التفسير المنير - ج ١١

الدكتور وهبة الزحيلي

فلما تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله ، بأن مات على الكفر ، أو أوحي إليه فيه بأنه لن يؤمن ، تبرأ منه ، وقطع استغفاره له ، إن إبراهيم لأوّاه أي لكثير التأوه والتحسر ، أو لكثير التضرع والدعاء ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأواه : الخاشع المتضرع» وهو كناية عن فرط رحمته ، ورقة قلبه ، حليم : صبور على الأذى. والجملة لبيان ما حمله على الاستغفار له ، مع معاداته له وسوء خلقه معه ، بدليل أنه أي آزر قال لإبراهيم : (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ ، لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ، وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [مريم ١٩ / ٤٦].

ثم رفع الله تعالى المؤاخذة عن الذين استغفروا للمشركين قبل نزول آية المنع هذه ، وبيّن أنه تعالى لا يؤاخذهم بعمل إلا بعد أن يبين لهم أنه يجب عليهم أن يتقوه ويحترزوا عنه ، فقال : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ ...) أي وما كان من سنة الله في خلقه ولا في رحمته وحكمته أن يصف قوما بالضلال أو يؤاخذهم مؤاخذة الضالين ، بعد إذ هداهم للإسلام حتى يبين لهم ما يجب عليهم اتقاؤه من الأقوال والأفعال. وهذا يدل على أنه تعالى لا يعاقب إلا بعد التبيين ، وإزالة العذر.

إن الله تعالى عليم بكل شيء ، وبأحوال الناس وحاجتهم إلى البيان ، وكأن هذا بيان عذر للرسول في قوله لعمه أو لمن استغفر له قبل المنع. وفي هذا دلالة على أن الغافل الذي لم تبلغه رسالة نبي غير مكلف. وبناء عليه ، يستبعد أن يكون سبب نزول الآية الاستغفار لأم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنها ماتت قبل البعثة في عهد الفترة الجاهلية ، التي انقطعت فيها النبوة بعد عيسى عليه‌السلام ، ولم يعد هناك مجال للتعرف على الدين الحق ، لاختلاط الأمور.

وبعد أن أمر الله تعالى بالبراءة من الكفار ، بين أن النصر لا يكون إلا من عنده ؛ لأن له ملك السموات والأرض ، فإذا كان هو الناصر لكم ، فهم لا يقدرون على إضراركم ، فقال : (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ ...) أي إنه تعالى مالك كل موجود

٦١

ومتولي أمره ، والغالب المهيمن عليه بيده الأمر كله ، يحيي ويميت ، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصرة إلا منه ، ليتبرؤوا مما عداه ، حتى لا يبقى لهم مقصود فيما يأتون ويذرون سواه ، ولا تهمنكم القرابة والصلة الذين هم أولياء مناصرون لكم عادة ، فما لكم ولي ولا نصير غير الله تعالى.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات الأحكام التالية :

١ ـ تحريم الدعاء لمن مات كافرا ، بالمغفرة والرحمة ، أو بوصفه بذلك ، كقولهم : المغفور له ، والمرحوم فلان ، كما يفعل بعض الجهلة.

٢ ـ قطع الموالاة مع الكفار حيّهم وميّتهم ؛ فإن الله لم يسمح للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين ، فطلب الغفران للمشرك مما لا يجوز. وأما دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد حين كسروا رباعيته وشجّوا وجهه : «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» فإنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدمه من الأنبياء ، كما ثبت في صحيحي البخاري ومسلم ، أو أن هذا الدعاء كان قبل نزول سورة التوبة التي هي من آخر ما نزل من القرآن. وحديث مسلم عن ابن مسعود قال : كأني أنظر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه ، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول : «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».

٣ ـ لا حجة للمؤمنين في استغفار إبراهيم الخليل عليه‌السلام لأبيه ؛ فإن ذلك لم يكن إلا عن عدة (وعد). والواعد : إما أبو إبراهيم ، فإنه وعده أن يؤمن ، قال ابن عباس : كان أبو إبراهيم وعد إبراهيم الخليل أن يؤمن بالله ، ويخلع الأنداد ، فلما مات على الكفر ، علم أنه عدو الله ، فترك الدعاء له. وقوله : (إِيَّاهُ) ترجع إلى إبراهيم ، والواعد أبوه. أو أن يكون الواعد هو إبراهيم ، أي وعد إبراهيم أباه أن يستغفر له ، رجاء إسلامه ، فلما مات مشركا تبرأ

٦٢

منه. ودل عليه قوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) [مريم ١٩ / ٤٧]. أي إن إبراهيم وعد أباه بالاستغفار قبل أن يتبين الكفر منه ، وأملا في إسلامه ، فلما تبين له الكفر منه ، تبرأ منه.

٤ ـ يحكم على الإنسان بظاهر حاله عند الموت ، فإن مات على الإيمان حكم له به ، وإن مات على الكفر حكم له به ، وربك أعلم بباطن حاله.

٥ ـ لا عقوبة إلا بنص ، ولا مؤاخذة إلا بعد بيان ، لقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً ...).

٦ ـ تدل هذه الآية أيضا : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) على أن المعاصي سبب للضلالة والهلاك ، وطريق إلى ترك الرشاد والهدى.

٧ ـ الله مالك الملك ، وبيده مقاليد السموات والأرض ، فالنصر منه وحده ، لا من الأقارب أو الأباعد.

التوبة على أهل تبوك وعلى الثلاثة المخلفين والصدق

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩))

٦٣

الإعراب :

(كادَ يَزِيغُ) اسمها ضمير الشأن ، وجملة (يَزِيغُ) خبرها ، وهي تفسير لضمير الشأن ، وجاز إضمار الشأن في (كادَ) دون (عسى) لأنها أشبهت (كان) الناقصة ، فإنها لا تستغني عن الخبر ، بخلاف (عسى) فإنها قد تستغني عن الخبر إذا وقعت (أن) بعدها. ويجوز أن يكون اسمها ضمير القوم أصحاب النبي ، وتقديره : كاد قبيل يزيغ ، وضمير (مِنْهُمْ) عائد على هذا الاسم.

(وَعَلَى الثَّلاثَةِ) معطوف على (النَّبِيِ) في الآية السابقة ، وتقديره : لقد تاب الله على النبي وعلى الثلاثة.

البلاغة :

(ضاقَتْ ..) و (رَحُبَتْ) بينهما طباق.

(التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) من صيغ المبالغة.

المفردات اللغوية :

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِ) أدام توبته. (الْعُسْرَةِ) الشدة والضيق ، و (ساعَةِ الْعُسْرَةِ) : وقتها ، وهي حالهم في غزوة تبوك ، كانوا في عسرة من الركائب والزاد ، حتى قيل : إن الرجلين كانا يقتسمان تمرة ، والعشرة تعتقب على بعير واحد ، واشتد الحر حتى شربوا الفرث.(يَزِيغُ) يميل عن اتباع النبي إلى التخلف ، لما هم فيه من الشدة. (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) بالثبات.

وكرر للتأكيد والتنبيه على أنه تاب عليهم من أجل ما كابدوا من العسرة. (رَؤُفٌ رَحِيمٌ) الرأفة : الرفق بالضعيف ، والرحمة : السعي في إيصال المنفعة. (وَعَلَى الثَّلاثَةِ) أي وتاب على الثلاثة : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع. (الَّذِينَ خُلِّفُوا) تخلفوا عن الغزو ، أو خلّف وأخر أمرهم مدة ، فإنهم المرجون لأمر الله ، ثم تاب عليهم بعدئذ. (رَحُبَتْ) أي مع رحبها أو برحبها ، أي سعتها ، فلا يجدون مكانا يطمئنون إليه ، وأعرض الناس عنهم بالكلية ، وهو مثل لشدة الحيرة. (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) قلوبهم من فرط الوحشة والغم بتأخير توبتها ، فلا يسعها سرور ولا أنس. (وَظَنُّوا) أيقنوا أو علموا. (أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ) أن : مخففة ، أي ألا ملجأ من سخطه أي لا ملاذ ولا معتصم. (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) وفقهم للتوبة. (اتَّقُوا اللهَ) بترك معاصيه. (مَعَ الصَّادِقِينَ) في الإيمان والعهود بأن تلزموا الصدق.

٦٤

سبب النزول :

روى البخاري وغيره عن كعب بن مالك قال : لم أتخلف عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة غزاها إلا بدرا ، حتى كانت غزوة تبوك ، وهي آخر غزوة ، وآذن الناس بالرحيل ... فأنزل الله توبتنا : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ) إلى قوله : (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) قال : وفينا نزل أيضا : (اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).

المناسبة :

بعد أن استقصى الله تعالى في شرح أحوال غزوة تبوك ، وأحوال المتخلفين عنها ، عاد في هذه الآية إلى شرح ما بقي من أحكامها ، وهذا أسلوب القرآن في تفريق الآيات في الموضوع الواحد ، للتأثير على النفس ، وتجديد الذكرى ، ومنع اليأس في التلاوة.

والآية مناسبة لما قبلها في النهي عن الاستغفار للمشركين ، وكان ذلك من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم خلاف الأولى ، كما كان من بعض الصحابة زلات ، فذكر تعالى أنه تفضل عليهم وتاب عليهم في تلك الزلات.

التفسير والبيان :

لقد تفضل الله ورضي عن نبيه ، وتاب على أصحابه المؤمنين الذين صاحبوه واتبعوه في غزوة تبوك وقت الشدة والضيق ، التي تسمى غزوة العسرة ، وجيشها جيش العسرة الذي جهزه عثمان وغيره من الصحابة رضي‌الله‌عنهم. فكانوا في نقص شديد من وسائط الركوب والزاد والماء ، حتى إن العشرة يعتقبون البعير الواحد ، ويقتسم الاثنان التمرة الواحدة ، وينحرون البعير ويعتصرون الفرث الذي في كرشه ، ليبلّوا به ألسنتهم ، بالإضافة إلى شدة الحر أو حرارة القيظ التي

٦٥

صادفت خروجهم لتلك الغزوة. قال جابر بن عبد الله في ساعة العسرة : عسرة الظهر (الإبل) وعسرة الزاد ، وعسرة الماء.

والتوبة على النبي ؛ لأنه كان قد صدر عنه ما هو خلاف الأفضل والأولى ، مثل إذن المنافقين في التخلف بناء على اجتهاد منه لم يقره الله عليه ؛ لأن غيره خير منه ، فسر ابن عباس التوبة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المؤمنين ، بقوله : كانت التوبة على النبي لأجل إذنه للمنافقين في القعود ؛ دليله قوله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة ٩ / ٤٣] وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه.

والتوبة على الصحابة من المهاجرين والأنصار كانت بسبب تثاقل بعضهم في الخروج ، أو لسماعهم للمنافقين ما يثيرونه من فتنة.

والتوبة هنا ذات معنيين : بالنسبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعني الرضا والعطف ، وبالنسبة للصحابة تعني قبول التوبة منهم وتوفيقهم إليها.

حدثت هذه التوبة على المؤمنين من بعد ما كاد يزيغ أو يميل بعضهم عن الحق والإيمان ، وهم الذين تخلفوا لغير سبب النفاق ، وهم الذين عملوا عملا صالحا وآخر سيئا ، واعترفوا بذنوبهم ، فقبل الله توبتهم. ومن بعد ما ارتاب بعضهم بما نالهم من المشقة والشدة في سفرهم وغزوهم.

ثم أكد الله تعالى التوبة عليهم ، فقال : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) أي رزقهم الإنابة إلى ربهم والرجوع إلى الثبات على دينه ، إن ربهم رؤف رحيم بهم ، فلا يتركهم بعد ما صبروا على الجهاد في سبيله ، وإنما يزيل ضررهم ويوصل المنفعة إليهم. وهذا معنى الرأفة أي السعي في إزالة الضر ، والرحمة أي السعي في إيصال النفع.

وفائدة تأكيد ذكر التوبة مرة أخرى تعظيم شأنهم ، وإزالة الشك من نفوسهم ، والتجاوز عن وساوسهم التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة.

٦٦

وتاب الله أيضا على الثلاثة الذين خلّفوا أي تخلفوا عن الغزو لا بسبب النفاق ، وإنما كسلا وإيثارا للراحة والقعود. وخلفوا الغازين بالمدينة أي صاروا خلفاء للذين ذهبوا إلى الغزو وأرجئوا وأخروا عن المنافقين فلم يقض فيهم شيء ، وهم المرجون لأمر الله ، وهم كعب بن مالك الشاعر ، وهلال بن أمية الواقفي الذي نزلت فيه آية اللعان ، ومرارة بن الربيع العامري ، وكلهم من الأنصار.

ووصف الله هؤلاء الثلاثة بصفات ثلاث هي :

الصفة الأولى :

(حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) : أي خلفوا عن التوبة حتى شعروا بأن الأرض قد ضاقت عليهم على رحبها وسعتها بالخلق جميعا ، خوفا من العاقبة ، وجزعا من إعراض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم ، ومنع المؤمنين من مكالمتهم ، وأمر أزواجهم باعتزالهم ، حتى بقوا على هذه الحالة خمسين يوما أو أكثر.

والصفة الثانية :

(وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) أي ضاقت صدورهم بسبب الهم والغم ، ومجانبة الأحباء ، ونظر الناس لهم بعين الإهانة.

والصفة الثانية :

(وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) أي علموا واعتقدوا ألا ملجأ ولا ملاذ من غضب الله إلا بالتوبة والاستغفار ورجاء رحمته.

(ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) أي أنزل قبول توبتهم.

(لِيَتُوبُوا) أي ليرجعوا إليه بعد إعراضهم عن هدايته واتباع رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذه الأوصاف السابقة كانت دليلا على توبتهم وصدقهم في ندمهم. إن الله

٦٧

كثير القبول لتوبة التائبين ، واسع الرحمة للمحسنين. وقصة قبول توبتهم تظهر فيما يأتي :

قال أكثر المفسرين : إنهم ما ذهبوا خلف الرسول عليه الصلاة والسلام ، قال كعب : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب حديثي ، فلما أبطأت عنه في الخروج ، قال عليه الصلاة والسلام: «ما الذي حبس كعبا؟» فلما قدم المدينة ، اعتذر المنافقون ، فعذرهم ، وأتيته وقلت : إن كراعي (خيلى) وزادي كان حاضرا ، واحتبست بذنبي ، فاستغفر لي ، فأبى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك.

ثم إنه عليه الصلاة والسلام نهى عن مجالسة هؤلاء الثلاثة ، وأمر بمباينتهم حتى أمر بذلك نساءهم ، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وجاءت امرأة هلال بن أمية ، وقالت : يا رسول الله ، لقد بكى هلال ، حتى خفت على بصره ، حتى إذا مضى خمسون يومأ أنزل الله تعالى : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ) وأنزل قوله : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) فعند ذلك خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حجرته ، وهو عند أم سلمة فقال : «الله أكبر ، قد أنزل الله عذر أصحابنا» فلما صلى الفجر ذكر ذلك لأصحابه ، وبشرهم بأن الله تاب عليهم ، فانطلقوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتلا عليهم ما نزل فيهم.

فقال كعب : توبتي إلى الله أن أخرج مالي صدقة ، فقال : لا ، قلت : فنصفه قال : لا ، قلت : فثلاثة؟ قال : نعم (١).

وبعد أن نزل قوله تعالى بقبول توبة هؤلاء الثلاثة ، زجر عن فعل ما مضى ، وهو التخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجهاد ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٦ / ٢١٨

٦٨

أي اتقوا وتجنبوا ما لا يرضاه الله من مخالفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكونوا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه في الغزوات ، ولا تكونوا متخلفين عنها ، وجالسين مع المنافقين في البيوت ، وكونوا في الدنيا مع الصادقين في إيمانهم وعهودهم ، أو في دين الله نية وقولا وعملا ، تكونوا في الآخرين مع الصادقين في الجنة.

والصدق : الثبات على دين الله وشرعه ، وتنفيذ أوامره ، وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد استتبع صدق هؤلاء الثلاثة في ندمهم على ما فعلوا قبول الله تعالى توبتهم. وذلك مؤذن بأن الصدق في المواقف طريق النجاة والفلاح ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه البيهقي مرفوعا : «إن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، إنه يقال للصادق : صدق وبرّ ، ويقال للكاذب : كذب وفجر ، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا ، ويكذب حتى يكتب عند الله كذابا».

وترك الكذب كما أوصى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبيل لترك جميع المعاصي من خمر وزنا وسرقة ونحوها.

ولا يرخص في الكذب إلا في ثلاث : في الحرب ، والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته ليرضيها ، كأن يقول لها : أنت أجمل الناس ، وأحب الناس إلى ، لا في غير ذلك كمصالح البيت والنفقة ونحوها. أخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن أسماء بنت يزيد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل يكذب في خديعة حرب ، أو صلاح بين اثنين ، أو رجل يحدث امرأته ليرضيها». وجاء في حديث آخر أخرجه ابن عدي والبيهقي عن عمران بن حصين ، وهو ضعيف : «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب».

فقه الحياة أو الأحكام :

موضوع الآيات : التوبة والصدق.

٦٩

أما التوبة فكانت شاملة عامة لكل من شارك في غزوة العسرة أو غزوة تبوك. وذلك تفضل من الله ورحمة ، بعد ما تعرضوا للشدائد في جميع أوقات تلك الغزوة ، قال جابر : اجتمع عليهم عسرة الظّهر ، وعسرة الزاد ، وعسرة الماء.

قال الزمخشري في قوله تعالى : (تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِ) هو كقوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح ٤٨ / ٢] وقوله : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [غافر ٤٠ / ٥٥] وهو بعث للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار حتى النبي والمهاجرين والأنصار ، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله ، وأن صفة التوابين الأولين صفة الأنبياء (١).

وشملت هذه التوبة أيضا الثلاثة الذين خلّفوا عن هذه الغزوة ، أي أرجئوا وأخّروا عن المنافقين ، فلم يقض فيهم بشيء ، وذلك أن المنافقين لم تقبل توبتهم ، واعتذر أقوام فقبل عذرهم ، وأخّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هؤلاء الثلاثة حتى نزل فيهم القرآن. وهذا هو الصحيح لما رواه مسلم والبخاري وغيرهما. قال كعب فيما رواه مسلم : كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين حلفوا له ، فبايعهم واستغفر لهم ، وأرجأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه ؛ فبذلك قال الله عزوجل : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) وليس الذي ذكر الله مما خلّفنا تخلفنا عن الغزو ، وإنما هو تخليفه إيانا ، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له ، واعتذر إليه ، فقبل منه.

والأوصاف الثلاثة التي وصفهم بها القرآن دليل على صدقهم في التوبة. لذا

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٦١

٧٠

أمر تعالى بالصدق بعد هذه الأوصاف ، وهو خطاب لجميع المؤمنين يأمر فيه تعالى التزام مذهب الصادقين وسبيلهم.

والآية هذه توجب الصدق ، وهو أمر حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق ، وأبعدهم عن منازل المنافقين ، وهي دالة على فضل الصدق ، وكمال درجته.

ولا شك بأن التوبة النصوح من أخص أحوال الصدق ، فما على العاقل المتقي إلا ملازمة الصدق في الأقوال ، والإخلاص في الأفعال ، والصفاء في الأحوال ، ومن اتصف بذلك صار مع الأبرار ، وحظي برضا الإله الغفار.

موقفا صدق وإيمان للمقارنة مع المتخلفين : الأول ـ عن أبي ذر الغفاري أن بعيره أبطأ به ، فحمل متاعه على ظهره ، واتبع أثر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ماشيا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأى سواده : كن أبا ذر! فقال الناس : هو ذاك ، فقال : «رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده».

والثاني ـ أن أبا خيثمة الأنصاري بلغ بستانه ، وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل ، وبسطت له الحصير ، وقربت إليه الرطب والماء البارد ، فنظر فقال : ظل ظليل ، ورطب يانع ، وماء بارد ، وامرأة حسناء ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحر والريح ، ما هذا بخير ، فقام فرحل ناقته ، وأخذ سيفه ورمحه ، ومر كالريح ، فمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طرفه إلى الطريق ، فإذا براكب يزهاه السراب ، فقال : كن أبا خيثمة! فكان ، ففرح به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستغفر له (١).

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٦١ ـ ٦٢

٧١

فرضية الجهاد على أهل المدينة والأعراب وثوابه

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١))

الإعراب :

(وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) مفعول به ، وهو اسم منقوص كقاض ، ودخلته الفتحة في النصب لخفتها ، وجمعه أودية ، وليس في كلام العرب فاعل جمعه أفعلة غيره.

البلاغة :

(يَطَؤُنَ مَوْطِئاً) بينهما جناس اشتقاق ، وكذلك (يَنالُونَ ... نَيْلاً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) إذا غزا (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) بأن يصونوها عما رضيه لنفسه من الشدائد ، والرغبة الأولى : المحبة والإيثار ، والثانية : الكراهة ، وهو نهي بلفظ الخبر (ذلِكَ) أي النهي عن التخلف (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم (ظَمَأٌ) عطش (نَصَبٌ) تعب (مَخْمَصَةٌ) جوع (يَغِيظُ) يغضب (نَيْلاً) أسرا أو قتلا أو أخذ مال (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) إلا استوجبوا به الثواب والجزاء عليه (لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أجرهم على إحسانهم ، بل يثيبهم ، وهو تنبيه على أن الجهاد إحسان ، أما في حق الكفار فلأنه سعي في تكميلهم بأقصى ما يمكن

٧٢

كشرب المريض الدواء المرّ ، وأما في حق المؤمنين فلأنه صيانة لهم من سطوة الكفار واستيلائهم.

(وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً) أي في الجهاد ولو مثل التمرة (وَلا كَبِيرَةً) مثل إنفاق عثمان رضي‌الله‌عنه في تجهيز جيش العسرة (وادِياً) في مسيرهم ، وهو كل منفرج ينفذ فيه السيل ، والمراد أي أرض (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) أثبت لهم ذلك (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) بذلك (أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) جزاء أحسن أعمالهم أو أحسن جزاء أو أحسن جزاء أعمالهم.

المناسبة :

بعد أن أمر الله تعالى بقوله : (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) بالصدق في متابعة الرسول في جميع الغزوات ، أكد هنا ذلك ، فنهى عن التخلف عنه ، وأبان حسن الجزاء على الجهاد.

التفسير والبيان :

يعاتب الله تعالى المتخلفين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، من أهل المدينة ومن حولها من الأعراب ، ورغبتهم بأنفسهم عن مشاركته في المشاق التي تعرض لها ، فقال : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ..) أي ما كان ينبغي لأهل المدينة المؤمنين ، ومن حولهم من قبائل العرب المجاورة لها ؛ كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم ، التخلف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، بل عليهم أن يصحبوه ، فإن النفير كان فيهم ، وخص هؤلاء بالعتاب لقربهم وجوارهم ، وأنهم أحق بذلك من غيرهم ، بل إن المراد من النص النهي عن التخلف ، والتوبيخ عليه ؛ لأن المتخلف يؤثر نفسه على نفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم التي لا بد من إيثارها وحبها أكثر من حب النفس.

وظاهر هذه الألفاظ وجوب الجهاد على كل هؤلاء إلا أصحاب الأعذار بدليل العقل ، وبقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة ٢ / ٢٨٦] وقوله أيضا : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ..) [النور ٢٤ / ٦١] ولا يقصد بهذا وجوب الجهاد عينا على كل واحد ، فقد دل الإجماع على أن الجهاد فرض كفاية ،

٧٣

فيكون مخصوصا من هذا العموم ، ويكون المنصوص عليهم هم المقصودين بالنص العام.

ولا يصح لهؤلاء إيثار أنفسهم على نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا يرضوا لأنفسهم بالدعة والراحة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المشقة.

لم يكن لهم حق التخلف ، بل يجب عليهم الاتباع والجهاد ، بسبب أن كل ما يصيبهم في جهادهم ـ من معاناة ومكابدة ومشاق كالعطش والتعب والجوع والألم في سبيل الله ، ووطء جزء من أرض الكفر يغيظ الكفار ، والنيل من الأعداء بالأسر أو القتل أو الهزيمة أو الغنيمة ـ يستوجب الثواب الجزيل المكافئ لما قدموه وزيادة ، وذلك مما يوجب المشاركة في الجهاد ، إن الله لا يضيع أجر المحسنين ، أي لا يدع له شيئا من الثواب على إحسانه إلا كافأه به ، كقوله تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف ١٨ / ٣٠].

وكذلك لا ينفق هؤلاء المجاهدون (الغزاة) (١) في سبيل الله نفقة صغيرة ولا كبيرة ، أي قبيلا ولا كثيرا ، ولا يقطعون واديا ، أي في السير إلى الأعداء ، إلا أثبت لهم الجزء الأوفى ، ليجزيهم الله أحسن الجزاء على عملهم ؛ لأن الجهاد في سبيل الله إعلاء لكلمة الإسلام ، وصون الإيمان ، وحفظ الأوطان ، وما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا واستعبدوا.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على الأحكام التالية :

١ ـ فرضية الجهاد ووجوبه على أهل المدينة وقبائل العرب المجاورة لها ، بسبب كون المدينة عاصمة الإسلام ، وكونهم سكانها ، وجيران الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

__________________

(١) الغزو والجهاد والحرب كلها بمعنى واحد في اللغة.

٧٤

ويصيبهم مباشرة ما أصابه من مجد أو خير أو نصر أو غير ذلك.

٢ ـ لا يصح لمؤمن إيثار نفسه على نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن الإيمان لا يكمل إلا بأن يحب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر مما يحب نفسه.

٣ ـ إن كل ما يتعرض له المجاهد من مكابدة ومتاعب في السفر للجهاد يثاب عليه ثوابا جزيلا.

٤ ـ إن في الجهاد إحسانا ، سواء في حق الأعداء ؛ لأنه قد ينقلهم من دائرة الكفر إلى دائرة الإسلام ، وفي حق المسلمين ؛ لأنهم يصونون به الحرمات : حرمة الدين والإيمان ، وحرمة البلاد والأوطان والأموال والأعراض ، ويحققون به العزة والمجد والكرامة.

٥ ـ تستحق الغنيمة بمجرد الاستيلاء ، كما قال الشافعي ؛ لأن الله تعالى جعل وطء ديار الكفار بمثابة النّيل من أموالهم ، وإخراجهم من ديارهم ، وهو الذي يغيظهم ، ويدخل الذّل عليهم ، فهو بمثابة نيل الغنيمة والقتل والأسر.

٦ ـ إن هذه الآية منسوخة بالآية التالية بعدها : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ..) وإن حكمها كان في حال قلة المسلمين ، فلما كثروا نسخت ، وأباح الله التخلف عن الجهاد مع الحكام لمن شاء. قال قتادة : كان هذا خاصا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر ؛ فأما غيره من الأئمة والولاة ، فلمن شاء أن يتخلف خلفه من المسلمين إذا لم يكن بالناس حاجة إليه ولا ضرورة. قال القرطبي : قول قتادة حسن ، بدليل غزاة تبوك.

أما المعذورون الباقون في المدينة فلهم مثل أجر العاملين المجاهدين ؛ لما روى أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لقد تركتم بالمدينة أقواما ، ما سرتم مسيرا ، ولا أنفقتم من نفقة ، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه ، قالوا : يا رسول الله ، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال : حبسهم العذر» وأخرجه مسلم من حديث جابر قال : «كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزاة ، فقال :

٧٥

إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم ، حبسهم المرض» فأعطى صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمعذور من الأجر مثل ما أعطى للقوي العامل. ويؤكد ذلك أن النية الصادقة هي أصل الأعمال ، فإذا صحت في فعل طاعة ، فعجز عنها صاحبها لمانع منها ، فله الثواب على عمله ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البيهقي عن أنس وهو ضعيف : «نية المؤمن خير من عمله».

الجهاد فرض كفاية وطلب العلم فريضة

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢))

الإعراب :

لو لا : للتحضيض ، وهي داخلة هنا على الماضي ، فتفيد التوبيخ واللوم على ترك الفعل فيما مضى ، والأمر به في المستقبل.

المفردات اللغوية :

(لِيَنْفِرُوا) إلى الجهاد (فَلَوْ لا) فهلا وهي تفيد الحض والحث على ما تدخل عليه (نَفَرَ) خرج للقتال (فِرْقَةٍ) قبيلة أو جماعة عظيمة (طائِفَةٌ) جماعة قليلة أقلها اثنان أو واحد ، ومكث الباقون (لِيَتَفَقَّهُوا) ليتعلم الباقون الفقه والأحكام الشرعية ، والتفقه : تكلف الفقاهة والفهم ، وتجشم مشاق التحصيل (وَلِيُنْذِرُوا) يخوفوا (إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) من الجهاد ، بتعليمهم ما تعلموه من الأحكام (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ليحذروا عقاب الله بامتثال أمره ونهيه ، والحذر من الشيء : التحرز منه.

سبب النزول :

أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : لما نزلت : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً

٧٦

أَلِيماً) وقد تخلف عنه ناس في البدو يفقهون قومهم ، فقال المنافقون : قد بقي ناس في البوادي ، هلك أصحاب البوادي ، فنزلت : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً).

وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن عبد الله بن عبيد الله بن عمير قال : كان المؤمنون ، لحرصهم على الجهاد ، إذا بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية ، خرجوا فيها ، وتركوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة في رقة من الناس ، فنزلت.

قال ابن عباس : لما شدّد الله على المتخلفين قالوا : لا يتخلف منا أحد عن جيش أو سرية أبدا ، ففعلوا ذلك ، وبقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده ، فنزل : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ) الآية.

وقال ابن عباس أيضا : فهذه مخصوصة بالسرايا ، والتي قبلها بالنهي عن تخلف واحد ، فيما إذا خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

المناسبة :

هذه الآية من بقية أحكام الجهاد ، فهي لا توجب على جميع المؤمنين الجهاد إذا لم يخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه ، وإنما أرسل سرية. وحينئذ يجب على المؤمنين طلب العلم والتفقه في الدين ؛ لأن الجهاد يعتمد على العلم ، ولأن نشر الإسلام في الأصل يتوقف على البيان بالحجة والبرهان.

التفسير والبيان :

هذا بيان لمراده تعالى من نفير الأحياء كلهم ، فتكون فئة منهم للتفقه وفئة أخرى للجهاد ، فإنه فرض كفاية على الناس ، كما أن طلب العلم فرض كفاية أيضا.

فما كان من شأن المؤمنين أن ينفروا جميعا ، ويتركوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده ، فإن

٧٧

الجهاد فرض كفاية ، متى قام به البعض سقط الإثم عن الباقين ، لا فرض عين على كل مسلم بالغ عاقل ، وإنما يصبح فرض عين إذا خرج الرسول للجهاد واستنفر الناس إليه.

فهلا نفر في أثناء النهضة من كل جماعة كالقبيلة أو البلد طائفة قليلة منهم للتفقه في الدين ، ومعرفة أحكام الشريعة وأسرارها ، حتى إذا ما رجع المجاهدون من المعركة أنذروهم من الأعداء وحذروهم من غضب الله وعرفوهم أحكام الدين ، لكي يخافوا الله ، ويحذروا عاقبة عصيانه ، ومخالفة أمره.

والضمير في (لِيَتَفَقَّهُوا) ، و (لِيُنْذِرُوا) للمقيمين مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وضمير (إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) أي المجاهدون من الجهاد.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على الأحكام التالية :

١ ـ الجهاد فرض كفاية ، وليس فرض عين ، إذ لو نفر الكل لتعطلت مصالح الأمة ، وتضررت الأسر والأولاد ، فليخرج فريق من المسلمين للجهاد ، وليقم فريق يتفقهون في الدين ، ويحفظون الحريم ، ويصونون مصلحة البلاد.

حتى إذا عاد النافرون أعلمهم المقيمون ما تعلموه من أحكام الشرع. وهذه الآية مبينة لقوله تعالى : (إِلَّا تَنْفِرُوا) وللآية التي قبلها : (انْفِرُوا). وقال مجاهد وابن يزيد : ناسخة والأصح القول بأنها مبينة لا ناسخة. وكل من (مِنْ) المفيدة للتبعيض ، والفرقة (الجماعة الكثيرة) والطائفة (الجماعة الأقل) يفيد كون الجهاد وطلب العلم موجها للبعض.

٢ ـ وجوب طلب العلم ، والتفقه في القرآن والسنة ، وهو فرض على الكفاية لا على الأعيان ؛ بدليل قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ

٧٨

لا تَعْلَمُونَ) [النحل ١٦ / ٤٣]. وآية (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) وإن اقتضت فقط الحث على طلب العلم والندب إليه دون الوجوب والإلزام ، فقد لزم طلب العلم بأدلة أخرى ، مثل حديث : «طلب العلم فريضة على كل مسلم» رواه ابن عدي والبيهقي عن أنس ، ورواه آخرون.

والطائفة وإن أطلقت على الاثنين والواحد في اللغة ، فلا شك إن المراد بها هنا جماعة ؛ لقوله تعالى : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) فجاء بضمير الجماعة ، ولأن العلم لا يتحصل بواحد في الغالب.

ومما يدل على أن الواحد يقال له طائفة قوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات ٤٩ / ٩] يعني نفسين ، بدليل قوله تعالى : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) فجاء بلفظ التثنية. وأما ضمير (اقْتَتَلُوا) وإن كان ضمير جماعة ، فأقل الجماعة اثنان ، في أحد القولين للعلماء.

٣ ـ يجب أن يكون المقصود من التفقه والتعلم دعوة الخلق إلى الحق ، وإرشادهم إلى الدين القويم والصراط المستقيم ؛ لأن الآية أمرت بإنذارهم إلى الدين الحق ، وعليهم أن يحذروا الجهل والمعصية ، ويرغبوا في قبول الدين. فغرض المعلم الإرشاد والإنذار ، وغرض المتعلم اكتساب الخشية. هذا .. وطلب العلم ينقسم قسمين : فرض على الأعيان ؛ كالصلاة والزكاة والصيام ، وفرض على الكفاية ؛ كتحصيل الحقوق وإقامة الحدود والفصل بين الخصوم ونحوه.

وطلب العلم فضيلة عظيمة ، ومرتبة شريفة لا يوازيها عمل ، لما رواه مسلم : «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» وروى الترمذي عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله به طريقا إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم ، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض ، والحيتان في جوف الماء ، وإن فضل

٧٩

العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما ، إنما ورّثوا العلم ، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر».

٤ ـ خبر الواحد حجة ؛ لأن الطائفة مأمورة بالإنذار أو الإخبار ، وهو يقتضي فعل المأمور به ، ولأنه سبحانه أمر القوم بالحذر عند الإنذار ، والمراد : ليحذروا.

السياسة الحربية في قتال الكفار

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣))

المفردات اللغوية :

(يَلُونَكُمْ) يجاورونكم الأقرب فالأقرب (غِلْظَةً) شدة وخشونة ، أي اغلظوا عليهم (مَعَ الْمُتَّقِينَ) بالعون والنصر.

المناسبة :

لما أمر الله سبحانه المؤمنين بقتال المشركين كافة ، كما يقاتلونهم كافة ، أرشدهم في هذه الآية إلى الطريق الأصوب الأصلح ، وهو أن يبتدءوا من الأقرب فالأقرب ، ثم ينتقلوا إلى الأبعد فالأبعد. وقد فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحابته بهذه الخطة ، فقد قاتل قومه في مكة ، ثم قاتل سائر العرب ، ثم انتقل إلى قتال الروم في الشام ، ثم دخل صحابته العراق.

وهكذا سار خط الدعوة الإسلامية على هذا الترتيب ، فقال تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٢١٤] ثم اتسع نطاقها إلى الجزيرة العربية ، فقال

٨٠