التفسير المنير - ج ٢٠

الدكتور وهبة الزحيلي

التفسير والبيان :

تشتمل الآيات على موضوعات ثلاثة : التمسك بالتوحيد ولو بمخالفة أمر الأبوين رغم الأمر بالإحسان إليهما ، وأقسام المكلفين الثلاثة ، وبعض مظاهر الفتنة عن الدين.

الموضوع الأول :

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً ، وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، فَلا تُطِعْهُما ، إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ، فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي لقد أمرنا العباد بالإحسان إلى الوالدين ببرهما قولا وفعلا ؛ لأنهما سبب وجوده ، كما قال تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما ، فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما ، وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ، وَقُلْ : رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) [الإسراء ١٧ / ٢٣ ـ ٢٤]. ونكّر كلمة (حُسْناً) ليدل على الكمال.

ومع هذه الوصية بالرأفة والرحمة والإحسان إليهما في مقابلة إحسانهما ، فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق ، فإنه وإن حرصا على أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين ، فلا تطعهما في ذلك ، في دعوتهما إلى الاعتقاد فيما ليس معلوما لك ؛ إذ كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». وإذا كان لا يصح اتباع ما ليس معلوما ثبوته ، فلا يجوز اتباع ما علم بطلانه بالأولى ، وهذا دليل على أن متابعتهم في الكفر لا تجوز.

والسبب مرجعكم جميعا إلى يوم القيامة ، المؤمن والكافر ، والبار بوالديه والعاق لهما ، فأجازيكم على أعمالكم ، المحسن بإحسانه وصبره على دينه ، والمسيء بإساءته ، لذا قال محرضا على الصلاح والإيمان :

٢٠١

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) أي وإن الذين صدقوا بالله ورسوله ، وعملوا ما أمرهم به ربهم ، فأصلحوا نفوسهم ، وأدوا فرائضهم ، لنحشرنهم في زمرة الصالحين : الأنبياء والأولياء ، لا في زمرة الوالدين المشركين ، وإن كانا أقرب الناس إليه في الدنيا ، فإن المرء إنما يحشر يوم القيامة مع من أحب حبا دينيا.

والسبب في إعادة (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بيان حال الهادي هنا بعد بيان حال المهتدي قبل ذلك ؛ بدليل أنه قال أولا : (لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) ثم قال ثانيا هنا : (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) والصالحون هم الهداة ؛ لأنه مرتبة الأنبياء ، ولهذا قال كثير من الأنبياء : (أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) كما أنه تعالى ذكر أولا حال الضال بقوله : (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) ثم هدد المضل بقوله : (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ) فصار البيان المتقدم لقسمين من المكلفين : المهتدي والضال ، والبيان المتأخر لقسمين آخرين هما : الهادي والمضل (١).

الموضوع الثاني :

حال المنافقين (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : آمَنَّا بِاللهِ ، فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) أي ويوجد فريق من الناس ، هم قوم من المكذبين المنافقين الذين يقولون بألسنتهم : صدقنا بوجود الله ووحدانيته ، ولكن لم يثبت الإيمان في قلوبهم ، بدليل أنه إذا نزلت بهم محنة وفتنة في الدنيا ، فآذاهم المشركون لأجل إيمانهم بالله ، اعتقدوا أن هذا من نقمة الله بهم ، فارتدوا عن الإسلام ، وكان ذلك صارفا لهم عن الإيمان ، كما أن عذاب الله صارف المؤمنين عن الكفر.

وهذا كقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ ، خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ، ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) [الحج ٢٢ / ١١].

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٥ / ٣٦.

٢٠٢

وهذا دليل على أن التخلي عن الإيمان سهل على المنافق ؛ لأنه لم يخالط الإيمان شغاف قلبه ، وإنما كان مجرد ترداد على اللسان ، لمصالح دنيوية ، فإذا تعرض لأدنى أنواع الأذى ، ترك الله بنفسه. أما المؤمن الصادق الإيمان فلا يتزحزح عن إيمانه القلبي مهما تعرض لأنواع الأذى ، فإن أكره على الردة أمكنه مجاراة المكره باللسان ، مع اطمئنان قلبه بالإيمان ، فلا يترك الله بحال.

قال الزجاج : ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذى في الله. روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، ولقد أخفت في الله ، وما يخاف أحد ، ولقد أتت علي ثالثة ، وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ما وارى إبط بلال».

ثم تحدث الله تعالى عن انتهازية المنافقين ونفعيتهم فقال :

(وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ : إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ، أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) أي ولئن تحقق نصر قريب من ربك يا محمد بالفتح والغنيمة لقال هؤلاء المنافقون : إنا كنا معكم ردءا وإخوانا لكم في الدين ، نناصركم على الأعداء ، كما أخبر تعالى عنهم في آية أخرى : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ، فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا : أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا : أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ، وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ) (الْمُؤْمِنِينَ؟) [النساء ٤ / ١٤١].

ثم رد الله عليهم وكشف أمرهم متوعدا مبينا لهم أنه لا تخفى عليه أوضاعهم فقال : (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) أي أوليس الله بأعلم بما في قلوبهم وما تكنه ضمائرهم من الإيمان والنفاق ، وإن أظهروا لكم الموافقة على الإيمان؟ بلى ، إن الله عالم بكل شيء ، لا تخفى عليه خافية ، يعلم السر وأخفى ، فيعلم المؤمن الحق والمنافق الكاذب.

ثم ذكر الله تعالى أنهم معرّضون للاختبار فقال :

٢٠٣

(وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) أي وليختبرن الناس بالسراء والضراء ، ليتميز المؤمنون من المنافقين ، فيعرف من يطيع الله في كل حال ، ومن يعصيه وقت الشدة ، كما قال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ، وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) [محمد ٤٧ / ٣١] وقال سبحانه بعد وقعة أحد التي كانت محك اختبار وامتحان : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ، حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران ٣ / ١٧٩].

ويلاحظ أنه تعالى حكم هنا على ما في القلب ، فيعلم إيمان المؤمن وهو التصديق ، ونفاق المنافق وهو صدقه في قوله باللسان : الله واحد ، وأما فيما سبق فقال : (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) ليميز بين المؤمن القائل بأن الله واحد ، وبين الكافر الكاذب في قوله : الله أكثر من واحد ، فكان هناك قسمان : صادق وكاذب. وهنا قسم واحد وهو صادق.

الموضوع الثالث :

محاولات فتنة المسلمين عن دينهم : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا : اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) أي وقال كفار قريش لمن آمن منهم واتبع الهدى بعد بيان أحوال الناس الثلاثة : المؤمن والكافر والمنافق : ارجعوا عن دينكم إلى ديننا واتبعوا سبيلنا ، وأما آثامكم إن كانت لكم آثام ووجد حساب فعلينا وفي رقابنا ، كما يقول القائل الجاهل : افعل هذا وخطيئتك في رقبتي. وهذه محاولة فتنة وإغراء للمسلمين على ترك دينهم بالرفق واللين. وقوله: (وَلْنَحْمِلْ) صيغة أمر من الشخص لنفسه ، ولكن يراد بها الخبر ، والمعنى شرط وجزاء ، أي إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم ، كما يقول الواحد : ليكن منك العطاء وليكن مني الدعاء ، فليس هو في الحقيقة أمر طلب.

فرد الله عليهم تكذيبا لهم :

٢٠٤

(وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ ؛ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي وإنهم لا يتحملون شيئا من ذنوبهم وأوزارهم ، وإنهم لكاذبون فيما قالوه : إنهم يحملون عنهم الخطايا ، فهم لا يحملون شيئا ؛ لأنه لا يحمل أحد وزر أحد ، كما قال تعالى : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) [فاطر ٣٥ / ١٨] وقال سبحانه : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ، يُبَصَّرُونَهُمْ) [المعارج ٧٠ / ١٠ ـ ١١] وقال جل وعز : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام ٦ / ١٦٤].

ثم أخبر الله تعالى عن عاقبة هذا القول ، فقال :

(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ ، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) أي إن دعاة الكفر والضلال هؤلاء ليحملن يوم القيامة أوزار أنفسهم وأوزار غيرهم الذين أضلوهم من الناس ، من غير أن ينقص من أوزار أتباعهم شيئا ، كما قال تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل ١٦ / ٢٥] وكما جاء في الحديث الصحيح : «من دعا إلى هدى ، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة ، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة ، كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه من غير أن ينقص من آثامهم شيئا» (١)

وفي الصحيح أيضا : «ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ؛ لأنه أول من سنّ القتل» وثبت أيضا : «من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء». (٢).

وسوف يسألون يوم القيامة سؤال توبيخ وتقريع عما كانوا يكذبون

__________________

(١) رواه ابن ماجه في السنن عن أنس بن مالك.

(٢) أخرجه مسلم وغيره عن أبي هريرة.

٢٠٥

ويختلفون من البهتان في الدنيا ، كما جاء في الحديث الصحيح : «إن الرجل ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ، وقد ظلم هذا ، وأخذ مال هذا ، وأخذ من عرض هذا ، فيأخذ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإذا لم تبق له حسنة ، أخذ من سيئاتهم ، فطرح عليه».

فقه الحياة أو الأحكام :

يستدل بالآيات على ما يأتي :

١ ـ بالرغم من وجوب أو افتراض بر الأبوين اللذين كانا سببا في وجود الإنسان وتربيته والإنفاق عليه ، فإنه لا يجوز إطاعتهما فيما يدعوان الولد إلى الشرك والعصيان ؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، فلا تجوز متابعتهم في الكفر.

لذا كان قوله تعالى : (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ...) وعيدا في طاعة الوالدين في معنى الكفر ، وأنه تعالى سيجازي كل إنسان بما عمل ، المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته.

٢ ـ كرر الله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) لتحريك النفوس إلى نيل مراتب الصالحين : وهم الذين بلغوا نهاية الصلاح وأبعد غاياته ، من الأنبياء والأولياء ، وإذا وصل المؤمن إلى تلك المرتبة حظي بالثمرة المرجوة وهي الجنة.

٣ ـ ينكشف أمر النفاق وشأن المنافقين وقت المحنة ، فإذا قال المنافق : آمنت بالله ، ولم يؤمن قلبه ، ثم تعرض لأذى أو مصاب ، ارتد على عقبيه ، وترك الإسلام إلى الكفر ، جاعلا أذى الناس في الدنيا كعذاب الله في الآخرة ، وما أفسد هذا القياس؟! وتراه يجزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله ، ولا يصبر على الأذية في الله تعالى.

٢٠٦

وإذا تحقق نصر للمؤمنين بالفتح والغنائم طالب هؤلاء المرتدون بنصيب منها قائلين : (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) أيها المؤمنون ، وهم كاذبون.

فرد الله عليهم : الله أعلم بما في صدورهم منهم بأنفسهم ، فلا يخفى عليه نفاقهم ، والله يعلم المؤمن من المنافق ، ويجازي كلّا بما يستحق.

٤ ـ حاول الكفار فتنة المسلمين عن دينهم بالرفق واللين والإغراء ، ليبينوا أنهم بكثرتهم على الحق ، والمسلمون على باطل ، وأظهروا استعدادهم لتحمل أوزار المسلمين يوم القيامة ، وهم في الحقيقة والواقع كاذبون فيما يقولون ، فإنهم لا يتحملون شيئا من أوزار غيرهم.

وإنما على العكس يتحملون الإثم مضاعفا : إثم أنفسهم وإثم إضلالهم غيرهم ، فهم دعاة كفر وضلالة ، ويسألون يوم القيامة عن افترائهم بأن لا خطيئة في الكفر ، وأن لا حشر ، وأنهم يتحملون خطايا غيرهم ، ويقال لهم حينئذ : لم افتريتم ذلك؟!

قصة نوح عليه‌السلام مع قومه

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥))

الإعراب :

(فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) : (أَلْفَ سَنَةٍ) : منصوب على الظرف ، و (خَمْسِينَ عاماً) : منصوب على الاستثناء.

٢٠٧

البلاغة :

(أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) تفنن في التعبير ، فلم يقل : إلا خمسين سنة ، تحاشيا للتكرار المنافي للبلاغة ، إلا إذا كان لغرض كالتفخيم أو التهويل ، مثل : (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) [القارعة ١٠١ / ١ ـ ٢].

المفردات اللغوية :

(فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) أي مكث في قومه يدعوهم إلى توحيد الله تسع مائة وخمسين سنة ، فكذبوه. روي أنه بعث على رأس أربعين ، ودعا قومه تسع مائة وخمسين ، وعاش بعد الطوفان ستين. قال البيضاوي : ولعل اختيار هذه العبارة للدلالة على كمال العدد ، فإن تسع مائة وخمسين قد يطلق على ما يقرب منه.

(فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) طوفان الماء ، والطوفان في الأصل : اسم لما طاف بكثرة من سيل أو ظلام أو موت أو غيرها. (وَهُمْ ظالِمُونَ) بالكفر. (فَأَنْجَيْناهُ) أي نوحا. (وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) أي الذين أركبهم معه من أولاده وأتباعه المؤمنين ، وكانوا ثمانين ، أو ثمانية وسبعين ، نصفهم ذكور ونصفهم إناث. (آيَةً) عبرة. (لِلْعالَمِينَ) لمن بعدهم من الناس إن عصوا رسله ، يتعظون ويستدلون بها.

المناسبة :

بعد بيان التكليف وأقسام المكلفين ووعد المؤمن الصادق بالثواب العظيم ، ووعيد الكافر والمنافق بالعذاب الأليم ، ذكر الله تعالى قصة أطول الأنبياء عمرا نوح عليه‌السلام الذي دعا قومه إلى توحيد الله ألف سنة إلا خمسين عاما ، فلم يؤمن معه إلا قليل.

ثم أتبع ذلك بذكر قصص أنبياء آخرين : إبراهيم ، ولوط وهود وشعيب وصالح ، لبيان عاقبة الله في المكذبين من المكلفين ، وتسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيته على ما يكابده من أذى الكفرة ، وعبرة لمن يعتبر ، وتأكيدا لما في بداية السورة الكريمة من أن الابتلاء سنة الحياة.

٢٠٨

التفسير والبيان :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ، فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) أي تالله لقد أرسلنا نوحا عليه‌السلام ، وهو أول نبي أرسل ، إلى قومه الذين كانوا كفارا ، لا يؤمنون بالله ، وإنما يعبدون الأصنام ، فاستمر مقيما معهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته ، والإيمان بيوم القيامة ، فلم يؤمنوا بدعوته ، وكذبوه ، وما آمن معه منهم إلا قليل : (قالَ : رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) [نوح ٧١ / ٥ ـ ٦] (قالَ نُوحٌ : رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) [نوح ٧١ / ٢١].

(فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ ، وَهُمْ ظالِمُونَ) أي بعد هذه المدة الطويلة ، لم يفدهم البلاغ والإنذار ، فأغرقهم الله بالطوفان ، وهم ظالمون أنفسهم بالكفر ، فأنت يا محمد لا تأسف على من كفر بك من قومك ، ولا تحزن عليهم ، فإن الأمر بيد الله تعالى ، وإليه ترجع الأمور.

فإن نوحا لبث ألف سنة تقريبا في دعوة قومه إلى الإيمان بالله ، ولم يؤمن من قومه إلا قليل ، وصبر وما ضجر ، فأنت أولى بالصبر. وكان الكفار يغترون بتأخير العذاب عنهم أكثر ، ومع ذلك ما نجوا ، فلا يغتروا فإن العذاب يلحقهم.

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ ، وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) أي فأنجينا نوحا والذين آمنوا معه بركوب السفينة التي أوحى الله إليه كيفية صنعها ، ثم سارت في البحر ، حتى استقرت على جبل الجودي ، وغرق الكفار جميعا بطوفان الماء ، وجعل ربك سفينة نوح تذكرة لنعمة الله على خلقه كيف أنجاهم من الطوفان ، وعبرة وعظة يتأمل بها من يأتي بعدهم من الناس ، كيف يعاقب الله من عصوا رسله وكذبوا بأنبيائه ، كما قال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ ،

٢٠٩

لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً ، وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) [الحاقة ٦٩ / ١١ ـ ١٢]. والضمير في قوله: (جَعَلْناها) عائد إلى السفينة المذكورة.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذا عرض موجز جدا لقصة نوح مع قومه ، فصلت في مواضع أخرى كثيرة من القرآن الكريم. وقد دلت مع هذا الإيجاز على العظة المؤثرة منها ، فإنها ذكرت تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أسف على إعراض قومه عن دعوته ، فأخبره الله تعالى بأن الأنبياء قبلك ابتلوا بالكفار من أقوامهم فصبروا ، وخص نوحا بالذكر أولا ؛ لأنه أول رسول أرسل إلى الأرض ، بعد أن امتلأت كفرا ، وأنه لم يلق نبي من قومه ما لقي نوح عليه‌السلام ، كما تقدم في سورة هود.

روى ابن عساكر عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أول نبي أرسل نوح». واختلف في عمره ، قال الحسن البصري : لما أتى ملك الموت نوحا ليقبض روحه قال : يا نوح كم عشت في الدنيا؟ قال : ثلاث مائة قبل أن أبعث ، وألف سنة إلا خمسين عاما في قومي ، وثلاث مائة سنة وخمسين سنة بعد الطوفان ، قال ملك الموت : فكيف وجدت الدنيا؟ قال نوح : مثل دار لها بابان ، دخلت من هذا ، وخرجت من هذا.

وبالرغم من هذه المدة الطويلة في الدعوة إلى توحيد الله ، لم يؤمن برسالة نوح عليه‌السلام إلا فئة قليلة.

وظهر في القصة بنحو ملحوظ مصير المؤمنين ومصير الكافرين ، أما الأوائل فقد نجاهم الله في السفينة التي كان نوح قد صنعها ، فركبوا فيها ونجوا من الغرق ، وأما الكافرون المكذبون فقد أغرقهم الله جميعا ، وجعل الله السفينة أو العقوبة أو النجاة عبرة لمن اعتبر وعظة لمن اتعظ.

٢١٠

قصة إبراهيم عليه‌السلام مع قومه

ـ ١ ـ

الأدلة على الأصول الثلاثة : الوحدانية والرسالة والبعث

(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣))

الإعراب :

(وَإِبْراهِيمَ) منصوب عطفا على نوح في آية : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) أي وأرسلنا إبراهيم ، أو عطفا على هاء (فَأَنْجَيْناهُ) أو منصوب بتقدير فعل ، تقديره : واذكر إبراهيم. والعامل في (إِذْ قالَ) هو العامل في (إِبْراهِيمَ) فهو على الأول ظرف لأرسلنا.

٢١١

(إِفْكاً) إما مصدر نحو كذب ولعب وإما صفة لفعل أي خلقا ذا إفك وباطل.

(لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) يحتمل كونه مصدرا بمعنى لا يستطيعون أن يرزقوكم ، وأن يراد المرزوق ، وتنكيره للتعميم.

البلاغة :

(يُبْدِئُ) و (يُعِيدُهُ يُعَذِّبُ) و (يَرْحَمُ) بين كلّ طباق.

(إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أسلوب الإطناب للتشنيع عليهم في عبادة الأوثان.

(يَسِيرٌ) و (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) بينهما جناس ناقص غير تام.

(ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) التصريح باسم الله هنا بعد إضماره في قوله (بَدَأَ الْخَلْقَ) للدلالة على أن المقصود بيان الإعادة ، وأن من عرف بالقدرة على الإبداء يحكم له بالقدرة على الإعادة ، لأنها أهون.

المفردات اللغوية :

(وَاتَّقُوهُ) خافوا عقابه. (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) مما أنتم عليه من عبادة الأصنام. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الخير من غيره وتميزون ما هو شر مما هو خير. (أَوْثاناً) جمع وثن : وهو ما اتخذ من جص أو حجر ، والصنم : ما كان من معدن كنحاس وغيره ، والتمثال : ما هو مثال لكائن حي. (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) تقولون كذبا في تسميتها آلهة ، وادعاء شفاعتها عند الله ، وأنها شركاء لله ، وهو دليل على شرّ ما هم عليه من حيث إنه زور وباطل لا حقيقة له.

(إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) لا يقدرون أن يرزقوكم ، وهو دليل ثان على شر ما هم عليه ، من حيث إن تلك الأوثان لا تجدي شيئا. (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) اطلبوه منه ، فإنه المالك له. (وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ) متوسلين إلى مطالبكم بعبادته ، شاكرين له نعمه. (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي مستعدين للقائه بالعبادة والشكر ، فإنكم راجعون إليه.

(وَإِنْ تُكَذِّبُوا) أي تكذبوني. (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي من قبلي من الرسل ، فلم يضرهم تكذيبهم ، وإنما ضرّ أنفسهم ، حيث تسبب لما حلّ بهم من العذاب ، فكذا تكذيبكم. (إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) إلا البلاغ البيّن الذي زال معه الشك.

وهذه الآية : (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) وما بعدها إلى قوله : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) من جملة قصة إبراهيم ، ويحتمل أن يكون المذكور اعتراضا ، بذكر شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقريش وهدم مذهبهم

٢١٢

والوعيد على سوء صنيعهم ، وهو توسط بين طرفي قصة ، من حيث إن مساقها لتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والترويح عنه بأن أباه خليل الله مني بنحو ما مني به من شرك القوم وتكذيبهم ، وتشبيه حاله فيهم بحال إبراهيم في قومه.

(يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) أي يخلقهم ابتداء من مادة وغيرها. (ثُمَّ يُعِيدُهُ) يعيد الخلق بعد الموت كما بدأهم. (إِنَّ ذلِكَ) المذكور من الخلق والإعادة. (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) إذ لا يفتقر في فعله إلى شيء ، فكيف ينكرون الثاني؟ (كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) لمن كان قبلكم وأماتهم ، على اختلاف الأجناس والأحوال. (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) هي إعادة الخلق مرة أخرى ، بعد النشأة الأولى التي هي الإبداء ، فإنه والإعادة نشأتان ، من حيث إن كلّا منهما اختراع وإخراج من العدم ، فالنشأة : الخلق والإيجاد. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومنه البدء والإعادة ؛ لأن قدرته لذاته وكل الممكنات بالنسبة إلى ذاته سواء ، فيقدر على النشأة الأخرى ، كما قدر على النشأة الأولى.

(يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) تعذيبه. (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) رحمته. (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) أي تردّون بعد موتكم. (بِمُعْجِزِينَ) ربكم عن إدراككم ، أي جاعلين الله عاجزا. (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي لا تفوتونه أينما كنتم ، سواء بالتواري في الأرض أو التحصن في السماء. (مِنْ دُونِ اللهِ) غيره. (مِنْ وَلِيٍ) قريب ، أو متولي الأمر يمنعكم منه. (وَلا نَصِيرٍ) معين ، ينصركم من عذابه.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) بدلائل وحدانيته أو بكتبه. (وَلِقائِهِ) بالبعث. (يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) أي ييأسون منها يوم القيامة ، فعبر عنه بالماضي لتحقق الوقوع والمبالغة فيه. (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم بكفرهم.

المناسبة :

بعد الانتهاء من بيان قصة نوح أبي البشر الثاني عليه‌السلام ، أورد الله تعالى قصة إبراهيم عليه‌السلام أبي الأنبياء وإمام الحنفاء ، بقصد عرض نماذج من سيرة الأنبياء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليتأسى بهم ، ويسلو عما أهمه من إعراض قومه عن دعوته ، كما بيّنت.

٢١٣

التفسير والبيان :

(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ : اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي واذكر أيها الرسول لقومك حين دعا إبراهيم عليه‌السلام قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، والإخلاص له في السر والعلن ، واتقاء عذابه بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه ، فإذا فعلتم ذلك حصل لكم الخير في الدنيا والآخرة ، واندفع عنكم الشر فيهما ، إن كنتم ذوي إدراك وعلم ، تميزون به بين الخير والشر ، وتفعلون ما ينفعكم.

فقوله : (اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) معناه : أخلصوا له العبادة والخوف. ثم أقام إبراهيم لقومه دليلين على التوحيد وعلى فساد ما هم عليه ، وشر ما يسيرون عليه ، فقال :

الدليل الأول :

(إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) أي إن الأصنام التي تعبدونها من غير الله ، ما هي إلا أشياء مصنوعة من جص أو حجر ، صنعتموها بأيديكم ، فلا تضر ولا تنفع ، وإنما اختلقتم أنتم لها أسماء ، فسميتموها آلهة ، وادعيتم أنها تشفع لكم عند ربكم ، وإنما هي مخلوقة أمثالكم ، فأنتم تكذبون حين تصفونها بأنها آلهة.

فقوله : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) معناه : تختلقون الإفك أي الكذب والباطل ، بتسمية الأوثان آلهة ، وشركاء لله ، أو شفعاء إليه.

الدليل الثاني :

(إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) أي إن تلك الأوثان التي تعبدونها من غير الله ، لا تقدر أن تجلب لكم رزقا أبدا قليلا أو كثيرا ، فكيف تعبدونها؟!

٢١٤

(فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ ، وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي فاطلبوا الرزق من عند الله ، لا من عند غيره من الأوثان ونحوها ، فإن غيره لا يملك شيئا ، تدركوا ما تطلبون ، فكلوا من رزق الله ، واعبدوه وحده ، واشكروا له على ما أنعم به عليكم من مزيد الفضل ، واستعدوا للقائه ، فإليه ترجعون يوم القيامة ، وتسألون عما أنتم عليه من عبادة غيره ، ويجازي كل عامل بعمله.

ثم أقام إبراهيم دليلا على الرسالة ، فقال :

(وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي وإن تكذبوني في رسالتي ، فلا تضروني أبدا ، فإن الأمم السابقة كذبوا رسلهم ، ولكن بلغكم ما حلّ بهم من العذاب والنكال في مخالفة الرسل ، فأضروا أنفسهم بذلك ، وما المطلوب الواجب على الرسول إلا أن يبلغكم ما أمره الله تعالى به من الرسالة ، فاحرصوا لأنفسكم أن تكونوا من السعداء ، وعلى الله الحساب.

فقوله : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) معناه : لا واجب عليه إلا التبليغ ، وهو ذكر المسائل والأوامر المنزلة من عند الله ، والإبانة : وهي إقامة البرهان على ما جاء به.

وبعد بيان الأصل الأول والاستدلال عليه وهو التوحيد ، والإشارة إلى الأصل الثاني وهو الرسالة ، شرع في بيان الأصل الثالث وهو الحشر أو البعث والنشور ، وهذه الأصول الثلاثة متلازمة لا يكاد ينفصل ذكر بعضها عن بعض في البيان الإلهي ، فقال :

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي أولم يشاهدوا كيفية بدء الخلق؟ فإن الله خلق أنفسهم بعد أن لم يكونوا شيئا

٢١٥

مذكورا ، وزودهم بالقدرة الجسدية وبطاقات المعرفة من السمع والبصر والفؤاد ، فإن الذي بدأ هذا قادر على إعادته ، فإنه سهل عليه ، يسير لديه ، بل هو أهون عليه ، كما قال سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم ٣٠ / ٢٧].

وبعد إثبات المعاد بالدليل المشاهد في الأنفس ، لفت الله تعالى النظر إلى آياته في الآفاق ، فقال :

(قُلْ : سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ، ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ، إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قل يا محمد : سيروا أيها المنكرون للبعث في الأرض ، فانظروا كيف بدأ الله خلق السموات وما فيها من الكواكب النيّرة الثوابت والسيارات ، والأرضين وما فيها من جبال ومهاد ووديان وبراري وقفار ، وأشجار وأثمار ، وأنهار وبحار ، كل ذلك دال على حدوثها في أنفسها ، وعلى وجود صانعها الفاعل المختار. وذلك كقوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) [فصلت ٤١ / ٥٣] وقوله سبحانه : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ؟ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، بَلْ لا يُوقِنُونَ) [الطور ٥٢ / ٣٥ ـ ٣٦].

هذا هو المتفرد بالخلق ، وذلك دليل على وجوده ، ومن قدر على الخلق قدر على الإعادة وإنشاء النشأة الآخرة يوم القيامة ، فإن الله قدير على كل شيء ، ومنه البدء والإعادة. وقد عبر أولا بلفظ المستقبل (كَيْفَ يُبْدِئُ) للدلالة على القدرة المستمرة ، ثم عبّر بلفظ الماضي (كَيْفَ بَدَأَ) للعلم بما بدأ.

ويلاحظ أنه تعالى قال أولا (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) بصيغة الاستفهام ، ثم قال : (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) بصيغة الأمر ؛ لأن الآية الأولى إشارة إلى العلم الحدسي : وهو الحاصل من غير طلب ، والآية الثانية إشارة إلى

٢١٦

العلم الفكري الحاصل بالتفكير والطلب ، أي سيّروا فكركم في الأرض ، وأجيلوا ذهنكم في الحوادث الخارجة عن أنفسكم ، لتعلموا بدء الخلق.

ثم ذكر الله تعالى ما يكون بعد الإعادة فقال :

(يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ ، وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) أي إن الله هو الحاكم المتصرف يعذب من يشاء منكم من الكفار والعصاة ، ويرحم من يشاء من عباده فضلا منه ورحمة ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، لا معقّب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل ، فله الخلق والأمر ، وإليه تردون يوم القيامة بعد الموت مهما طال الأمد ، فيحاسب الخلائق على ما قدموا ، وحسابه حق وعدل ؛ لأنه المالك الذي لا يظلم مثقال ذرة ، كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السّنن : «إن الله لو عذّب أهل سماواته ، وأهل أرضه ، لعذبهم وهو غير ظالم لهم». وتقديم التعذيب في البيان على الرحمة ، مع أن الرحمة سابقة كما في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة : «سبقت رحمتي غضبي» لأنه ذكر الكفار أولا ، ولمناسبته التهديد السابق بقوله : (وَإِنْ تُكَذِّبُوا ..). وإعادة (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) بعد قوله : (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للدلالة على أن التعذيب والرحمة وإن تأخرا ، فلا بدّ من حصولهما ، فإن إليه الإياب وعليه الحساب ، وعنده يدخر الثواب والعقاب.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي وما أنتم أيها البشر بجاعلين الله عاجزا عن إدراككم في أرضه وسمائه ، فلا يعجزه أحد من أهل السموات والأرض ، ولا يقدر على الهرب من قضائه ، بل هو القاهر فوق عباده ، وليس لكم من غير الله ولي يلي أموركم ويحفظكم ويرعاكم ، ولا معين ناصر ينصركم ويمنعكم من عذابه إن عذبكم.

وبعد الإفاضة في بيان هذه الأدلة على المعاد ، والقدرة الإلهية الفائقة التصور ، والتوحيد ، هدد كل مخالف وتوعد كل كافر ، فقال :

٢١٧

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ ، أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي ، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي والذين جحدوا بآيات الله أي بدلائل وحدانيته وما أنزله على رسله من البراهين المرشدة إلى ذلك ، وكفروا بالمعاد ولقاء الله في الآخرة ، أولئك لا نصيب لهم من رحمة الله ، بسبب كفرهم ، ولهم عذاب مؤلم موجع شديد في الدنيا والآخرة ، كما قال : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [يوسف ١٢ / ٨٧].

وتكرار (أُولئِكَ) في الآية للدلالة على أن كل واحد من اليأس والعذاب لا يوجد إلا في الكفار ، وقد أضاف اليأس إليهم بقوله : (أُولئِكَ يَئِسُوا) فلو طمعوا بالرحمة لأنزلها عليهم ، ثم إنه تعالى أضاف الرحمة لنفسه (رَحْمَتِي) لبيان عمومها لهم ولزومها له ، ولم يضف العذاب لنفسه لتخصيصه بالكفار.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ كانت دعوة إبراهيم كدعوة جميع الأنبياء عليهم‌السلام إلى عبادة الله (أي إفراده بالعبادة) وتوحيده واتقاء عذابه بفعل أوامره وترك معاصيه. وقوله تعالى : (اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) إشارة إلى التوحيد ؛ لأن التوحيد إثبات الإله ونفي غيره ، فقوله : (اعْبُدُوا اللهَ) إثبات الإله ، وقوله : (وَاتَّقُوهُ) نفي الغير.

٢ ـ إن الوثنيين يعبدون أصناما من صنع أيديهم ويختلقون الكذب بجعل تلك الأصنام شركاء لله شفعاء عنده ، مع أنها لا تملك ضرّا ولا نفعا ، ولا تقدر على جلب الرزق لأحد ، إنما الرازق الذي يطلب منه الرزق هو الله وحده ، فيجب على العباد أن يسألوه وحده دون غيره ؛ لأن المعبود إنما يعبد لأحد أمور : إما لكونه مستحقا للعبادة بذاته ، وإما لكونه نافعا في الحال أو في المستقبل ، وإما

٢١٨

لكونه خائفا منه ، فقوله : (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) إشارة إلى أنها لا تستحق العبادة لذاتها ، وقوله : (لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) إشارة إلى عدم المنفعة في الحال وفي المآل ، وقوله : (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) معناه اعبدوه لكونه مرجعا يتوقع الخير منه. وقوله : (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) تهديد.

٣ ـ الله تعالى هو بادئ الخلق ، خلق الإنسان والحيوان والنبات والثمار ، فتحيى ثم تفنى ، ثم يعيدها ، ويهلك الإنسان ، ثم يعيده إلى الحياة مرة أخرى يوم القيامة ؛ لأن القادر على الإبداء والإيجاد فهو القادر على الإعادة ، وذلك هيّن يسير على الله ، لأنه إذا أراد أمرا قال له : (كُنْ فَيَكُونُ). وبإيراد آية (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) تكون الآيات دالة على الأصول الثلاثة : التوحيد ، والرسالة بقوله : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) والحشر.

٤ ـ إن آفاق الكون سمائه وأرضه خلقها الله تعالى ، وهو الذي يعيد الخلق مرة أخرى ؛ لأنه القادر على كل شيء ، وهذا يفيد كون الإعادة أمرا مقدورا ، وذلك كاف في إمكان الإعادة ، وهو تقرير لكون الأمر يسيرا على الله تعالى.

٥ ـ الله سبحانه هو الحاكم المتصرف يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، لا معقّب لحكمه ، يعذّب من يشاء تعذيبه بعدله وحكمته وهو تعذيب أهل التكذيب ، ويرحم من يشاء رحمته بفضله ، وهو رحمة المؤمنين ، والجميع عائدون إليه ، محاسبون أمامه ، ولا يعجزه أحد في السماء والأرض. وهذا كله لتخويف العاصي وتفريح المؤمن.

٦ ـ ليس لأحد سوى الله من ولي يتولى أمره حفظا وعناية ورعاية ، ولا من ناصر معين يعينه على التخلص من الشدائد.

٧ ـ إن الذين كفروا بالقرآن ، أو بما أقامه الله من أدلة وأعلام على وجوده وتوحيده وقدرته لا نصيب لهم في الآخرة من رحمة الله تعالى ، فهم أيسوا من

٢١٩

الرحمة ، وقد ذكّر الكفار بالله هنا بعد بيان أصلي التوحيد والإعادة وتهديد من خالف.

٨ ـ دلّ قوله : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ؛ لأن الرسول إذا بلّغ شيئا ولم يبيّنه ، فإنه لم يأت بالبلاغ المبين ، فلا يكون آتيا بما عليه.

ـ ٢ ـ

جواب قوم إبراهيم له وإيمان لوط به وتعداد النعم عليه

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧))

الإعراب :

(إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ إِنَّمَا) : كافة ومكفوفة ، و (أَوْثاناً) مفعول (اتَّخَذْتُمْ) واقتصر على مفعول واحد ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ). و (مَوَدَّةَ) مفعول لأجله ، أي إنما اتخذتم الأوثان للمودة فيما بينكم. ويجوز أن تكون (ما) في (إِنَّمَا) اسما موصولا بمعنى

٢٢٠