التفسير المنير - ج ٢٠

الدكتور وهبة الزحيلي

الذي ، في موضع نصب لأنها اسم (إن) وصلته (اتَّخَذْتُمْ) والعائد محذوف تقديره : اتخذتموهم ، وهو المفعول الأول ل (اتَّخَذْتُمْ) والمفعول الثاني (أَوْثاناً) و (مَوَدَّةَ) مرفوع خبر (إن). ومن نون (مَوَدَّةَ) نصب (بَيْنِكُمْ) على الظرف ، والعامل فيه (مَوَدَّةَ). و (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ظرف للمودة أيضا. وجاز أن يتعلق بها ظرفان لاختلافهما ؛ لأن أحدهما ظرف مكان والآخر ظرف زمان.

(وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ فِي الْآخِرَةِ) جار ومجرور متعلق بمحذوف مقدر ، أي : وإنه صالح في الآخرة لمن الصالحين ، أو متعلق ب (الصَّالِحِينَ) على رأي بعضهم ، فإنه نزلها منزلة الألف واللام التي للتعريف ، لا بمعنى التي للذين.

البلاغة :

(أَوْ حَرِّقُوهُ) على طريقة أسلوب الإيجاز ، أي حرقوه في النار ، وكذا (فَأَنْجاهُ اللهُ ..)

أي ففعلوا فأنجاه الله من النار.

المفردات اللغوية :

(جَوابَ قَوْمِهِ) قوم إبراهيم له. (إِلَّا أَنْ قالُوا) كان ذلك قول بعضهم ، لكن لما قيل فيهم أو رضي به الباقون ، أسند إلى كلهم. (حَرِّقُوهُ) أحرقوه. (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) أي فقذفوه في النار ، فأنجاه الله منها ، بأن جعلها عليه بردا وسلاما. (إِنَّ فِي ذلِكَ) في إنجائه منها. (لَآياتٍ) هي حفظه من أذى النار ، وإخمادها مع عظمها في زمان يسير ، وإنشاء روض مكانها. (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يصدقون بتوحيد الله وقدرته ؛ لأنهم المنتفعون بها.

(مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ) أي لتتواددوا بينكم وتتواصلوا في اللقاء على عبادتها. (يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) يتبرأ القادة من الأتباع. (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي يلعن الأتباع القادة. (وَمَأْواكُمُ) مصيركم جميعا. (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يخلصونكم منها.

(فَآمَنَ لَهُ) صدق بإبراهيم (لُوطٌ) هو ابن أخي إبراهيم واسمه هاران ، أو ابن أخته وأول من آمن به. (وَقالَ) إبراهيم. (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) أي مهاجر من قومي إلى حيث أمرني ربي بالهجرة ، فهجر قومه وهاجر من سواد العراق إلى الشام فنزل فلسطين ، ونزل لوط سدوم. (الْعَزِيزُ) في ملكه الذي يمنعني من أعدائي. (الْحَكِيمُ) في صنعه الذي لا يأمرني إلا بما فيه صلاحي. (إِسْحاقَ) هو الابن الثاني لإبراهيم بعد إسماعيل. (وَيَعْقُوبَ) ابن إسحاق وحفيد إبراهيم فكان نافلة بعد أن أيس من الولادة من عجوز عقيم (عاقر). (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ) أي فكل الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته. (وَالْكِتابَ) يريد به الجنس ، ليتناول الكتب الأربعة ، وهي : التوراة والإنجيل والزبور والفرقان.

٢٢١

(أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) الرزق الواسع ، والمنزل المريح ، والزوجة الصالحة ، والثناء الجميل بين أهل الأديان جميعا. (لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي في زمرة الكاملين في الصلاح. والصالح لغة : الباقي على ما ينبغي ، يقال : طعام صالح ، أي باق على حال حسنة.

التفسير والبيان :

بعد أن أقام إبراهيم عليه‌السلام لقومه الأدلة والبراهين على توحيد الله والرسالة والبعث أو الحشر ، وأمرهم بعبادة الله تعالى ، وندد بعبادة الأوثان ، لم يجدوا جوابا له على كفرهم وعنادهم ومكابرتهم إلا اللجوء إلى استعمال القوة ، كما هو شأن المحجوج المغلوب على أمره المعتمد على جاهه وقوة ملكه ، وهذا ما حكاه تعالى عنهم قائلا :

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا : اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ ، فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي لم يجد قوم إبراهيم جوابا له على مطالبتهم بعبادة الله واتقاء عذابه إلا أن قال كبراؤهم ورؤساؤهم : اقتلوه ، أو أحرقوه بالنار تحريقا شديدا ، فأضرموا النار وألقوه فيها ، فأنجاه الله وسلمه منها ، وجعلها بردا وسلاما عليه ، لحفظه له وعصمته إياه. إن في ذلك الإنجاء لإبراهيم من النار لدلالات على وجود الله وقدرته لقوم يصدقون بالله إذا ظهرت لهم الأدلة والحجج.

إنه مثل السوء ومدعاة العجب ، يدعوهم إبراهيم عليه‌السلام إلى الخير ، ويرشدهم إلى الحق والهدى ، فيلقى في النار للتخلص منه ، ولكن الله أكبر وأقدر من كيد البشر وقوتهم ، فإنه جعل النار المحرقة غير مؤثرة فيه ، وإنما صيّرها بردا وسلاما عليه.

وقد وصف الله في آيات أخرى هذا التقابل بين الفعلين ، فقال : (قالُوا : ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ، فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً ، فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ)

٢٢٢

[الصافات ٣٧ / ٩٧ ـ ٩٨] ، وقال سبحانه : (قالُوا : حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ. قُلْنا : يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ، وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٦٨ ـ ٧٠].

ثم ذكر الله تعالى جواب إبراهيم لقومه بعد النجاة من النار :

(وَقالَ : إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي قال إبراهيم لقومه مقرعا لهم ، وموبخا على سوء صنيعهم بعبادة الأوثان : إنما اتخذتم هذه الأوثان لتجتمعوا على عبادتها ، ولتتواددوا بينكم ، وتقووا الصداقة والألفة بين بعضكم بعضا في حياتكم الدنيا ، كاتفاق أهل المذاهب والأهواء على رابطة بينهم تكون سبب تجمعهم وتآلفهم ، ولكن تلك الأوثان لا تعقل ولا تنفع ولا تضر ، وإنما يكون اتخاذكم هذا لتحصيل المودة لكم في الدنيا فقط.

وستكون حالهم من التنافر والتباعد في الآخرة نقيض ذلك ، فقال تعالى :

(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ، وَمَأْواكُمُ النَّارُ ، وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي ثم تنعكس هذه الحال يوم القيامة ، فتنقلب هذه الصداقة والمودة بغضا وحقدا وعداوة ، فيتبرأ القادة من الأتباع ، ويلعن الأتباع القادة ، كما قال تعالى : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) [الأعراف ٧ / ٣٨] ، وقال سبحانه : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف ٤٣ / ٦٧] ثم يكون مصيركم إلى النار ، ولن تجدوا حينئذ ناصرا ينصركم ، ولا منقذا ينقذكم من عذاب الله تعالى.

هذا حال الكافرين ، أما المؤمنون فبخلاف ذلك ، يتصافون ويصفحون ، ويعفو بعضهم عن بعض ، كما ورد في بعض الأحاديث.

ثم ذكر تعالى أنه لم يؤمن بإبراهيم ولم يصدق بما رأى إلا لوط فقال : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ، وَقالَ : إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي فلما نجا إبراهيم

٢٢٣

سليما من النار آمن به لوط ، وصدق بنبوته ، ولوط : هو ابن أخي إبراهيم ، وهو لوط بن هاران بن آزر ، ولم يؤمن به من قومه سواه وسارّة امرأة إبراهيم الخليل.

وقال إبراهيم : إني مهاجر من دياركم ، متجه إلى حيث أمرني ربي بالهجرة ، وقد هاجر من سواد العراق إلى حرّان ، ثم إلى فلسطين ونزل لوط بلدة سدوم.

وعلة الهجرة هي كما قال :

إن ربي هو العزيز في ملكه الغالب على أمره ، الذي يمنعني من أعدائي ، وينصرني عليهم ، الحكيم في تدبير شؤون خلقه ، فلا يأمر إلا بما فيه الصلاح.

فقوله : (وَقالَ : إِنِّي مُهاجِرٌ) يعود الضمير إلى إبراهيم ؛ لأنه المكني عنه بقوله : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) أي من قومه. ويحتمل عود الضمير إلى (لُوطٌ) لأنه أقرب المذكورين.

ثم عدّد تعالى نعمه على إبراهيم في الدنيا والآخرة لإخلاصه لربه ، فقال :

١ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أي ووهبنا إلى إبراهيم بعد إسماعيل في حال الكبر إسحاق ، وكذا من نسله يعقوب نافلة حفيدا له ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ، وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) [مريم ١٩ / ٤٩] ، وقال سبحانه : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) [الأنبياء ٢١ / ٧٢].

وفي الصحيحين : «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام».

٢ ـ (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) أي وجعلنا في ذرية إبراهيم النبوة ، فكانت الأنبياء كلها بعد إبراهيم من ذريته ، ولم يوجد نبي بعده إلا وهو من سلالته ، فجميع أنبياء بني إسرائيل من سلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ،

٢٢٤

حتى كان آخرهم عيسى بن مريم ، مبشرا بالنبي العربي الهاشمي خاتم الرسل على الإطلاق.

وآتيناه الكتاب ، فكانت التوراة منزلة على موسى ، والزبور على داود ، والإنجيل على عيسى ، والقرآن على محمد ، وكلهم من نسله.

٣ ـ (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) بكثرة الذرية والأموال والزوجة الصالحة والثناء الحسن ، فجميع أهل الأديان يحبونه ويتولونه ، قال عكرمة : أهل الملل كلها تدعيه وتقول : هو منا.

٤ ـ (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي وإنه يحشر في الآخرة في زمرة الكاملين في الصلاح الذين لهم الدرجات العلا.

وبهذا جمع الله تعالى له بين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستدل بالآيات على ما يأتي :

١ ـ أثبت إبراهيم الخليل عليه‌السلام لقومه أصول الدين الثلاثة : وهي وحدانية الله ، وصحة الرسالة أو النبوة ، والبعث والحشر ، وأقام البرهان الدامغ على ذلك ، فكان جوابهم النابع من تمكن الكفر والعناد والمكابرة هو : (اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) ثم اتفقوا على تحريقه ، وهو قتل بالنار أشد نكاية وتعذيبا وتشفيا من القتل العادي.

٢ ـ حشد قوم إبراهيم الجموع العظيمة ، وجمعوا الأحطاب الكبيرة ، ثم أضرموا فيها النار ، فارتفع لهبها إلى عنان السماء ، ولم توقد نار قط أعظم منها ، ثم عمدوا إلى إبراهيم ، فكتفوه وألقوه في كفة المنجنيق ، ثم قذفوه فيها ، فأنجاه الله وسلّمه ،

٢٢٥

وجعلها عليه بردا وسلاما ، كما قال تعالى : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) [الأنبياء ٢١ / ٦٩].

أما كيفية استبراد النار فهو أمر معجز ، والمعجز خارق للعادة ، والله قادر على كل شيء ، بسلب خاصية الحرارة عن النار.

لهذا وأمثاله جعله الله للناس إماما ؛ فإنه بذل نفسه للرحمن ، وجسده للنيران ، وسخا بولده للقربان ، وجعل ماله للضيفان ، فاجتمع على محبته جميع أهل الأديان.

٣ ـ إن في إنجاء إبراهيم من النار العظيمة ، حتى لم تحرقه بعد ما ألقي فيها ، لآيات للمؤمنين بالله ورسله. وجمع الآيات هنا ؛ لأن الإنجاء من النار ، وجعلها بردا وسلاما ، ولم يحترق بالنار إلا الحبل الذي أوثقوه به ، وغير ذلك ، مجموع آيات. وخص الآيات بالمؤمنين ؛ لأنه لا يصدق بذلك إلا المؤمنون ، وفيه بشارة للمؤمنين بأن الله يبرد عليهم النار يوم القيامة.

أما في قصة نوح فقال : (وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) للدلالة على اتخاذ السفينة وقت الحاجة وصونها عن المهلكات ، فهي آية واحدة ، وجعلها للعالمين علامة ظاهرة لبقائها أعواما حتى مرّ عليها الناس ، ورأوها ، فعلم بها كل أحد ، وليس المؤمنين فقط.

٤ ـ بالرغم من إلقاء إبراهيم في النار ، عاد إلى لوم الكفار وبيان فساد ما هم عليه وخطئه ، وتمسكهم بالتقليد الأعمى ، فقال : إنكم اتخذتم عبادة الأوثان لإيجاد نوع من التوادد والترابط والتواصل فيما بينكم ، كالتوافق الذي يحدث بين أهل مذهب معين.

غير أن تلك الروابط واهية غير موثقة ، فهي رابطة في الدنيا فقط ، ثم تنقطع وتتلاشى في عالم الآخرة ، فيقع التباغض والتلاعن والتعادي بينكم

٢٢٦

يوم القيامة ، فتتبرأ الأوثان من عبّادها ، والرؤساء من الأتباع ، ويلعن الأتباع رؤساءهم ، ويكون مأوى الجميع نار جهنم.

٥ ـ ليست نار الآخرة كالنار التي أنجى الله منها إبراهيم ونصره ، فإن الكفار في النار ، وليس لهم شافع ولا ناصر دافع ، ينصرهم ويمنع عنهم عذاب الله تعالى.

٦ ـ لوط عليه‌السلام أوّل من صدق إبراهيم عليه‌السلام حين رأى النار عليه بردا وسلاما ، وتلك معجزة. قال ابن إسحاق : آمن لوط بإبراهيم ، وكان ابن أخته ، وآمنت به سارّة ، وكانت بنت عمه.

٧ ـ بعد أن بالغ إبراهيم في الإرشاد ولم يهتد قومه ، وحصل اليأس الكلي بعد وجود الآية الكبرى ، وهي نجاته من النار ، ولم يؤمنوا ، وجبت المهاجرة ؛ لأن الهادي إذا هدى قومه ولم ينتفعوا ، فبقاؤه فيهم عبث ولا جدوى فيه ، لذا هاجر من أرض بابل ونزل بفلسطين ، وهو ابن خمس وسبعين سنة ، ومعه ابن أخيه لوط بن هاران بن تارخ ، وامرأته سارّة. وهو أول من هاجر من أرض الكفر.

وكان عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ـ كما روى البيهقي ـ أول من هاجر بأهله إلى الحبشة في الهجرة الأولى ، بعد لوط.

٨ ـ أكرم الله تعالى إبراهيم الخليل بعد هجرته ، فمنّ عليه بالأولاد ، فوهب له إسحاق ولدا ، ويعقوب ولد ولد ، من بعد إسماعيل ، وجعل في ذريته النبوة ، والكتاب ، فلم يبعث الله نبيّا بعد إبراهيم إلا من صلبه ، وأنزل الكتب الأربعة المعروفة على أناس من ذريته ، فالتوراة أنزلت على موسى من ولد إبراهيم ، والإنجيل على عيسى من ولده ، والزبور على داود من ولد إسحاق بن إبراهيم ، والقرآن (أو الفرقان) على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نسل إسماعيل بن إبراهيم ، وآتاه أجره في الدنيا باجتماع أهل الملل عليه ، وجعله في الآخرة في زمرة الصالحين.

وكل هذا حثّ على الاقتداء بإبراهيم عليه‌السلام في الصبر على الدين الحق.

٢٢٧

قصة لوط عليه‌السلام مع قومه

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥))

الإعراب :

(وَلُوطاً إِذْ قالَ) إما منصوب بالعطف على هاء (فَأَنْجَيْناهُ) أو عطفا على نوح في قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) أي وأرسلنا لوطا ، أو منصوب بفعل مقدر ، أي واذكر لوطا ، وعامل (إِذْ) هو العامل في لوط والأولى عطفه على (إِبْراهِيمَ).

(إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) كاف (مُنَجُّوكَ) في موضع جرّ بالإضافة. و (أَهْلَكَ) منصوب بفعل مقدر ، أي وننجي أهلك.

٢٢٨

البلاغة :

(إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) تأكيد بعد مؤكدات ، وإطناب بتكرار فعل تأتون لتقبيح عملهم وتوبيخهم.

(ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) استهزاء وسخرية ، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما سبق ، أي إن كنت صادقا فائتنا به.

(رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) التنكير لإفادة التهويل ، أي عذابا عظيما شديدا.

(الْعالَمِينَ الصَّادِقِينَ ظالِمِينَ الْغابِرِينَ) وكذا (يَفْسُقُونَ يَعْقِلُونَ) توافق الفواصل.

المفردات اللغوية :

(وَلُوطاً) أي واذكر (الْفاحِشَةَ) الفعلة القبيحة التي تنفر منها النفوس الكريمة ، وهي إتيان أدبار الرجال. (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) استئناف مقرر لفاحشتها من حيث إنها مما اشمأزت منه الطباع السليمة. (الْعالَمِينَ) الإنس والجن. (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) الطريق على المارة ، بالقتل وأخذ المال أو بالفاحشة ، حتى انقطعت الطرق. (فِي نادِيكُمُ) مجالسكم الخاصة أو متحدثكم. (الْمُنْكَرَ) الأمر المخالف للشرع ، المنفر للطبع السليم كاللواط وأنواع الفحش. (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في استقباح الفاحشة وأن العذاب نازل بفاعليه.

(انْصُرْنِي) في إنزال العذاب. (عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) العاصين بإتيان الرجال أو بابتداع الفاحشة ، فاستجاب الله دعاءه.

(بِالْبُشْرى) بالبشارة بإسحاق ويعقوب بعده. (هذِهِ الْقَرْيَةِ) هي سدوم ، قرية لوط.

(ظالِمِينَ) كافرين. (قالُوا) أي الملائكة الرسل. (الْغابِرِينَ) الباقين في العذاب. (سِيءَ بِهِمْ) جاءته المساءة والغم بسببهم مخافة أن يقصدهم قومه بسوء. (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أي ضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ؛ لأنهم حسان الوجوه في صورة أضياف ، فخاف عليهم قومه ، فأعلموه أنهم رسل ربه. وضاق ذرعه أي قصرت طاقته أو قدرته ، وضده : طال ذرعه وذراعه ، ورحب الذراع : إذا كان قادرا على الشيء ؛ لأن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصير الذراع. (رِجْزاً) عذابا شديدا ، سمي بذلك ، لأنه يقلق المعذّب ، من قوله : ارتجز أو ارتجس أي اضطرب. (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بسبب فسقهم. (آيَةً بَيِّنَةً) ظاهرة ، وهي آثار خرابها. (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يتدبرون أو يستعملون عقولهم في الاستبصار.

٢٢٩

المناسبة :

بعد أن ذكر الله قصة إبراهيم ذكر قصة لوط عليهما‌السلام ؛ لأنه كان معاصرا له في زمن إبراهيم ، ولم يذكر في قصته هنا دعوته إلى التوحيد كسائر الأنبياء ، وإنما اقتصر على ما اختص به لوط وهو المنع من الفاحشة ، وذكر ذلك عنه في موضع آخر حيث قال : (فَاتَّقُوا اللهَ) [هود ١١ / ٧٨ ، الشعراء ٢٦ / ١٦٣] (وَاتَّقُوا اللهَ) [الحجر ١٥ / ٦٩] وكان قد أتى به إبراهيم وسبقه إليه. واختص لوط بالمنع من عمل قومه الفاحش ، فلما يئس من ردعهم وتطهرهم من فاحشتهم ، استنصر بربه ، فاستجاب له وأهلك قومه ، ونجاه مع من آمن به بسبب فحشهم وكفرهم بالله وبرسوله وقطعهم الطرق.

التفسير والبيان :

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ : إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) أي واذكر أيها الرسول لقومك للعبرة والعظة قصة نبي الله لوط عليه‌السلام حين أرسله الله إلى أهل قرية «سدوم» فأنكر عليهم صنيعهم وقبيح أعمالهم التي ابتدعوها ، وقال منكرا عليهم أو محذرا أو موبخا ومقرعا لهم : أتأتون الفعلة الفاحشة المتناهية في القبح شرعا وطبعا سليما؟!

ثم كرر الإنكار عليهم ووضح تلك الفاحشة فقال :

١ ـ (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ)؟ أي تأتون الذكران بشهوة كإتيان النساء ، ما سبقكم أحد قبلكم من بني آدم إلى هذه الفعلة.

٢ ـ (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) أي تقفون في طريق الناس ، وتتعرضون للمارة بقتلهم وأخذ أموالهم وفعل الفاحشة بهم.

٣ ـ (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) أي وتفعلون ما لا يليق من الأقوال

٢٣٠

والأفعال في مجالسكم الخاصة ، دون أن ينكر بعضكم على بعض شيئا من ذلك ، فهم ذوو أخلاق سوء. والنادي : المجلس.

روى الإمام أحمد والترمذي والطبراني والبيهقي وابن جرير وابن أبي حاتم عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) فقال : «يحذفون (١) أهل الطريق ، ويسخرون منهم ، وذلك المنكر الذي كانوا يأتونه».

وروي عن ابن عباس قال : إن قوم لوط كانت فيهم ذنوب غير الفاحشة ، منها أنهم يتظالمون فيما بينهم ، ويشتم بعضهم بعضا ، ويتضارطون في مجالسهم ، ويخذفون ، ويلعبون بالنّرد والشّطرنج ، ويلبسون المصبغات. ويتناقرون بالديكة ، ويتناطحون بالكباش ، ويطرّفون أصابعهم بالحنّاء ، وتتشبه الرجال بلباس النساء ، والنساء بلباس الرجال ، ويضربون المكوس (٢) على كل عابر ، ومع هذا كله كانوا يشركون بالله ، وهم أول من ظهر على أيديهم اللوطية والسّحاق.

وفسر مجاهد المنكر : بأنه الصفير ، ولعب الحمام ، والجلاهق (٣) والسؤال في المجلس ، وحل أزرار القباء.

فكان جوابهم :

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا : ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي فما كان جوابهم بعد نهيهم عن الفاحشة وغيرها إلا قولهم بسبب كفرهم واستهزائهم وعنادهم : عجل علينا العذاب الذي توعدنا به إن كنت صادقا فيما تهددنا به. وهذا كان في بداية وعظه لهم ، فلما ألح عليهم في الإنكار قالوا كما

__________________

(١) الحذف أو الخذف : الرمي بالحصى.

(٢) رسوم المرور الظالمة.

(٣) كعلابط البندق الذي يرمى به.

٢٣١

جاء في آية أخرى : (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ، إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [الأعراف ٧ / ٨٢].

ولما يئس لوط من استجابة قومه طلب من الله النصرة عليهم فقال :

(قالَ : رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) أي قال لوط داعيا : رب انصرني على هؤلاء القوم المفسدين في الأرض بابتداع الفاحشة.

ومن المعلوم أنه ما طلب نبي من الأنبياء هلاك قوم إلا إذا علم أن عدمهم خير من وجودهم ، كما قال نوح : (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ ، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [نوح ٧١ / ٢٧] أي لا مصلحة ولا خير يرتجى فيهم لا حالا ، ولا مآلا في المستقبل.

فاستجاب الله دعاءه ، وبعث ملائكة العذاب لنصرته :

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى ، قالُوا : إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ ، إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) أي بعث الله ملائكة ، فمروا على إبراهيم عليه‌السلام في هيئة أضياف ، فجاءهم بما ينبغي للأضياف ، فلما رأى أنه لا رغبة لهم في الطعام خاف منهم ، فشرعوا يؤانسونه ويبشرونه بولد صالح من امرأته «سارّة» وهو إسحاق ، ومن بعده يعقوب ، ثم أخبروه بأنهم أرسلوا لهلاك قوم لوط ؛ لأنهم قوم ظالمون أنفسهم بكفرهم وتكذيبهم رسولهم وتماديهم في الفساد والفحش.

فأخذ إبراهيم يدافع ، لعلهم يمهلونهم ، ولعل الله يهديهم ، وأشفق على ابن أخيه لوط ، فقال :

(قالَ : إِنَّ فِيها لُوطاً ، قالُوا : نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها ، لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ ، كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أي قال إبراهيم مشفقا على لوط : إن في القرية لوطا ، وهو غير ظالم ، وهو رسول ، فقالت الملائكة الرسل : نحن أعلم منك بمن

٢٣٢

فيها من المؤمنين والكافرين ، وإنا لننجي لوطا وأهله وأتباعه المؤمنين به من الهلاك إلا امرأته ، فهي من الهالكين ؛ لأنها كانت تمالئ القوم على كفرهم وبغيهم وخبائثهم.

ثم قدموا على لوط فدخلوا عليه في صورة شبان حسان ، فلما رآهم ضاق بهم ، كما حكى تعالى :

(وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ ، وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ، وَقالُوا : لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ ، إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أي ولما جاءت الملائكة الرسل إلى لوط على صورة بشر حسان الوجوه ، اغتم بأمرهم ، وخاف عليهم من قومه ، فقالوا له معرضين بحالهم : لا تخف علينا ، ولا تحزن بما نفعله بقومك الأخباث ، وإنا جئنا لتعذيبهم ، وإنا منجّوك وأتباعك المؤمنين من العذاب ، إلا امرأتك ، فإنها من الهالكين ؛ لتواطئها معهم على الفساد ، فكانت تدلهم على ضيوفه ، وكانت تدافع عنهم ، وترضى بأفعالهم.

ثم وصفوا العذاب بقولهم :

(إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي إننا سننزل على أهل قرية «سدوم» عذابا شديدا عظيما من السماء ، تضطرب له نفوسهم ، بسبب فسقهم.

وكان العذاب هو الزلزلة التي خسفت بهم الأرض ، وصار مكان قريتهم بحيرة لوط (البحر الميت) فاقتلع جبريل عليه‌السلام قراهم من قرار الأرض ، ثم رفعها إلى عنان السماء ، ثم قلبها عليهم ، وأرسل الله الحمم وحجارة من سجيل منضود ، مسوّمة عند ربك ، وما هي من الظالمين ببعيد ، وهم من أشد الناس عذابا يوم المعاد ، ولهذا قال تعالى :

(وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي ولقد تركنا من القرية

٢٣٣

بعض آثار منازلهم الخربة أو أخبارهم علامة ظاهرة واضحة ، وعبرة أو عظة لقوم يتدبرون ويستبصرون بعقولهم الأمور ، كما قال تعالى : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الصافات ٣٧ / ١٣٧ ـ ١٣٨].

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآية ما يأتي :

١ ـ أنكر نبي الله لوط على قومه الذين أرسل إليهم في «سدوم» إنكارا شديدا مع التوبيخ والتحذير فعل ثلاثة أمور : ارتكاب الفاحشة (اللواط) وقطع الطريق لأخذ الأموال والفاحشة والاستغناء عن النساء ، وفعل المخازي في مجالسهم الخاصة.

٢ ـ لقد قابل القوم هذا الإنكار بالاستهزاء والعناد والتكذيب واللجاج ، فطلبوا إنزال العذاب الذي يهددهم به إن كان صادقا فيما يقول ظنا منهم أن ذلك لا يكون ولا يقدر عليه ، ثم هددوه في آية أخرى بالطرد والإخراج من قريتهم.

٣ ـ تدل الآية على وجوب الحد في اللواطة ؛ لأنها فاحشة كالزنى ، وقد قال الله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) [الإسراء ١٧ / ٣٢] واشتراكهما في الفاحشة يناسب الزجر عنه ، فما شرع زاجرا في الزنى ، يشرع زاجرا في اللواطة. وهذا وإن كان قياسا إلا أن علة القياس مستفادة من الآية ، فتكون منصوصا عليها ، والقياس المنصوص العلة متفق على العمل به.

٤ ـ ما طلب نبي هلاك قوم إلا إذا يئس من هدايتهم ، وعلم أن عدمهم خير من وجودهم ، لذا دعا لوط عليه‌السلام ربه أن ينصره على القوم المفسدين ، فأجاب الله دعاءه.

٥ ـ إذا نزل العذاب بقوم نجى الله الصالحين المؤمنين منهم كما نجى لوطا وأهله

٢٣٤

الذين اتبعوه ، وأهلك الظالمين المفسدين مرتكبي الفاحشة كما فعل بقوم لوط وامرأته التي كانت راضية بأفعالهم ، وتدلهم على ضيوف لوط ، فكان حكمها حكمهم ؛ لأن الدال على الشر كفاعله ، كما أن الدال على الخير كفاعله.

٦ ـ ترك الله تعالى بعض آثار منازلهم الخربة للعبرة والعظة لمن يتأمل من العقلاء بمصير الظالمين ومآل الكافرين في الدنيا ، ولعذاب الله أشد وأنكى في الآخرة.

٧ ـ اشتملت مهمة الملائكة الرسل في ضيافة إبراهيم أمرين :

الأول ـ البشارة التي هي أثر الرحمة ، والإنذار بالإهلاك الذي هو أثر الغضب ، ورحمته تعالى سبقت غضبه ، فقدم البشارة على الإنذار.

الثاني ـ لم يعلل الملائكة البشرى بشيء ، فلم يقولوا مثلا : لأنك رسول مخلص أو لأنك مؤمن ، أو لأنك عادل ، وعللوا الإهلاك بقولهم : (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) لأن صاحب الفضل المطلق لا يكون فضله بعوض ، والعادل لا يكون عذابه إلا على جرم.

قصص شعيب وهود وصالح وموسى عليهم‌السلام مع أقوامهم

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ

٢٣٥

السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠))

الإعراب :

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً مَدْيَنَ) : ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث. و (شُعَيْباً) : منصوب بفعل مقدر ، تقديره : أرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا. (مُفْسِدِينَ) حال مؤكدة لعاملها.

(وَعاداً وَثَمُودَ) أي وأهلكنا. (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) أي تبين لكم بعض (الَّذِينَ) في آية (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أو منصوب بفعل مقدر ، تقديره : وأهلكنا عادا وثمودا ، بدلالة : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) لأنه في معنى الإهلاك ، وكلمة ثمودا هنا مصروف لأنه اسم للحي ، وورد في مكان آخر ممنوعا من الصرف ؛ لأنه بمعنى القبيلة.

(وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) كلها أسماء منصوبة بالعطف على (عاداً) في جميع الأوجه التي ذكرت ، ولا ينصرف للعجمة والتعريف (العلمية).

البلاغة :

(فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ..) تقديم المفعول للاهتمام به ، وفي الآية إجمال ثم تفصيل.

المفردات اللغوية :

(وَإِلى مَدْيَنَ) أي وأرسلنا إلى مدين ، وأصلها : أبو القبيلة. (وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) افعلوا ما ترجون به ثواب اليوم الآخر ، فأقيم المسبب مقام السبب. وقيل : إنه من الرجاء بمعنى

٢٣٦

الخوف ، أي واخشوا يوم القيامة. (وَلا تَعْثَوْا) لا تفسدوا من عثي : أفسد ، ومفسدين حال مؤكدة لعاملها. (الرَّجْفَةُ) الزلزلة الشديدة ، وقيل : صيحة جبريل ؛ لأن القلوب ترجف بها. (جاثِمِينَ) باركين على الركب ميتين ، أي ماتوا.

(وَعاداً وَثَمُودَ) أي وأهلكنا. (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) أي تبين لكم بعض مساكنهم ، أو إهلاكهم من جهة مساكنهم بالحجر واليمن إذا نظرتم إليها عند مروركم بها ، فكانت قبيلة عاد تسكن الأحقاف قرب اليمن ، وثمود تسكن الحجر قرب وادي القرى. (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) من الكفر والمعاصي. (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) السوي ، سبيل الحق الذي بيّن الرسل لهم. (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) ذوي بصائر ، متمكنين من النظر والاستبصار ، ولكنهم لم يفعلوا.

(وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) أي وأهلكنا ، وتقديم قارون لشرف نسبه (بِالْبَيِّناتِ) الحجج الواضحات. (سابِقِينَ) فائتين عذابنا غير مدركين ، بل أدركهم أمر الله ، مأخوذ من سبق طالبه : إذا فاته.

(فَكُلًّا) من المذكورين. (أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) أي عاقبنا بذنبه. (حاصِباً) ريحا عاصفا فيها حصباء ، كقوم لوط ، يقال : حصبه يحصبه : إذا رماه بالحصباء : وهي الحجارة الصغيرة. (الصَّيْحَةُ) الصرخة الشديدة ، كمدين وثمود. (مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) كقارون. (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) كقوم نوح وفرعون وقومه. (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) فيعذبهم بغير ذنب. (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بارتكاب الذنب والتعرض للعذاب.

المناسبة :

بعد أن قص الله تعالى قصص نوح وإبراهيم ولوط ، أردفه بقصص شعيب وهود وصالح وموسى بإيجاز ، لفائدة العظة والاعتبار بأحوال هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم.

ويلاحظ أن هذه القصص هنا ذكر فيها القوم جريا على الأصل أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم ، ولأن قوم شعيب وهود وصالح كان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس ، فجرى الكلام على أصله ، مثلما ذكر قارون وفرعون وهامان ؛ لاشتهارهم بالطغيان. أما قوم نوح وإبراهيم ولوط فلم يكن لهم اسم

٢٣٧

خاص ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها ، فعرفوا بالنبي فقيل : قوم نوح وقوم لوط.

التفسير والبيان :

قصة شعيب :

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ : يا قَوْمِ ، اعْبُدُوا اللهَ ، وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي وأرسلنا إلى مدين نبي الله شعيبا الذي كان من أهل مدين ، فأمرهم بعبادة الله وحده ، وإخلاص العبادة له ، وفعل ما يرجون به ثواب اليوم الآخر ، والخوف من بأس الله ونقمته يوم القيامة ، ونهاهم عن الإفساد في الأرض ، والبغي على أهلها ، بإنقاص المكيال والميزان ، وقطع الطريق على الناس ، وغير ذلك من المعاصي التي تجب التوبة منها ، وأخطرها الكفر بالله ورسوله ، كما قال :

(فَكَذَّبُوهُ ، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) أي فقابلوه بالتكذيب والعناد ، والإصرار على الكفر والعصيان ، فأهلكهم الله بزلزلة (رجفة) عظيمة ، قوضت أركان ديارهم ، وصيحة هزت جنبات نفوسهم ، وعذاب يوم الظلة الذي أزهق الأرواح من مستقرها ، إنه كان عذاب يوم عظيم ، أدى إلى إماتتهم ، فأصبحوا في ديارهم ميتين لا حراك بهم ، ألقي بعضهم على بعض.

وقد تقدم بيان قصتهم في سور : الأعراف ، وهود ، والشعراء.

قصة هود وصالح :

(وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ، وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) أي وأهلكنا عادا قوم هود عليه‌السلام

٢٣٨

الذين كانوا يسكنون الأحقاف ، وهي قرية من حضرموت في بلاد اليمن ، وأهلكنا ثمود قوم صالح عليه‌السلام الذين كانوا يسكنون الحجر قريبا من وادي القرى ، بين الحجاز والشام ، ومدائن صالح ظاهرة إلى اليوم ، وكانت العرب تعرف مساكنهم جيدا ، وتمر عليهم كثيرا.

فأنتم يا أهل مكة ويا مشركي العرب قد تبين لكم إهلاكهم من آثار مساكنهم ، واطلعتم على معالم عذابهم ، فإن الشيطان قد زين لهم أعمالهم من عبادة غير الله ، وكفرهم بربهم ، واقترافهم المعاصي ، وصدهم الناس عن الدين الحق والسبيل الأقوم ، وكانوا عقلاء متمكنين من النظر والاستبصار ، فلا عذر لهم في ترك الإيمان بربهم ، إلا أنهم لم ينتفعوا بطاقات فكرهم ونظرهم في عواقب الأمور.

أفلا يكون جديرا بكم أن تتعظوا بهؤلاء ، فالعاقل من اتعظ بغيره؟!

قصة موسى :

(وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ، فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ ، وَما كانُوا سابِقِينَ) أي وأهلكنا أيضا قارون صاحب الأموال الوفيرة والكنوز العظيمة ، وفرعون ملك مصر في زمن موسى ، ووزيره هامان. وكان موسى قد جاءهم من عند ربه بالحجج الواضحات الدالة على صدق رسالته ، فاستكبروا في الأرض وأبوا تصديقه والإيمان به ، وكذبوه وكفروا بالله تعالى وبرسوله ، وكانوا خاطئين آثمين عالين مفسدين ، ولكنهم لم يكونوا فائتين الله ، ولا هاربين من عذابه ، بل أدركهم أمر الله وبطشه ؛ فإنه القادر القاهر العزيز الغالب.

٢٣٩

أنواع عقوبات الأقوام المكذبين :

(فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا ، وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي فلقي كل قوم ما يناسبه من العقاب ، وأهلكهم الله سبب تكذيبهم الرسل ، وكانت عقوباتهم أربعة أنواع :

١ ـ الريح العاصفة : أرسل الله على بعضهم كقوم عاد حاصبا ، أي ريحا صرصرا باردة عاتية شديدة الهبوب جدا ، تحمل الحصباء (الحجارة الصغيرة) فتلقى عليهم ، وتقتلعهم من الأرض ، وترفعهم إلى عنان السماء ، ثم تصرعهم على الأرض ، فيصبحون جثثا هامدة ، وذلك لكفرهم وقولهم : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت ٤١ / ١٥]؟!

٢ ـ الصيحة : وأرسل الله على قوم ثمود الصيحة (أو الرجفة) حين أصروا على كفرهم فلم يؤمنوا ، واستمروا على طغيانهم ، وهددوا نبي الله صالحا عليه‌السلام ومن آمن معه وتوعدهم بالإخراج والرجم ، فجاءتهم صيحة أخمدت أصواتهم وحركاتهم ، ومثلهم أهل مدين.

٣ ـ الخسف : عاقب الله قارون الذي طغى وبغى ، وعتا وعصا الرب الأعلى ، وتكبر وتجبر واختال في مشيته ، فخسف به وبداره الأرض ، ليكون عبرة لكل عات جبار.

٤ ـ الإغراق : أغرق الله قوم نوح بالطوفان لكفرهم وعبادتهم الأصنام ، كما أغرق فرعون وهامان وجنودهما في صبيحة يوم واحد ، فلم ينج منهم أحد.

وكل عقوبة مما ذكر كانت جزاء وفاقا على ظلمهم وآثامهم ، وليس ظلما لهم ، كما قال تعالى :

٢٤٠