التفسير المنير - ج ٢٠

الدكتور وهبة الزحيلي

عصر وأوان ، لعلهم وأمثالهم من البشر يتعظون ويتنبهون إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم ، فيؤمنوا بالقرآن وبمن أنزله وبمن أنزل عليه ، وهو مصدّق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن خطة الكفار واحدة في كل زمان ، دأبهم المكابرة والعناد والإنكار ، وطلب المعجزات المادية المحسوسة ، فإنه بالرغم من حدوثها لن يؤمنوا ؛ لأن المكذب بمعجزة واحدة مكذب بكل المعجزات.

وإذا نزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل معجزات موسى عليه‌السلام كانقلاب العصا حية ، واليد البيضاء ، وفلق البحر ، وتظليل الغمام ، وانفجار الحجر بالماء ، وإنزال المنّ والسلوى ، وكتابة الألواح في التوراة ، وتكليم الله له ، وإنزال القرآن جملة واحدة كالتوراة ، إذا نزل مثل ذلك فهم معتصمون بالكفر مقيمون عليه.

٢ ـ إن حجة الكفار في تكذيب كتب الله ورسله واحدة أيضا ، وهي الاتهام بأن تلك الكتب سحر مختلق ، وأولئك الرسل سحرة مبطلون ، بل إنهم متواطئون على السحر والتدجيل ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.

٣ ـ إن اليهود علّموا المشركين أن يقولوا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو لا أوتيت مثل ما أوتي موسى ، فإنه أوتي التوراة دفعة واحدة. وهؤلاء اليهود الذين توارثوا الكفر هم الذين كفروا بما جاء به موسى من قبل ، فقالوا في موسى وهارون : هما ساحران ، فقلدهم كفار قريش وقالوا عن موسى ومحمد مثل ذلك القول ، واتفق الفريقان على الكفر بكلّ من التوراة والإنجيل والقرآن ، وعلى الكفر بموسى وعيسى ومحمد على نبينا وعليهم الصلاة والسلام.

١٢١

٤ ـ يقابل التحدي والعناد بتحدّ أشد منه ، فإذا كفرتم معاشر اليهود والمشركين بكتب الله المنزلة على رسله ، فأحضروا كتابا أهدى منها يتبعه الناس ، ليكون ذلك عذرا لكم في الكفر ، ومسوغا لما أنتم عليه ، إن كنتم صادقين في أن تلك الكتب سحر مفترى ، وقد مهر اليهود والعرب بالسحر.

٥ ـ إذا لم يؤمن الناس بهذا القرآن ولم يأتوا بكتاب من عند الله ، فهم أهل ضلال وأهواء ، يتبعون ما تملي عليهم شهواتهم وآراؤهم الخاصة وشياطينهم ، دون حجة لهم ولا دليل.

٦ ـ لا أحد أضل ممن سار مع هواه ، فهو ظالم ، والله لا يوفق الظالمين للخير ، وهداية الله تعالى خاصة بالمؤمنين.

٧ ـ لقد تتابع إنزال الكتب من عند الله ، وإرسال الرسل ، وأخبار الأنبياء بعضها ببعض ، كتابا بعد كتاب ، ورسولا بعد رسول ، وخبرا بعد خبر ، وتتابع أيضا نزول القرآن منجما مقسطا بحسب الوقائع والمناسبات ، وعلى وفق الحكمة والمصلحة ، ليستمر صوت التذكير والتنبيه ، وتتجدد الدعوة إلى الإيمان حالا بعد حال ، وزمانا إثر زمان.

ثم خلد الله صوت الحق الإلهي بهذا القرآن ، وجعله ذكرى متجددة دائمة للأجيال ، بما تكفل له من الصون والحفظ عن التغيير والتبديل ، والتحريف والتصحيف ، وبما اشتمل عليه من التنوع في الأسلوب والخطاب وعدا ووعيدا ، وقصصا وعبرا ، ونصائح ومواعظ ، إرادة أن يتذكر الناس به فيؤمنوا به ويعملوا بموجبه ، فيفلحوا ، ويقلعوا عن اتباع الأديان الباطلة المنسوخة ، وعن الأهواء والشهوات البائدة الفارغة ، والوثنية البدائية المنافية لكرامة الإنسان ، والمصادمة للعقل البشري السوي.

١٢٢

٨ ـ لا يقبل التقليد في العقائد ، وإنما لا بدّ من غرس العقيدة بالحجة والبرهان.

٩ ـ نبّه القرآن بتحدي العرب وغيرهم الإتيان بمثله على عجز محاكاته على الدوام ، وأنه كتاب موحى به من عند الله تعالى ، فهو حجة الله على خلقه إلى يوم القيامة : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت ٤١ / ٤١ ـ ٤٢].

١٠ ـ تنطق الآيات جملة وتفصيلا بالدلالة على نبوة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

إيمان طوائف من أهل الكتاب بالقرآن

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥))

المفردات اللغوية :

(مِنْ قَبْلِهِ) أي قبل القرآن ، بدليل قوله الآتي : (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا : آمَنَّا بِهِ) أي صدقنا بأنه كلام الله تعالى. (مُسْلِمِينَ) منقادين خاضعين لله تعالى. (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) بإيمانهم بالكتابين : كتابهم والقرآن. (بِما صَبَرُوا) بصبرهم على العمل بهما. (وَيَدْرَؤُنَ) يدفعون. (بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي بالطاعة المعصية ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي ذرّ : «وأتبع السيئة الحسنة تمحها». (يُنْفِقُونَ) يتصدقون.

(اللَّغْوَ) هو الساقط من القول ، والمقصود به هنا الشتم والأذى من الكفار. (أَعْرَضُوا عَنْهُ) تكرما. (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) سلام متاركة لهم وتوديع أو دعاء لهم بالسلامة عما هم فيه. (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) لا نطلب صحبتهم ولا نريدها ، ولا نريد أن نكون من أهل السفه والجهل ، فنعاملكم بالمثل.

١٢٣

سبب النزول :

نزول الآية (٥٢):

(وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) : أخرج ابن جرير عن علي بن رفاعة قال : خرج عشرة رهط من أهل الكتاب ، منهم رفاعة ـ يعني أباه ـ إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فآمنوا فأوذوا ، فنزلت : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ). وأخرج أيضا عن قتادة قال : كنا نتحدث أنها نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على الحق ، حتى بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فآمنوا به ، منهم سلمان الفارسي وعبد الله بن سلام.

وقال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي ، فلما قدموا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ عليهم : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) حتى ختمها ، فجعلوا يبكون ، وأسلموا (١).

وعلى كل حال ، العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

المناسبة :

بعد أن أقام الله تعالى الدليل على أن القرآن وحي من عند الله ، وعلى صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أكد ذلك بأن جماعات من أهل الكتاب الذين آمنوا بالله وحده قبل نزول القرآن ، أسلموا وآمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين اقتنعوا بصدقه وصحة ما أنزل عليه ، فكان غير أهل الكتاب أولى بالإيمان أو الإسلام.

التفسير والبيان :

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) أي إن جماعة من علماء أهل الكتاب الأولياء الأصفياء ، من اليهود والنصارى ، الذين عاصروا النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، آمنوا بالقرآن ، لمطابقته لأصول كتبهم المتقدمة ، وبشارة تلك

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ٣٩٣

١٢٤

الكتب بمحمد وتطابق الأوصاف عليه. فقوله : (مِنْ قَبْلِهِ) أي قبل القرآن. و (هُمْ بِهِ) أي بالقرآن أو بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بهما معا يصدّقون.

وللآية نظائر كثيرة منها : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ، أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [البقرة ٢ / ١٢١] ، ومنها : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ) [آل عمران ٣ / ١٩٩] ، ومنها : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ، وَيَقُولُونَ : سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) [الإسراء ١٧ / ١٠٧ ـ ١٠٨].

(وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا : آمَنَّا بِهِ ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا ، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) أي وإذا قريء عليهم القرآن ، قالوا : صدقنا به ، وآمنا بأنه الكلام الحق الصدق الثقة من ربّنا ، وكنا مصدقين بالله مسلمين له أي موحدين ، مخلصين لله ، مستجيبين له ، من قبل نزول هذا القرآن ، أو من قبل بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهذا دليل على قدم إيمانهم ، لما وجدوه في كتب الأنبياء عليهم‌السلام المتقدمين من البشارة بمقدم النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمدحهم تعالى بهذا المدح العظيم وقال :

(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) أي إن هؤلاء المتصفين بهذه الصفة الذين آمنوا بالكتاب الأول وهو كتابهم ، ثم بالثاني وهو القرآن لهم ثواب مضاعف مرتين ، جزاء صبرهم وثباتهم على الإيمانين ، فإن تجشم مثل هذا شديد على النفوس ، فإنهم لم يأبهوا بإيذاء قومهم.

ونظير الآية : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الحديد ٥٧ / ٢٨] ، وورد في الحديث الصحيح عند البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن

١٢٥

بنبيه ثم آمن بي ، وعبد مملوك أدّى حق الله وحق مواليه ، ورجل كانت له أمة ، فأدّبها ، فأحسن تأديبها ، ثم أعتقها فتزوجها».

وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة قال : إني لتحت راحلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الفتح ، فقال قولا حسنا جميلا وقال فيما قال : «من أسلم من أهل الكتاب ، فله أجره مرتين ، وله ما لنا ، وعليه ما علينا».

وبعد أن مدحهم الله تعالى بالإيمان أولا ، أثنى عليهم بالطاعات البدنية في قوله : (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) ثم بالطاعات المالية في قوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ثم باشتغالهم بالطاعات والأفعال والأخلاق الحسنة في قوله : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) فقال :

ـ (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي يدفعون السيئة بالحسنة ، فلا يقابلون السيء بمثله ، ولكن يعفون ويصفحون.

ـ (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي وينفقون من رزق الله الحلال في النفقات الواجبة لأهليهم وأقاربهم ، ويؤدون الزكاة المفروضة ، والمستحبة من التطوعات وصدقات النفل والقربات.

ـ (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ، وَقالُوا : لَنا أَعْمالُنا ، وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) أي وإذا سمعوا من المشركين أو غيرهم لغو الكلام وهو الساقط من القول من أذى وتعيير وسبّ وشتم وتكذيب ، أعرضوا عن أهله ، ولم يخالطوهم ولم يعاشروهم ، بل كانوا كما قال تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان ٢٥ / ٧٢].

وقالوا إذا سفه عليهم سفيه ، وكلّمهم بما لا يليق : لنا أعمالنا فنحن المسؤولون عنها ثوابا وعقابا ، ولكم أعمالكم عليكم تبعاتها ، لا نرد عليكم ، سلام عليكم سلام متاركة وتوديع ، أو سلمكم الله مما أنتم فيه ، لا نريد اتباع طريق

١٢٦

الجاهلين ولا نحبها ولا نصاحب أهلها ، ونؤثر الكلام الطيب ، ولا نقابل الكلام القبيح بمثله. ونظير الآية (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا : سَلاماً) [الفرقان ٢٥ / ٦٣] قال الحسن رحمه‌الله عن كلمة (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) : هذه الكلمة تحية بين المؤمنين ، وعلامة الاحتمال من الجاهلين.

روى محمد بن إسحاق في سيرته : أنه قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو بمكة ، عشرون رجلا أو قريب من ذلك من النصارى ، حين بلغهم خبره من الحبشة ، فوجدوه في المسجد ، فجلسوا إليه وكلموه وساءلوه ، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة ، فلما فرغوا من مساءلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أرادوا ، دعاهم إلى الله تعالى ، وتلا عليهم القرآن.

فلما سمعوا القرآن ، فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا لله ، وآمنوا به ، وصدقوه ، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره ، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش ، فقالوا لهم : خيّبكم الله من ركب ، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ، ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل ، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم ، وصدقتموه فيما قال ، ما نعلم ركبا أحمق منكم.

فقالوا لهم : سلام عليكم ، لا نجاهلكم ، لنا ما نحن عليه ، ولكم ما أنتم عليه ، لم نأل أنفسنا خيرا.

ويقال : إن هؤلاء النفر النصارى من أهل نجران (١).

فقه الحياة أو الأحكام :

يستدل بالآيات على ما يأتي :

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ٣٩٤ ، وهو مروي عن عروة بن الزبير.

١٢٧

١ ـ إذا كان الإيمان بالله صحيحا منسجما مع الوحي الثابت الصحيح ، سهل التقاء رافدي الإيمان ، وتيسر الدمج بين الإيمانين ، إن تجرد الإنسان عن العصبية والهوى ، والمصلحة الذاتية ، والنفع المادي. وهذا ما تحقق لجماعة من أهل الكتاب من بني إسرائيل ، آمنوا بالله ربّا واحدا لا شريك له قبل القرآن بمقتضى كتابهم السماوي ، ثم آمنوا بالقرآن ، لمطابقته مع أصل ذلك الكتاب المتقدم ، وهؤلاء كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي ، ومن أسلم من علماء النصارى ، وهم أربعون رجلا قدموا مع جعفر بن أبي طالب المدينة ، اثنان وثلاثون رجلا من الحبشة ، وثمانية نفر أقبلوا من الشام ، وكانوا أئمة النصارى ، منهم بحيرا الراهب وأبرهة والأشرف وعامر وأيمن وإدريس ونافع. وقيل : أكثر من ذلك.

٢ ـ هؤلاء المؤمنون بالقرآن من أهل الكتاب يضاعف لهم الثواب أو الأجر مرتين : مرة لإيمانهم بكتابهم ، ومرة لإيمانهم بالقرآن بسبب صبرهم على الأذى الذي يلقونه من الكفار.

٣ ـ المؤمن الكامل الإيمان شأنه الاشتغال بمرضاة الله تعالى ، فيبادر إلى الطاعات البدنية والمالية ، ويتحلى بالخلق الفاضل ، وقد وصف الله تعالى هؤلاء المؤمنين من أهل الكتاب بأنهم يقابلون السيئة بالحسنة ، أي بالاحتمال والعفو والصفح والكلام الحسن ، وهذا من مكارم الأخلاق ، وينفقون من أموالهم في الطاعات والقربات ، فيحسنون إلى البائسين والمعوزين ، وفي ذلك حضّ على الصدقات ، ويعرضون عن لغو الكلام ، فلا يتكلمون بالكلام القبيح ، وإنما ينطقون دائما بالكلام الطيب ، فإذا سمعوا ما قال لهم المشركون من الأذى والشتم ، أعرضوا عنه ، أي لم يشتغلوا به ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ في حديث أبي ذر المتقدم والمروي أيضا عن معاذ : «وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن» ومن الخلق الحسن : دفع المكروه والأذى ، والصبر على الجفا ، بالإعراض عنه ولين

١٢٨

الحديث ، وهذا مؤيد لمعنى الآية : (وَقالُوا : لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي سلام متاركة ومفارقة ، لنا ديننا ولكم دينكم ، فهذا ليس من التحية في شيء.

ولا نبتغي الجاهلين ، أي لا نطلبهم للجدال والمراجعة والمشاتمة ، ولا نرغب في مصاحبتهم ، ولا نودّ معاشرتهم ، ولا نجازيهم بالباطل على باطلهم.

الرد على شبهات المشركين

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١))

١٢٩

الإعراب :

(رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) مفعول لأجله.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا كَمْ) : منصوبة ب (أَهْلَكْنا).

(بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) منصوب بحذف حرف الجر ، أي بطرت في معيشتها ، ولا يجوز نصبه على التمييز ، لأن التمييز لا يكون إلا نكرة ، ومعيشتها : معرفة.

البلاغة :

(إِنَّكَ لا تَهْدِي وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي) بينهما طباق السلب.

(حَرَماً آمِناً) مجاز عقلي ، نسب الأمن إلى الحرم ، وهو لأهله ، وعلاقته المكانية.

(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً ...) أورد الكلام بصيغة الاستفهام ليكون أبلغ في الاعتراف بترجيح منافع الآخرة على منافع الدنيا.

المفردات اللغوية :

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) هدايته ، أي لا تقدر أن تدخله في الإسلام. (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) فيدخله في الإسلام ، والهداية نوعان : الدلالة والإرشاد إلى الخير ، والتوفيق بعد توافر أصل الهداية. (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) عالم بالمستعدين للهداية. (وَقالُوا) أي قريش. (نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) ننتزع منها بسرعة ، أي نخرج من البلاد. (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) أو لم نجعل مكانهم حرما ذا أمن من الإغارة والقتل ، بحرمة البيت الذي فيه ويتناحر العرب حوله ، وهم آمنون فيه. (يُجْبى إِلَيْهِ) يحمل إليه ويجمع فيه ، جبى الماء : جمعه ، والجابية : الحوض العظيم. (ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) من كل مكان. (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) رزقا لهم من عندنا. (لا يَعْلَمُونَ) أن ما نقوله حق ، فهم جهلة لا يتفطنون له ولا يتفكرون ليعلموا. والمعنى المراد : فإذا كان هذا حالهم ، وهم عبدة الأصنام ، فكيف نعرّضهم للخوف والتخطف إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة التوحيد؟

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) أي كم من أهل قرية كانت حالهم كحالكم في الأمن وخفض العيش حتى أشروا ، فدمر الله عليهم وخرب ديارهم. فقوله : (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) من البطر : وهو الأشر وقلة احتمال النعمة ، والمراد من بطرت : بغت وتجبرت ولم ترع حق الله في زمن معيشتها. (إِلَّا قَلِيلاً) أي لم تسكن إلا فترات قليلة للمارة يوما أو بعضه ، من شؤم معاصيهم. (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) منهم ، إذ لم يخلفهم أحد في ديارهم وتصرفاتهم.

(وَما كانَ رَبُّكَ) وما كانت عادته. (أُمِّها) أصلها وعاصمتها (قصبتها) وأعظمها.

١٣٠

(رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) لإلزام الحجة وقطع المعذرة. (ظالِمُونَ) بتكذيب الرسل والعتو في الكفر. (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) من أسباب الدنيا. (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) أي تتمتعون وتتزينون به أيام حياتكم ثم يفنى. (وَما عِنْدَ اللهِ) أي ثوابه. (خَيْرٌ) في نفسه من ذلك ، لأنه لذة خالصة وبهجة كاملة. (وَأَبْقى) أدوم وأبدي. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) تتفكرون ، فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ، وقرئ يعقلون وهو أبلغ في الموعظة. (وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً) وعدا بالجنة ، فإن حسن الوعد بحسن الموعود. (فَهُوَ لاقِيهِ) مدركه لا محالة ، لامتناع الخلف في الوعد ، ولذلك عطفه بالفاء المتضمنة معنى السببية.

(كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) الذي يزول عن قريب ، ويختلط بالآلام والمتاعب.

(مِنَ الْمُحْضَرِينَ) للحساب والعذاب بالنار ، وقوله : (ثُمَ) للتراخي في الزمان أو الرتبة. والمراد بقوله : (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ) المؤمن ، وبقوله : (كَمَنْ مَتَّعْناهُ) الكافر ، أي لا تساوي بينهما ، وهذه الآية كالنتيجة التي قبلها ، ولذلك رتب عليها بالفاء.

سبب النزول :

نزول الآية (٥٦):

(إِنَّكَ لا تَهْدِي) : أخرج مسلم وعبد بن حميد والترمذي والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمه : قل : لا إله إلا الله ، أشهد لك يوم القيامة ، قال : لو لا أن تعيرني نساء قريش ، يقلن : إنه حمله على ذلك الجزع ، لأقررت بها عينك ، فأنزل الله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

وأخرج النسائي وابن عساكر في تاريخ دمشق بسند جيد عن أبي سعيد بن رافع قال : سألت ابن عمر عن هذه الآية : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) في أبي جهل وأبي طالب؟ قال : نعم.

نزول الآية (٥٧):

(وَقالُوا : إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ) : أخرج ابن جرير عن ابن عباس : أن أناسا من قريش قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن نتبعك تخطفنا الناس ، فنزلت.

١٣١

وأخرج النسائي عن ابن عباس أن الحارث بن عثمان بن عامر بن نوفل بن عبد مناف هو الذي قال ذلك ، وعبارته ـ كما في البيضاوي ـ : نحن نعلم أنك على الحق ، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب ـ وإنما نحن أكلة رأس ، أي قليلو العدد ـ أن يتخطفونا من أرضنا ، فنزل قوله تعالى : (وَقالُوا : إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى) الآية.

نزول الآية (٦١):

(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ) : أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ) الآية ، قال : نزلت في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي أبي جهل بن هشام. وأخرج من وجه آخر عنه : أنها نزلت في حمزة وأبي جهل.

المناسبة :

بعد بيان إيمان طوائف من أهل الكتاب ، ذكر الله تعالى شبهة المشركين في امتناعهم عن الإيمان ، ثم رد عليها بأجوبة ثلاثة ، مفتتحا الكلام بتقرير أن الهداية للدين وهي هداية التوفيق هي لله تعالى لا لرسوله ، وأثبت له في آية. أخرى هي (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى ٤٢ / ٥٢] هداية الدلالة والإرشاد والبيان.

التفسير والبيان :

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي إنك يا محمد لا تقدر على هداية من أحببت هدايته هداية توفيق ، فليس ذلك إليك ، إنما عليك البلاغ ، والله هو الذي يستطيع هداية من يشاء هداية توفيق وشرح صدر ، بأن يقذف نورا في قلبه ، فيحيى به ، كما قال سبحانه : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ)

١٣٢

[الأنعام ٦ / ١٢٢] وله الحكمة البالغة ، وربّك هو العالم بالمستعدين للهداية ، فيهديهم ، لأنهم مستحقون لها ، وعالم أيضا بالمستعدين للغواية ، فلا يهديهم ، لأنهم لا يستحقونها. والمراد بالآية تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عدم تمكنه من هداية قومه.

ويلاحظ أنه لا دلالة في ظاهر هذه الآية على كفر أبي طالب ، لكن الثابت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما بينت ، قال الزجاج : أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب ، وذلك أن أبا طالب قال عند موته : يا معشر بني عبد مناف ، أطيعوا محمدا وصدقوه ، تفلحوا وترشدوا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عم ، تأمرهم بالنصح لأنفسهم وتدعها لنفسك! قال : فما تريد يا ابن أخي؟ قال : أريد منك كلمة واحدة ، فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا أن تقول : لا إله إلا الله ، أشهد لك بها عند الله تعالى ، قال : يا ابن أخي ، قد علمت أنك صادق ، ولكني أكره أن يقال : جزع عند الموت ، ولو لا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة ومسبّة بعدي لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق ، لما أرى من شدة وجدك ونصحك ، ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ : عبد المطلب ، وهاشم ، وعبد مناف». قال القرطبي : والصواب أن يقال : أجمع جل المفسرين على أنها نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو نص البخاري ومسلم.

ونظير الآية : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة ٢ / ٢٧٢] وقوله تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف ١٢ / ١٠٣].

والخلاصة : أن الهداية ـ كما ذكر الرازي : ـ بمعنى الإلجاء والقسر غير جائز ، لأن ذلك قبيح من الله تعالى في حق المكلف ، وفعل القبيح مستلزم للجهل أو

١٣٣

الحاجة ، وهما محالان ، ومستلزم المحال محال ، فذلك محال من الله تعالى ، والمحال لا يجوز تعليقه في المشيئة (١).

ثم أخبر الله تعالى عن شبهة المشركين في عدم إيمانهم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واعتذارهم بعذر واه ، فقال :

(وَقالُوا : إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) أي قال المشركون : نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى ، وخالفنا ما حولنا من أحياء العرب المشركين أن يقصدونا بالأذى والمحاربة ، ويتخطفونا أينما كنا ، ويخرجونا من ديارنا.

فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بثلاثة أجوبة :

١ ـ تأمين الحرم : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي إن هذا الاعتذار كذب وباطل ، لأن الله تعالى جعلهم في بلد أمين ، وحرم آمن معظّم منذ وجد ، فكيف يكون هذا الحرم آمنا لهم في حال كفرهم وشركهم ، ولا يكون آمنا لهم إن أسلموا واتبعوا الحق؟

ومن خصائص الحرم المكي : أنه يحمل إليه من سائر الثمار في كل البلدان ، كما تحمل إليه أصناف المتاجر والأمتعة ، تفضلا بالرزق من عند الله ، ولكن أكثرهم جهلة لا يفطنون (٢) لما فيه الخير والسعادة ، ولا يتفكرون ليعلموا الأحق بالعبادة ، ويقلعوا عن عبادة ما سواه.

٢ ـ التذكير بإهلاك الأمم : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها ، فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً ، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) أي ليعلم

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٥ / ٣

(٢) فطن للشيء يفطن بالضم فطنة ، وفطن ـ بالكسر ـ فطنة أيضا.

١٣٤

هؤلاء المعتذرون من أهل مكة عن الإيمان خوفا من زوال النعم أن عدم الإيمان هو الذي يزيل النعم ، فكثيرا ما أهلك الله من القرى أي أهلها التي أبت الإيمان ، وكفرت ، وبغت وطغت وأشرت ، وجحدت بأنعم الله وأرزاقه المغدقة ، فأصبحت مساكنهم خاوية على عروشها ، لا يسكن فيها أحد إلا لمدة قليلة ، يبيت فيها المارة يوما أو بعض يوم ، وأصبح الوارث هو الله ؛ لأنها رجعت خرابا ليس فيها أحد يخلفهم فيها. ويقال للشيء الذي ترك بلا مالك : إنه ميراث الله ، لأنه المالك الحقيقي للكون ، والباقي بعد فناء خلقه.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ ، فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل ١٦ / ١١٢].

ثم أخبر تعالى عن عدله في إنزال العقاب ، فقال :

(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا ، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) أي وما كانت عادة ربك وسنته أن يهلك المدن والقرى بأهلها حتى يرسل في أصلها وعاصمتها وأكبرها رسولا يبين لهم الآيات الدالة على وجود الله ووحدانيته وأحقيته بالعبادة ، حتى لا يبقى لهم حجة بالجهل ولا عذر بعدم معرفة الحق ، فيهلك من أهلك بعد قيام الحجة عليهم ، ولا يهلك أهل القرى أو أحدا من خلقه إلا وهم ظالمون أنفسهم بتكذيب الرسل وجحود الآيات.

وهذا دليل على عدل الله في خلقه ، فلا عقاب إلا بعد بيان ، ولا إهلاك مع إيمان ، وإنما العقاب والهلاك حال الظلم واجتراح المعاصي ، واقتراف المنكرات والآثام التي أكبرها الشرك بالله تعالى.

١٣٥

وللآية نظائر كثيرة منها : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء ١٧ / ١٥].

وفي الآية دليل على أن النبي الأمي وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المبعوث من أم القرى (مكة) رسول إلى جميع القرى من عرب وعجم ، كما قال تعالى : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [الشورى ٤٢ / ٧] وقال سبحانه : (قُلْ : يا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف ٧ / ١٥٨] وقال عزوجل : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام ٦ / ١٩].

٣ ـ التدين أو الإيمان لا يضيع منافع الدنيا : (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها ، وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى ، أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي إن الدنيا وما فيها من زينة وزخرف ومتاع فانية حقيرة بالنسبة لما أعده الله لعباده الصالحين من المنافع والنعم في الدار الآخرة ، فكل ما أعطيتم أيها الناس من أموال وأولاد وزينة وزخارف ، فهو مجرد متاع مؤقت وزينة زائلة ، لا يجدي عند الله شيئا ، وهو زائل وزهيد إذا قيس بنعم الآخرة ، فنعيم الآخرة باق دائم خير في ذاته من متاع الدنيا ، كما قال تعالى : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) [النحل ١٦ / ٩٦] وقال سبحانه : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) [آل عمران ٣ / ١٩٨] وقال عزوجل : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [الأعلى ٨٧ / ١٦ ـ ١٧] وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الثابت : «والله ، ما الحياة الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليمّ ، فلينظر ما ذا يرجع إليه»!!

أفلا يعقل ويتفكر من يقدّم الدنيا على الآخرة ، أفلا يتدبر من يؤثر الفاني على الباقي!! ألا فليفكر الإنسان في اختيار ما هو الخير الدائم له ، ويترك الشر الذي يصيبه بالأذى.

ثم أكّد الله تعالى ذلك المعنى فقال :

١٣٦

(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ ، كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي فليقارن الإنسان ليعلم ترجيح ما عند الله وتفضيله على زينة الدنيا ، وكيفية المقارنة : أفمن هو مؤمن بكتاب الله مصدق بوعد الله وثوابه على صالح الأعمال بالجنة وجزيل النعيم ، كمن هو كافر مكذب بلقاء الله ووعده ووعيده ، فهو ممتع في الحياة الدنيا أياما قلائل ، ثم يصير أمره يوم القيامة من المعذبين في نار جهنم؟!

فقولهم : إنا تركنا الدين خشية فوات منافع الدنيا خطأ وقول غير سديد ؛ لأن الدين لا يفوت تلك المنافع ، فهي حقيرة في ميزان الله ، وإنما يكون إيثار الدنيا مفوتا لمنافع الآخرة ، وسببا أيضا للعقاب الدائم في الآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستدل بالآيات على ما يلي :

١ ـ يخص الله تعالى بعض خلقه بخلق الهداية ومعرفة طريق الجنة ، ويمنع البعض منها ، ولا يسأل عما يفعل. وليس معنى الهداية والضلال القسر والإلجاء عليهما فذلك غير جائز شرعا وعقلا ، وهو قبيح من الله تعالى في حق الإنسان المكلف بالتكاليف الشرعية.

ولقد بان من سبب النزول الثابت في الصحيحين أن أبا طالب مات على غير الإيمان ، والله أعلم.

٢ ـ الله تعالى هو المختص بعلم الغيب ، فيعلم من يهتدي بعد ومن لا يهتدي.

٣ ـ قال مشركو مكة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معتمدين على شبهة واهية وتعلل مرفوض أو عذر غير واقعي ولا منطقي : إنا لنعلم أن قولك حق ، ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك ، ونؤمن بك ، مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا (مكة)

١٣٧

لاجتماعهم على خلافنا ، ولا طاقة لنا بهم. قال ابن عباس : قائل ذلك من قريش الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف القرشي.

٤ ـ أجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بأجوبة ثلاثة :

الأول ـ أنه سبحانه جعل حرم مكة ذا أمن ، فكانت العرب في الجاهلية يغير بعضهم على بعض ، ويقتل بعضهم بعضا ، وأهل مكة آمنون حيث كانوا بحرمة الحرم ، فقد أمّنهم بحرمة البيت ، ومنع عنهم عدوهم ، فلا يخافون أن تستحل العرب حرمة في قتالهم ، فما الذي يمنعهم من الإيمان بعد توافر الأمان؟!

ومن مزايا الحرم المكي بعد الأمن أنه يجمع إليه ثمرات كل أرض وبلد ، فضلا ورزقا من عند الله ، ولكن أكثر المكيين لا يعقلون ، أي هم غافلون عن الاستدلال ، وأن من رزقهم وأمّنهم فيما مضى حال كفرهم يرزقهم لو أسلموا ، ويمنع الكفار عنهم في إسلامهم.

وخلاصة هذا الجواب : أنه تعالى لما جعل الحرم آمنا ، وأكثر فيه الرزق حال كونهم معرضين عن عبادة الله تعالى ، مقبلين على عبادة الأوثان ، فلا حرج في إيمانهم ؛ إذ لو آمنوا لكان بقاء هذه الحالة أولى.

فهذا رد أول على تعللهم بترك الإيمان.

الثاني ـ بعد أن بيّن تعالى ما خص به أهل مكة من النعم ، أتبعه ببيان ما أنزله على الأمم الماضية المنعمين بنعم الدنيا بسبب تكذيب الرسل ، فإذا توهموا أنه لو آمنوا لقاتلتهم العرب ، فذلك وهم باطل ؛ لأن الخوف في ترك الإيمان أكثر.

فكم من قوم كفروا ، ثم حلّ بهم الدمار ، ولما قالوا : إنا لا نؤمن خوفا من زوال نعمة الدنيا ، بيّن الله تعالى لهم أن الإصرار على عدم قبول الإيمان هو الذي يزيل هذه النعم ، لا الإقدام على الإيمان ؛ والدليل أنه تعالى أهلك كثيرا من

١٣٨

الأقوام بسبب البطر وهو ألا يحفظ حق الله تعالى في الغنى ، فأصبحت مساكنهم غير مسكونة بعد إهلاك أهلها إلا قليلا من السكنى أو سكونا قليلا ، فلم يسكنها إلا المسافرون أو المارة بالطريق يوما أو بعض يوم ، وكان الله هو الوارث لها بعد هلاك أهلها.

ومن المعلوم أنه إذا لم يبق للشيء مالك معين قيل : إنه ميراث الله ؛ لأنه الباقي بعد فناء خلقه.

ثم أوضح الله تعالى سنته في الإهلاك : وهي أنه لم تكن عادة الله أو سنته أن يهلك القرى الكافرة ، حتى يبعث في عاصمتها وأعظمها رسولا ، كما أرسل إلى أهل مكة محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم لم يهلكهم إلا وقد استحقوا الإهلاك لظلمهم ولإصرارهم على الكفر بعد إعذارهم وإنذارهم. وهذا بيان لعدله وتقدسه عن الظلم.

والخلاصة : أن إهلاكهم لا يكون إلا بأمرين :

استحقاقهم الإهلاك بظلمهم ، ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة ، والإلزام ببعثة الرسل.

الثالث ـ إن قول أهل مكة : تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا خطأ عظيم ؛ لأن ما يتمتعون به مدة حياتهم زائل ، وما عند الله خير وأبقى ، أي أفضل وأدوم ، أفلا تعقلون أن الباقي أفضل من الفاني؟!

أما إنه خير : فلأن المنافع في الآخرة أعظم ، ولأنها خالصة عن الشوائب ، أما منافع الدنيا فمشوبة بالمضار ، بل المضار فيها أكثر.

وأما إنها أبقى : فلأنها دائمة غير منقطعة ، ومنافع الدنيا منقطعة ، وإذا قوبل المتناهي بغير المتناهي كان عدما ، ثم إن نصيب كل واحد من منافع الآخرة إذا قورن بمنافع الدنيا كلها يعدّ كالذرة بالقياس إلى البحر.

١٣٩

وهل يعقل التسوية بين الموعود وعدا حسنا وهو الجنة وما فيها من الثواب والممتع بمتاع الدنيا ، أي الذي أعطي منها بعض ما أراد ، ثم يوم القيامة كان من المحضرين في النار. قال القشيري : والصحيح أنها نزلت في المؤمن والكافر على التعميم. وقال الثعلبي : وبالجملة ، فإنها نزلت في كل كافر متّع في الدنيا بالعافية والغنى ، وله في الآخرة النار ، وفي كل مؤمن صبر على بلاء الدنيا ثقة بوعد الله ، وله في الآخرة الجنة.

والخلاصة : تترجح منافع الآخرة على منافع الدنيا بأمرين : الدوام والبقاء ، وعدم العقاب ، أما منافع الدنيا فهي إلى انقطاع وفناء ، ويحصل بعدها العقاب الدائم إذا لم تقترن بطاعة الله.

٥ ـ دل قوله سبحانه : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) على أن من لا يرجح منافع الآخرة على منافع الدنيا ، كان خارجا عن حد العقل السليم.

واستدل الشافعي رحمه‌الله بهذا القول على أن من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس ، صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى ؛ لأن أعقل الناس من أعطى القليل ، وأخذ الكثير ، وما هم إلا المشتغلون بطاعة الله تعالى.

تقريع المشركين يوم القيامة بأسئلة ثلاثة

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ

١٤٠