهداء إذ هم أحياء عند ربهم يرزقون (وَكُلٌّ أَتَوْهُ) حاضرون الموقف بعد النفخة الثانية ، أو راجعون إلى أمره ، وتنوين (كُلٌ) عوض عن المضاف إليه ، أي وكلهم بعد إحيائهم يوم القيامة أتوه (داخِرِينَ) صاغرين ، والتعبير ب (أَتَوْهُ) بالماضي لتحقق وقوعه.

(وَتَرَى الْجِبالَ) تبصرها وقت النفخة (تَحْسَبُها) تظنها (جامِدَةً) ثابتة في مكانها لعظمها (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) أي في السرعة ؛ لأن الأشياء الكبار إذا تحركت في سمت واحد ، فلا تكاد تتبين حركتها. وهنا شبهها بالسحب التي تسيرها الرياح (صُنْعَ اللهِ) مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله ، أضيف إلى فاعله بعد حذف عامله ، تقديره : صنع الله ذلك صنعا (أَتْقَنَ) أحكم خلقه وسواه على ما ينبغي (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) عالم بظواهر الأفعال وبواطنها ، فيجازيهم عليها.

(بِالْحَسَنَةِ) أي الإيمان والعمل الصالح (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي له ثواب بسببها وليس هذا للتفضيل ، إذ لا فعل خير منها ، وفي آية أخرى : (عَشْرُ أَمْثالِها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ) الفزع هنا : الخوف من العذاب ، وهم : أي الفاعلون الحسنة وأما الفزع الأول في قوله (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ) فهو ما لا يخلو عنه أحد عند الإحساس بشدة تقع ، وهول يفجأ من رعب وهيبة ، وإن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به (بِالسَّيِّئَةِ) الإشراك بالله والمعاصي (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) أي ألقيت منكوسة ، ويجوز أن يراد بالوجوه أنفسهم ، وذكرت لأنها موضع الشرف من الحواس ، فغيرها من باب أولى (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ما تجزون إلا جزاء عملكم من الشرك والمعاصي. وهذا القول المستفهم به للتبكيت.

المناسبة :

بعد ذكر العلامة الأولى لقيام القيامة وهي خروج الدابة للكلام والحديث ، ذكر الله تعالى علامتين أخريين لقيام القيامة وهما النفخ في الصور ، وتسيير الجبال ، ثم ذكر أحوال المكلفين يوم القيامة وأنهم قسمان : المطيعون الأبرار الذين يعملون الحسنات ، فيثابون خيرا منها ويأمنون الفزع من العذاب ، والعصاة

٤٠