التفسير المنير - ج ١١

الدكتور وهبة الزحيلي

فلما انصرف النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبوك أتوه وقد فرغوا منه ، وصلّوا فيه الجمعة والسبت والأحد ، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم ، فنزل عليه القرآن بخبر مسجد الضّرار.

فدعا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مالك بن الدّخشم ، ومعن بن عدي ، وعامر بن السّكن ، ووحشيا قاتل حمزة ، فقال : «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدموه وأحرقوه».

فخرجوا مسرعين ، وأخرج مالك بن الدّخشم من منزله شعلة نار ، ونهضوا فأحرقوا المسجد وهدموه ، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا.

وأما أبو عامر الراهب : فهو رجل من الخزرج ، كان قد تنصّر ، وكان له منزلة كبيرة في أهل الكتاب ، فلما قدم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة مهاجرا ، واجتمع عليه المسلمون ، وعلت كلمة الإسلام ، خرج فارّا إلى مكة ، وألّب المشركين على المسلمين في وقعة أحد. ولما فرغ الناس من الموقعة فرّ إلى هرقل ملك الرّوم يستنصره ، فوعده وحباه.

وكتب أبو عامر إلى جماعة من قومه من أهل النّفاق : أنه سيقدم بجيش يقاتل به محمدا ويغلبه ، وأمرهم أن يتّخذوا له معقلا يأوي إليه من يقوم من عنده لأداء كتبه ، ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك.

والخلاصة : أن هذا المسجد بناه اثنا عشر رجلا من المنافقين ، بمشورة أبي عامر الرّاهب ، ولقي هوى في نفوس أبناء عمّ بني عمرو بن عوف ، لينافسوهم على تأسيس مسجد قباء ، ومضاهاتهم به ، وليكون مقرّا لأبي عامر إذا قدم ، ليكون إمامهم فيه.

٤١

سبب نزول : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) :

أخرج التّرمذي عن أبي هريرة قال : نزلت هذه الآية في أهل قباء : (فِيهِ رِجالٌ ...) قال : كانوا يستنجون بالماء ، فنزلت فيهم.

وأخرج ابن جرير عن عطاء قال : أحدث قوم الوضوء بالماء من أهل قباء ، فنزلت فيهم : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ).

وقال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عويم بن ساعدة ، فقال : «ما هذا الطّهور الذي أثنى الله عليكم؟» فقال : يا رسول الله ، ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو قال : مقعدته ، فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هو هذا».

وقيل : لما نزلت مشى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعه المهاجرون ، حتى وقف على باب مسجد قباء ، فإذا الأنصار جلوس ، فقال عليه الصّلاة والسّلام : «أمؤمنون أنتم؟» فسكتوا ، فأعادها ، فقال عمر : إنهم مؤمنون ، وأنا معهم ، فقال عليه الصّلاة والسّلام : «أترضون بالقضاء؟» قالوا : نعم ، قال : «أتصبرون على البلاء؟» قالوا : نعم ، قال : «أتشكرون في الرّخاء؟» قالوا : نعم ، قال عليه الصّلاة والسّلام : «أنتم مؤمنون ، وربّ الكعبة» فجلس ، ثم قال : «يا معشر الأنصار ، إن الله عزوجل قد أثنى عليكم ، فما الذي تصنعون عند الوضوء ، وعند الغائط؟» ، فقالوا : يا رسول الله ، نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ، ثم نتبع الأحجار الماء ، فتلا : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ..) الآية.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى أوصاف المنافقين وطرائقهم المختلفة في النّفاق ، قال : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً ..).

٤٢

التفسير والبيان :

ومن المنافقين الذين ذكرناهم جماعة بنوا مسجد الضّرار بجوار مسجد قباء ، وكانوا اثني عشر رجلا من منافقي الأوس والخزرج ، لأسباب أربعة هي :

١ ـ مضارّة المؤمنين من أهل مسجد قباء الذي بناه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمجرد وصوله إلى المدينة.

٢ ـ الكفر بالنّبي عليه الصّلاة والسّلام وبما جاء به ، وللطعن عليه وعلى الإسلام ، واتّخاذه مقرّا للكيد والتّآمر على المسلمين ، فصار مركز الفتنة ، وبيت النّفاق ، ومأوى المنافقين ، للتّهرّب من أداء الصّلاة. وهذا كفر ، لأن الكفر يطلق على الاعتقاد والعمل المنافيين للإيمان.

٣ ـ التّفريق بين المؤمنين الذين كانوا يصلّون خلف النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسجد واحد ، فإذا صلّى فيه بعضهم ، حدثت الفرقة ، وبطلت الألفة ، وتفرّقت الكلمة. لذا كان الأصل أن يصلّي المسلمون في مسجد واحد ، ويكون تكثير المساجد لغير حاجة منافيا لأغراض الدّين وأهدافه.

٤ ـ الإرصاد ، أي التّرقب والانتظار لمجيء من حارب الله ورسوله إليه ، ويتّخذه مقرّا له ، ومكانا لقوم راصدين مستعدين للحرب معه ، وهم المنافقون الذين بنوا هذا المسجد.

والمقصود بمن حارب الله ورسوله كما ذكر في سبب النزول : هو أبو عامر الراهب من الخزرج ، والد حنظلة الذي غسلته الملائكة ، وسمّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الفاسق ، وكان قد تنصّر في الجاهلية ، وترهّب وطلب العلم ، فلما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاداه ، لأنه زالت رياسته ، وقال للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد : «لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم» فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين ،

٤٣

فلما انهزم مع هوازن ، هرب إلى الشّام ، ليأتي من قيصر بجنود يحارب بهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومات بقنّسرين (بلد في شمال سوريا) وحيدا. وقيل : كان يجمع الجيوش يوم الأحزاب ، فلما انهزموا خرج إلى الشّام.

فذهاب أبي عامر إلى هرقل كان إما بعد يوم أحد ، أو بعد يوم حنين ، أو بعد يوم الأحزاب (الخندق) بحسب ما دلّت عليه الرّوايات.

وليحلفن هؤلاء المنافقون : ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى ، وهي الرّفق بالمسلمين ، وتيسير صلاة الجماعة على أهل الضّعف والعجز ، وفي أثناء المطر ؛ ليصدقهم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليصلّي معهم فيه ، تغريرا لبقية المسلمين ، والله تعالى يعلم أنهم لكاذبون في أيمانهم وادّعائهم ، منافقون في أعمالهم ، وقد أطلع رسوله بذلك ، فمعنى قوله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ ..) : أنه يعلم خبث ضمائرهم وكذبهم فيما يحلفون عليه.

وبما أنهم بنوه للضّرر والإساءة نهى الله تعالى بوحيه إلى جبريل أن يصلّي فيه ؛ والأمّة تبع له في ذلك ، فقال : (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) أي لا تصلّي فيه أبدا ، وقد يعبر عن الصّلاة بالقيام ، يقال : فلان يقوم الليل ، ومنه الحديث الصحيح لدى البخاري : «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه». ويلاحظ استعمال الظّرف (أَبَداً) الذي يستغرق الزمن المستقبل كله ؛ لاتّصاله بلا النافية ، فيفيد العموم.

ثم حثّه على الصّلاة في مسجد قباء لأمرين : الأول ـ أنه بني على التّقوى ، أي الذي أسس من أول يوم بنيانه على التّقوى وهي طاعة الله وطاعة رسوله ، وجمعا لكلمة المؤمنين ، ومعقلا وموئلا للإسلام وأهله ، فقال : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى ...) أي إن المسجد المؤسس على التقوى ، تقوى الله ، بإخلاص

٤٤

العبادة فيه ، وجمع المؤمنين على محبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والعمل على وحدة الإسلام ، أولى وأحق من غيره بالصّلاة فيها أيها الرّسول.

والمراد به كما جاء في صحيح البخاري ، وكما دلّ عليه السياق والقصة : مسجد قباء ، لهذا جاء في الحديث الصحيح : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صلاة في مسجد قباء كعمرة».

لكن روى أحمد ومسلم والنسائي أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عنه ، فأجاب بأنه مسجده الذي في المدينة. ولا مانع من إرادة المسجدين ؛ لأن كلّا منهما قد بني على التّقوى ، من أول يوم بدئ ببنائه.

الثاني ـ إن في هذا المسجد رجالا يحبّون أن يتطهّروا طهارة معنوية : وهي التّطهر عن الذّنوب والمعاصي ، وطهارة حسية للثوب والبدن بالوضوء والاغتسال ، وبالماء بعد الحجر في الاستنجاء ، وهذا النوع الأخير هو قول أكثر المفسّرين ، والأولى إرادة نوعي التّطهّر.

والله يحبّ المطّهّرين ، أي المبالغين في الطّهارة الرّوحية المعنويّة والجسديّة البدنيّة ، وهؤلاء هم الكمّل بين النّاس. قال البيضاوي : فيه رجال يحبّون أن يتطهّروا من المعاصي والخصال المذمومة طلبا لمرضاة الله ، وقيل : من الجنابة ، فلا ينامون عليها. والله يحبّ المطهّرين : يرضى عنهم ويدنيهم من جنابه تعالى إدناء المحبّ حبيبه.

وقال في الكشّاف : محبّتهم للتّطهّر : أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحبّ للشيء المشتهي له على إيثاره ، ومحبة الله تعالى إياهم : أنه يرضى عنهم ، ويحسن إليهم ، كما يفعل المحبّ بمحبوبه (١).

__________________

(١) الكشّاف : ٢ / ٥٨

٤٥

فمحبة الله عباده : معناها الرّضا والقبول والإدناء ؛ لأنّ الله تعالى منزّه عن مشابهة صفاتنا ، فحبّه غير حبّنا ، وهو شيء يليق بكماله تعالى ، كما جاء في الحديث القدسي الذي يرويه البخاري : «ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتى أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به». والحبّ في هذه الآية يشبه أيضا حبّ الله تعالى في تطهير آل بيت النبّوة في قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ، وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب ٣٣ / ٢٣].

ثم قارن الله تعالى بين أهداف بناء المسجدين فقال : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ ...) أي لا يستوي من أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان ، أي على أساس متين نافع في الدّنيا والآخرة ، ومن بنى مسجدا ضرارا وكفرا ، وتفريقا بين المؤمنين ، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ، فإنما يبني هؤلاء بنيانهم على شفا جرف هار ، أي ساقط ، وجرف : جانب الوادي الذي ينحفر بالماء ، والمعنى : على طرف حفرة أو واد ، أي أساس ضعيف منهار ، مشرف على السقوط ، فإذا أنهار فإنما ينهار في قعر جهنم ، والله لا يهدي القوم الظالمين أي لا يصلح عمل المفسدين ، ولا يوفقهم إلى الحق والعدل والسّداد والصّواب وما فيه صلاحهم ونجاتهم.

قال الرّازي (١) : ولا نرى في العالم مثالا أجدر مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال!

وحاصل الكلام أن أحد البناءين قصد بانيه ببنائه تقوى الله ورضوانه ، والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر ، فكان البناء الأول شريفا واجب الإبقاء ، وكان الثاني خسيسا واجب الهدم.

وقوله تعالى : (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) قيل : إن ذلك حقيقة ، أي إنه

__________________

(١) تفسير الرّازي : ١٦ / ١٩٧

٤٦

موضع من مواضع جهنم ، وقيل : إنه مجاز ، والمعنى : صار البناء في نار جهنم ، فكأنه أنهار إليه وهوى فيه.

ثم أبان الله تعالى ما يجسّده إقامة المنافقين مسجد الضّرار من معان سيئة ثابتة راسخة على ممرّ التاريخ ، فقال : (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ ..) أي لا يزال بناؤهم هذا وهدمه سبب شكهم في الدّين ، وتزايد نفاقهم ؛ لأنه يجسّد آثار النّفاق والكفر ، فقد أورثهم نفاقا في قلوبهم ، كما أشرب عابدو العجل حبّه ، وأصبح وسمه لا يزول عن قلوبهم ، فلا يزال هذا شأنهم في جميع الأحوال إلا في حال تقطع قلوبهم أجزاء ، بحيث لا يبقى لها قابلية الإدراك ، أي بموتهم ، وهو في غاية المبالغة ، والاستثناء من أعم الأزمنة.

والمراد أن هذا البناء الذي فرحوا به مصدر استلهام الشّكوك في الدّين ، ومظهر تجسيد الكفر والنّفاق الجاثم في نفوسهم ، فحينما أمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهدمه ، ثقل ذلك عليهم ، وازداد بغضهم له ، وازداد ارتيابهم في نبوّته ، وعظم خوفهم ، وارتابوا في أمرهم : هل سيتركون أو يقتلون؟ فكان ذلك البنيان نفسه ريبة ، لكونه سببا للرّيبة ، وظهرت سببيّته للرّيبة بتخريبه وهدمه.

والله عليم بأعمال خلقه ، حكيم في مجازاتهم عنها من خير أو شرّ ، ومن حكمته تبيان حال المنافقين وإظهار ما خفي من أمرهم ، لمعرفة الحقائق.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يأتي :

١ ـ من المنافقين جماعة أقاموا مسجد الضّرار بجوار مسجد قباء لمقاصد أربعة : محاولة الضّرار ، والكفر بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء به ، وتفريق جماعة المؤمنين ، واتّخاذه معقلا لمن عادى الله ورسوله.

٤٧

والمقصود في الضّرار بالمسجد من أهله ، وليس لذات المسجد ضرار.

٢ ـ كانت أيمانهم على حسن النّيّة ، وسلامة القصد كاذبة.

٣ ـ قال المالكية : كلّ مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضّرار لا تجوز الصّلاة فيه. ولا يجوز أن يبنى مسجد إلى جنب مسجد ، ويجب هدمه والمنع من بنائه ، لئلا ينصرف أهل المسجد الأول ، فيبقى شاغرا ، إلا إذا كانت البلدة كبيرة ، وأهلها كثيرين ، ولم يعد يكفيهم مسجد واحد ، فيبنى حينئذ. ولا ينبغي أن يبنى في البلد الواحد جامعان وثلاثة ، ويجب منع الثاني ؛ ومن صلّى فيه الجمعة لم تجزه (١).

٤ ـ قال العلماء : إن من كان إماما لظالم لا يصلّى وراءه ، إلا أن يظهر عذره أو يتوب ، فإن عمر بن الخطّاب في خلافته لم يأذن لمجمّع بن جارية أن يصلّي إماما في مسجد قباء ؛ لأنه كان إمام مسجد الضّرار ، ثم أذن له لمّا تبيّن أنه كان جاهلا بما أضمر عليه المنافقون.

٥ ـ إذا كان المسجد الذي يتّخذ للعبادة يهدم إذا كان فيه ضرر بغيره ، فكلّ ما فيه ضرر يزال ويهدم ، كمن بنى فرنا أو رحى أو حفر بئرا أو غير ذلك مما يدخل به الضّرر على الغير. والضابط : أن من أدخل على أخيه أو جاره ضررا منع ، وهذا ما يسمّى حديثا عند القانونيين : نظرية التّعسّف في استعمال الحقّ. وقد سبق فقهاء المالكية وغيرهم إلى تقرير هذه النّظرية.

٦ ـ الكفر العملي : قال ابن العربي : لما كان اعتقادهم أنه لا حرمة لمسجد قباء ولا لمسجد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كفروا بهذا الاعتقاد.

٧ ـ دلّ قوله تعالى : (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) على أنّ المقصد الأسمى من

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٨ / ٢٥٤

٤٨

وجود الجماعة تأليف القلوب واتّحادهم على الطّاعة ، حتى يأنسوا بالمخالطة ، وتصفو القلوب من الأحقاد.

واستنبط مالك من هذه الآية : أنه لا تصلّى جماعتان في مسجد واحد بإمامين ، خلافا لسائر العلماء.

٨ ـ دلّ قوله تعالى : (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) أي ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى ، على أن الأفعال تختلف باختلاف المقصود والإرادة.

٩ ـ تحريم الصّلاة في مسجد الضّرار ؛ لقوله تعالى : (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) يعني مسجد الضّرار.

١٠ ـ أحقيّة مسجد التّقوى بالصّلاة فيه ، والتّقوى : هي الخصال التي تتّقى بها العقوبة.

١١ ـ ترغيب الإسلام بالنّظافة المعنوية (السّلامة من الأحقاد وصفاء النّفس وصحّة الإيمان) والنظافة البدنيّة (بالوضوء والاغتسال وإزالة النّجاسة عن الثّوب والبدن والمكان) لأن الله تعالى في هذه الآية أثنى على من أحبّ الطّهارة وآثر النّظافة.

وللعلماء في إزالة النّجاسة ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنه واجب فرض ، ولا تجوز صلاة من صلّى بثوب نجس ، عالما كان أو ساهيا ، وهو قول الشّافعي وأحمد ، وروي عن مالك.

الثاني ـ إن كانت النّجاسة قدر الدّرهم أعاد الصّلاة. وقدر الدّرهم قياس على حلقة الدّبر. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف.

الثالث ـ إزالة النّجاسة من الثياب والأبدان سنّة وليس بفرض ، وهو قول آخر لمالك وأصحابه.

٤٩

قال القرطبي : والقول الأول أصح إن شاء الله ، لأنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما يرويه البخاري ومسلم ـ مرّ على قبرين ، فقال : «إنهما ليعذّبان وما يعذّبان في كبير ، أما أحدهما : فكان يمشي بالنّميمة ، وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله» ولا يعذّب الإنسان إلا على ترك واجب. وروى أبو بكر بن أبي شيبة وأحمد وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أكثر عذاب القبر من البول».

واحتجّ الآخرون بخلع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعليه في الصّلاة لما أعلمه جبريل عليه‌السلام أنّ فيهما قذرا وأذى (١). ولما لم يعد ما صلّى دلّ على أنّ إزالة النّجاسة سنّة ، وصلاته صحيحة ، ويعيد ما دام في الوقت ، طلبا للكمال.

١٢ ـ دلّت آية : (أَفَمَنْ أَسَّسَ ..) على أن كلّ شيء ابتدئ بنيّة تقوى الله تعالى والقصد لوجهه الكريم ، هو الذي يبقى ، ويسعد به صاحبه ، ويصعد إلى الله ويرفع إليه : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) [الكهف ١٨ / ٤٦].

١٣ ـ كان مسجد الضّرار سببا لريبة المنافقين ، فإنهم لما بنوه عظم فرحهم به ، ولما أمر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتخريبه ، ثقل ذلك عليهم ، وازداد بغضهم له ، وزاد ارتيابهم في نبوّته. وظلّ ذلك الرّيب في قلوبهم حتى الموت.

__________________

(١) أخرجه أبو داود وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه.

٥٠

صفات المؤمنين الصادقين الكمّل

وهم المجاهدون التائبون العابدون

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢))

الإعراب :

(التَّائِبُونَ) إما بدل من واو (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم التائبون ، أو مبتدأ وخبره : (الْآمِرُونَ) وما بعده.

(وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) مصدران منصوبان بفعلهما المحذوف.

البلاغة :

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى) استعارة تبعية ، شبه بذلهم الأنفس والأموال وإثابتهم عليها بالجنة بالبيع والشراء. ولا يجوز أن يشتري الله شيئا في الحقيقة ؛ لأن الله مالك لكل شيء. ولهذا قال الحسن : اشترى أنفسا هو خلقها ، وأموالا هو رزقها.

(فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) بينهما جناس ناقص ، لاختلاف الشكل.

(فَاسْتَبْشِرُوا) فيه التفات عن الغيبة إلى الخطاب.

٥١

(الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) أي المصلون ، فيه مجاز مرسل ، من إطلاق الجزء وإرادة الكل.

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) الإظهار في موضع الإضمار أي بشرهم للتكريم والاعتناء بهم ، وللتنبيه على أن إيمانهم دعاهم إلى ذلك ، وأن المؤمن الكامل : من اتصف بتلك الصفات.

المفردات اللغوية :

(اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ...) بأن يبذلوها في طاعته كالجهاد ، وهذا تمثيل مثل قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة ٢ / ١٦ ، ١٧٥].

(يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ..) جملة استئناف بيان للشراء. (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) أي لا أحد أوفى منه. (وَذلِكَ) المبيع. (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) المحقق غاية المطلوب.

(الْعابِدُونَ) المخلصون العبادة لله. (الْحامِدُونَ) له على كل حال. (السَّائِحُونَ) الصائمون. (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) المصلون. (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) لأحكامه بالعمل بها. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالجنة.

سبب النزول :

نزلت هذه الآية لما بايع الأنصار ـ وكانوا سبعين رجلا ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في البيعة الثالثة ، وهي بيعة العقبة الكبرى ، وكان أصغرهم سنّا عقبة بن عمرو. أخرج ابن جرير عن عبد الله بن رواحة قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اشترط لربك ولنفسك ما شئت ، قال : «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم» قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال : «الجنة» قالوا : ريح البيع ، لا نقيل ولا نستقيل ، فنزلت : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ ..) الآية.

المناسبة :

بعد أن أوضح الله تعالى فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك ، وأبان أصناف المقّصرين من المؤمنين ، ذكر حال المؤمنين الصادقين في إيمانهم ، وأولها الجهاد في سبيل الله.

٥٢

التفسير والبيان :

هذه الآية تمثيل قصد به الترغيب في الجهاد ، عبّر فيه تعالى عن بذل المؤمنين أنفسهم وأموالهم وإثابتهم بالجنة ، كرما وفضلا وإحسانا ، عبر عن ذلك بالشراء والمعارضة ، فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين له. قال الحسن البصري وقتادة : بايعهم والله فأغلى ثمنهم.

والمعنى : إن الله تعالى اشترى من المؤمنين الأنفس والأموال بثمن هو الجنة ، أي مثّل الله إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بصفقة الشراء. ثم استأنف بيان ما لأجله تم الشراء ، وكيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقال : يقاتلون في سبيل الله فيقتلون الأعداء ، أو يستشهدون في سبيل الله ، فسواء قتلوا أو قُتلوا أو اجتمع الأمران ، فقد وجبت لهم الجنة.

ثم أكد الله تعالى وعده وإخباره بقوله : (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا ..) أي وعدهم بذلك وعدا أوجبه على نفسه وجعله حقا ثابتا مقررا فيما أنزله على رسله في التوراة المنزلة على موسى ، والإنجيل المنزل على عيسى ، والقرآن المنزل على محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وضياع التوراة والإنجيل وتحريفهما لا ينفي وقوع ذلك ، فقد أثبته الله في القرآن الذي جعله مصدقا لتلك الكتب ومهيمنا عليها.

ومن أوفى بعهده من الله؟ أي لا أحد أوفى بعهده وأصدق في إنجاز وعده من الله ، فإنه لا يخلف الميعاد ، وهذا كقوله : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) [النساء ٤ / ٨٧] وقوله : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) [النساء ٤ / ١٢٢].

وهذا مبالغة في الإنجاز وتقرير لكونه حقا.

وإذا كان الوفاء بالعهد مؤكدا على هذا النحو ، فأظهروا غاية السرور والفرح على ما فزتم به من الجنة ، ثوابا من الله وفضلا وإحسانا على بذلكم أنفسكم وأموالكم لله. وذلك الفوز هو الفوز العظيم والنعيم المقيم الذي لا فوز أعظم منه.

٥٣

وهؤلاء المؤمنون المذكورون الباذلون أنفسهم وأموالهم في سبيل الله هم التائبون عن الكفر حقيقة ، الراجعون إلى الله ، بتركهم كل ما ينافي مرضاته ، والتوبة تختلف باختلاف نوع المعصية ، فالتوبة عن الكفر بالرجوع عنه ، وتوبة المنافق بترك نفاقه ، وتوبة العاصي : بالندم على ما حصل منه والعزم على عدم العود لمثله في المستقبل ، وتوبة المقصر في شيء : بالتعويض عن تقصيره ، وتوبة الغافل عن ربه : بالإكثار من ذكره وشكره.

وهم العابدون : الذين عبدوا الله مخلصين له الدين ، الحامدون لنعمائه ، أو لما نالهم من السّراء والضراء ، قالت عائشة رضي‌الله‌عنها : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتاه الأمر يسّره قال : «الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات» وإذا أتاه الأمر يكرهه قال : «الحمد لله على كل حال».

السائحون في الأرض للجهاد أو لطلب العلم أو للرزق الحلال ، أو الصائمون ، لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الحاكم عن أبي هريرة : «السائحون هم الصائمون»لأنه يعوق عن الشهوات واللذات ، كما أن السياحة كذلك غالبا ، أو لأنه رياضة نفسانية يتوصل بها إلى الاطلاع على خفايا الملك والملكوت.

الراكعون الساجدون أي المؤدون صلواتهم المفروضة ، وخص الركوع والسجود بالذكر لشرفهما ولما فيهما من الدلالة على التذلل والتواضع لله تعالى.

الآمرون بالمعروف أي الداعون إلى الإيمان والطاعة ، والناهون عن المنكر أي عن الشرك والمعاصي. والعاطف الواو هنا للدلالة على أنهما في حكم خصلة واحدة ، كأنه قال : الجامعون بين الوصفين.

والحافظون لحدود الله أي الحافظون لفرائض الله وشرائعه وأحكامه ، وهذا مجمل الفضائل ، وما قبله مفصل لها ، فمن اتصف بتلك الصفات كان حافظا حدود الله. وذكرت الواو هنا لقربه من المعطوف عليه وهو : (وَالنَّاهُونَ عَنِ

٥٤

الْمُنْكَرِ). وقيل : إنها زائدة ، وهذا ضعيف لا معنى له.

وجزاؤهم المعبر عنه بقوله : بشر أيها الرسول هؤلاء المؤمنين الموصوفين بتلك الفضائل بخيري الدنيا والآخرة. وحذف المبشر به للتعظيم ، كأنه قيل : وبشرهم بما يجل عن إحاطة الأفهام وتعبير الكلام.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ إن ثواب الجهاد في سبيل الله بالمال أو النفس أو بهما معا هو الجنة. وقد دل الله تعالى على هذا المعنى من طريق المجاز ، بتمثيل المبذول وعوضه بصفقة بيع وشراء ، فمن العبد تسليم النفس والمال ، ومن الله الثواب والنوال. وأكد تعالى منحه الثواب والجنة بمؤكدات عشرة هي : كون المشتري هو الله ، وإيصال الثواب بالبيع والشراء ، وذلك حق مؤكد ، وقوله : وعدا ، ووعد الله حق ، وإثباته في الكتب الكبرى : التوراة والإنجيل والقرآن ، وهذا يتضمن إشهاد جميع الكتب وجميع الرسل والأنبياء على هذه المبايعة ، وقوله : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ)؟ وهو غاية في التأكيد ، وقوله : (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ) وهو أيضا مبالغة في التأكيد ، وقوله : (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ) وقوله : (الْعَظِيمُ).

٢ ـ قال العلماء : كما اشترى من المؤمنين البالغين المكلفين ، كذلك اشترى من الأطفال ، فآلمهم وأسقمهم ، لما في ذلك من المصلحة وما فيه من الاعتبار للبالغين ، لأن هؤلاء يكونون أكثر صلاحا وأقل فسادا عند ألم الأطفال ، ثم يعوض الله عزوجل هؤلاء الأطفال عوضا حسنا.

٣ ـ القتال في سبيل الله وحده ومن أجل مرضاته هو المستحق لهذا الجزاء وهو الجنة.

٥٥

٤ ـ تشريع الجهاد أو مقاومة الأعداء قديم من عهد موسى عليه‌السلام.

٥ ـ لا أحد أوفى بعهده من الله ، وهو يتضمن الوفاء بالوعد والوعيد ، لكن وعده للجميع ، وأما وعيده فمخصوص ببعض المذنبين ، وببعض الذنوب ، وفي بعض الأحوال.

٦ ـ قال الحسن عن آية : (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ ...) : والله ما على الأرض مؤمن إلا يدخل في هذه البيعة.

٧ ـ آية (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) ذكرت أوصافا تسعة ، بعد صفة المجاهدين ، فتكون أوصاف المؤمنين الكّمل عشرة ، والآيتان مرتبطتان ببعضهما ، لا مستقلتان. قال ابن عباس : لما نزل : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الآية ، قال رجل : يا رسول الله ، وإن زنى ، وإن سرق ، وإن شرب الخمر ، فنزلت (التَّائِبُونَ) الآية (١).

والأوصاف التسعة هي : الراجعون عن الحالة المذمومة في معصية الله إلى الحالة المحمودة في طاعة الله ، المطيعون الذين قصدوا بطاعتهم الله سبحانه ، والراضون بقضاء الله ، المصرفون نعمته في طاعته ، الذين يحمدون الله على كل حال ، الصائمون ، وسمي الصائم سائحا لأنه يترك اللذات كلّها من المطعم والمشرب والمنكح. وقال عطاء : السائحون المجاهدون.

و (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) في الصلاة المكتوبة وغيرها (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) أي بالإيمان أو بالسنة (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) من الكفر والبدعة والمعصية (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) أي القائمون بما أمر به ، والمنتهون عما نهى عنه.

__________________

(١) البحر المحيط : ٥ / ١٠٣

٥٦

هذه أوصاف المؤمنين الكلمة ، ذكرها الله ، ليتسابق المؤمنون في الاتصاف بها.

٨ ـ الحافظون لحدود الله تشمل جميع التكاليف الشرعية ، سواء ما يتعلق منها بالعبادات أو بالمعاملات. وأما تفصيل الصفات التسع قبلها ، فلأنها أمور تلازم المكلف غالبا.

٩ ـ قوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) للتنبيه على أن البشارة المذكورة لم تتناول إلا المؤمنين الموصوفين بهذه الصفات.

الاستغفار للمشركين وشرط المؤاخذة (العقاب) على الذنوب

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦))

البلاغة :

(لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) بينهما طباق. وكذلك بين (يُحْيِي وَيُمِيتُ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها) بينهما جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(أَنْ يَسْتَغْفِرُوا) يطلبوا المغفرة. (أُولِي قُرْبى) ذوي قرابة. (أَصْحابُ الْجَحِيمِ) النار ، بأن ماتوا على الكفر. (مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) بقوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) [مريم ١٩ / ٤٧] رجاء أن يسلم. (أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ) بموته على الكفر. (تَبَرَّأَ مِنْهُ) وترك الاستغفار

٥٧

له. (لَأَوَّاهٌ) كثير التضرع والتأوه والدعاء. (حَلِيمٌ) صبور على الأذى لا يغضب. والجملة لبيان ما حمله على الاستغفار له مع معاداته له (لِيُضِلَّ قَوْماً) ليسميهم ضلالا أو يؤاخذهم.

(بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) للإسلام. (ما يَتَّقُونَ) من العمل أي يبين لهم خطر ما يجب اتقاؤه ، فإذا لم يتقوه استحقوا الإضلال. (عَلِيمٌ) يعلم كل شيء ، ومنه مستحق الإضلال والهداية.

(مِنْ دُونِ اللهِ) من غيره. (مِنْ وَلِيٍ) يحفظكم منه. (وَلا نَصِيرٍ) يمنعكم من ضرره.

سبب النزول :

أخرج أحمد والشيخان وابن أبي شيبة وابن جرير وغيرهم من طريق سعيد بن المسيب عن أبيه ، قال : لما حضر أبا طالب الوفاة ، دخل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية ، فقال : أي عم : قل : لا إله إلا الله ، أحاج لك بها عند الله ، فقال أبو جهل وعبد الله : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى آخر شيء كلمهم به : هو على ملة عبد المطلب ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لأستغفرن لك ، ما لم أنه عنك ، فنزلت : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) الآية. وأنزل في أبي طالب : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) الآية [القصص ٢٨ / ٥٦].

وظاهر هذا أن الآية نزلت بمكة ؛ ولأن أبا طالب مات بمكة قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين. ونظرا لأن هذه السورة مدنية ، فقد استبعد بعض العلماء أن تكون نزلت في أبي طالب.

وأخرج الترمذي وحسنه الحاكم عن علي قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه ، وهما مشركان ، فقلت له : أتستغفر لأبويك ، وهما مشركان؟ فقال : استغفر إبراهيم لأبيه ، وهو مشرك ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ).

وأخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل وغيرهما عن ابن مسعود قال : خرج

٥٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما إلى المقابر ، فجلس إلى قبر منها ، فناجاه طويلا ، ثم بكى فبكيت لبكائه ، فقال : إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي ، وإني استأذنت ربي في الدعاء لها ، فلم يأذن لي ، فأنزل الله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ).

وأخرج أحمد وابن مردويه ، واللفظ له ، من حديث بريدة قال : كنت مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ وقف على عسفان ، فأبصر قبر أمه ، فتوضأ وصلى وبكى ، ثم قال : استأذنت ربي أن أستغفر لها ، فنهيت ، فأنزل الله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ).

وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال : «أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبر أمه ، فبكى وأبكى من حوله ، ثم قال : استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي ، واستأذنت أن أزور قبرها ، فأذن لي ، فزوروا القبور ، فإنها تذكّركم الموت».

دلت الروايات على أن سبب النزول أبو طالب أو أم النبي ، أو رجل مسلم يستغفر لأبويه.

قال الحافظ ابن حجر : يحتمل أن يكون لنزول الآية أسباب : متقدم ، وهو أمر أبي طالب ، ومتأخر ، وهو أمر آمنة ، وقصة علي وجميع غيره بتعدد النزول.

المناسبة :

كان موضوع سورة التوبة من أولها إلى هنا إعلان البراءة من الكفار والمنافقين في جميع الأحوال ، ثم بيّن هنا أنه تجب البراءة أيضا من أمواتهم ، وإن كانوا أقرب الناس إلى الإنسان كالأب والأم ، كما وجبت البراءة من أحيائهم. والمقصود بيان وجوب مقاطعتهم في الحالات كلها.

٥٩

التفسير والبيان :

ما ينبغي للنبي والمؤمنين ، وليس من شأنهم أن يستغفروا أو يدعو الله بالمغفرة للمشركين ، أو معناه ليس لهم ذلك على معنى النهي (١) ؛ لأن النبوة والإيمان مانعان من الاستغفار للمشركين ، ولا تستغفروا ، والمعنيان متقاربان ، وسبب المنع قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) [التوبة ٩ / ١١٣] وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ٤ / ١١٦].

والمنع حتى ولو كانوا من أقرب المقربين ، قياما بحق البر والصلة والشفقة عليهم.

من بعد ما ظهر لهم بالدليل أنهم من أصحاب النار ، بأن ماتوا على الكفر ، أي أن العلة المانعة من هذا الاستغفار هو تبين كونهم من أصحاب النار ، وهذه العلة لا تفرّق بين الأقارب والأباعد. قال البيضاوي : وفيه دليل على جواز الاستغفار لأحيائهم ، فإنه طلب توفيقهم للإيمان ، وبه دفع النقض باستغفار إبراهيم لأبيه الكافر ، فقال : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ ..).

أما استغفار إبراهيم عليه‌السلام لأبيه آزر بقوله : (وَاغْفِرْ لِأَبِي ، إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء ٢٦ / ٨٦] أي وفقه للإيمان ، فكان بسبب صدور وعد سابق على المنع ، إذ قال : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) [مريم ١٩ / ٤٧] أي لا أملك إلا الدعاء لك. وكان من خلق إبراهيم الوفاء : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم ٥٣ / ٣٧].

__________________

(١) قال أهل المعاني : ما كانَ في القرآن يأتي على وجهين : على النفي نحو قوله : ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها [النمل ٢٧ / ٦٠] والآخر بمعنى النهي كقوله : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) [الأحزاب ٣٣ / ٥٣] وكهذه الآية.

٦٠