التفسير المنير - ج ٢٠

الدكتور وهبة الزحيلي

(وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي وما كان ينبغي لله أن يظلمهم أبدا فيما فعل بهم ، ولكنه أهلكهم بذنوبهم وبظلمهم أنفسهم وكفرهم بالله ربهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

هناك سبب مشترك في عقاب الأمم المتقدمة وإهلاكهم وهو الكفر بالله كفر تحد وعناد ، مع الإفساد ، في الأرض بالمعاصي الكبائر.

فقوم مدين : رفضوا دعوة نبيهم شعيب عليه‌السلام الذي قال لهم : الله تعالى واحد فاعبدوه ، والحشر كائن فارجوه ، والفساد بالكفر والظلم والمعصية محرم فلا تقربوه ، فكذبوه فيما دعاهم إليه وأخبرهم به.

فعاقبهم الله كما ذكر هنا وفي الأعراف بالرجفة ، وفي هود بالصيحة ، والأمر واحد ، فإن الصيحة كانت سببا للرجفة ، أي زلزلة الأرض ، إما بسبب صيحة جبريل ، وإما بسبب رجفة الأفئدة التي ارتجفت منها ، ولما كانت الصيحة عظيمة أحدثت الزلزلة في الأرض ، فأصبحوا جاثمين ميتين في ديارهم.

وقبيلتا عاد وثمود : أهلكهما الله تعالى بظلمهم ، أما عاد قوم هود عليه‌السلام فقالوا : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت ٤١ / ١٥]؟ فأنكروا وجود الإله الخالق القادر ، وعتوا وبغوا وتعالوا على الناس ، فدمر الله ديارهم بمن فيها (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) [الحاقة ٦٩ / ٦ ـ ٧]. وأما ثمود قوم صالح فكذبوا رسولهم وأعلنوا كفرهم وهددوا نبيهم بالطرد والإخراج من بلدهم ، وعقروا الناقة التي أرسلها الله إليهم معجزة لنبيهم صالح ، وكان عقابهم كعقاب أهل مدين بالصيحة أو الزلزلة أو الطاغية ، وبقيت آثار ثمود وعاد بالحجر والأحقاف شاهدة على ظلمهم ، وآية بينة مؤثرة للمعتبرين المتعظين.

٢٤١

ورؤوس الطغيان والبغي في مصر : قارون وفرعون وهامان ، استكبروا في الأرض ، وظنوا أن الله غير قادر عليهم ، فخسف الله بقارون وبداره الأرض ، وأغرق فرعون وهامان وجنودهما في البحر.

ولم يكن العقاب بالهلاك ظلما ، فكل فئة أخذت بجريرة ذنبها العظيم ، وما كان الله ليظلمهم ؛ لأنه أنذرهم وأمهلهم وبعث إليهم الرسل وأزاح العذر ، وإنما ظلموا أنفسهم.

تشبيه حال عبدة الأصنام بحال العنكبوت

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣))

الإعراب :

(كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ) الكاف : في موضع رفع ؛ لأنها خبر المبتدأ : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا).

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ .. ما) : إما بمعنى «الذي» في موضع نصب ب (يَعْلَمُ) وتقديره : إن الله يعلم الذين يدعون من دونه من شيء ، فحذف العائد تخفيفا. وإما أن تكون استفهامية في موضع نصب ب (يَدْعُونَ) وتقديره : أي شيء تدعون من دونه ، وهو قول الخليل وسيبويه.

البلاغة :

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) تشبيه تمثيلي ، شبه

٢٤٢

الكفار في عبادتهم الأصنام بالعنكبوت في بنائها بيتا ضعيف النسج قابلا للاختراق والزوال بنفخة هواء. والتشبيه التمثلي : هو ما كان وجه الشبه فيه منتزعا من متعدد.

المفردات اللغوية :

(مَثَلُ) المثل : الصفة التي تشبه المثل في الغرابة. (أَوْلِياءَ) أصناما يرجون نفعها. (الْعَنْكَبُوتِ) حشرة معروفة. (اتَّخَذَتْ بَيْتاً) لنفسها تأوي إليه مما نسجته من شبكة واهنة ضعيفة. (أَوْهَنَ) أضعف البيوت ، لا يدفع عنها حرا ولا بردا ، كذلك الأصنام لا تنفع عابديها.

(لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ذلك ما عبدوها. (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ) على إضمار القول ، أي قل للكفرة : إن الله يعلم الذي يعبدون ، والكلام تجهيل لهم وتأكيد للمثل. (مِنْ دُونِهِ) غيره. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الغالب القوي في ملكه ، الحكيم في صنعه ، وهو تعليل لما سبق ، فإن من فرط الغباوة إشراك ما لا يعدّ شيئا بمن هذا شأنه ، فالجماد بالنسبة إلى القادر القاهر على كل شيء ، البالغ النهاية في العلم وإتقان الفعل كالمعدوم.

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) يعني هذا المثل ونظائره. (نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) نجعلها مثلا تقريبا لأفهامهم. (وَما يَعْقِلُها) يفهمها. (إِلَّا الْعالِمُونَ) المتدبرون الذين يتدبرون الأشياء على ما ينبغي ، روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه تلا هذه الآية فقال : «العالم : من عقل عن الله ، فعمل بطاعته ، واجتنب سخطه».

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى أنه أهلك من أشرك بعاجل العقاب ، وسيعذبه بشديد العذاب ، دون أن ينفعه معبوده في الدارين ، شبّه حال هذا المشرك الذي اتخذ معبودا دون الله بحال العنكبوت التي اتخذت بيتا لا يحميها من الأذى ، ولا يمنع عنها الحر أو البرد.

ثم أكد ذلك فأوضح أن ما يدعونه ليس بشيء ، فكيف يعبد وتترك عبادة الله القادر القاهر الحكيم المتقن؟ ثم لفت النظر إلى فائدة ضرب الأمثال وهي التقريب للأفهام وإدراك العقلاء لمغزاها.

٢٤٣

التفسير والبيان :

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) أي صفة المشركين في اتخاذهم الأصنام آلهة من دون الله ، طمعا في نصرهم ورزقهم ونفعهم ، والتمسك بهم في الشدائد ، كصفة العنكبوت في ضعفها اتخذت لنفسها بيتا يقيها الأذى والحر والبرد ، فلم يفدها شيئا ، وإذا هبت ريح يصير هباء منثورا.

فكذلك هؤلاء المشركون لا تفيدهم أصنامهم ، ولا تدفع عنهم سوءا ، ولا تجديهم شيئا ، وتصبح أعمالهم للأوثان مبددة ذاهبة الأثر ، كما قال تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان ٢٥ / ٢٣].

ثم بيّن الله تعالى مدى ضعف هذا البيت ، فقال :

(وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ ، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي وإن أضعف البيوت بيت العنكبوت ؛ لأنه يخرب بأدنى شيء ، ولا يبقى منه أثر ، فكذلك عملهم لا أثر له ، فلو كانوا يعلمون علما صحيحا أن أصنامهم وعبادتهم لها لا تنفعهم شيئا ، ما فعلوا ذلك ، إلا أنهم في الواقع في غاية الجهل ، لا يعلمون شيئا من عواقب الأمور ، فتراهم يظنون بذلك النفع.

ثم أكد الله تعالى كون تلك المعبودات ليست بشيء ، فقال متوعدا عابديها :

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي إن الله يعلم أن الذي يعبدونه من غيره من الأصنام والجن والإنس ليس بشيء ، وهو القوي الغالب القادر على الانتقام ممن كفر به ، وأشرك في عبادته معه غيره ، الحكيم في صنعه وتدبيره خلقه ، يعلم ما هم عليه من الأعمال ، ويعلم ما يشركون به من الأنداد ، وسيجزيهم وصفهم ، إنه حكيم عليم.

٢٤٤

ثم أبان تعالى فائدة ضرب الأمثال ، فقال :

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ ، وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) أي هذا المثل وأشباهه في القرآن الكريم ، يضربها للناس تقريبا لأفهامهم ، وتوضيحا لما التبس عليهم ، وما يفهمها ويدركها ويتدبر حقيقتها إلا العلماء الأثبات ، المتضلعون في العلم ، المتأملون في القضايا والمسائل.

روى جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية ، فقال : «العالم من عقل عن الله تعالى ، فعمل بطاعته ، واجتنب سخطه».

فقه الحياة أو الأحكام :

تدل الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن عبادة الأصنام والأوثان فارغة المحتوى ، لا مضمون فيها ، ولا هدف لها ، وما مثلها في عدم النفع إلا كمثل بيت العنكبوت. قال الفراء : هذا مثل ضربه الله سبحانه لمن اتخذ من دونه آلهة لا تنفعه ولا تضره ، كما أن بيت العنكبوت لا يقيها حرا ولا بردا.

٢ ـ شبّه الله تعالى حال عبدة الأوثان بحال العنكبوت التي تتخذ أضعف البيوت ، ولو علموا أن عبادة الأوثان كاتخاذ بيت العنكبوت التي لا تغني عنهم شيئا ، وأن هذا مثلهم أو صفتهم ، لما عبدوها ؛ لا أنهم يعلمون أن بيت العنكبوت ضعيف. أما قتل العنكبوت فروي عن سيدنا علي جوازه قائلا : إن تركه في البيوت يورث الفقر. وهذا صحيح لأن العناكب من الحشرات السامة.

٣ ـ إن الله يعلم ضعف كل ما يعبدون من دونه من ملائكة وكواكب وأصنام وجن وإنس ، فرثى لحالهم ، وعجب من صنعهم ، فنبههم على سطحية تفكيرهم ، وسوء اعتقادهم ، وأن جميع تلك المعبودات مثل بيت العنكبوت ؛ لأن كل ما عدا

٢٤٥

الله لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله ، فلا معبود بحق إلا الله ، ولا إله سواه.

٤ ـ إن ضرب الأمثال أي بيانها وعقد المقارنة بين المتشابهات أمر مفيد للناس ، لمعرفة حقائق الأمور ، ولكن لا يفهم تلك الأمثال إلا العالمون بالله تعالى.

قال أبو حيان : وكان جهلة قريش يقولون : إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ، ويضحكون من ذلك ، وما علموا أن الأمثال والتشبيهات طرق إلى المعاني المحتجبة ، فتبرزها وتصورها للفهم ، كما صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد (١).

٥ ـ حقا إن المشرك في غاية الجهل في الاعتقاد ، لذا كانت هذه الآيات تجهيلا للمشركين ، حيث عبدوا ما ليس بشيء ، لأنه جماد ، لا علم لديه ، ولا قدرة أصلا عنده ، وتركوا عبادة القادر القاهر ، الحكيم الذي لا يفعل شيئا إلا لحكمة.

أما المسلم المؤمن قلبه بالله فهو واع لما يفعل ، مقدر ما يعبد ، يبغي الخير في عبادته ، ويحسن العمل في اتباع الشرع ؛ لأن فيه نجاته وإنقاذه ، ويصل إلى مبتغاه فعلا بجلب النفع والخير ، ودفع الضرر والشر.

فائدة خلق السموات والأرض وتلاوة القرآن وإقامة الصلاة

(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥))

__________________

(١) البحر المحيط ٧ / ١٥٣.

٢٤٦

المفردات اللغوية :

(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) محقا غير قاصد به باطلا ، وقصده بالذات من خلقهما إفاضة الخير ، والدلالة على ذاته وصفاته ، كما أشار إليه بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) دلالة على قدرته تعالى. (لِلْمُؤْمِنِينَ) لأنهم المنتفعون بها في الإيمان ، بخلاف الكافرين.

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) القرآن ، تقربا إلى الله بقراءته ، واستكشافا لمعانيه ، (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) بأن تكون سببا للانتهاء عن المعاصي حال الاشتغال بها وغيرها ؛ لأنها تذكر بالله ، وتورث النفس خشية ، أي من شأنها ذلك. والمنكر : القبيح شرعا وعقلا. روي أن فتى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلوات ، ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه ، فوصف له ، فقال : «إن صلاته تنهاه» فلم يلبث إلا أن تاب. (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) أي إن الصلاة أكبر من سائر الطاعات ، وإنما عبر عنها بالذكر ؛ لاشتمالها على الذكر الذي هو العمدة في تفضيلها على سائر الحسنات ونهيها عن السيئات. ويصح أن يكون المعنى : ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) منه ومن سائر الطاعات ، فيجازيكم به أحسن المجازاة.

المناسبة :

بعد أن أمر الله تعالى الناس بالإيمان ، وأبان ضعف دليل الكفار على عبادة معبوداتهم ، لفت النظر إلى من تجب له العبادة وهو الذي لا يعجزه شيء ، وخالق السموات والأرض ، والمرشد بكتابه إلى معالم الحق ، والمبين طريق العبادة المرضية له وهو الصلاة. كما أن في الآيات تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين عن إعراض الكفار واليأس منهم ، بالتأمل في خلق السموات والأرض وتلاوة القرآن الدال على أن الرسل السابقين كنوح وإبراهيم ولوط بلغوا الرسالة ، وأقاموا الأدلة على الإيمان بالله تعالى ، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة والجهالة.

التفسير والبيان :

(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي إن الله تعالى أوجد وأبدع السموات والأرض للدلالة على قدرته العظيمة ، وإفاضة الخير ، ولحكم وفوائد دينية ودنيوية ، فقد خلقهما محقا غير قاصد الباطل ، ولم

٢٤٧

يخلقهما عبثا ولهوا ولعبا ، وفي ذلك دلالة واضحة على أنه تعالى المتفرد بالخلق والتدبير والألوهية ، كما جاء في رواية عن الله عزوجل : «كنت كنزا مخفيا ، فأردت أن أعرف ، فخلقت الخلق ، فبي عرفوني» إلا أنه لم يصح حديثا ، ومعناه صحيح مستفاد من قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات ٥١ / ٥٦].

ولا ينتفع بتلك الدلالات ولا يفهم هذه الأسرار إلا المؤمنون المصدقون بالله ورسوله ؛ لأنهم يستدلون بآثار الخلق على وجود المؤثر فيها.

ثم أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بتلاوة القرآن وهو قراءته وإبلاغه للناس للاستزادة من المعرفة الدالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته وحكمته فقال :

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) أي اقرأ يا محمد ومثلك كل مسلم ، وأدم تلاوة هذا القرآن وتبليغه للناس ، فإنه إمام ونور ، وهدى ورحمة ، ودليل خير ونجاة ، وعلاج ما استعصى من الأزمات والمحن ، وتخطي مراحل اليأس والقنوط.

كذلك أمر تعالى بالصلاة قرة عين المؤمن فقال :

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) أي وأدّ أيها النبي وكل مؤمن فريضة الصلاة ونافلتها تامة الأركان والشروط ، مع الخشوع والخضوع لله ، واستحضار خشية الله في جميع مراحلها ، فهي تشتمل بمواظبتها على شيئين : ترك الفواحش والمنكرات ، وهي عماد الدين ، وصلة بين العبد وربه ، ودليل الإيمان واليقين ، وفرجة المكروب والمحزون ، وسبب لتطهير العبد من آثار الذنوب والمعاصي. جاء في الحديث الذي أخرجه الطبراني وغيره من رواية عمران وابن عباس مرفوعا : «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، لم تزده من الله إلا بعدا» وروى أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي عن أنس رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «حبّب إلي من دنياكم النساء ، والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة».

٢٤٨

وكل ذلك مشروط بأدائها بخشوع وخضوع وإخلاص كما ذكر ، حتى تكون ذات مدلول وروح ، وذات إشعاع تملأ النفس استحضارا لعظمة الله والخوف منه ، وإلا كانت مجرد حركات وأفعال مادية فاقدة الأثر المقصود منها. ثم أكد تعالى رفعة شأن الصلاة فقال : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ، وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) أي إن الصلاة أكبر من سائر الطاعات ، وذكر الله وتفقده الناس العابدين برحمته أكبر من ذكرهم إياه بطاعته ، والله عليم بما تصنعون من خير أو شر ، وعليم بذات الصدور ، يعلم جميع أقوالكم وأفعالكم ونياتكم : (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [طه ٢٠ / ٧] وفي ذلك وعد ووعيد ، وحث على مراقبة الله في كل الأحوال ، فمن يعلم أن الله يسمعه ويراه ، لزم الحياء ، وخشي العذاب ، وأحسن العبادة. ومن أتى بالذكر النافع وهو الحاصل عن علم وتأمل ووعي قلب وتفرغ نفس مما سوى الله ، نال المراد ، وحقق المبتغى ، وأما ما كان مجرد لقلقة باللسان ، دون استحضار لعظمة الله وخشوع معه ، فلا خير فيه ولا نفع.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ خلق الله السموات والأرض على وجه الإحكام والإتقان والعدل والقسط ، ولأهداف وغايات دينية ودنيوية ، منها أن الإنسان يستدل بهما على وجود الخالق القادر الكامل الشامل العلم ، الذي لا يعزب عن علمه أجزاء الموجودات فيهما ، ولا يعجزه شيء فيهما.

٢ ـ إن المستفيد من خلق السموات والأرض هو الإنسان ، ولا ينتفع في دلالتهما على الاعتقاد بوجود الخالق الواحد إلا المصدقون بالله ورسوله.

٣ ـ على المسلم مواظبة التلاوة لآي القرآن ، وتبليغ أحكامها المستفادة منها ، فإن القرآن كتاب هداية ، ودستور حياة فاضلة.

٢٤٩

٤ ـ على المؤمن أيضا استدامة إقامة الصلاة : وهو أداؤها في وقتها بقراءتها ، وركوعها وسجودها ، وقعودها ، وتشهدها ، وجميع شروطها.

٥ ـ إن الصلوات الخمس لما فيها من تلاوة القرآن المشتمل على الموعظة تنهى عن الفواحش والمنكرات ، وتكفّر ما بينها من الذنوب إذا أديت بحقها وكانت مع استحضار عظمة الله وبأسه ، أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كلّ يوم خمس مرات ، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا : لا يبقى من درنه شيء ، قال : فذلك مثل الصلوات الخمس ، يمحو الله بهن الخطايا».

وروى أنس بن مالك قال : كان فتى من الأنصار يصلي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يدع شيئا من الفواحش والسرقة إلا ركبه ، فذكر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «إن الصلاة ستنهاه» فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألم أقل لكم؟».

ويؤكده الحديث المتقدم الذي رواه الطبراني وغيره : «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعدا ، ولم يزدد بها من الله إلا مقتا».

قال أبو العالية في قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) : إن الصلاة فيها ثلاث خصال ، فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة : الإخلاص ، والخشية ، وذكر الله ، فالإخلاص يأمره بالمعروف ، والخشية تنهاه عن المنكر ، وذكر الله : القرآن يأمره وينهاه.

٦ ـ دل قوله تعالى (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) على أن الصلاة أكبر من سائر الطاعات وأفضل من كل العبادات ، وأن ذكر الله لعباده بالثواب والثناء عليهم ورحمته إياهم أكبر من ذكرهم له في عبادتهم وصلواتهم ، وكذلك أن تلاوة القرآن وإقامة الصلاة ينبغي أن يكون الإتيان بهما على أبلغ وجوه التعظيم.

٢٥٠

روي عن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في قول الله عزوجل : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) : «ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه». وفي حديث آخر : «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ، ذكرته في ملأ خير منهم» (١).

٧ ـ الذكر النافع : هو الذي يكون مع العلم ، وإقبال القلب ، وتفرغه ، إلا من الله ، وأما ما لا يتجاوز اللسان فله رتبة أخرى.

وذكر الله تعالى للعبد : هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه ، وذلك ثمرة لذكر العبد ربه ، قال الله عزوجل : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة ٢ / ١٥٢].

٨ ـ إن قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) نوع من الوعد والوعيد ، وحث على مراقبة الله تعالى في السرّ والعلن.

آمنت بالله تعالى

انتهى الجزء العشرون

__________________

(١) روى الطبراني عن معاذ بن انس حديثا بلفظ : «لا يذكرني عبد في نفسه إلا ذكرته في ملأ من ملائكتي ، ولا يذكرني في ملأ إلا ذكرته في الملأ الأعلى».

٢٥١

فهرس

الجزء العشرين

 الموضوع

 الصفحة

تتمة قصة لوط عليه‌السلام............................................................. ٥

أدلة الوحدانية والقدرة الإلهية....................................................... ٧

لا يعلم الغيب إلا الله........................................................... ١٨

إنكار المشركين البعث........................................................... ٢١

إثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن الكريم.............................................. ٢٧

من أمارات القيامة ومقدماتها..................................................... ٣٣

١ ـ خراج دابة الأرض وحشر الظالمين المكذبين بآيات الله ورسله أمام ربهم............ ٣٣

٢ ـ النفخ في الصور وتسيير الجبال.............................................. ٣٩

الاشتغال بعبادة الله وحمده وتلاوة القرآن........................................... ٤٦

سورة القصص.................................................................. ٥١

تسميتها ومناسبتها لما قبلها....................................................... ٥١

ما اشتملت عليه السورة......................................................... ٥٢

قصة موسى عليه‌السلام.............................................................. ٥٤

١ ـ نصرة المستضعفين........................................................ ٥٤

٢ ـ إلقاء موسى في اليم بعد ولادته وإرضاعه والبشارة بنبوته........................ ٦٠

٣ ـ قتل المصري خطأ وخروجه من مصر......................................... ٧١

٤ ـ ذهاب موسى عليه‌السلام إلى أرض مدين وزواجه بابنة شعيب عليه‌السلام.................. ٧٩

٢٥٢

٥ ـ عودة موسى عليه‌السلام إلى مصر ونبوته.......................................... ٩٣

٦ ـ نبوة هارون وتكذيب فرعون.............................................. ١٠٠

٧ ـ محاجة فرعون في ربوبية الله تعالى وعاقبة عناده مع قومه....................... ١٠٥

تكذيب أهل مكة بالقرآن وبرسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم..................................... ١١٧

إيمان طوائف من أهل الكتاب بالقرآن........................................... ١٢٣

الرد على شبهات المشركين..................................................... ١٢٩

تقريع المشركين يوم القيامة بأسئلة ثلاثة........................................... ١٤٠

صاحب الحق المطلق في الاختيار المستحق للحمد والعبادة........................... ١٤٧

أدلة العظمة والسلطان الإلهي وتأكيد تقريع المشركين............................... ١٥٢

قصة قارون.................................................................. ١٥٧

١ ـ بغيه على قوم موسى واغتراره بماله......................................... ١٥٧

أضواء من التاريخ على قصة قارون......................................... ١٥٩

٢ ـ بعض مظاهر بغي قارون وكبريائه.......................................... ١٦٤

٣ ـ محل الجزاء ومقداره والعبرة من قصة قارون................................... ١٧٠

قصص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه مع قومه............................................. ١٧٣

سورة العنكبوت............................................................... ١٨١

تسميتها وموضوعها ومناسبتها لما قبلها........................................... ١٨١

مشتملات السورة............................................................. ١٨٣

اختبار الناس وجزاؤهم......................................................... ١٨٤

صلابة المكلفين ومظاهر فتنة المؤمنين وتهديد الكافرين والمنافقين...................... ١٩٧

قصة نوح عليه‌السلام مع قومه....................................................... ٢٠٧

قصة إبراهيم عليه‌السلام مع قومه.................................................... ٢١١

١ ـ الأدلة على الأصول الثلاثة : الوحدانية والرسالة والبعث...................... ٢١١

٢٥٣

٢ ـ جواب قوم إبراهيم له وإيمان لوط به وتعداد النعم عليه....................... ٢٢٠

قصة لوط عليه‌السلام مع قومه....................................................... ٢٢٨

قصص شعيب وهود وصالح وموسى عليهم‌السلام مع أقوامهم............................. ٢٣٥

قصة شعيب............................................................... ٢٣٨

قصة هود وصالح........................................................... ٢٣٨

قصة موسى............................................................... ٢٣٩

أنواع عقوبات الأقوام المكذبين.................................................. ٢٤٠

تشبيه حال عبدة الأصنام بحال العنكبوت........................................ ٢٤٢

فائدة خلق السموات والأرض وتلاوة القرآن وإقامة الصلاة.......................... ٢٤٦

٢٥٤