التفسير المنير - ج ٢٠

الدكتور وهبة الزحيلي

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة العنكبوت

مكية ، وهي تسع وستون آية.

تسميتها :

سميت سورة العنكبوت ؛ لأن الله تعالى شبّه الذين اتخذوا الأصنام وغيرها آلهة بالعنكبوت التي اتخذت بيتا ضعيفا واهنا ، فقال : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ..) الآية [٤١].

موضوعها :

موضوع السورة كسائر السور المكية تقرير أصول العقيدة وهي الوحدانية ، والرسالة ، والبعث والجزاء ، وتثبيت الإيمان في القلوب في جميع الأحوال ، وبخاصة وقت الابتلاء والمحنة ، فافتتحت بالإخبار عن فتنة الإنسان ، وختمت بالحديث عن هداية المجاهدين نفوسهم إلى أقوم السبل ونصرة الله لهم.

مناسبتها لما قبلها :

تظهر صلة هذه السورة بما قبلها في بيان أمثلة واقعية من الصراع بين الحق والباطل ، وبين الضعف والقهر ، وبين أثر الصمود والصبر على الإيمان وأثر الانسلاخ منه ، ففي سورة القصص ذكر الله تعالى استعلاء فرعون وجبروته ، وتفريقه الناس شيعا ، واستضعافه بني إسرائيل بذبح أبنائهم واستحياء نسائهم ،

١٨١

ونجاة موسى عليه‌السلام مع قومه ، ونصره على الطغاة وإغراقهم ، كما ذكر الله قصة قارون الباغية وعقابه بالخسف.

وفي هذه السورة ذكر الله قصة المسلمين في مكة الذين فتنهم المشركون عن دينهم ، وعذبوهم على الإيمان بنحو أقل من تعذيب فرعون بني إسرائيل ، حثا لهم على قوة التحمل والصبر ، وتسلية لهم بما وقع لمن قبلهم ، ثم ذكر نجاة نوح عليه‌السلام في سفينته مع جند الإيمان ، وإغراق قومه الذين كذبوه.

كما أن بين السورتين تشابها في الإشارة إلى موضوع الهجرة ، ففي خاتمة القصص الإشارة إلى هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) وفي خاتمة هذه السورة الإشارة إلى هجرة المؤمنين : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) [٥٦].

وكذلك يوجد ارتباط بين السورتين في تحديد الغاية والغرض ، ففي سورة القصص بيان العاقبة المحمودة للمتقين المتواضعين : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [٨٣] وفي هذه السورة تقرير العاقبة الحسنة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها ، نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) [٥٨].

ثم إنه تعالى لما قال في آخر السورة المتقدمة : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) وأعقبه بما يبطل قول منكري الحشر : (لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) رد في مطلع هذه السورة على منكري الحشر القائلين : لا فائدة في التكاليف إذ لا مرجع بعد الهلاك والزوال ، ومضمون الرد أن للتكليف فائدة وهي أن يثيب الله الشكور ويعذب الكفور.

١٨٢

مشتملات السورة :

اشتملت هذه السورة على ما يأتي :

١ ـ إعلان اختبار المؤمنين على الشدائد والمحن في الدنيا ، وبيان فائدة جهاد النفس ، ومعرفة مدى صلابة الإيمان وقت الشدة ، فالمؤمن هو المجاهد الصابر الذي لا يلين أمام الأحداث الجسام ، ويظل ثابت العهد كالطود الشامخ دون أن يتزحزح عن إيمانه وعقيدته ، وأما مهتز الإيمان أو المنافق ، فيظهر الإيمان أحيانا ، ولكنه لا يتحمل الأذى في سبيل الله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : آمَنَّا بِاللهِ ، فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ ...) وحينئذ يعلم الله المؤمنين علم انكشاف وإظهار كما يعلم المنافقين ، لكنه سبحانه عالم بذلك سلفا.

٢ ـ الحديث عن محنة الأنبياء التي هي أشد وأصعب من محنة المؤمنين ، فقد قص الله على رسوله وعلى المؤمنين قصة نوح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب ، وهود ، وصالح ، وموسى ، وهارون ، ليعلموا أن الله نصرهم ، وأهلك أقوامهم : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا ..) الآية [٤٠].

٣ ـ محاجة المشركين بضرب الأمثال لهم تقريعا وتوبيخا ، ومحاجة أهل الكتاب بالحسنى واللين والحكمة.

٤ ـ إثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمعجزة إنزال القرآن عليه علما بأنه أمي لا يقرأ ولا يكتب ، وتفنيد بعض شبهات المشركين في نبوته ، واستعجالهم العذاب المحقق نزوله بهم.

٥ ـ الإذن للمؤمنين بالهجرة من ديارهم فرارا بدينهم من الفتن ، وترغيبهم بالصبر ، وإبعاد خوف الموت عن نفوسهم ؛ فإن الموت محقق في كل مكان وزمان ،

١٨٣

وتبشيرهم بالعاقبة الحسنة إذا عملوا الصالحات ، وزهدوا في الدنيا ؛ لأن الدار الآخرة هي دار الحياة الباقية الحقة.

٦ ـ اعتراف المشركين بأن الله هو خالق السموات والأرض وأنه هو الرازق ، وأنه كاشف الضر والمنجي من المخاطر ، وذلك يتضمن الحديث عن الأدلة والبراهين على القدرة والوحدانية في هذا الكون الفسيح.

٧ ـ الامتنان على أهل مكة بإقامتهم في الحرم الآمن ، مع خوف من حولهم ، ثم كفرهم بهذه النعمة وغيرها بالإشراك بالله ، وتكذيب رسوله ، وهو غاية الظلم.

٨ ـ بيان جزاء المؤمنين الذين صبروا أمام المحن والشدائد ، وجاهدوا في سبيل الله بالنفس والمال ، واجتازوا المحنة بأمان وسلام.

اختبار الناس وجزاؤهم

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧))

١٨٤

الإعراب :

(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا : آمَنَّا أَنْ يُتْرَكُوا) : منصوب ب (حَسِبَ) سدّ مسد مفعوليها. و (أَنْ يَقُولُوا) : في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر ، أي بأن يقولوا.

(ساءَ ما يَحْكُمُونَ ما) : إما في موضع رفع بمعنى : ساء الشيء أو الحكم حكمهم ، وإما في موضع نصب بمعنى ساء شيئا أو حكما يحكمون.

البلاغة :

(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا ..) استفهام للتقريع والتوبيخ والإنكار.

(صَدَقُوا) و (الْكاذِبِينَ) بينهما طباق.

(فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) التأكيد بإن واللام ؛ لأن المخاطب منكر.

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) صيغة مبالغة على وزن فعيل.

المفردات اللغوية :

(الم) هذه الحروف الهجائية تنبيه على إعجاز القرآن ، ووقوع الاستفهام بعدها دليل على استقلالها بنفسها (أَحَسِبَ النَّاسُ) أظن الناس ، والاستفهام إنكاري ، وتدخل (حَسِبَ) على الجملة للدلالة على جهة ثبوتها (أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) أي أحسبوا تركهم غير مفتونين ، لقولهم : آمنا ، بل يمتحنهم الله بمشاقّ التكاليف ، كالهجرة والجهاد ومقاومة الشهوات والقيام بالطاعات وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ، ليتميز المخلص من المنافق ، والثابت في الدين من المضطرب فيه ، ولينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات ، فإن مجرد الإيمان لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) يختبرون ويمتحنون بما يتبين به حقيقة إيمانهم بالتعرض للشدائد.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي إن ذلك سنة قديمة ، جارية في الأمم كلها ، فلا ينبغي أن يتوقع خلافه (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) أي ليظهرن صدقهم وكذب المكذبين ، وينوط به ثوابهم وعقابهم. وهذا تعلق حالي وعلم مشاهدة يتميز به الفريقان ، ولا ينافي تعلق علم الله القديم بكل شيء ، فهو عالم بما خلق قبل الخلق.

(يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) الكفر والمعاصي ، فإن العمل يعم أفعال القلوب والأعضاء (أَنْ

١٨٥

يَسْبِقُونا) يفوتونا فلا ننتقم منهم ، أي الفوت عن الجزاء على مساويهم (ساءَ) بئس الحكم هذا (ما يَحْكُمُونَ) الذي يحكمونه ، أي قبح حكمهم أنهم يهربون منا. (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) أي يأمل ويطمع في لقائه وثوابه وجزائه في الجنة ، وقيل : يخاف لقاءه (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) أي فإن الوقت المحدد للقائه أو هو الموت لجاء لا محالة ، فليستعد له (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوال العباد (الْعَلِيمُ) بأفعالهم.

(وَمَنْ جاهَدَ) نفسه بالصبر على الطاعة والكف عن الشهوات ، وبذل جهده في مقاومة الأعداء بالنفس أو المال (فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) فإن منفعة جهاده له (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) عن الإنس والجن والملائكة ، وعن عبادتهم ، فلا حاجة به إلى طاعتهم ، وإنما كلف عباده رحمة بهم ومراعاة لصلاحهم (لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) بعمل الصالحات فيسقط عقابها بثواب الحسنات (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) وهو الصالحات ، و (أَحْسَنَ) إما بمعناه أو بمعنى حسن ، وهو منصوب بنزع الخافض : الباء ، والمعنى لنجزينهم بأحسن جزاء لأعمالهم ، وهو أن يجازي الحسنة الواحدة بالعشر وزيادة.

سبب النزول :

روي أنها نزلت في ناس من الصحابة جزعوا من أذى المشركين ، وقيل : في عمار ، وقد عذب في الله ، أخرج ابن سعد عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذب في الله : (أَحَسِبَ النَّاسُ) الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن الشعبي في قوله : (الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) الآية قال : أنزلت في أناس كانوا بمكة ، وقد أقروا بالإسلام ، فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة أنه لا يقبل منكم حتى تهاجروا ، فخرجوا عامدين إلى المدينة ، فتبعهم المشركون ، فردوهم ، فنزلت فيهم هذه الآية ، فكتبوا إليهم أنه قد نزل فيكم كذا وكذا ، فقالوا : نخرج ، فإن اتّبعنا أحد قاتلناه ، فخرجوا فأتبعهم المشركون فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ، ومنهم من نجا ، فأنزل الله فيهم : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ، ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا ، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل ١٦ / ١١٠].

١٨٦

وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن قتادة قال : أنزلت (الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ) في أناس من أهل مكة خرجوا ، يريدون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعرض لهم المشركون ، فرجعوا ، فكتب إليهم إخوانهم بما نزل فيهم ، فخرجوا فقتل من قتل ، وخلص من خلص ، فنزل القرآن : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ، وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).

وقال مقاتل : نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب ، كان أول قتيل من المسلمين يوم بدر ، رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ : «سيد الشهداء مهجع ، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة» فجزع عليه أبواه وامرأته ، فنزلت : (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا ..) الآية.

التفسير والبيان :

(الم) هذه الحروف المقطعة بدئ بها لتنبيه السامع وطلب إصغائه وإشعاره بإعجاز القرآن الدال على كونه كلام الله الحكيم الخبير.

وقد لاحظ الرازي (١) أن كل سورة في أوائلها حروف التهجي بدئت بذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن ، كأوائل سورة البقرة (الم ، ذلِكَ الْكِتابُ) وآل عمران (الم ... نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) والأعراف (المص ، كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ويس (يس ، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) وص (ص ، وَالْقُرْآنِ) وق (ق ، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) ، والحواميم (غافر أو المؤمن ، وفصلت أو السجدة ، والشورى) إلا ثلاث سور : سورة مريم ، والعنكبوت ، والروم.

وقد حصل التنبيه في القرآن بغير حروف التهجي التي لا يفهم معناها ، كقوله تعالى في أول سورة الحج : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٥ / ٢٦ وما بعدها.

١٨٧

شَيْءٌ عَظِيمٌ) وفي أول سورة الأحزاب : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) وفي أول سورة التحريم : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ).

والسبب في بدء هذه السورة بهذه الحروف ، وليس فيها الابتداء بالقرآن أو الكتاب هو الإشارة إلى مبدأ التكليف ، وجميع التكاليف فيها ثقل على النفس ، فبدئ بحروف التنبيه للفت النظر إلى خطورة ما يلقى بعدها.

(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا : آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) أي أظن الناس بعد خلقهم أن يتركوا بغير اختبار بمجرد قولهم : آمنا بالله ورسله ، وهم لا يمتحنون بمشاق التكاليف كالهجرة والجهاد في سبيل الله ، ومقاومة الشهوات ، ووظائف الطاعات والفرائض المالية والبدنية من صلاة وصيام وحج وزكاة ونحوها ، والتعرض للمصائب في الأنفس والأموال والثمرات ، ليتميز المؤمن المخلص من المنافق ، والراسخ في الدين من المضطرب فيه ، ونجازي كل واحد بحسب عمله.

وهذا استفهام إنكار ، معناه أن الله تعالى لا بد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان ، كما جاء في الحديث الصحيح : «أشدّ الناس بلاء : الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة ، زيد له في البلاء».

ونظير هذه الآية قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ ، وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران ٣ / ١٤٢] وقوله سبحانه : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ، وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ ، وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ : مَتى نَصْرُ اللهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) [البقرة ٢ / ٢١٤].

وقد بينت أن هذه الآية نزلت في بعض المؤمنين في مكة ، الذين كان كفار

١٨٨

قريش يعذبونهم على الإسلام ويؤذونهم بأشد أنواع الإيذاء ، كعمار بن ياسر وأمه سميّة وأبوه ياسر ، وعيّاش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام.

ويظهر أن التعرض للأذى باق في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما دام هناك إسلام يمثل جوهر الحق ، وعقيدة صحيحة تتحدى تيارات الإلحاد والكفر والعلمانية وأوضار الوثنية في كل أنحاء الأرض ، وما دام قرآن مجيد يحافظ على وجود المسلمين ، ويتلى في كل مكان. ولن تفلح قوى الشر في إخفات صوت الإسلام ، ودفن صرح التدين ، وتصفية جند الإيمان بالله عزوجل ، قال ابن عطية : وهذه الآية ، وإن كانت نزلت بهذا السبب أو ما في معناه من الأقوال ، فهي باقية في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، موجود حكمها بقية الدهر ؛ لأن الفتنة من الله تعالى باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك.

وليس الافتتان والإيذاء بدعا بين المسلمين ، وإنما هو سنة الله الدائمة في خلقه في الماضي والحاضر والمستقبل ، لذا قال تعالى تسلية لهم : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ، وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) أي وتالله لقد امتحنا واختبرنا المؤمنين السابقين ، بل والأنبياء القدامى بأنواع عديدة من الشدة والمشقة والضرر ، كما قال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ، فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا ، وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران ٣ / ١٤٦].

والهدف من الاختبار أن يعلم الله علم ظهور وانكشاف ، أي يظهر الذين صدقوا في دعوى الإيمان ، ممن هو كاذب في قوله ودعواه ، وسيجازي كل واحد بما قدّم. والله يعلم سلفا ما كان وما يكون وما لم يكن ، ولو كان كيف يكون ، بإجماع أهل السنة والجماعة ، لذا قال ابن عباس في مثل قوله تعالى : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) : إلا لنرى ؛ لأن الرؤية تتعلق بالموجود ، والعلم أعم من الرؤية ، فإنه يتعلق بالمعدوم والموجود.

١٨٩

ويلاحظ أنه تعالى قال في حق المؤمنين : (الَّذِينَ صَدَقُوا) بصيغة الفعل ، أي وجد منهم الصدق ، وقال في حق الكافرين : (الْكاذِبِينَ) بصيغة اسم الفاعل الدالة على الثبات والدوام. هذا فضلا عن أن الاختلاف في اللفظ أدل على الفصاحة.

وقد ورد في السنة الصحيحة أخبار ونماذج من تعذيب المؤمنين قبل الإسلام ، روى البخاري وأبو داود والنسائي عن خبّاب بن الأرتّ قال : «شكونا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو متوسّد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا له : ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال :

قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل ، فيحفر له في الأرض ، فيجعل فيها ، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه ، فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه ، فما يصرفه ذلك عن دينه ، والله ليتمّنّ هذا الأمر ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، لا يخاف إلا الله ، والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون».

وروى ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال : «دخلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يوعك ، فوضعت يدي عليه ، فوجدت حرّه بين يدي فوق اللحاف ، فقلت : يا رسول الله ما أشدّها عليك!! قال : إنا كذلك يضعّف لنا البلاء ، ويضعّف لنا الأجر ، قلت : يا رسول الله ، أي الناس أشد بلاء؟ قال : الأنبياء ، قلت : ثم من؟ قال : ثم الصالحون أن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحوبها (١) ، وأن كان أحدهم ليفرح بالبلاء ، كما يفرح أحدكم بالرخاء».

والخلاصة : أن الحياة ميدان كفاح وجهاد وشقاء وعناء ، وكلما عظمت

__________________

(١) وفي الجامع الصغير للسيوطي : «يجوبها» أي يخرقها ويقطعها ، وهو أولى.

١٩٠

المسؤولية عظم قدر المسؤول ، وكلما أهملت المسؤولية أو التبعة أهمل المسؤول ، فالتكليف دليل التكريم ، وهو رمز الشخصية وإثبات الذات ، ولا طعم للحياة دون عمل وتكليف ؛ لأن لذة الحياة ومتعتها أن يعمل الإنسان لغاية وهدف معين ، وإلا كان الأمر عبثا موقعا في السأم والحيرة ، فالحمد لله على التكليف ، والشكر له على الابتلاء والاختبار ، ليتميز العامل من العابث ، والملتزم المتقن من المتسيب الذي لا يبالي بشيء.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا؟ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بل أظن الذين يقترفون المعاصي أن يفوتونا فلا نجازيهم؟ لن يفلتوا من عذابنا ، بئس ما يظنون ، وبئس الحكم ما حكموا بأن يعصوا ويخالفوا أمر الله ، ولا يعاقبون ، إنه حكم مغلوط سيء رديء ، يتنافى مع مقتضى العقل والشرع والعدل.

قال ابن عباس : يريد الوليد بن المغيرة ، وأبا جهل والأسود ، والعاص بن هشام ، وعتبة والوليد بن عتبة ، وعقبة بن أبي معيط ، وحنظلة بن أبي سفيان ، والعاص بن وائل.

وبعد بيان أن من ترك التكليف عذّب ، بيّن سبحانه أن من آمن بالآخرة وعمل لها ، يجد ثواب عمله فقال :

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ ، فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي من كان يتوقع الخير ويطمع ويأمل في ثواب الله الجزيل في الدار الآخرة ، ويعمل صالحا ، فإن الله سيحقق له رجاءه ، ويوفيه عملا كاملا غير منقوص ، فإن وقت البعث والحياة الثانية بالحشر كائن لا محالة ، والله سميع الدعاء وجميع أقوال عباده لا يخفى عليه منهم شيء ، عليم بصير بكل الكائنات ، يعلم عقائدهم وأعمالهم ، ويجازي كل واحد بما عمل. وهذا دليل على تأكد حصول الوعد

١٩١

والوعيد ، وحث على المبادرة بالعمل الصالح الذي يصدق الرجاء ويحقق الأمل ويكتسب به القربة عند الله والزلفى.

وأجل الله : يمكن أن يكون المراد به الموت ، ويمكن أن يكون هو الحياة الثانية بعد الحشر.

وقوله : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) شرط وجزاء ، والمراد وعد المطيع بما يعده من الثواب ، فمن كان يرجو لقاء الله ، فإن أجل الله لآت بثوابه ، يثاب على طاعته عنده ، ولا شك أن من لا يرجوه لا يكون أجل الله آتيا على وجه يثاب هو.

لكن نفع التكليف للمكلف لا لله تعالى :

(وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ ، إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) أي ومن جاهد نفسه وهواه ، فأدى ما أمر الله به وانتهى عما نهى عنه ، فإن ثمرة جهاده تعود له ، ونفع عمله لنفسه لا لغيره ، كما قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) [فصلت ٤١ / ٤٦] ، (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) [الإسراء ١٧ / ٧] فإن الله غني عن أفعال عباده وجميع خلقه من الإنس والجن.

ونوع جزاء المطيع هو :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إنه تعالى مع غناه عن الخلائق جميعهم ، فإنه يجازي أحسن الجزاء الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا صالح الأعمال ، بأداء الفرائض وفعل الخيرات ، من مواساة البائسين وإغاثة المظلومين ، ودعم أمتهم بالنفس والنفيس ، وأحسن الجزاء : هو أنه يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا ، ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون ، فيقبل القليل من الحسنات ، ويثيب على الواحد

١٩٢

منها بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف ، ويجزي على السيئة بمثلها أو يعفو ويصفح كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء ٤ / ٤٠].

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ الدنيا دار ابتلاء واختبار وتكليف بالشاق من الأعمال ، فلا يكفي مجرد إعلان الإيمان بالله تعالى ورسوله ، بل لا بدّ من الابتلاء بأنواع المصائب ، وألوان الطاعات ؛ لأن المقصد الأسمى من العبادة محبة الله ، كما ورد في الخبر الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة : «وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه» فإذا قال الإنسان : آمنت بالله بلسانه ، فقد ادعى محبة الله في الجنان ، فاحتاج إلى شهود تصدقه ، وأداء الطاعات والقربات ، واجتناب المحظورات شهود عيان للتصديق.

ويكون الابتلاء سبيلا للرقي من أول الدرجات إلى أعلى الدرجات ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [المجادلة ٥٨ / ١١] وقال سبحانه : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) [النساء ٤ / ٩٥].

٢ ـ الابتلاء سنة الله في خلقه ، وعادته في عباده ، فقد ابتلى الله الماضين كإبراهيم الخليل ألقي في النار ، وكيحيى الحصور الذي قتل ، وكقوم نشروا بالمناشير في دين الله ، فلم يرجعوا عنه ، كما تقدم بيانه ، وابتلي بنو إسرائيل بفرعون وقومه ، كما ابتلوا بقارون ، وأصابهم الجهد الشديد ، وابتلي المؤمنون بعيسى بمن كذبه وأعرض عنه ، وهمّ بقتله ، وهم اليهود وحكام عصره.

٣ ـ الهدف من الابتلاء إظهار صدق الصادقين في إيمانهم وتبيّنه في واقع الأمر ، وكشف كذب الكاذبين الذين يدّعون الإيمان بالله ، وهم كافرون به.

١٩٣

٤ ـ لن يفلت الكافرون والمجرمون والعصاة من العقاب ، فإن ظنوا الإفلات ، فبئس الحكم حكمهم.

٥ ـ لا بدّ من أن يجازي المحسن بإحسانه يوم القيامة.

٦ ـ هذه الحقائق الثلاث المتقدمة وهي اختبار المؤمن بالفتن ، وعقاب العاصي على العمل ، وجزاء المحسن الذي يطمع في لقاء ربه ، حاصلة لا شك فيها ، ولكن من جاهد في الدين ، وصبر على قتال الكفار ، وأعمال الطاعات ، فإنما يسعى لنفسه ، ويكون ثواب ذلك كله له ، ولا يرجع إلى الله شيء من النفع ، ومن أهمل جهاد نفسه ، ولم يؤد طاعة ربه ، ولم يتجنب الحرام ، فإنما يسيء لنفسه : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت ٤١ / ٤٦] (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء ١٧ / ٧].

والله غني عن أعمال عباده ، لا تنفعه طاعة ، ولا تضره معصية.

٧ ـ إن نوع جزاء العمل الصالح لا مثيل له في الدنيا عند أحد من الخلائق ، فإن الله تعالى يغطي السيئات بالمغفرة ، ويضاعف الحسنات وثواب الطاعات ، ولا يهمل شيئا منها مهما قلّ ، وإنما يقدره على أحسن وجه وأكمله ، ويجازي الذين صدقوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات بأحسن أعمالهم.

٨ ـ الآيات في الجملة تعرّف بحقائق الدنيا ، فهي قائمة على الابتلاء والاختبار ، وتشحذ العزائم لزرع العمل الصالح في الدنيا ، وتؤكد أن يوم الجزاء قريب الحصول ، لإقامة العدل بين المحسن والمسيء ، وتبين أن العمل الصالح خير للإنسان نفسه لا لغيره ، والله غني عن العالمين.

٩ ـ دلت آية (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ ، إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) على وجوب إكثار العبد من العمل الصالح وإتقانه له ؛ لأن من علم أن الله يراه

١٩٤

ويبصره يحسن العمل ويتقنه ، وإذا علم أن نفعه له ، ومقدّر بقدر عمله ، يكثر منه.

١٠ ـ الجزاء على العمل بحكم الوعد لا بالاستحقاق. وتدل الآية المتقدمة على أن رعاية الأصلح لا يجب على الله ؛ لأنه ليس هناك سلطان أعلى من الله يوجب شيئا عليه ، والعبد أدنى منه ، وتدل أيضا على أن الله تعالى ليس في مكان معين ، وليس على العرش على الخصوص ، لأن العرش من مخلوقات الله ، والله غني عنهم.

١١ ـ في هذه الآية أيضا بشارة وإنذار ، أما الإنذار فلأن الله إذا كان غنيا عن العالمين ، فلو أهلك عباده فلا شيء عليه لغناه عنهم ، وهذا يوجب الخوف العظيم ، وأما البشارة فلأنه إذا كان غنيا ، فلو أعطى جميع ما خلقه لعبد من عباده ، لا شيء عليه ؛ لاستغنائه عنه ، وهذا يوجب الرجاء التام.

١٢ ـ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) يدل على أن الأعمال مغايرة للإيمان ؛ لأن العطف يفيد التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه.

والإيمان : التصديق بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر ، وبالقضاء والقدر خيره وشره. والعمل الصالح : كل ما أمر الله به ، فيصير صالحا بأمره ، ولو نهى عنه لما كان صالحا ، ولا بقاء للعمل الصالح إلا إذا كان لوجه الله الباقي حتى يبقى ، وما لا يكون لوجهه لا يبقى ، لا بنفسه لأنه عرض زائل ، ولا بالعامل ؛ لأنه ميت هالك ، ولا بالمعمول له ؛ لأن غير الله فان ، فالعمل الصالح : هو الذي أتى به المكلف مخلصا لله.

والنية : شرط في الصالحات من الأعمال ، وهي قصد الإيقاع لله. والعمل الصالح : لا يرتفع إلا بالكلم الطيب وهو الإيمان ، فالعمل من غير المؤمن لا يقبل.

١٩٥

وقد ذكر الله في الآية نوعين من أعمال العبد : الإيمان والعمل الصالح ، وذكر في مقابلتهما من أفعال الله أمرين : تكفير السيئات وهو في مقابلة الإيمان ، والجزاء بالأحسن وهو في مقابلة العمل الصالح.

وهذا كما قال الرازي يقتضي أمورا ثلاثة :

الأول ـ المؤمن لا يخلد في النار ؛ لأنه بإيمانه تكفر سيئاته ، فلا يخلد في النار.

الثاني ـ الجزاء الأحسن المذكور هنا غير الجنة ؛ لأن المؤمن بإيمانه يدخل الجنة ، ولا يبعد أن يكون الجزاء الأحسن هو رؤية الله عزوجل.

الثالث ـ الإيمان يستر قبح الذنوب في الدنيا ، فيستر الله عيوبه في الأخرى ، والعمل الصالح يحسّن حالة صاحبه في الدنيا ، فيجزى الجزاء الأحسن في العقبى ، والإيمان لا يبطله العصيان ، بل هو يغلب المعاصي ويسترها ، ويحمل صاحبها على الندم (١).

١٣ ـ أجمل الله حال المسيء بقوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ..) إشارة إلى التعذيب ، وحال المحسن بقوله : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) ثم فصل حال المحسن بآية : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ..) ليكون ذلك إشارة إلى أن رحمته أتم من غضبه ، وفضله أعم من عدله.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٥ / ٣٤.

١٩٦

صلابة المكلفين ومظاهر فتنة المؤمنين وتهديد الكافرين والمنافقين

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣))

الإعراب :

(وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) فيه حذف الجار والمجرور ، أي ولنحمل خطاياكم عنكم.

البلاغة :

(فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) تشبيه مرسل مجمل ، حذف منه وجه الشبه ، فهو مجمل.

(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) استعارة ، شبه الذنوب بالأثقال ؛ لأنها تثقل الإنسان معنويا.

١٩٧

المفردات اللغوية :

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) أمرنا ، وصى بمعنى أمر معنى وتصرفا. (حُسْناً) أي بأن يفعل معهم حسنا ، أي فعلا ذا حسن بأن يبرهما ، أو هو الحسن نفسه مبالغة ، كأنه في ذاته حسن لفرط حسنه ، وقرئ : حسنا وإحسانا. (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي ما ليس لك بإشراكه علم ، أو ما ليس لك بألوهيته علم ، أي معلوم ، كأنه قال : لتشرك بي شيئا لا يصح أن يكون إلها ولا يستقيم ، عبر عن نفي الألوهية بنفي العلم بها إشعارا بأن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه. (فَلا تُطِعْهُما) في الإشراك إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) مرجع من آمن منكم ومن أشرك ، فأجازيكم حق الجزاء. (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فأجازيكم به.

(لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) في جملتهم ، وهم الأنبياء والأولياء ، بأن نحشرهم معهم. (فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) أي بأن عذبهم الكفرة على الإيمان. (فِتْنَةَ النَّاسِ) أذاهم له في الصرف عن الإيمان. (كَعَذابِ اللهِ) في صرف المؤمنين عن الكفر ، فيطيعهم فينافق. (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) اللام لام القسم ، ومجيء النصر بالفتح للمؤمنين والغنيمة. (لَيَقُولُنَ) حذفت منه نون الرفع : ليقولونن لتوالي النونات ، وحذفت الواو : ضمير الجمع لالتقاء الساكنين. (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) في الدين والإيمان ، فأشركونا في الغنيمة. (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ) أي بعالم. (بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) أي بما في قلوبهم من الإخلاص والنفاق؟ بلى.

(وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) صدقوا بقلوبهم. (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) الذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم ، فيجازي الفريقين ، واللام في الفعلين : لام قسم. (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) طريقنا الذي نسلكه في ديننا. (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) أي عنكم في اتباعنا ، إن كانت لكم خطايا ، والأمر بمعنى الخبر. (مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) من الأولى : للتبيين ، والثانية : مزيدة ، والتقدير : وما هم بحاملين شيئا من خطاياهم. (أَثْقالَهُمْ) أوزارهم أو ذنوبهم التي اقترفتها أنفسهم. (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) أي ذنوبا أخرى معها لما تسببوا له بالإضلال وحمل الآخرين على المعاصي ، من غير أن ينقص من أثقال من تبعهم شيء. (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) سؤال تقريع وتبكيت. (عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) من الأباطيل التي أضلوا بها.

سبب النزول :

نزول الآية (٨):

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) : روى مسلم وأحمد والترمذي وأبو داود والنسائي عن سعد بن أبي وقاص قال : قالت أم سعد : أليس قد أمر الله بالبر؟ والله لا أطعم

١٩٨

طعاما ، ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر ، فنزلت : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ).

وتوضيح ذلك في رواية الترمذي : أن الآية نزلت في سعد بن أبي وقّاص وأمه حمنة بنت أبي سفيان لما أسلم ، وكان من السابقين الأولين ، وكان بارّا بأمّه ، قالت له : ما هذا الدين الذي أحدثت؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت ، فتتعيّر بذلك أبد الدهر ، يقال : يا قاتل أمه ، ثم إنها مكثت يوما وليلة ، لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل ، فأصبحت وقد جهدت ، ثم مكثت يوما آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب ، فجاء سعد إليها وقال : يا أماه ، لو كانت لك مائة نفس ، فخرجت نفسا نفسا ، ما تركت ديني ، فكلي إن شئت ، وإن شئت فلا تأكلي ، فلما أيست منه أكلت وشربت ، فأنزل الله هذه الآية ، آمرا بالبر بالوالدين والإحسان إليهما ، وعدم طاعتهما في الشرك به.

وقال ابن عباس في آية (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي) : نزلت في عيّاش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه ، وقد فعلت أمه مثل ذلك. وعنه أيضا : نزلت في جميع الأمة ؛ إذ لا يصبر على بلاء الله إلا صدّيق.

نزول الآية (١٠):

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : آمَنَّا بِاللهِ) : نزلت في المنافقين. قال مجاهد : نزلت في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم ، فإذا أصابهم بلاء من الله ومصيبة في أنفسهم افتتنوا.

وقال الضحاك : نزلت في أناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون ، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك.

وقال ابن عباس : نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون عن الدين فارتدّوا ، والذين نزلت فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ)

١٩٩

الآية (١) [النساء ٤ / ٩٧]. وقيل : نزلت في عياش بن أبي ربيعة ؛ أسلم وهاجر ، ثم أوذي وضرب فارتد ، وكان عذبه أبو جهل والحارث ، وكانا أخوين لأمه ، ثم عاش بعد ذلك بدهر وحسن إسلامه.

نزول الآية (١٢):

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال مجاهد : إن الآية نزلت في كفار قريش قالوا لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم ، فاتبعونا ، فإن كان عليكم إثم فعلينا.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى حسن التكاليف وثواب الآتي بها تحريضا للمكلف على الطاعة ، ذكر أن الإتيان بها واجب ولو كان ذلك بمخالفة الوالدين اللذين يجب الإحسان إليهما والطاعة ، فلا يكون ذلك مانعا من الإيمان ورفض الشرك ومقاومة معصية الله تعالى.

ثم ذكر أن العامل بالصالحات يدخله الله في زمرة الأنبياء والأولياء.

وبعد أن أبان الله تعالى حال صنفين من المكلفين : المؤمن حسن الاعتقاد والعمل ، والكافر المجاهر بكفره وعناده في قوله : (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) أردف ذلك ببيان حال الصنف الثالث وهم المنافقون بقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : آمَنَّا بِاللهِ).

ثم ذكر الله تعالى محاولات الكفار في فتنة المؤمنين عن دينهم ، ودعوتهم بالرفق واللين إلى الشرك ، ومساومتهم واستعدادهم تحمل تبعات ذنوب المؤمنين إن كانت.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ١٩٦.

٢٠٠