التفسير المنير - ج ١١

الدكتور وهبة الزحيلي

تعالى : (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [الأنعام ٦ / ٩٢] وقال عزوجل : (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ، تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح ٤٨ / ١٦] ثم انتشرت خارج الجزيرة بين أهل الكتاب فقال سبحانه : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة ٩ / ٢٩] وقال تعالى : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام ٦ / ١٩] أي لأنذر العرب ومن يبلغه القرآن في كل زمان ومكان.

فالسياسة الإسلامية تسير على منهج دعوة الأقرب فالأقرب سلما ، وقتال الأقرب فالأقرب إذا توافرت دواعي القتال.

التفسير والبيان :

يأيها المؤمنون قاتلوا الأقرب منهم فالأقرب إلى ديار الإسلام ، فإن الأقرب أحق بالشفقة والإصلاح ، ولأن تكوين الأتباع المؤمنين من الجوار بالدعوة الإسلامية أفيد وأحصن وأجدى ، وفيه حماية الديار والوطن ، ولأن هذا الترتيب يحقق قلة النفقات ، والاقتصاد في نقل الآلات وانتقال المجاهدين بأمان ، حتى لا يطعنوا من الخلف.

وهذا بالطبع يشمل أولا اليهود حوالي المدينة كقريظة والنضير وخيبر ، ثم المشركين في جزيرة العرب ، ثم أهل الكتاب وهم الروم في الشام شمال المدينة.

وسياسة القتال أن يجدوا في المؤمنين المقاتلين غلظة أي شدة وخشونة ، وقوة وحميّة ، وصبرا على القتال ، وجرأة على خوض المعارك والفتك والأسر ونحو ذلك ، وهذه طبيعة الحرب ومصلحة القتال ، ونظير الآية قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ، وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة ٩ / ٧٣].

وأعلموا أن الله مع المتقين أي بالنصر والحراسة والإعانة ، والمتقون : هم

٨١

المتبعون أوامر الله ، المجتنبون نواهيه. فهذه المعية ملازمة للتقوى ، فالله معكم إذا التزمتم أحكام شرعه ومن أهمها إقامة الفرائض والسنن ، والثبات والصبر والطاعة والنظام ، وابتعدتم عن اختراق حدوده والتقصير في إعداد العدة المناسبة لكل عصر وزمان ومكان ، كما قال تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) [الأنفال ٨ / ٦٠].

وإذا أريد بالمتقين المخاطبون ، ففيه إظهار بدل الإضمار للدلالة على أن الإيمان والقتال من باب التقوى ، والشهادة بكونهم من زمرة المتقين. وإذا أريد بالمتقين الجنس دخل المخاطبون دخولا أولياء ، والكلام تعليل وتوكيد لما قبله ، أي قاتلوهم واغلظوا عليهم ولا تخافوهم ؛ لأن الله معكم أو لأنكم متقون.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآية إلى ما يلي :

١ ـ التعريف بكيفية الجهاد ، وكون الابتداء به بالأقرب فالأقرب من العدو ، ولهذا بدأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعرب ، ثم قصد الروم بالشام. وروي عن الحسن البصري أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة ٩ / ٥]. والأصح أنها غير منسوخة ؛ لأنها للإرشاد ورسم خطة الحرب في قتال الكفار. قال قتادة : الآية على العموم في قتال الأقرب فالأقرب ، والأدنى فالأدنى (١).

٢ ـ أمر المؤمنين بالاتصاف بالغلظة على الكفار ، حتى يجدهم الكفار متصفين بذلك. وهذا لا شك في أثناء القتال ، أما قبل بدء المعركة فشأن المسلمين هو الرفق واللين والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، فإن وجدوا تنمرا وتجهما

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٨ / ٢٩٧ ، تفسير الرازي : ١٦ / ٢٨٨

٨٢

من الأعداء ، عوملوا بما يناسب من العنف والشدة ؛ فالفائدة في الشدة في هذه المواطن أقوى تأثيرا في الزجر والمنع عن القبيح والشر ، وقد يحتاج الأمر إلى الرفق واللطف. فالأمر بالعنف ليس مطردا ، وإنما يعمل بما هو الأوفق ولو في أثناء المعركة.

٣ ـ إن الله نصير المتقين في السلم والحرب ، والواجب أن يكون الهدف من القتال تقوى الله ، لا طلب المال والجاه.

موقف المنافقين من سور القرآن

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧))

الإعراب :

(وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) جملة حالية.

البلاغة :

(فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) أي كفرا مضموما إلى الكفر بغيرها. ولما ازداد المنافقون عند

٨٣

نزول السورة عمى ، أضيف ذلك إلى السورة على طريق الاستعارة.

(أَوَلا يَرَوْنَ) هذه ألف استفهام ، دخلت على واو العطف ، وهو خطاب على سبيل التنبيه.

المفردات اللغوية :

(سُورَةٌ) من القرآن (فَمِنْهُمْ) من المنافقين (مَنْ يَقُولُ) لأصحابه استهزاء (إِيماناً) تصديقا (يَسْتَبْشِرُونَ) يفرحون بها وبنزولها (مَرَضٌ) شك وضعف اعتقاد وكفر ونفاق (رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) كفرا ونفاقا إلى كفرهم (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) واستحكم ذلك فيهم حتى ماتوا على الكفر.

(أَوَلا يَرَوْنَ) أي المنافقون يا أيها المؤمنون (يُفْتَنُونَ) يبتلون بأصناف البلاء ، أو بالجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيعاينون ما يظهر عليه من الآيات (فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) أي أنهم يتعرضون للعذاب في الدنيا في كل عام مرة أو مرتين ، وقال مقاتل : يفضحون بإظهار نفاقهم كل سنة مرة أو مرتين (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) من نفاقهم (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) يتعظون. (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) فيها ذكرهم وقرأها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) تغامزوا بالعيون إنكارا لها وسخرية ، أو غيظا ، لما فيها من عيوبهم (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) أي أنهم يريدون الهرب ، ويقولون : هل يراكم أحد إن قمتم من حضرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن لم يرهم أحد قاموا ، وإن رآهم أحد أقاموا وتثبتوا (ثُمَّ انْصَرَفُوا) على كفرهم (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن الهدى والإيمان ، وهو يحتمل الإخبار ، والدعاء (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) الحق ، لسوء فهمهم وعدم تدبرهم.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى أنواعا من مخازي المنافقين وأعمالهم القبيحة ، كتخلفهم عن غزوة تبوك ، وتعللهم بالإيمان الفاجرة ، ذكر هنا أنواعا أخرى أخطر مما سبق ، وهي استهزاؤهم بالقرآن وتهربهم حين سماعه ؛ لأنه كلما نزلت سورة مشتملة على تبيان فضائحهم وعيوبهم تأذوا من سماعها ، وكذلك كلما سمعوا سورة وإن لم يذكر فيها شيء عنهم ، استهزءوا بها وطعنوا فيها ، وأخذوا في التغامز والتضاحك على سبيل الطعن والهزء.

٨٤

التفسير والبيان :

إذا ما أنزلت سورة من سور القرآن وبلغت المنافقين ، فمنهم من يقول لإخوانه أي يقول بعضهم لبعض : أيكم زادته هذه السورة إيمانا؟ أي تصديقا بأن القرآن من عند الله ، وأن محمدا صادق في نبوته.

ومن المعروف أن الإيمان الصحيح : وهو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس ، يزيد بنزول القرآن ، ويتضاعف بسماعه سماع تدبر وإمعان ، مما يدفع إلى العمل بما نزل فيه. وفي هذا دلالة واضحة على أن الإيمان يزيد وينقص ، كما هو مذهب الأكثرين.

فأجابهم الله تعالى عن حقيقة أثر القرآن : فأما المؤمنون فيزيدهم نزول القرآن يقينا وتصديقا وقوة دافعة إلى العمل به ، وهم أي وحالهم أنهم يفرحون بنزول السورة ؛ لأنها تزكي أنفسهم ، وترشدهم إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة. قال الزمخشري في (فَزادَتْهُمْ إِيماناً) : لأنها أزيد لليقين والثبات وأثلج للصدر ، أو فزادتهم عملا ، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان ؛ لأن الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل.

والذين في نفوسهم شك وكفر ونفاق ، فتزيدهم السورة كفرا ونفاقا مضموما إلى كفرهم ونفاقهم السابق ، ويستحكم ذلك فيهم إلى أن يموتوا وهم كافرون بالقرآن وبالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا مناقض للهدف من إنزال السورة ، فهي في الحقيقة هدى ونور ، وشفاء لما في الصدور ، وجلاء لما في القلوب ، كما قال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء ١٧ / ٨٢] وقال عزوجل : (قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ، فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت ٤١ / ٤٤] فهذا من جملة شقائهم أن ما يهدي القلوب يكون سببا لضلالهم ودمارهم ، كما أن سيء المزاج لا يفيده الغذاء إلا تأخرا ونقصا.

٨٥

وبعد أن بيّن الله تعالى أن المنافقين يموتون كفارا ، أوضح أنهم يتعرضون أيضا لعذاب الدنيا كل عام مرة أو مرتين ، فقال : أو لا يرى هؤلاء المنافقون أنهم يختبرون كل عام مرة أو مرتين بأنواع الاختبار العديدة من جهاد وقحط ومرض وهي التي تذكّر الإنسان بالله ، وتجعله ميالا إلى الإيمان وترك الكفر والتمييز بين الحق والباطل.

ثم إنهم مع توالي الاختبارات لا يتوبون من ذنوبهم السابقة ، ولا يتعظون فيما يستقبل من أحوالهم ، مما يجعلهم غير مستعدين لقبول الإيمان.

وإذا أنزلت سورة قرآنية على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم جلوس عنده ، تلفتوا وتغامزوا بالعيون وتهكموا لفساد قلوبهم ، وعزموا على الهروب ، قائلين : هل يراكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو المؤمنون إذا خرجتم؟

ثم انصرفوا جميعا عن مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي تولوا عن الحق ، فهذا حالهم في الدنيا لا يثبتون عند الحق ولا يقبلونه ولا يفهمونه ، كقوله تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ. كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ. فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) [المدثر ٧٤ / ٤٩ ـ ٥١] وقوله : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) [المعارج ٧٠ / ٣٦ ـ ٣٧] أي ما لهؤلاء القوم يخرجون مسرعين ، هروبا من الحق ، وذهابا إلى الباطل.

صرف الله قلوبهم عن الحق والإيمان وعن الخير والنور. وهذا إما دعاء عليهم به أو إخبار عن أحوالهم.

ذلك الصرف بسبب أنهم قوم لا يفهمون الآيات التي يسمعونها ، ولا يريدون فهمها ، ولا يتدبرون فيها حتى يفقهوا ، بل هم في شغل عن الفهم ونفور منه ، كقوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف ٦١ / ٥].

٨٦

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ الإيمان يزيد وينقص ، وهو مذهب أكثر السلف والخلف ، فالمؤمنون يزدادون إيمانا بما يتجدد نزوله من القرآن ، ويفرحون به ، لتزكية نفوسهم ، وتحقيق سعادتهم.

٢ ـ الكفر يتراكم بعضه فوق بعض ، وينضم بعضه إلى بعض ؛ لأنهم كلما جددوا بتجديد الله الوحي كفرا ونفاقا ، ازداد كفرهم واستحكم ، وتضاعف عقابهم.

٣ ـ المنافقون المستهزئون بالقرآن يموتون على كفرهم إن لم يتوبوا ، مما يدل على مداومة الكفر.

٤ ـ وسائل تذكير المنافقين بالإيمان والحق كثيرة متكررة ، فتتوالى عليهم اختبارات عديدة كالأمراض والأوجاع ، والشّدة والقحط ، والجهاد مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل عام مرة أو مرتين ، ويرون ما وعد الله من النصر والتأييد.

٥ ـ ومن الوسائل الداعية لإيمان المنافقين أيضا ما ينزل به القرآن كاشفا أسرارهم ، معلما بمغيبات أمورهم ، ومع ذلك ينصرفون عن تلك الحال التي هي مظنّة النظر الصحيح والاهتداء ، ولا يسمعون القرآن سماع تدبر وتعقل ونظر في آياته : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) [الأنفال ٨ / ٢٢]. (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ، أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد ٤٧ / ٢٤].

وقوله : (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) قول صادر على سبيل الاستهزاء ، وقوله (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) اكتفاء بنظر بعضهم إلى بعض على سبيل الهزء ، وطلب الفرار.

٨٧

٦ ـ إن الله تعالى صرفهم عن الإيمان وصدهم عنه في مذهب أهل السنة ، لصرف نفوسهم عنه ؛ لقوله : (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) وهو إما دعاء عليهم أي قولوا لهم هذا ، وإما خبر عن صرفها عن الخير والرشد والهدى ، مجازاة على فعلهم.

وهذا رد على القدرية في اعتقادهم أن قلوب الخلق بأيديهم ، وجوارحهم بحكمهم ، يتصرفون بمشيئتهم ، ويحكمون بإرادتهم واختيارهم.

صفات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات الصلة بأمته

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩))

الإعراب :

(ما عَنِتُّمْ ما) : مصدرية ، وهي مع (عَنِتُّمْ) في تأويل المصدر ، وتقديره : عزيز عليه عنتكم. وهو إما مرفوع بعزيز ؛ لأنه وقع صفة لرسول ، وإما مبتدأ ، و (عَزِيزٌ) خبره ، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع رفع ؛ لأنها صفة (رَسُولٌ).

المفردات اللغوية :

(مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي منكم ومن جنسكم ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (عَزِيزٌ) شديد أو شاق (ما عَنِتُّمْ) أي عنتكم أي مشقتكم ولقاؤكم المكروه (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أن تهتدوا والحرص : شدة الرغبة في الحصول على الشيء (رَؤُفٌ) شفوق ، والرأفة أخص من الرحمة ، وتكون مع الضعف والشفقة والرقة (رَحِيمٌ) يريد لكم الخير ، والرحمة عامة شاملة حال الضعف وغيره (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإيمان بك (فَقُلْ : حَسْبِيَ) كافي (تَوَكَّلْتُ) وثقت به لا بغيره (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ) الكرسي (الْعَظِيمِ) خص العرش بالذكر ؛ لأنه أعظم المخلوقات.

٨٨

المناسبة :

لما أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبلغ في هذه السورة تكاليف شاقة شديدة صعبة يعسر تحملها إلا من خصة الله بالتوفيق ، ختمها بما يوجب سهولة تحملهم تلك التكاليف ، وهو أن هذا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم منكم ، فكل ما يحققه من عز وشرف فهو عائد إليكم ، وهو بحال يشق عليه ضرركم ، وتعظم رغبته في إيصال خير الدنيا والآخرة إليكم ، فهو كالطبيب الحاذق إذا أقدم على علاجات صعبة ، فإنما يريد الخير ، فاقبلوا منه هذه التكاليف الشاقة لتفوزوا بكل خير.

وكذلك لما بدأ السورة ببراءة الله ورسوله من المشركين ، وقص فيها أحوال المنافقين شيئا فشيئا ، خاطب العرب على سبيل تعداد النعم عليهم والمن عليهم بكونه جاءهم رسول من جنسهم أو من نسبهم عربي قرشي يبلغهم عن الله ، متصف بالأوصاف الجميلة من كونه يعز عليه مشقتهم بالوقوع في العذاب الأخروي ، ويحرص على هداهم ويرأف بهم ويرحمهم(١).

روى الحاكم في المستدرك عن أبي بن كعب قال : آخر آية نزلت : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ ...) إلى آخر السورة. وروى الشيخان عن البراء بن عازب قال : آخر آية نزلت : (يَسْتَفْتُونَكَ ، قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) وآخر سورة نزلت : (بَراءَةٌ). وعن ابن عباس : آخر آية نزلت : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) وكان بين نزولها وموته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمانون يوما. وهذا قول سعيد بن جبير أيضا.

التفسير والبيان :

امتن الله تعالى على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولا من أنفسهم ، أي من

__________________

(١) البحر المحيط : ٥ / ١١٧

٨٩

جنسهم وعلى لغتهم. لقد جاءكم أيها العرب رسول من جنسكم وبلغتكم ، كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) [الجمعة ٦٢ / ٢] وقال أيضا : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [آل عمران ٣ / ١٦٤]

وصف الله هذا الرسول بخمس صفات :

الأولى ـ قوله : (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من العرب ، والمقصود منه ترغيب العرب في نصرته. قال ابن عباس : إنه ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مضريّها وربيعيها ويمانيها ، أي أن نسبه تشعب في جميع قبائل العرب.

الثانية ـ (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي شديد عليه عنتكم أي مشقتكم ولقاؤكم المكروه في الدنيا والآخرة ، إذ هو منكم ، يتألم لألمكم ويفرح لفرحكم.

الثالثة ـ (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي حريص على هدايتكم وإيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة.

الرابعة والخامسة ـ (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين. قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : سماه الله تعالى باسمين من أسمائه.

فإن تولوا أي أعرض المشركون والمنافقون عنك وعن الإيمان برسالتك والاهتداء بشرعك ، فقل : حسبي الله ، أي الله كافي في النصر على الأعداء.

لا إله إلا هو ، أي لا معبود سواه أدعوه وأخضع له ، عليه توكلت أي فوضت أمري إليه وحده ، فلا أتوكل إلا عليه.

وهو رب العرش العظيم ، والعرش : سقف المخلوقات كلها في السموات والأرض وما بينهما ، وخص العرش ؛ لأنه أعظم المخلوقات ، فيدخل فيه ما دونه

٩٠

إذا ذكر ، إذ عليه تدبير أمور الخلق ، كما قال تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) [يونس ١٠ / ٣].

روى أبو داود عن أبي الدرداء قال : من قال إذا أصبح وإذا أمسى : «حسبي الله ، لا إله إلا هو عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم ، سبع مرات ، كفاه الله ما أهمه ، صادقا كان بها أو كاذبا».

وحكى النقاش عن أبي بن كعب أنه قال : أقرب القرآن عهدا بالله تعالى هاتان الآيتان : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إلى آخر السورة.

وقد اتفق الصحابة حين جمع القرآن على وضع هاتين الآيتين في آخر سورة (بَراءَةٌ) روى أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن زيد بن ثابت في جمع القرآن وكتابته في عهد أبي بكر أنه قال : حتى وجدت من سورة التوبة آيتين عند خزيمة الأنصاري ، لم أجدهما مع أحد غيره : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إلى آخرها. أي لم يجدهما مكتوبتين عند غيره ، وإن كانتا محفوظتين عنده وعند غيره ، كما ذكر ابن حجر.

وأخرج ابن جرير وابن المنذر أن رجلا من الأنصار جاء بهما عمر ، فقال : لا أسألك عليها. بيّنة أبدا ، كذلك كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤها.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على أمرين :

١ ـ اتصاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصفات خمس تستدعي من العرب الاستجابة لدعوته ، وتحمّل أعباء رسالته ، والقيام بالتكاليف التي أمر بها ، لأنه منهم وفيهم ، وحريص على اهتدائهم ، ورؤف رحيم بهم.

٩١

٢ ـ إن أعرض الناس عن دعوة النبي فهو يستنصر بالله المعين الكافي ويكتفي باللجوء إليه في الدعاء والعبادة والإعانة ، والخضوع والتذلل ، لأن الله رب العرش العظيم ، والناس مقهورون تحت العرش بقدرة الله تعالى ، وعلمه محيط بكل شيء ، وقدره نافذ في كل شيء ، وهو على كل شيء وكيل.

٩٢

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة يونس عليه‌السلام

مكية وهي مائة وتسع آيات.

تسميتها :

سميت «سورة يونس» لذكر قصة نبي الله يونس فيها ، وهي قصة مثيرة ، سواء بالنسبة لشخصه الذي تعرض لالتقام الحوت له ، أو بالنسبة لما اختص به قومه من بين سائر الأمم ، برفع الله العذاب عنهم حين آمنوا وتابوا بصدق.

موضوعها :

تتميز بالكلام عن الأهداف الكبرى لرسالة القرآن وهي إثبات التوحيد لله وهدم الشرك ، وإثبات النبوة والبعث والمعاد ، والدعوة للإيمان بالرسالات السماوية وخاتمتها القرآن العظيم ، وهي موضوعات السور المكية عادة.

مناسبتها لما قبلها :

ختمت سورة التوبة السابقة بذكر صفات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبدئت هذه السورة بتبديد الشكوك والأوهام نحو إنزال الوحي على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، للتبشير والإنذار ، وكانت أغلبية آيات السورة المتقدمة في أحوال المنافقين وموقفهم من القرآن ، وهذه في أحوال الكفار والمشركين وقولهم في القرآن. فالاتصال بالسورة المتقدمة واضح ، فقد ذكرت أوصاف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم التي تستدعي الإيمان به ، ثم

٩٣

ذكر هنا الكتاب الذي أنزل ، والنبي الذي أرسل ، وأن شأن الضالين التكذيب بالكتب الإلهية.

ويلاحظ أنه لا يشترط وجود تناسب واضح بين السور ولا بين الآيات في ضمن السورة الواحدة ، فقد تتعدد الأغراض والانتقال من العقيدة إلى العبادة إلى الأخلاق والأمثال والقصص وأحكام السلوك والمعاملات ، وذلك أسلوب خاص بالقرآن لاجتذاب الأنفس حين التلاوة والبعد عن السأم والملل ، وقد أصبح هذا الأسلوب هو المرغوب فيه شعبيا كما يظهر في الإقبال على الروايات وأساليب العرض القصصي والتمثيليات ، لشد انتباه المشاهدين والقارئين والسامعين ، من خلال المفاجآت والاستطرادات وتحليل بعض القضايا الجانبية.

فقد يكون هناك تناسب بين السور ، كسور الطواسين وحواميم وسورتي المرسلات والنبأ ، وقد يوجد فاصل بينهما كسورتي الهمزة واللهب مع أن موضوعهما واحد.

ما اشتملت عليه السورة :

سورة يونس تتحدث عن الرسالات الإلهية ، والألوهية وصفات الإله ، والنبوة وقصص بعض الأنبياء ، وموقف المشركين من القرآن ، والبعث والمعاد.

١ ـ بدأت السورة بتقرير سنة الله في خلقه بإرسال رسول لكل أمة ، وختم الرسل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مما لا يستدعي عجب المشركين من بعثته : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) [٢].

٢ ـ ثم تحدثت عن إثبات وجود الإله من طريق آثاره في الكون : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ..) الآيات. ثم التذكير بمصير الخلائق إليه بالبعث والجزاء : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ..) وانقسام البشر إلى

٩٤

مؤمنين وكفار وجزاء كل منهم. وإنذار الجاحدين بإهلاك الأمم الظالمة : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ..).

٣ ـ ثم أوضحت عقائد المشركين وذكرت خمس شبهات لمنكري النبوة والرسالة وناقشتهم نقاشا منطقيا مقنعا ، وأثبتت أن القرآن كلام الله ومعجزة النبي الخالدة على مر الزمان : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) وأقامت الدليل على كونه من عند الله بتحدي المشركين وهم أمراء البيان وأساطين الفصاحة والبلاغة أن يأتوا بسورة من مثله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ، قُلْ : فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ...) وذكرت موقف المشركين من القرآن : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ ...).

٤ ـ ثم ذكرت آثار القدرة الإلهية الباهرة التي تدل على عظمة الله وضرورة الإيمان به ، لأنه مصدر الحياة والرزق والنعم : (قُلْ : مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ ، وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ، وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ، فَسَيَقُولُونَ : اللهُ ، فَقُلْ : أَفَلا تَتَّقُونَ؟!).

٥ ـ ثم تناولت بإيجاز للعبرة والعظة وتقرير صدق القرآن قصص بعض الأنبياء ، كقصة نوح عليه‌السلام في تذكير قومه ، وقصة موسى عليه‌السلام مع فرعون ، واستعانة فرعون بالسحرة لإبطال دعوة موسى ، وشأن موسى مع قومه ، ودعائه على فرعون ، ونجاة بني إسرائيل ، وغرق فرعون في البحر ، وقصة يونس عليه‌السلام مع قومه ، فصار المذكور في هذه السورة ثلاث قصص.

٦ ـ ختمت السورة بما أشارت إليه في الآية [٥٧] : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) وهو اتباع رسالة القرآن وشريعة الله ، لما فيها من خير وصلاح للإنسان: (قُلْ : يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ، فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ .. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ ، وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ ،

٩٥

وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ).

ذكر البيضاوي حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة يونس أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بيونس ومن كذب به ، وبعدد من غرق مع فرعون» ، والظاهر أنه غير صحيح.

قضية إنزال الوحي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢))

الإعراب :

(تِلْكَ آياتُ) مبتدأ وخبر ، أي تلك التي جرى ذكرها آيات الكتاب الحكيم. والمراد من (تِلْكَ) : هذه أي هذه آيات الكتاب.

(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا) أن وما بعدها في تأويل المصدر في موضع رفع اسم (كانَ) ، و (عَجَباً) خبره ، واللام في (لِلنَّاسِ) متعلقة بمحذوف ، لأنه صفة لعجب ، فلما تقدم صار حالا ، لأن صفة النكرة إذا تقدمت عليها انتصبت على الحال. ولا يجوز أن تتعلق اللام بكان ، لأنها لمجرد الزمان ، ولا تدل على الحدث الذي هو المصدر ، فضعفت.

(أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ كانَ) : هي المفسرة ، لأن الإيحاء فيه معنى القول ، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة ، وأصله : أنه أنذر أن لهم الباء معه محذوف.

البلاغة :

(الْحَكِيمِ) بمعنى مفعول ، أي الحكم الذي لا فساد فيه ولا نقص.

(أَنْذِرِ .. وَبَشِّرِ) بينهما طباق. (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا) استفهام معناه التقرير والتوبيخ.

٩٦

(قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة. وإضافة قدم إلى صدق دلالة على زيادة فضل وأنه من السوابق العظيمة ، ففي ذلك غاية البلاغة ؛ لأن بالقدم يكون السبق والتقدم ، كما سميت النعمة يدا ، لأنها تعطى بها. وجاء في القرآن : (مَقْعَدِ صِدْقٍ) [القمر ٥٤ / ٥٥] ، و (مُدْخَلَ صِدْقٍ) [الإسراء ١٧ / ٨٠] ، و (مُخْرَجَ صِدْقٍ) [الإسراء ١٧ / ٨٠] ، و (قَدَمَ صِدْقٍ) [يونس ١٠ / ٢].

المفردات اللغوية :

(الر) تقرأ هكذا : ألف ، لام ، را. والحروف المقطعة في أوائل السور وتعديدها يقصد به التحدي ، والإشارة إلى أن هذا القرآن كلام مكون من الحروف العربية المألوفة غير الغريبة على العرب ، فما لهم عجزوا عن محاكاته؟ مما يدل على كونه كلام الله. أو هي أداة استفتاح وتنبيه لما سيلقى بعدها.

(تِلْكَ) أي هذه الآيات (آياتُ الْكِتابِ) القرآن العظيم ، والإضافة بمعنى من (الْحَكِيمِ) المحكم ، أي هذه آيات القرآن المحكم المبين.

(أَكانَ لِلنَّاسِ) أي أهل مكة ، استفهام إنكار (أَنْ أَوْحَيْنا) أي إيحاؤنا ، والوحي : إعلام خفي (إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَنْذِرِ) خوّف ، والإنذار : الإخبار بما فيه تخويف (النَّاسَ) الكافرين بالعذاب (وَبَشِّرِ) التبشير : إعلام مقترن بالبشارة بحسن الجزاء أو الثواب (قَدَمَ صِدْقٍ) أي سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة عند ربهم بما قدموه من الأعمال ، سميت قدما ، لأن السعي إلى هذه الفضائل بالقدم ، كما سميت النعمة يدا ، وإضافتها للصدق للتحقق. والصدق يكون في الاعتقاد والأقوال والأفعال وسائر الفضائل. (إِنَّ هذا) الكتاب وما جاء به محمد (لَساحِرٌ مُبِينٌ) بيّن واضح ظاهر ، والسحر : شيء مؤثر في النفوس بدون أن يكون له حقيقة.

سبب النزول :

أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : لما بعث الله محمدا رسولا ، أنكرت العرب ذلك ، أو من أنكر ذلك منهم ، فقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا ، فأنزل الله : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) الآية. وأنزل : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) الآية [يوسف ١٢ / ١٠٩ ومواضع أخرى] ، فلما كرر الله عليهم الحجج قالوا : وإذا كان بشرا فغير محمد كان أحق بالرسالة : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى

٩٧

رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف ٤٣ / ٣١] يكون أشرف من محمد ، يعنون الوليد بن المغيرة من مكة ، ومسعود بن عمرو الثقفي من الطائف ، فأنزل الله ردا عليهم : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) الآية [الزخرف ٤٣ / ٣٢].

التفسير والبيان :

(الر) : تقرأ هذه الحروف الثلاثة هكذا : ألف ، لام ، را ، والقصد منها التنبيه إلى ما يتلى بعدها ليعتني المرء بفهم ما يسمع أو يقرأ ، وتعديد الحروف على طريق التحدي ، كما مر في أول سورة البقرة.

تلك آيات القرآن المحكم ، أو ذات الحكمة لا لاشتماله عليها ، أو تلك آيات السورة الحكيمة ، التي أحكمها الله وبينها لعباده ، كما قال تعالى : (الر ، كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) أي أحكمت معانيه ومبانيه. والأولى بالصواب كما ذكر القرطبي أن المراد القرآن ، لأن الحكيم من نعت القرآن ، كما دل قوله تعالى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ). والحكيم : المحكم بالحلال والحرام والحدود والأحكام.

(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) ينكر الله تعالى على من تعجب من الكفار على إرسال المرسلين من البشر ، أي عجيب أمر بعض الناس الذي ينكرون إيحاءنا إلى رجل من جنسهم من البشر ، كأن الاشتراك في البشرية تحول دون الإرسال ، وكأنهم يريدون رسولا من غير جنسهم ، كما قال تعالى في آيات أخرى حكاية عنهم : (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) [التغابن ٦٤ / ٦] (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء ١٧ / ٩٤] (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [فصلت ٤١ / ١٤] وقال هود وصالح لقومهما : (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) [الأعراف ٧ / ٦٣].

قال ابن عباس : لما بعث الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا أنكرت العرب ذلك ،

٩٨

أو من أنكر منهم ، فقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد ، فأنزل الله عزوجل: (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً).

هذا التعجب في غير محله ، إذ أن كل الرسل كانوا بشرا : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) [الأنعام ٦ / ٩] وردد الله هذا المعنى في آيات كثيرة منها : (قُلْ : لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ ، لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) [الإسراء ١٧ / ٩٥]. فإرسال الرسول من جنس المرسل إليهم أدعى إلى قبول دعوته ، والتفاهم معه. وأما اختيار أحد هؤلاء البشر فالله أعلم من هو أولى للرسالة وأحق بالاصطفاء والاختيار : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) [الحج ٢٢ / ٧٥] ، (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام ٦ / ٣١].

أما معايير البشر فهي خطأ ، مثل كون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتيم أبي طالب ، إذ قال القرشيون: العجب أن الله تعالى لم يجد رسولا إلا يتيم أبي طالب ، أو أنه فقير ، وهم يريدون كونه غنيا مترفا وزعيما مرموقا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف ٤٣ / ٣١] وهم يعنون إما الوليد بن المغيرة من مكة ، أو مسعود بن عمرو الثقفي من الطائف.

ومهمة هذا النبي الموحي إليه هي الإنذار من النار : (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) أي أوحينا إليه بأن أنذر الناس وخوفهم من عذاب النار يوم البعث ، إذا ظلوا كافرين ضالين عاصين ، كما قال تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ ، فَهُمْ غافِلُونَ) [يس ٣٦ / ٦].

وبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم قدم صدق عند ربهم ، أي سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة عند الله في جنات النعيم ، وأجرا حسنا بما قدموا. والأعمال الصالحة : هي صلاتهم وصومهم وصدقهم في القول والفعل وتسبيحهم.

٩٩

والإنذار والتبشير هما من أخص صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد صرح القرآن بهما في آيات كثيرة مثل : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ ، وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) [الكهف ١٨ / ٢] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) [الأحزاب ٣٣ / ٤٥].

وفي الكلام حذف يدل الظاهر عليه تقديره : ومع أنا بعثنا إليهم رسولا منهم ، رجلا من جنسهم ، بشيرا ونذيرا ، (قالَ الْكافِرُونَ : إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) أي قال المنكرون المكذبون رسالته : إن محمدا ساحر ظاهر. وعلى قراءة : (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) معناه إن هذا القرآن سحر ظاهر بيّن. وعلى أي حال فإنهم وصفوا القرآن وصاحبه المنزل عليه بالسحر وكونه الساحر ، وهم الكاذبون في ذلك. ووصفوه بالسحر لما رأوا من تأثيره القوي في القلوب ، والسحر عندهم يطلق على كل فعل غريب خارق للعادة ، لا يعرف له سبب ، مؤثر في النفوس ، جذاب يلفت الأنظار.

ثم تبيّن لعقلاء العرب وحكمائهم أن القرآن ليس سحرا ، لأنهم جربوا السحر وعرفوه ، فلم يجدوه مطابقا له ، لأن السحر علم يعتمد إما على الحيل والشعوذة ، أو على خواص بعض الأشياء الطبيعية ، أو على علم النجوم ، أو على دراسات نفسانية ، والقرآن ليس من هذه الأشياء إطلاقا بالتجربة والحس والمشاهدة والموازنة ، وإنما هو مغاير لها ، وفوقها ، لأنه وحي من عند الله على قلب نبيه ، مشتمل على أحكام سامية عالية في التشريع والقضاء ، والسياسة والاجتماع ، والعلوم والأخلاق والآداب ، معجز في أسلوبه ونظمه ومعانيه ، يفوق قدرة البشر على محاكاته أو الإتيان بشيء من مثله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ ، وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت ٤١ / ٤١ ـ ٤٢] (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً ، مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ

١٠٠