التفسير المنير - ج ٢٠

الدكتور وهبة الزحيلي

فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧))

الإعراب ::

(كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) حذف مفعولا الفعل : (تَزْعُمُونَ) ، أي تزعمونهم شركائي.

(هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا هؤُلاءِ) مبتدأ ، و (الَّذِينَ أَغْوَيْنا) خبر المبتدأ الثاني ، أي : هؤلاء هم الذين أغوينا.

(ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ كَما) : إما نافية ، وإما مصدرية ، أي تبرأنا إليك من عبادتهم إيانا ، والوجه الأول أوجه.

البلاغة :

(أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)؟ استفهام على سبيل التهكم والسخرية.

(أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) تشبيه مرسل.

(فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) فيه استعارة تصريحية تبعية ، وقلب ، وتضمين ، أستعير العمى لعدم الاهتداء ، فهم لا يهتدون للأنباء ، ثم قلب للمبالغة فجعل الأنباء لا تهتدي إليهم ، وأصله : فعموا عن الأنباء ، وضمّن معنى الخفاء فعدي ب (على).

المفردات اللغوية :

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) منصوب بفعل محذوف : اذكر ، أو معطوف على : يوم القيامة في الآية السابقة (٦١). (كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي الذين كنتم تزعمونهم شركائي ، فحذف المفعولان لدلالة الكلام عليهما. (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) وجب وثبت مقتضى القول وحصل مؤداه ، وهو قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة ٣٢ / ١٣] وغيره من آيات الوعيد ، أي ثبت القول عليهم بدخول النار ، وهم رؤساء الضلالة.

(هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) قال صاحب الكشاف : (هؤُلاءِ) مبتدأ ، و (الَّذِينَ أَغْوَيْنا) أي أضللنا : صفة المبتدأ ، و (أَغْوَيْناهُمْ) الخبر ، وكاف (ما) صفة مصدر محذوف تقديره : أغويناهم ، فغووا غيا ، مثل ما غوينا ، يعنون أنا لم نغو إلا باختيارنا ، ولم نكرههم على الغي ؛ لأن إغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسة وتسويلا ، لا قسرا وإلجاء ، فلا فرق إذن بين

١٤١

غينا وغيهم ، وإن كان تسويلنا داعيا لهم إلى الكفر ، والغواية : الضلال. (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) منهم أي من عبادتهم إيانا. (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ كَما) نافية ، أي ما كانوا يعبدوننا ، وإنما كانوا يعبدون أهواءهم.

(ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي الأصنام الذين تزعمون أنهم شركاء الله. (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) أي فلم يجيبوا دعاءهم ، لعجزهم عن الإجابة والنصرة. (وَرَأَوُا الْعَذابَ) أبصروه هم. (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) في الدنيا ، لما رأوه في الآخرة.

(فَعَمِيَتْ) خفيت. (الْأَنْباءُ) الأخبار والحجج التي تنجيهم. (يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة ، لم يجدوا خبرا لهم فيه نجاة ، أي فصارت الأنباء كالعمى عليهم لا تهتدي إليهم ، وأصله : فعموا عن الأنباء ، لكنه عكس مبالغة ودلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يأتي من خارج. (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب لفرط الدهشة.

(فَأَمَّا مَنْ تابَ) من الشرك. (وَآمَنَ) صدق بتوحيد الله. (وَعَمِلَ صالِحاً) أدى الفرائض ، وجمع بين الإيمان والعمل الصالح. (مِنَ الْمُفْلِحِينَ) الناجحين عند الله ، وعسى : تحقيق على عادة الكرام ، أو ترج من التائب بمعنى فليتوقع أن يفلح.

المناسبة :

بعد بيان كون التمتع في الدنيا بزخارفها دون طاعة الله وشكره على نعمه سببا في عذاب الكافر يوم القيامة ، أبان الله تعالى حالة الإهانة والتقريع للمشركين أو الكافرين حين يسألهم الله تعالى يوم القيامة ثلاثة أسئلة يحارون في الجواب عنها ، وهي السؤال عن آلهتهم التي عبدوها في الدنيا ، وعن دعوتهم لها ، وعما أجابوا به الرسل الذين دعوهم إلى الإيمان بربهم.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عما يوبخ به الكفار المشركين يوم القيامة بحيث يناديهم ويسألهم عن ثلاثة أشياء :

الأول ـ السؤال عن نصرة الآلهة المزعومة : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ : أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي واذكر أيها الرسول يوم ينادي الحق تعالى

١٤٢

هؤلاء المشركين ، فيقول لهم : أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا من الملائكة والجن والكواكب والأصنام والأنداد والأشخاص ، وتزعمون أنهم شركائي ، هل يشفعون لكم ، وهل ينصرونكم أو ينتصرون؟ والمقصود من السؤال الإهانة والتحقير ، والتقريع والتنديد ، فلا جواب لديهم ؛ لأنهم عرفوا يوم القيامة بطلان ما كانوا عليه ، وأدركوا صحة التوحيد والنبوة بالضرورة.

ونظير الآية : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ ، وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ، وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام ٦ / ٩٤].

ثم ذكر جواب أئمة الضلال ودعاة الكفر ، فقال :

(قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ : رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا ، تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) أي قال رؤساء الضلال والدعاة إلى الكفر الذين ثبت عليهم مقتضى القول وتحقق فيهم مؤداه ولزمهم الوعيد ، بقوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة ٣٢ / ١٣] : ربنا هؤلاء الأتباع الذين آثروا الكفر على الإيمان كان غيهم باختيارهم ، كما أن غينا باختيارنا ، فإن إغواءنا وإضلالنا لهم ما ألجأهم إلى الغواية والضلال قسرا وإكراها ، بل كانوا مختارين حين أقدموا على تلك العقائد والأعمال. والمراد أن تبعة غيهم عليهم لا علينا.

ونحن نتبرأ إليك منهم ، ومن عقائدهم وأعمالهم ، ومما اختاروه من الكفر والعصيان ، وهم في الحقيقة ما كانوا يعبدوننا ، وإنما كانوا يعبدون أهواءهم ، ويطيعون شياطينهم ، فالمعبودون شهدوا أنهم أغووا الأتباع فاتبعوهم ، ثم تبرؤوا من عبادتهم.

وذلك كما قال تعالى في آية أخرى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ

١٤٣

عِزًّا ، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم ١٩ / ٨١ ـ ٨٢] وقال سبحانه : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) [الأحقاف ٤٦ / ٥ ـ ٦] وقال عزوجل : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ، وَرَأَوُا الْعَذابَ ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) [البقرة ٢ / ١٦٦].

السؤال الثاني ـ السؤال عن جواب الآلهة لدفع العذاب : (وَقِيلَ : ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ، فَدَعَوْهُمْ ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ، وَرَأَوُا الْعَذابَ ، لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) أي وقيل للمشركين بالله : ادعوا شركاءكم آلهتكم ليخلصوكم مما أنتم فيه كما كنتم ترجون في الدار الدنيا ، فدعوهم لفرط الحيرة والدهشة ، فلم يجيبوهم عجزا منهم عن الجواب ، وتيقنوا أنهم صائرون إلى النار لا محالة ، وودّوا حين عاينوا العذاب عن الجواب ، وتيقنوا أنهم صائرون إلى النار لا محالة ، وودّوا حين عاينوا العذاب المحدق بهم لو أنهم كانوا من المهتدين المؤمنين في الدنيا. وعلى هذا جواب (لَوْ) محذوف ، أي ودوا حين رأوا العذاب لو كانوا في الدنيا يهتدون.

ونظير الآية : (وَيَوْمَ يَقُولُ : نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ، فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ، وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً. وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها ، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) [الكهف ١٨ / ٥٢ ـ ٥٣].

والقصد من هذا السؤال التوبيخ والتقريع وكشفهم أمام الناس ، بدعائهم من لا نفع له ولا فائدة ترتجى منه ، فهم لو دعوهم لم يوجد منهم إجابة في النصرة ، وأن العذاب مقرر لهم ثابت عليهم. وفي ذلك ردع وزجر عن الشرك وخرافاته في الدنيا.

السؤال الثالث ـ السؤال عن التوحيد وإجابة الأنبياء : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ : ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)؟ أي واذكر يوم ينادي الله تعالى المشركين لمعرفة جوابهم للمرسلين إليهم ، وكيف كان حالهم معهم ، وعن التوحيد الذي دعوا

١٤٤

إليه ، وهذا كما يسأل العبد في قبره : من ربّك ، ومن نبيك ، وما دينك؟ فأما المؤمن فيشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وأما الكافر فيقول : هاه هاه لا أدري ، فلا جواب له يوم القيامة غير السكوت. وفي هذا إثبات النبوات ، وإعلان التوحيد ، والبراءة عن الآلهة المزعومة من أصنام وغيرها.

(فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ ، فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) أي فخفيت عليهم الحجج ، وعموا عن أوجه الدفاع عن أنفسهم يوم القيامة ، ولم يجدوا بدا من السكوت ، ولا يسأل بعضهم بعضا كما يسأل الناس في المشكلات ، لما اعتراهم من الدهشة والذهول ، ولتساوي الناس جميعا في عمى الأنباء عنهم والعجز عن الجواب ، حتى الأنبياء ، كما قال تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ ، فَيَقُولُ : ما ذا أُجِبْتُمْ ، قالُوا : لا عِلْمَ لَنا ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة ٥ / ١٠٩] فما ظنك بهؤلاء الضلال؟! وسميت حججهم أنباء (أخبارا) لأنها أخبار يخبرونها.

وبعد بيان الصورة القاتمة لحال هؤلاء المشركين وتوبيخهم ، ذكر الله تعالى حال التائبين ترغيبا في التوبة والبراءة عن الكفر ، فقال :

(فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ، فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) أي فأما الذين تابوا من المشركين ، وصدقوا بالله وتوحيده ، وأخلصوا العبادة له ، وآمنوا بنبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعملوا الأعمال الصالحة في الدنيا من فرائض وغيرها ، فهم ناجون فائزون برضوان الله ونعيمه في الجنة يوم القيامة. وعسى من الله على سبيل التحقق ، فإن هذا واقع بفضل الله ومنته لا محالة ، وأما من العبد فتوقع وترج أن يفلح ويفوز بما طلب.

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات تنبيها وإنذارا مسبقا ، وتوبيخا ، وزجرا عن الكفر ، كي يتدارك الإنسان أمره في الدنيا ، كيلا يفاجأ بالمصير المشؤوم يوم القيامة.

١٤٥

وفيها تفنيد لمزاعم الكفار في شفاعة الآلهة المختلقة ، ونصرتها لعابديها في عالم الحساب في الآخرة.

ففي التساؤل الأول تتبدد الآمال ، وتزول الرجاءات ، وتنقطع الأطماع ، فلا يجد العابدون فائدة في نصرة الشركاء وشفاعتهم لهم ، ويتبرأ بعضهم من بعض ، فالشياطين يتبرءون ممن أطاعهم ، والرؤساء يتبرءون ممن قبل منهم ، وتقع الكارثة ، ويبهت المجرمون الكافرون ، كما قال تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف ٤٣ / ٦٧].

وفي التساؤل الثاني تشتد الحيرة وتسيطر الدهشة ، فيستغيث الكفار بآلهتهم التي عبدوها في الدنيا لتنصرهم وتدفع عنهم عذاب يوم القيامة ، فلا يجدون جوابا لاستغاثتهم ، ولا صدى لدعائهم ، ولا ينتفعون أصلا بهم ، وودّوا حين رأوا العذاب محدقا بهم لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا إلى الإيمان بالله تعالى والعمل بكتابه وبما جاء به رسوله.

وفي التساؤل الثالث وهو الأمر الحاسم يطلب منهم الجواب عما أجابوا به رسل الله وأنبياءه الكرام لما بلغوهم رسالات ربهم ، ولكنهم يسكتون بسبب الحيرة والهول واستيلاء الدهشة عن الجواب ، وتخفى عليهم الحجج ، فلا يجدون حجة لهم يوم القيامة ، ولا يتمكنون من سؤال بعضهم بعضا عن الحجج ؛ لأن الله تعالى أدحض حججهم ، وأخرس ألسنتهم ، إذ كل ما يقولونه باطل محض لا خير فيه. وفي هذا إثبات التوحيد والنبوة.

وأمام هذه الصورة الكئيبة والحالة المفجعة ، فتح الله أمام أولئك المشركين والكفار باب الأمل بالفوز والفلاح وإحراز السعادة ، وهو باب التوبة ، وطريق أهل الحق والإيمان ، وحكم سبحانه أنه بالرغم من سوء حال المشركين الماضية في الدنيا لو تابوا من الشرك ، وصدقوا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر ،

١٤٦

وعملوا الصالحات بأداء الفرائض والإكثار من النوافل ، لكانوا بالتأكيد من جانب الله من الفائزين بالسعادة ، فإن «عسى» من الله واجبة ، ومن جانبهم على طريق الأمل والرجاء وتوقع النجاة والفوز.

وفي هذا ترغيب في التوبة والتخلص من ظلمة الكفر ، وضلال الشرك ، وإعمال الفكر في طريق العودة إلى الله إيمانا بوجوده ووحدانيته ، وتصديقا بالكتب والرسل والبعث ، ومبادرة إلى القيام بالتكاليف الإلهية.

صاحب الحق المطلق في الاختيار المستحق للحمد والعبادة

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠))

الإعراب :

(ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ، ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) : (ما) الأولى : اسم موصول بمعنى الذي ، في موضع نصب مفعول به ل (يَخْلُقُ). و (ما) الثانية : نافية لا موضع لها من الإعراب.

البلاغة :

(تُكِنُ) و (يُعْلِنُونَ الْأُولى وَالْآخِرَةِ) بين كل طباق.

المفردات اللغوية :

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) فيه إثبات حرية الخلق والاختيار لله عزوجل ، دون موجب عليه ولا مانع له. (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) فيه نفي الاختيار عن المشركين وغيرهم ، والخيرة : هي الاختيار باصطفاء بعض الأشياء وترك بعض (سُبْحانَ اللهِ) تنزيها لله أن ينازعه أحد في اختياره. (تَعالى) تعاظم وتقدس عن إشراكهم. (تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) تخفي أو تسرّ قلوبهم من

١٤٧

الكفر وعداوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والحقد عليه وغير ذلك. (وَما يُعْلِنُونَ) يظهرون بألسنتهم من الطعن في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره. (وَهُوَ اللهُ) المستحق للعبادة. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا أحد يستحقها إلا هو. (فِي الْأُولى) الدنيا. (وَالْآخِرَةِ) الجنة. (لَهُ الْحُكْمُ) القضاء النافذ في كل شيء دون مشاركة أحد. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالنشور.

المناسبة :

بعد توبيخ المشركين على اتخاذ الشركاء ودعوتهم للشفاعة والنصرة ، أبان الله تعالى أنه هو صاحب الاختيار المطلق في تعيين الشفعاء ، لا المشركون ، وكذا في اصطفاء بعض المخلوقات للرسالة والنبوة وتمييزهم عن غيرهم ، فكان اختيار المشركين جهلا وغباء وضلالا. وسبب كون الاختيار لله : أنه العالم بالخفايا والظواهر ، وأنه لإنعامه المستحق للعبادة ، فلا يستحقها إلا هو ، وأنه صاحب القضاء النافذ في كل شيء ، وأن إليه المرجع والمآب للسؤال والحساب.

التفسير والبيان :

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ، ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ، سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي أنه تعالى يخبر أنه المنفرد بالخلق والاختيار دون منازع ولا معقب ، والمعنى : ربك يا محمد وكل سامع صاحب الحق المطلق في خلق ما يشاء ، واختيار ما يريد ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، والأمور كلها خيرها وشرها بيده ، ومرجعها إليه ، يختار أقواما لأداء الرسالة ، ويصطفي من الملائكة والناس رسلا لأداء المهمة ، ويمنح الحق في الشفاعة لمن يريد ، يميز بعض مخلوقاته على بعض.

وليس للمشركين ولا لغيرهم أن يختاروا شيئا ، فيقولوا مثلا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف ٤٣ / ٣١] أي إما على الوليد بن المغيرة أو على عروة بن مسعود الثقفي شيخ الطائف. فقوله تعالى (ما كانَ) :

١٤٨

(ما) نافية على الصحيح كما نقل عن ابن عباس وغيره ، ولأن المقام في بيان انفراده تعالى بالخلق والتقدير والاختيار ، وأنه لا نظير له في ذلك ، ولهذا نزّه تعالى نفسه في منازعة أحد في سلطانه ، فقال : (سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزيها لله وتقديسا وتعاليا عن إشراك المشركين ، وعن أن ينازعه أحد في اختياره وخلقه من الأصنام والأنداد التي لا تخلق ولا تختار شيئا.

والمقصود أن يعلم أن الخلق والاختيار والإعزاز والإذلال مفوض إلى الله تعالى ، ليس لأحد فيه شركة ومنازعة.

ثم بيّن الله تعالى كون اختياره مبنيا على علم ثابت صحيح فقال :

(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) أي وربك أيها العبد المخلوق يعلم ما تخفيه صدورهم وما تنطوي عليه ضمائرهم وسرائرهم من الكيد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعداوته ، كما يعلم ما تبديه الظواهر من سائر الخلائق ، كما قال : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ ، وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) [الرعد ١٣ / ١٠].

وهذا العلم الشامل المطلق صادر ممن له خصائص الألوهية وكونه الإله الفرد الصمد ، فقال :

(وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي هو المنفرد بالألوهية ، فلا معبود سواه ، كما لا رب يخلق ما يشاء ويختار غيره ، فهو العليم بكل شيء القادر على كل شيء.

وفيه تنبيه على كونه قادرا على كل الممكنات ، عالما بكل المعلومات ، منزها عن النقائص والآفات ، لذا كان هو المستحق للحمد والشكر كما قال :

(لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) أي إنه تعالى وحده المستحق للحمد والشكر ، والعبادة ، المحمود في جميع ما يفعله في الدنيا والآخرة ؛ لأنه بعدله وحكمته يمنح النعم ويفيض الخير على مخلوقاته.

١٤٩

(وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي وهو تعالى له القضاء النافذ في كل شيء ، فلا معقّب لحكمه ، وهو القاهر فوق عباده ، الرحيم اللطيف الخبير ، وإليه ترجع جميع الخلائق يوم القيامة ، فيجزي كل عامل بعمله من خير أو شر ، ولا يخفى عليه منهم خافية في الأرض ولا في السماء.

وفيه نهاية الزجر والردع للعصاة ، ونهاية تقوية القلب للمطيعين ، فلا يخل بميزان العدل ، يجازي المحسنين على طاعتهم ، ويعاقب العصاة على عصيانهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ الاختيار إلى الله تعالى في الشفعاء ، لا إلى المشركين.

٢ ـ الخلق أو الاختيار لله تعالى في أفعاله ، وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها ، فليس لأحد من خلقه أن يختار عليه ، كما قال : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب ٣٣ / ٣٦].

روى الترمذي عن أبي بكر رضي‌الله‌عنه : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أراد أمرا قال : اللهم خر لي واختر لي» وروى ابن السني مرفوعا عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «يا أنس ، إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات ، ثم انظر إلى ما يسبق قلبك ، فإن الخير فيه».

ومن هنا شرعت صلاة الاستخارة ، بأن يتوضأ ويصلي ركعتين يقرأ في الأولى بعد الفاتحة (الكافرون) وفي الثانية (الإخلاص). روى البخاري في صحيحة عن جابر بن عبد الله قال : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلّها ، كما يعلّمنا السورة من القرآن ، يقول : إذا همّ أحدكم بالأمر ، فليركع ركعتين غير الفريضة ، ثم ليقل :

١٥٠

اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علّام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري ، فاقدره لي ويسّره لي ، ثم بارك لي فيه ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شرّ لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري ، فاصرفه عني ، واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ، ثم رضني به» قال : ويسمي حاجته. قال العلماء : وينبغي له أن يفرّغ قلبه من جميع الخواطر ، حتى لا يكون مائلا إلى أمر من الأمور ، فعند ذلك ما يسبق إلى قلبه يعمل عليه ، فإن الخير فيه إن شاء الله ، فإن وجد انشراحا وسرورا وارتياحا فالأمر خير ، وإن وجد انقباضا وضيقا ، فالأمر شر.

٣ ـ إن اختيار الملائكة والرسل لأداء الرسالة إلى الله ، فهو يصطفي منهم ما يشاء على وفق الحكمة والمصلحة والعلم الشامل ، وليس ذلك لأحد من الناس ، كما تبادر إلى بعض المشركين أن تكون الرسالة لأحد زعيمين قويين في المال والأولاد والسلطة والنفوذ : إما الوليد بن المغيرة ، وإما عروة بن مسعود ، كما تقدم بيانه.

٤ ـ تقدس وتمجد الله عن إشراك المشركين.

٥ ـ الله تعالى عالم الغيب والشهادة ، لا يخفى عليه شيء.

٦ ـ الله جل جلاله هو المنفرد بالألوهية والوحدانية ، وجميع المحامد له ، ولا حكم إلا إليه ، وإليه المرجع والمصير.

١٥١

أدلة العظمة والسلطان الإلهي وتأكيد تقريع المشركين

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥))

الإعراب :

(لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي في الليل ، ولم يقل : لتسكنوا فيهما ؛ لأن السكون إنما يكون بالليل لا بالنهار ، وقوله : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي في النهار ؛ لأن الابتغاء للرزق إنما يكون بالنهار في العرف والعادة.

البلاغة :

(مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) وكذا (يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ)؟ استفهام للتبكيت والتوبيخ.

(وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) لف ونشر مرتب ، ذكر الليل والنهار ، ثم أعاد السكن إلى الليل ، وابتغاء الرزق إلى النهار بالترتيب.

المفردات اللغوية :

(قُلْ) لأهل مكة وغيرهم. (أَرَأَيْتُمْ) أخبروني. (سَرْمَداً) دائما متصلا متتابعا.

(بِضِياءٍ) نهار تطلبون فيه المعيشة. (أَفَلا تَسْمَعُونَ) ذلك سماع تدبر وتفهم واستبصار ، فترجعوا عن الإشراك. (تَسْكُنُونَ فِيهِ) تستقرون وتستريحون فيه من متاعب الأشغال. (أَفَلا

١٥٢

تُبْصِرُونَ) ما أنتم عليه من الخطأ في الإشراك ، فترجعوا عنه. وقدم السمع لأن استفادة العقل من السمع أكثر من استفادته من البصر.

(لِتَسْكُنُوا فِيهِ) في الليل. (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) لتطلبوا الرزق من فضل الله في النهار بأنواع المكاسب. (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) اذكر يوم. (أَيْنَ شُرَكائِيَ ..) تقريع بعد تقريع للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به ؛ أو أن الأول لتقرير فساد آرائهم ، والثاني لبيان أنه لم يكن عن سند أو دليل ، وإنما كان محض تشه وهوى. (وَنَزَعْنا) أخرجنا. (شَهِيداً) هو نبيهم يشهد عليهم بما كانوا عليه. (فَقُلْنا) للأمم. (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على صحة ما قلتم من الإشراك وما كنتم تدينون به. (فَعَلِمُوا) حينئذ. (أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) أي في الألوهية ، لا يشاركه فيها أحد. (وَضَلَّ عَنْهُمْ) غاب عنهم غيبة الضائع ، أو تاه. (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) في الدنيا من الباطل وهو أن معه شريكا آخر ، تعالى عن ذلك.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى أنه الخالق المختار ، وسفّه آراء المشركين في عبادتهم غير الله ، وبعد أن أبان أنه المستحق للحمد على ما تفضل به من النعم ، أردفه بإيراد بعض الأدلة والبراهين الدالة على عظمته وسلطانه وهي النعم التي لا يقدر عليها سواه ، لتذكير الناس بما يجب عليهم من الحمد له ، وشكر المنعم المتفضل به. ثم كرر قوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) على جهة الإبلاغ والتأكيد ، ثم ذكر شهادة نبي كل أمة على أعمالهم في الدنيا ، زيادة في الغم وإثباتا للجرم.

التفسير والبيان :

يمتن الله على عباده بما سخر لهم من الليل والنهار اللذين لا قوام لهم بدونهما فقال :

ـ (قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ ، أَفَلا تَسْمَعُونَ)؟ أي قل أيها الرسول للمشركين بالله : أخبروني إن جعل الله وقتكم كله ظلاما ، فجعل الليل عليكم دائما متتابعا إلى يوم القيامة ، فيحصل لكم السأم والضجر والضرر ، كالمناطق القطبية التي يكون فيها

١٥٣

الزمن كله ليلا لمدة ستة أشهر ، ثم يكون مثلها نهارا ، فمن الإله غير الله الذي يتمكن من الإتيان بضياء النهار ، أفلا تسمعون ذلك سماع تدبر وتفهم وتفكر ، فتقلعوا عن الإشراك بالله ؛ لأن كل من سوى الله عاجز عن ذلك وغيره؟ ثم ذكر العكس فقال :

ـ (قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ، أَفَلا تُبْصِرُونَ)؟ أي وقل لهم أيضا أيها الرسول : أخبروني إن جعل الله زمنكم كله نهارا ، فجعل النهار دائما متصلا إلى يوم القيامة دون أن يعقبه ليل ، فتتعب الأبدان وتكل الأجسام من كثرة الحركات والأشغال ، فمن ذلك الإله غير الله يستطيع الإتيان بليل تستقرون وتستريحون فيه من عناء التعب ، أفلا تبصرون هذه الظاهرة والحقيقة الدالة على القدرة الإلهية التامة ، فتعلموا أن المستحق للعبادة والتأليه هو الله المنعم بهذه النعم؟

ـ (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي ومن رحمته بكم أيها الخلق تعاقب الليل والنهار وتفاوتهما ، فجعل لكم الليل ظلاما للراحة والسكن والاستقراء وهدوء النفس من عناء العمل النهاري ، وجعل لكم النهار مضيئا لتبصروا فيه منافعكم ، وتحصلون فيه معايشكم ، وتتنقلوا فيه بالأسفار من بلد لآخر ، ويمتلئ بالحركات والأشغال ، بحثا عن موارد الرزق ، وقضاء الحاجات بأنس ومتعة لا يتوافران في العمل الليلي ، فتشكروا الله بأنواع العبادات ليلا ونهارا على ما أنعم به عليكم من هذه النعم دون أن يشاركه فيها شريك؟

دلّ هذا بحق على أن تعاقب الليل والنهار من أعظم النعم على المخلوقات ، بل ومن البراهين الدالة على كمال القدرة الإلهية ، كما قال سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) [الفرقان ٢٥ / ٦٢]

١٥٤

ونحو ذلك من الآيات الكثيرة. وهذا التعاقب لأغراض ثلاثة : أن تسكنوا في أحدهما وهو الليل ، ولتبتغوا من فضل الله في الآخر ، وهو النهار ، ولإرادة شكركم على المنفعتين معا.

ويلاحظ أنه تعالى قرن قوله (أَفَلا تَسْمَعُونَ) بالليل ، لمناسبته له ، ففي سكون الليل وظلامه يكون إعمال السمع أفيد ، ففيه يدرك الإنسان ما لا يدركه بالبصر من منافع وفوائد. ثم قرن قوله : (أَفَلا تُبْصِرُونَ) بالنهار ، لمناسبته له ، ففي ضوء النهار يكون إعمال البصر أوقع ، ففيه يدرك الإنسان بعينه من المنافع والفوائد والعظات ما لا يدركه السمع أثناء الضجة والحركة ، وعلى هذا كان التذييل بما هو الأليق بكل من الليل والنهار.

وأما سبب التذييل بكل منهما فهو الحث على الانتفاع بما يسمعون ويبصرون تأملا وتدبرا ، فلما لم ينتفعوا بالسمع والبصر نزّلوا منزلة من لا يسمع ولا يبصر.

ثم أعاد الله تعالى النداء لمن عبد مع الله إلها آخر على رؤوس الأشهاد على سبيل التوبيخ والتقريع فقال :

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ : أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)؟ أي واذكر أيها الرسول للمشركين يوم يناديهم ربك ، فيقول لهم : أين شركائي الذين كنتم تزعمون في دار الدنيا أنهم شركائي ، ليخلّصوكم مما أنتم فيه.

والقصد من تأكيد هذا النداء مرة ثانية التنبيه على أنه لا شيء أجلب لغضب الله تعالى من الإشراك به ، كما أنه لا شيء أدعى لمرضاته من توحيده تعالى.

قال القرطبي : والمناداة هنا ليست من الله ؛ لأن الله تعالى لا يكلم الكفار ؛ لقوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [البقرة ٢ / ١٧٤] لكنه تعالى يأمر من يوبخهم ويبكّتهم ، ويقيم الحجة عليهم في مقام الحساب (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٣ / ٢٠٩.

١٥٥

ويترتب على هذا النداء التوبيخي زيادة غمهم وفرط حزنهم وألمهم ، وقد أكد ذلك بالإشهاد عليهم ، ليعلم أن التقصير منهم ، فيكون ذلك زائدا في غمهم ، فقال :

(وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ، فَقُلْنا : هاتُوا بُرْهانَكُمْ ، فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وأخرجنا أو أحضرنا من كل أمة شاهدا عليهم وهو نبيهم أو رسولهم ، كما قال تعالى : (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) [الزمر ٣٩ / ٦٩] وقال : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء ٤ / ٤١] فكل رسول يشهد على قومه بأعمالهم في الدنيا ، ويشهد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأنبياء جميعا.

وقلنا لهم : أحضروا برهانكم على صحة ما ادعيتموه من أن لله شريكا ، فلم يتمكنوا ولم يجيبوا ، وعلموا علم اليقين حينئذ أن الحق في الألوهية لله وحده ، فلا إله غيره ، ولا رب سواه ، ولا شريك له في ملكه وسلطانه ، وذهب عنهم أو تبدد باطلهم وافتراؤهم ، وتضليلهم وكذبهم الذي كان منهم في الدنيا بنسبة الشريك لله ، فلم ينفعهم شيئا ، كما غابت عنهم آلهتهم غيبة الشيء الضائع ، فلم ينفعوهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

١ ـ إن تعاقب الليل والنهار دليل على عظمة الله وقوة سلطانه وتوحيده ، وهو أيضا نعمة ورحمة بالمخلوقات جميعا من إنسان وحيوان ونبات وجماد ، أما بالنسبة للإنسان ففي الليل دعة وهدوء ، وسكون وراحة من عناء العمل ، وفي النهار حركة وعمل وتكسب وطلب لرزق الله تعالى.

وتلك النعمة تستوجب الشكر ، وتستحق حمد الله على الدوام ، ويكون

١٥٦

الشكر بأنواع العبادات في الليل والنهار ، ومن فاته شيء بالليل استدركه بالنهار ، أو بالنهار استدركه بالليل.

٢ ـ تتكرر مناداة الآلهة المزعومة من أصنام وغيرها أمام الله تعالى يوم القيامة ، ففي المرة الأولى لا يستجيبون ، فتظهر حيرة أتباعهم وعابديهم ، وفي المرة الأخرى يسكتون ، وذلك كله توبيخ وتقريع للمشركين وزيادة خزي وتحقير أمام الخلائق قاطبة.

٣ ـ يزداد غم المشركين وتتضاعف حسرتهم وكمدهم وألمهم حين يشهد عليهم بأعمالهم نبيهم المبعوث إليهم في الدنيا لدعوتهم إلى توحيد الله وعبادته ، ويطلب منهم إحضار حجتهم على صحة أو صدق ادعائهم ، ولكنهم يعجزون ، ويدركون إدراكا جازما أن الأنبياء صادقون فيما جاؤوا به ، وأن الله وحده هو الإله الحق ، ويذهب عنهم ويبطل كل ما كانوا يختلقونه من الكذب على الله تعالى من أن معه آلهة أخرى تعبد.

قصة قارون

ـ ١ ـ

بغيه على قوم موسى واغتراره بماله

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى

١٥٧

عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨))

الإعراب :

(ما إِنَّ مَفاتِحَهُ ما) اسم موصول بمعنى الذي في موضع نصب ب (آتَيْناهُ) وصلته : (إِنَ) وما عملت فيه. وكسرت (إِنَ) لأنها متى وقعت في موضع يصلح اسما وفعلا ، كانت مكسورة ، والاسم الموصول يدخل على الجملة الاسمية والجملة الفعلية. و (أُولِي) واحدها ذو من غير لفظها.

(عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) في موضع الحال.

البلاغة :

(لا تَفْرَحْ الْفَرِحِينَ) وكذا (الْفَسادَ الْمُفْسِدِينَ) بين كل جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(قارُونَ) هو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب عليه‌السلام. (مِنْ قَوْمِ مُوسى) كان ابن عمه ؛ لأن موسى هو ابن عمران بن قاهث ، وكان أيضا ابن خالته ، وممن آمن به. (فَبَغى عَلَيْهِمْ) تكبر عليهم وتجبر بكثرة المال وظلمهم وطلب أن يكونوا تحت أمره. (الْكُنُوزِ) جمع كنز : وهو المال المدخر ، يقال : كنز المال : جمعه وادخره. (مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ) تثقل خزائنه أي صناديقه ، جمع مفتح ، أو مقاليده أي مفاتيحه جمع مفتح وهو ما يفتح به. (بِالْعُصْبَةِ) الجماعة الكثيرة. (أُولِي الْقُوَّةِ) أصحاب الشدة. (قَوْمُهُ) المؤمنون من بني إسرائيل. (لا تَفْرَحْ) بكثرة المال ، أي لا تبطر وتتمسك بالدنيا دون الآخرة.

(وَابْتَغِ) اطلب. (فِيما آتاكَ اللهُ) من المال. (الدَّارَ الْآخِرَةَ) أي ثوابها ، بأن تنفقه في طاعة الله. (وَلا تَنْسَ) تترك ترك المنسي. (نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) أي حظك منها بأن تأخذ منها ما يكفيك أو أن تعمل فيها للآخرة. (وَأَحْسِنْ) للناس بالصدقة. (وَلا تَبْغِ) تطلب. (الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) بأمر يكون علة للظلم والبغي أي بعمل المعاصي. (لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) أي يعاقبهم.

١٥٨

(أُوتِيتُهُ) أي المال. (عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) أي معرفة مني ومهارة في اكتساب المال ، قيل : إنه علم التجارة. (مِنَ الْقُرُونِ) الأمم. (وَأَكْثَرُ جَمْعاً) للمال. (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) سؤال استعلام ، فإنه تعالى مطلع عليها ، معاقبهم عليها لا محالة.

المناسبة :

بعد تقريع المشركين وتوبيخهم ، ذكر الله تعالى قصة قارون لبيان عاقبة الكافرين والمتجبرين في الدنيا والآخرة ، فقد أهلك قارون بالخسف والزلزلة ، وهو في الآخرة كالمشركين من أهل النار.

أضواء من التاريخ على قصة قارون :

عرفنا أن قارون هو ابن يصهر بن قاهث جدّ موسى ، فهو ابن عمه ، وقال ابن عباس : وكان أيضا ابن خالته. وكان يسمى المنوّر لحسن صورته ، وكان أحفظ بني إسرائيل للتوراة وأقرأهم ، فنافق كما نافق السامري ، فأهلكه البغي لكثرة ماله.

فهو رجل من بني إسرائيل ، آتاه الله مالا كثيرا ، حتى إن مفاتيح خزائنه كان تنوء بحملها عصبة من الرجال. نصحه أهل الوعظ والإرشاد من قومه بالبعد عن البطر والتجبر والإفساد في الأرض ، وأن يستعمل ماله في مرضاة الله ، مع الانتفاع ببعضه في مصالح الدنيا بقدر الكفاية ، وألا ينفقه فيما يغضب الله تعالى ، حتى لا يتعرض لزوال النعمة ، فأبى الامتثال لنصح الناصحين ، وقال في ماله : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) والظاهر أنه جمعه بما لديه من ذكاء وخبرة في شؤون التجارة ، ولكنه غفل عن بطش الله بالمتجبرين المتكبرين من أمثاله في الأمم الغابرة الذين كانوا أشد منه قوة وأكثر جمعا للمال.

وقد استبد به الكبر والخيلاء أن كان يخرج في موكب مهيب وزينة فاخرة باهرة ، فافتتن بعض الناس بمظاهره ، وتمنوا أن يؤتوا مثله من المال ، فقال لهم

١٥٩

أهل العلم والبصر والحكمة : لا تفتتنوا به ولا تطمعوا ، فثواب الله خير للمؤمن الذي يعمل الصالحات ، فكان عاقبة طغيانه وظلمه وجحوده نعمة الله أن خسف الله به وبداره الأرض ، دون أن يجد له نصيرا أو معينا.

التفسير والبيان :

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ) أي إن قارون الذي أصبح مضرب المثل والغنى والثروة والظلم والعتو كان من بني إسرائيل ، فتجبر وتكبر بكثرة ماله ، وتجاوز الحد في ظلمهم ، وطلب منهم أن يكونوا تحت إمرته ، مع أنه قريبهم :

وظلم ذوي القربى أشد غضاضة

على المرء من وقع الحسام المهنّد

(وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) أي وأعطيناه من الأموال النقدية والعينية المدخرة التي يثقل بحمل مفاتيح خزائنها العصبة (الجماعة الكثيرة) القوية من الناس. قال ابن عباس : إن مفاتيح خزائنه كان يحملها أربعون رجلا من الأقوياء.

فنصحه الوعاظ بمواعظ خمس قائلين :

١ ـ (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ : لا تَفْرَحْ ، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) أي قال له جماعة من بني إسرائيل من النصحاء ، حينما أظهر التفاخر والتعالي : لا تبطر ولا تفرح بما أنت فيه من المال ، فإن الله لا يحب الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم ، ولا يستعدون للآخرة ، أي يبغضهم ويعاقبهم ، كقوله تعالى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ ، وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ، وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) [الحديد ٥٧ / ٢٣].

٢ ـ (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) أي استعمل ما وهبك الله من هذا

١٦٠