التفسير المنير - ج ٢٠

الدكتور وهبة الزحيلي

المال الجزيل ، والنعمة الطائلة ، في طاعة ربك ، والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة ، فإن الدنيا مزرعة الآخرة.

٣ ـ (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) أي لا تترك حظك من لذات الدنيا التي أباحها الله من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والزواج ، فإن لربك عليك حقا ، ولنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، ولزورك (زوارك) عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقه. وهذه هي وسطية الإسلام في الحياة ، قال ابن عمر : «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا».

٤ ـ (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) أي وأحسن إلى خلقه كما أحسن الرب إليك ، وهذا أمر بالإحسان مطلقا بعد الأمر بالإحسان بالمال ، ويدخل فيه الإعانة بالمال والجاه ، وطلاقة الوجه ، وحسن اللقاء ، وحسن السمعة ، أي أنه جمع بين الإحسان المادي ، والإحسان الأدبي أو الخلقي.

٥ ـ (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ ، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) أي ولا تقصد الإفساد في الأرض بالظلم والبغي والإساءة إلى الناس ، فإن الله يعاقب المفسدين ، ويمنعهم رحمته وعونه وودّه.

ولكن قارون أبى النصح فقال :

(قالَ : إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) أي قال قارون لقومه حين نصحوه وأرشدوه إلى الخير : أنا لا أحتاج لما تقولون ، فإن الله تعالى إنما أعطاني هذا المال ، لعلمه بأني أستحقه ، ولمعرفتي وخبرتي بكيفية جمعه ، فأنا له أهل ، كما قال تعالى : (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ، ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا ، قالَ : إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) [الزمر ٣٩ / ٤٩] أي على علم من الله بي ، وقال سبحانه : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ، لَيَقُولَنَّ : هذا لِي) [فصلت ٤١ / ٥٠] أي هذا أستحقه.

١٦١

فأجابه الله بقوله :

(أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً ، وَأَكْثَرُ جَمْعاً ، وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) أي أولم يدر في جملة ما عنده من الدراية والعلم حتى لا يغترّ بكثرة ماله وقوته أنه قد كان من هو أكثر منه مالا ، وما كان ذلك منا عن محبة له ، أو أنه أهل له ، وقد أهلكهم الله مع ذلك بكفرهم وعدم شكرهم ، ولا يسأل المجرمون عن كثرة ذنوبهم ، أي إذا عاقب الله تعالى المجرمين فلا حاجة به إلى أن يسألهم عن أنواع ذنوبهم ومقدارها ؛ لأنه تعالى عالم بكل المعلومات ، فلا حاجة به إلى السؤال. فالمراد بذلك سؤال الاستفسار والاستعلام ، كقوله تعالى : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وسؤال الاستعتاب ، كما قال تعالى : (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) [النحل ١٦ / ٨٤]. (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات ٧٧ / ٢٥ ـ ٢٦].

ونظير الآية : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن ٥٥ / ٣٩].

ولا يتنافى هذا مع سؤالهم في وقت آخر سؤال توبيخ وإهانة ، كما في قوله سبحانه : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر ١٥ / ٩٢ ـ ٩٣].

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ البغي مرتعه وخيم ، والظلم مؤذن بخراب العمران والديار.

٢ ـ إن كثرة المال محنة وبلاء ، وسبب للطغيان والفساد.

٣ ـ الجاهل الذي لا علم لديه ، أو علمه ناقص هو الذي يغترّ بماله ، ويبطر

١٦٢

عند النعمة ، فإن الله تعالى يعاقب الأشرين البطرين الذين لا يشكرون نعمة الله تعالى عليهم.

٤ ـ إن أصول الحضارة الإسلامية أربعة : العمل الصالح ابتغاء ثواب الآخرة ، وعمارة الدنيا بإتقان دون أن تستولي على مشاعر الإنسان ، والإحسان إلى الناس إحسانا ماديا ومعنويا أو خلقيا ، وقمع الفساد والعصيان والخراب.

فمن حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة ، لا في التجبر والبغي ، وألا يضيع عمره في غير العمل الصالح في دنياه ؛ إذ الآخرة هي التي يعمل لها ، فنصيب الإنسان : عمره وعمله الصالح فيها ، بأن يطيع الله ويعبده كما أنعم عليه ، وألا يعمل بالمعاصي والإفساد ، فإن الله يجازي المفسدين.

٥ ـ الله تعالى مصدر الخير والرزق ، وما العبد إلا وسيلة ، يجب عليه أن يعمل ويكتسب ، والله هو الرازق الميسر له أسباب الرزق ، المانح له الثراء والمال ، فيكون هو المستحق للشكر على تلك النعمة.

فمن الغباء والجهل أن ينسب الإنسان الخير والفضل لنفسه ومواهبه ، أو يدعي أنه الحقيق الجدير بما أعطي ، أو ينخدع بأن ما أعطيه دليل على محبة الله ورضاه عنه ، فقد يكون العطاء فتنة واستدراجا ، وليس قرينة الرضا والمودة.

لذا كان اغترار قارون بكثرة ماله ، وادعاؤه أنه أهل له عبثا باطلا.

٦ ـ أهلك الله كثيرا من الأمم الخالية الكافرة ، وهم أشد قوة من قارون ، وأكثر جمعا للمال منه ، ولو كان المال يدل على فضل لما أهلكهم.

٧ ـ لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم سؤال استعلام واستعتاب ، فالله عليم بكل شيء ، ولا يقبل اعتذارهم ولا عتبهم ، وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ كما بينا.

١٦٣

ـ ٢ ـ

بعض مظاهر بغي قارون وكبريائه

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢))

الإعراب :

(قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أراد : وقال الذين فحذف الواو كما حذفت من قوله تعالى : (سَيَقُولُونَ : ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ، وَيَقُولُونَ : خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف ١٨ / ٢٢] أي ورابعهم.

(وَيْكَأَنَّ اللهَ وَيْكَأَنَ) «وي» : منفصلة من «كأن» بمعنى أعجب ، وهي كلمة يقولها المتندم إذا أظهر ندامته. وكأن الله : بلفظ التشبيه ، لكن ليس بمعنى التشبيه ، أي إن الله.

(لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ ..) أن مخففة من الثقيلة من غير عوض ، وإن كانت قد دخلت على الفعل ، وتقديره : لو لا أن الأمر والشأن منّ الله علينا لخسف بنا. وقرئ لخسف وخسف ولا يخسف بنا. فعلى القراءة الأولى : معناه : لخسف الله بنا والجار والمجرور في موضع نصب بالفعل ، وعلى القراءة الثانية : الجار والمجرور في موضع رفع ، لقيامه مقام نائب الفاعل ، وعلى القراءة الثالثة حذفت الكسرة تخفيفا ، والقراءة الرابعة كقراءة لخسف بنا للبناء للمجهول.

١٦٤

البلاغة :

(إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) تأكيد الجملة بإن واللام ؛ لأن السامع شاك متردد.

(تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) كناية ، كنّى عن الزمن الماضي القريب بلفظ (بِالْأَمْسِ).

(يَبْسُطُ الرِّزْقَ وَيَقْدِرُ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(فَخَرَجَ) قارون (عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) في موكب مهيب يتبعه الركبان متحلين بملابس الذهب والحرير على خيول وبغال متحلية ، وكانوا أربعة آلاف. (الدُّنْيا) للتنبيه (مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) في الدنيا ، تمنوا مثله ، لا عينه حذرا من الحسد ، (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ) لصاحب نصيب (عَظِيمٍ) واف في الدنيا (أُوتُوا الْعِلْمَ) بأحوال الآخرة وما وعد الله فيها ، فالمراد بالعلم : علم الدين وأحوال المتقين (وَيْلَكُمْ) الويل : الهلاك أو العذاب ، والمراد هنا : الزجر عما لا ينبغي (ثَوابُ اللهِ) في الآخرة بالجنة (خَيْرٌ) مما أوتي قارون في الدنيا (وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) أي لا يتلقى الجنة المثاب بها (إِلَّا الصَّابِرُونَ) على الطاعات وعن المعاصي.

(فَخَسَفْنا بِهِ) أي بقارون ، وخسف : غار في الأرض ، والمراد : جعلنا عاليها سافلها (فِئَةٍ) جماعة أعوان (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره ، بأن يمنعوا عنه الهلاك (وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) الممتنعين من عذاب الله تعالى (بِالْأَمْسِ) من قريب (وَيْكَأَنَّ اللهَ) أي ألم تر أن الله ، وكلمة «وي» اسم فعل بمعنى أتعجب ، وكأن : للتشبيه في الأصل ، وليس المراد بها هنا التشبيه ، وإنما المراد : بل إن الله (يَبْسُطُ) يمدّ ويعطي (وَيَقْدِرُ) يضيق ويقتر بمقتضى مشيئته ، لا لكرامة تقتضي البسط ، ولا لهوان يوجب القبض.

المناسبة :

هذا فصل آخر من قصة قارون ، فبعد أن ذكر الله تعالى بغيه على بني إسرائيل وتجبره عليهم ، أعقبه ببيان بعض مظاهر بغيه وكبريائه ، فقام باستعراض عظمته وقوته وأبهته ، تعاليا على الناس ، وإذلالا للنفوس ، وكسرا للقلوب ، فعاقبه الله بالخسف والزلزال ، وأصبح المعجبون بحاله متعجبين مما حل به ، وأدركوا أن الإمداد بالرزق الإلهي لا لكرامة ومنزلة للإنسان عند الله ، كما أن حجب الرزق لا لهوان وسخط.

١٦٥

التفسير والبيان :

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) أي فخرج قارون يوما على قومه في زينة عظيمة وتجمل باهر ، من مراكب وملابس عليه وعلى حاشيته ، بقصد التعالي على الناس ، وإظهار العظمة والأبهة. قال الرازي : وليس في القرآن إلا هذا القدر (١) ، يعني أن وصف الزينة كما يذكر بعض المفسرين لا دليل عليه.

(قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا : يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ ، إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي فلما خرج في مظاهر الأبهة كان طبيعيا أن يفتتن بعض الناس به ، وهم السذّج والجهال الذين يريدون الحياة الدنيا ، ويميلون إلى زخارفها وزينتها ، فتمنوا أن لو كان لهم مثل ما أعطي ، وقالوا : يا ليت لنا من الأموال والثروات والأوضاع ما لقارون ، لنتمتع بها مثله ، فإنه ذو نصيب وافر من الدنيا. وهذه نزعة جبلّيّة في الإنسان ، فهو دائما يطمع في السعة واليسار : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات ١٠٠ / ٨].

وفي مقابلة هذا الفريق يوجد فريق آخر هم أهل الحكمة والعلم وبعد النظر : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ : وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ، وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) أي وقال علماء الدين وأهل العلم النافع : ويلكم أي انزجروا وارتدعوا عن هذه التمنيات والأقوال ، فإن جزاء الله ومثوبته لعباده المؤمنين الصالحين في الدار الآخرة خير مما ترون وما تتمنون ، ولكن لا يتلقى الجنة أو المثوبة ولا يوفق لها إلا الصابرون على الطاعات وعن المعاصي ، الراغبون في الدار الآخرة ، الراضون بقضاء الله في كل ما قسم من المنافع والمضار ، المترفعون عن محبة الدنيا ، وذلك كما جاء في الحديث الصحيح : «يقول الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ،

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٥ / ١٧.

١٦٦

واقرؤوا إن شئتم : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة ٣٢ / ١٧].

ثم ذكر تعالى عقاب قارون فقال :

(فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) أي بعد أن اختال قارون في زينته وفخره على قومه وبغيه عليهم ، زلزلنا به وبداره الأرض ، فابتلعته وغاب فيها جزاء بطره وعتوه ، كما ثبت في صحيح البخاري عن سالم أن أباه حدثه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بينما رجل يجرّ إزاره ، إذ خسف الله به ، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة».

(فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) أي ما أغنى عنه ماله ولا حاشيته ، ولا دفعوا عنه نقمة الله ونكاله ، ولا كان هو في نفسه منتصرا لها ، فأصبح لا ناصر له من نفسه ولا من غيره.

ولا داعي لبيان أسباب الخسف المروية في التفاسير ، فإنها كما ذكر الرازي في أكثر الأمر متعارضة مضطربة ، والأولى طرحها ، والاكتفاء بما دل عليه نص القرآن ، وتفويض سائر التفاصيل إلى عالم الغيب (١).

وحينئذ ظهرت العبرة للمعتبر ، وتبين المفتونون بمال قارون حقيقة الأمر :

(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ : وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) أي صار الذين رأوه في زينته وتمنوا في الماضي القريب أن يكونوا مثله يقولون : ألم تر أن الله يمدّ الرزق لمن يشاء من خلقه ويضيقه على من يشاء ، وليس المال بدال على رضا الله عن صاحبه ، فإن الله يعطي ويمنع ، ويضيق ويوسّع ، ويخفض ويرفع ، وله الحكمة التامة والحجة البالغة ، كما

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٥ / ١٨.

١٦٧

جاء في الحديث المرفوع عن ابن مسعود : «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم ، وإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب».

(لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا ، وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي لو لا لطف الله بنا ، وإحسانه إلينا ، لخسف بنا الأرض ، كما خسف بقارون ؛ لأنا وددنا أن نكون مثله ، وألم تر أن الله لا يحقق الفوز والنجاح للكافرين به ، المكذبين رسله ، المنكرين ثواب الله وعقابه في الآخرة ، مثل قارون.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ لقد استبد البغي والغرور والبطر والكبر بقارون ، فتعالى على قومه بني إسرائيل ، وأراد إظهار أبهته وعظمته أمامهم ، فخرج عليهم في يوم عيد في موكب مهيب مزدان بمتاع الحياة الدنيا من الثياب والتجمل والدواب.

٢ ـ انقسم الناس في شأن قارون بعد هذا الاستعراض فريقين : فريق ينبهر بسطحيات الأمور ، فأعجب بهذا المظهر ، وتمنى أن يكون مثل قارون في الثروة والمال والعزة والجاه ، وهؤلاء هم الماديون في كل زمان.

وفريق نور الله بصيرته ، ولم يغتر بمظاهر الدنيا وزخارفها ، وإنما نظر إلى الحقائق ، وأدرك أن الدنيا فانية ، وأن السعادة بالفوز في الآخرة ، وهؤلاء هم العلماء المؤمنون العارفون بمصير العالم والإنسان وهم أحبار بني إسرائيل ، فقالوا لأصحابهم الفريق الأول : ويلكم (كلمة زجر) ثواب الله أي الجنة ونعيمها خير من مال قارون وجاهه ، وهي لمن آمن وعمل الأعمال الصالحة ، ولا يؤتى الجنة في الآخرة إلا الصابرون على طاعة الله. ويلاحظ أن الضمير في قوله : (وَلا يُلَقَّاها) يراد به الجنة ؛ لأنها المعنية بقوله تعالى : (ثَوابُ اللهِ).

١٦٨

٣ ـ كان عقاب قارون في الدنيا الخسف به وبداره الأرض ، فأصبح كأن لم يكن ، وله في الآخرة عذاب النار ، ولم يكن له في الحالين جماعة ينصرونه ويمنعونه من عذاب الله ، وما كان من المنتصرين الممتنعين من العذاب.

٤ ـ إن في ذلك لعبرة للمتأمل ، فقد ندم الذين تمنوا أن يكونوا مثله ، وتنبهوا إلى حقيقة الأمر ، وتعجبوا من تعجيل العقاب ، وأدركوا أن سعة الرزق ليست دليلا على رضوان الله ، كما أن تقتير الرزق ليس علامة على سخط الله ، وحمدوا الله على فضله ورحمته وعصمته من مثل ما كان عليه قارون من البغي والبطر وما نزل به من العقاب ، وأيقنوا أن لا فلاح ولا فوز عند الله للكافرين به ، المكذبين رسله ، الجاحدين نعمته.

٥ ـ إن عاقبة الكبر والتعالي وخيمة ، وإن الاغترار بالأموال والأوصاف نذير سوء ، ذكر الحافظ محمد بن المنذر في كتاب «العجائب الغريبة» عن نوفل بن مساحق قال : رأيت شابا في مسجد نجران ، فجعلت أنظر إليه ، وأتعجب من طوله وتمامه وجماله ، فقال : ما لك تنظر إلي؟ فقلت : أتعجب من جمالك وكمالك. فقال : إن الله ليعجب مني ، قال : فما زال ينقص حتى صار بطول الشبر ، فأخذه بعض قرابته في كمه ، وذهب به.

وهذا واضح اليوم حين يفترس السرطان جسد الإنسان ، فيتآكل عظمه من الداخل تدريجيا ، ويضمر ويصيبه الهزال الشديد ، حتى يصبح قزما صغيرا ، ثم يموت.

١٦٩

ـ ٣ ـ

محل الجزاء ومقداره والعبرة من قصة قارون

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤))

الإعراب :

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ تِلْكَ) : مبتدأ ، و (الدَّارُ الْآخِرَةُ) : إما خبر ، فيكون قوله تعالى : (نَجْعَلُها) في موضع نصب على الحال أو في موضع رفع خبر بعد خبر ، وإما عطف بيان ، فيكون قوله : (نَجْعَلُها) خبر المبتدأ.

البلاغة :

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى) إلا مثلها بينهما مقابلة.

(فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) وضع الظاهر وهو السيئات موضع الضمير أي «عملوها» تهجينا لحالهم ، بتكرير إسناد السيئة لهم.

المفردات اللغوية :

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) أي الجنة ، وتلك : إشارة تعظيم ، كأنه قال : تلك التي سمعت خبرها وبلغك وصفها (عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) قهرا وتكبرا وغلبة (وَلا فَساداً) ظلما على الناس ، كما أراد فرعون وقارون (وَالْعاقِبَةُ) المصير المحمود (لِلْمُتَّقِينَ) عقاب الله أو ما لا يرضاه الله ، بفعل الطاعات.

(بِالْحَسَنَةِ) الفعلة الطيبة (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) ذاتا وقدرا ووصفا (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) الفعلة المنكرة الخبيثة (إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إلا مثل ما كانوا يعملون ، فحذف المثل ، وأقام مقامه : (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) مبالغة في المماثلة.

١٧٠

المناسبة :

بعد بيان قول أهل العلم : (ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ) أبان الله تعالى محل هذا الجزاء وهو الدار الآخرة ، وجعله للمؤمنين المتقين المتواضعين الذين لا يتكبرون على الناس ولا يفسدون فيهم ، بظلمهم وأكل حقوقهم ، ثم بيّن بعدئذ مقدار ذلك الجزاء الذي يحصل لهم : وهو أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف ، فأكثر ، فضلا من الله ورحمة ، وجزاء السيئة مثلها ، لطفا من الله وعدلا. وذلك كله عبرة بقصة قارون المتجبر المتكبر الباغي.

التفسير والبيان :

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) أي إن الدار الآخرة ونعيمها الدائم الذي لا يحول ولا يزول ، ولا عناء فيه ولا مشقة ، يجعلها ربك لعباده المؤمنين المتواضعين الذين لا يريدون ترفعا على خلق الله وتعاظما عليهم وتجبرا بهم بغير حق ، ولا فسادا بأخذ أموالهم بغير حق. ولم يعلق الوعد بالنعيم بترك العلو والفساد ، ولكن بترك إرادتهما وميل القلب إليهما. وقال : (تِلْكَ) على جهة التعظيم للجنة والتفخيم لشأنها ، يعني تلك التي سمعت بذكرها ، وبلغك وصفها.

قال علي رضي‌الله‌عنه ـ فيما رواه ابن جرير عنه ـ : إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك نعل صاحبه ، فيدخل في قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ ..) الآية. قال ابن كثير : وهذا محمول على ما إذا أراد بذلك الفخر والتطاول على غيره ، فإن ذلك مذموم ، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

«إنه أوحي إلي أن تواضعوا ، حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد».

١٧١

وأما إذا أحب ذلك لمجرد التجمل ، فهذا لا بأس به ، فقد ثبت ـ فيما روي مسلم وأبو داود ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة ، فقال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر : بطر الحق ، وغمط الناس».

(وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي والمصير المحمود وهو الجنة لمن اتقى عذاب الله وخاف عقابه ، بعمل الطاعات ، وترك المحظورات المحرّمات ، ولم يكن كفرعون الطاغية الجبار الكافر بالله ، ولا كقارون الباغية الفاجر المكذب رسل الله ، الذي يريد الفساد في الأرض والاستعلاء.

ثم بين الله تعالى حال الجزاء على الأعمال فقال :

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي من جاء بالخصلة الحسنة يوم القيامة ، فله خير منها ذاتا ومقدارا وصفة ، فثواب الله خير من حسنة العبد ، والله يضاعفه أضعافا كثيرا ، فضلا من الله ورحمة وإحسانا.

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ومن أتى بالفعلة القبيحة المنكرة شرعا وعقلا وعرفا صحيحا مقبولا ، فلا يجزى عليها إلا مثلها رحمة وعدلا ، كما قال تعالى : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النمل ٢٧ / ٩٠].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى الآتي :

١ ـ الجنة ونعيمها والعاقبة المحمودة للمؤمنين المتقين المتواضعين الذين لا يقصدون رفعة وتكبرا على الإيمان والمؤمنين ، ولا فسادا بعمل المعاصي وأخذ المال بغير حق ، وذلك من لم يكن مثل فرعون وقارون. وكان عمر بن عبد العزيز رضي‌الله‌عنه يردد هذه الآية حتى قبض.

١٧٢

وقوله : (عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) دليل على أن كل واحد من العلوّ والفساد مقصود ، لا مجموعهما. والعلو : الرفعة والتكبر. والفساد : يعم كل أنواع الشر.

٢ ـ من أتى بالخصلة الحسنة ، ومنها : لا إله إلا الله ، فله منها خير ، ومن جاء بالفعلة السيئة ، ومنها الشرك فيعاقب بما يليق بعمله.

وهذا من فضل الله العظيم ورحمته بالناس أنه لا يجزي بالسيئة إلا مثلها ، ويجزي بالحسنة عشر أمثالها ، إلى سبع مائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة ، والله يضاعف لمن يشاء.

قصص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه مع قومه

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))

الإعراب :

(أَعْلَمُ مَنْ جاءَ .. مَنْ) : في موضع نصب بفعل مقدر دل عليه (أَعْلَمُ) وتقديره : يعلم من جاء بالهدى ، كقوله : (أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام ٦ / ١١٧] أي يعلم من يضل ، ووجب التقدير لامتناع الإضافة.

١٧٣

(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وَجْهَهُ) : مستثنى منصوب. ويجوز فيه الرفع على الصفة ، وتكون (إِلَّا) بمعنى غير ، مثل : قام القوم إلا زيد ، بالرفع على الوصف ، كقولهم : قام القوم غير زيد ، وكقول الشاعر :

وكل أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلا الفرقدان

أي غير الفرقدين.

البلاغة :

(إِلَّا وَجْهَهُ) مجاز مرسل ، من قبيل إطلاق الجزء وإرادة الكل ، أي ذاته المقدسة.

المفردات اللغوية :

(فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أنزله عليك ، وأوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أي بلده مكة ، فكأن الله تعالى وعده وهو بمكة في أذى وغلبة من أهلها أنه يهاجر منها ويعيده إليها ظافرا منتصرا ، علما بأن السورة مكية. وقيل : المعاد : هو المقام المحمود الذي وعده ربه أنه يبعثه فيه يوم القيامة ، فيسأله عما استرعاه من أعباء النبوة.

(أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى أَعْلَمُ) بمعنى عالم ، و (مَنْ) منتصب بفعل يفسره : أعلم ، أي فالنبي هو الجائي بالهدى ، جوابا لقول كفار مكة : إنك في ضلال ، والحقيقة أنهم هم في ضلال (الْكِتابُ) القرآن (إِلَّا رَحْمَةً) أي لكن ألقي إليك رحمة من ربك ، أي لأجل الترحم (ظَهِيراً) معينا وناصرا (لِلْكافِرِينَ) على دينهم الذي دعوك إليه ، بمداراتهم ، والتحمل منهم ، والإجابة إلى طلبهم.

(وَلا يَصُدُّنَّكَ) أصله : ولا يصدونك ، حذفت نون الرفع للجازم ، والواو الفاعل ؛ لالتقائها مع النون الساكنة (عَنْ آياتِ اللهِ) أي عن قراءتها والعمل بها. (بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) أي لا ترجع إليهم في ذلك (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي وادع الناس إلى توحيده وعبادته (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بإعانتهم ، علما بأنه لم يؤثر الجازم في الفعل لبنائه (وَلا تَدْعُ) تعبد (هالِكٌ) معدوم (إِلَّا وَجْهَهُ) إلا ذاته (لَهُ الْحُكْمُ) القضاء النافذ (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالنشور من قبوركم.

١٧٤

سبب النزول :

نزول الآية (٨٥):

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ) : أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال : لما خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة ، فبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة ، فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ).

وقال مقاتل : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من الغار ـ غار ثور حين الهجرة ـ وسار في غير الطريق ، مخافة الطلب ، فلما أمن رجع إلى الطريق ، ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة ، وعرف الطريق إلى مكة ، واشتاق إليها ، وذكر مولده ومولد أبيه ، فنزل جبريل عليه‌السلام ، وقال له : تشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم ، فقال جبريل عليه‌السلام : فإن الله تعالى يقول: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) يعني إلى مكة ظاهرا عليهم. قال الرازي : وهذا المعنى أقرب ؛ لأن ظاهر المعاد أنه كان فيه ، وفارقه وحصل العود ، وذلك لا يليق إلا بمكة ، وإن كان سائر الوجوه محتملا ، لكن ذلك أقرب (١).

المناسبة :

قال الرازي أيضا : ثم إنه سبحانه لما شرح لرسوله أمر القيامة ، واستقصى في ذلك ، شرح له ما يتصل بأحواله ، فقال : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ)(٢).

وهذا يعني أن الله تعالى بعد أن قص في هذه السورة على رسوله قصص موسى مع فرعون ، وقصص قارون مع قومه بني إسرائيل ، وبيّن هلاك كل من

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٥ / ٢١.

(٢) المرجع والمكان السابق.

١٧٥

الطاغيتين ، أعقبه بذكر قصص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه مع قومه ، وإخراجهم أو تهجيرهم إياه من مكة ، ثم عوده إليها ظافرا منتصرا ، متابعا دعوته إلى عبادة الله وتوحيده.

التفسير والبيان :

يأمر الله رسوله بإبلاغ الرسالة وتلاوة القرآن على الناس ، ويخبره بأنه سيرده إلى معاد فقال :

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أي إن الله الذي أوجب عليك العمل بالقرآن وافترض عليك أداءه إلى الناس ، لرادّك إلى بلدك الحبيب : مكة فاتحا ظافرا منتصرا ، بعد خروجك منها مهاجرا. وكان هذا هو الفتح الأعظم الذي تم به الاستيلاء على معقل الكفر والوثنية ، وتحطيم الأصنام المنصوبة حول الكعبة المشرفة.

وهو وعد صادق منجز من الله لرسوله ، حينما كان في مكة في طريقه إلى المدينة ، فاطمأن لذلك وهدأت نفسه. قال المحققون : وهذا أحد ما يدل على نبوته ؛ لأنه أخبر عن الغيب ووقع كما أخبر ، فيكون معجزا.

ولما وعد الله تعالى رسوله الرد إلى معاد أمره أن يقول للمشركين (كفار مكة) توبيخا لهم حينما اتهموه بأنه في ضلال القول الآتي :

(قُلْ : رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى ، وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي قل أيها الرسول لمن خالفك وكذبك من قومك من المشركين ومن تبعهم على كفرهم : الله تعالى العالم البصير الذي يعلم الغيب والشهادة هو عالم بالمهتدي مني ومنكم ، وعالم بالضال ضلالا بينا ظاهرا ، وعالم بمن جاء بالهدى ـ يعني نفسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو القرآن ، وبما يستحقه من الثواب في معاده ، وإعزازه بالإعادة إلى مكة ،

١٧٦

وستعلمون لمن تكون له عاقبة الدار ، ولمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة ، فينصر المؤمن ، ويخذل الكافر.

ثم قال تعالى مذكرا نبيه نعمته العظيمة عليه وعلى الناس إذ أرسله إليهم :

(وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي وما كنت أيها النبي تظن قبل إنزال الوحي إليك أن الوحي ينزل إليك ، وأن القرآن ينزل على قلبك ، فتعلم به أخبار الماضين ، وتعرف منه دستور الحياة ، وتشريع المجتمع الذي فيه سعادتهم ونجاتهم ، ولكن إنما أنزل ربك الوحي عليك وألقى عليك الكتاب ، رحمة منه بك وبالعباد بسببك.

وبناء عليه كلفه ربه بأمور خمسة هي :

١ ـ (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) أي فلا تكن معينا للكفار بأي حال ، ولكن فارقهم وخالفهم ، وكن عونا للمسلمين ، والله مؤيدك وحافظك.

٢ ـ (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) أي ولا تلتفت إلى هؤلاء المشركين ، ولا تتأثر بهم ولا لمخالفتهم لك ، ولا تركن إلى قولهم ، فيصدّوك عن اتباع آيات الله المنزلة إليك ، وتبليغها للناس ، فإن الله معك ، ومؤيد دينك ، ومظهر ما أرسلك به على سائر الأديان ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ، فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ، وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة ٥ / ٦٧].

٣ ـ (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي وادع إلى عبادة ربك وحده لا شريك له ، وبلّغ دينه ، وأعلن رسالته دون تردد ولا خوف ولا تمهل. وهذا أمر بالصدع أو الجهر بالدعوة ، وفيه تشدد بدعوة الكفار والمشركين ، ولكن في مظلة الأمن والسلام ، والمهادنة والموادعة.

١٧٧

٤ ـ (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي واحذر أن تكون مع الذين أشركوا بربهم ، فجعلوا له شريكا وندا ، فتكون من الهالكين ، لأن من رضي بطريقتهم كان منهم.

وهذا النهي عن مظاهرة المشركين ونحو ذلك من باب إلهاب الحماس ، وتهييج العاطفة ، وإثارة الغيرة على استقلال دين التوحيد وعبادة الله.

ثم فسر ذلك بقوله :

٥ ـ (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي ولا تعيد مع الله إلها آخر ، ولا تدع في أي عمل من الأعمال إلها غير الله ؛ لأنه لا تليق العبادة إلا له ، ولا جدوى في الدعاء لغيره ، ولا تنبغي الألوهية إلا لعظمته ، ولا معبود يستحق العبادة سواه ، كما قال : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [المزمّل ٧٣ / ٩] أي فاتخذه وكيلا في أمورك ، وهو نعم الوكيل.

وهذا وإن كان واجبا على الكل ، إلا أنه تعالى خاطبه به خصوصا لأجل التعظيم.

ثم بيّن الله تعالى صفات الألوهية التي تفرد بها فقال :

أولا ـ (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) أي كل من في الوجود فان إلا ذات الله المقدسة ، فهو الدائم الباقي ، الحي القيوم ، الذي يميت الخلائق ولا يموت ، كما قال سبحانه : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن ٥٥ / ٢٦ ـ ٢٧]. وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أصدق كلمة قالها الشاعر لبيد :

ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل»

١٧٨

ومقتضى هذا أن كل الذوات فانية وزائلة إلا ذاته تعالى وتقدس ، فإنه الأول والآخر ، الذي هو قبل كل شيء ، وبعد كل شيء.

ثانيا ـ (لَهُ الْحُكْمُ) أي له الملك والتصرف والقضاء النافذ في الخلق ، ولا معقب لحكمه.

ثالثا ـ (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي مصير جميع الخلائق إليه ، فإليه ترجعون يوم معادكم ، فيجزيكم بأعمالكم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ ختم الله تعالى سورة القصص ببشارة نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم برده إلى مكة ، قاهرا لأعدائه ، فاتحا البلد الحرام ، مكسرا الأصنام ، معلنا انتهاء عهد الشرك والوثنية ، رافعا راية التوحيد إلى الأبد بأنه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ). وهذا إشارة إلى الهجرة وإلى فتح مكة أيضا.

٢ ـ يستخدم القرآن أحيانا أسلوب اللين والحكمة وإثارة الانتباه والتفكير في حقيقة دعوة الإسلام ، فلا يحسم الأمر ليترك سبيلا للمناقشة والأخذ والرد ، وهذا من فنون السياسة الرفيعة المستوى ، لذا أمر الله نبيه أن يقول : (قُلْ : رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى ، وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي قل لكفار مكة وأمثالهم إذا قالوا : إنك لفي ضلال مبين : ربي هو العالم بالمهتدي والضال : أنا أم أنتم.

٣ ـ لا علم لأحد ، ولا علم لرسوله أن الله تعالى يرسله نبيا رسولا إلى الخلق أجمعين ، وينزل عليه القرآن نورا وهدى ونبراسا ودستورا للحياة وتشريعا خالدا صالحا على الدوام للإنسانية جمعاء.

١٧٩

ولكن رحمة الله برسوله وبعباده اقتضت إرسال الرسول ، وإنزال القرآن حكما عدلا وقولا فصلا.

٤ ـ كلّف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمسة أمور : ألا يكون عونا ولا مساعدا للكافرين في جميع الأحوال ، وأن يمضي في تبليغ رسالة ربه وأمره وشأنه دون أن تمنعه أقوال الكفار وكذبهم وأذاهم عن مواصلة الطريق في الدعوة إلى الله ، وأن يعلن الدعوة إلى توحيد الله ، وألا يكون مع المشركين ؛ لأن من رضي بطريقتهم كان منهم ، وألا يعبد مع الله إلها غيره ، فإنه لا إله إلا هو ، وهذا نفي لكل معبود وإثبات لعبادة الله تعالى.

٥ ـ وصف الحق تعالى نفسه بصفات ثلاث : هي كل شيء في الوجود هالك فان غير الله تعالى ، وله الحكم النافذ في الدنيا والآخرة ، وكل المخلوقات راجعة إليه للحساب والجزاء على الأعمال خيرها وشرها.

وهذا يعني : ليس كل شيء هالكا من غير رجوع ، بل كل شيء هالك ، وله رجوع إلى الله تعالى.

١٨٠