التفسير المنير - ج ١١

الدكتور وهبة الزحيلي

في منى سنة إحدى عشرة من البعثة ، وكانوا سبعة ، ثم أصحاب بيعة العقبة الثانية ، وكانوا سبعين رجلا وامرأتين.

والثالثة : التابعون للأولين بإحسان : أي بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة.

وهؤلاء جميعا رضي‌الله‌عنهم بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم ، ورضوا عنه بما أسبغ عليهم من نعمه الدينية والدنيوية ، فانقذهم من الشرك والضلال ، ووفقهم إلى الخير ، وهداهم إلى الحق ، وأعزهم وأغناهم ، وأعز بهم الإسلام ، وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها أبدا ، وذلك هو الفوز العظيم الذي لا فوز غيره ، وهو فوز شامل ، كما أن نعيم الجنة شامل للبدن والروح معا.

ويلاحظ أن الاتباع المطلوب هو الاتباع بإحسان ، أي إحسان الأعمال والنيات والظواهر والبواطن ، أما الاكتفاء بظاهر الإسلام فلا يحقق شرط الإحسان. وحينئذ ينطبق عليهم قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران ٣ / ١١٠] وقوله عزوجل : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة ٢ / ١٤٣].

ثم أخبر الله تعالى عن فئة المنافقين حول المدينة وفيها ، فقال : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ ...) أي إن في المدينة وما حولها مردة المنافقين الذين مرنوا على النفاق وأتقنوه ، وثبتوا واستمروا فيه ولم يتوبوا ، وهم مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار ، الذين كانت منازلهم حول المدينة ، وكان جماعة منهم آخرون في المدينة من الأوس والخزرج ، لا تعلمهم أو لا تعرفهم بأعيانهم أيها النبي ، ولا تعلم عاقبة أمورهم ، وإنما نحن نختص بعلمها وبمعرفتهم ، كما قال تعالى فيهم: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ. وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) [محمد ٤٧ / ٢٩ ـ ٣٠].

وقوله (وَمِمَّنْ) يشير إلى بعضهم ، أما الآخرون فهم مؤمنون بدليل

٢١

ما رواه الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأشجع وغفار موالي لله تعالى ، لا موالي لهم غيره» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا داعيا لبعضهم : «أسلم سالمها الله ، وغفار غفر الله لها ، أما إني لم أقلها ، لكن قالها الله تعالى».

هؤلاء المنافقون سنعذبهم في الدنيا مرتين : بالفضيحة والمصائب في أموالهم وأولادهم أولا ، ثم بآلام الموت وعذاب القبر ثانيا ، أو بأخذ الأموال وإنهاك الأبدان. قال ابن عباس : بالأمراض في الدنيا وعذاب الآخرة ، فمرض المؤمن كفارة ، ومرض الكافر عقوبة.

ثم يكون لهم عذاب جهنم ، وهو أشد العذاب.

والغرض من الآية بيان مضاعفة العذاب عليهم.

وهناك فريق آخر حول المدينة وفيها وهم : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) أي إنهم جماعة أقروا بمعاصيهم واعترفوا بها لربهم ، ولهم أعمال آخر صالحة ، خلطوا هذه بتلك ، فهؤلاء تحت عفو الله وغفرانه ، إن الله غفور لمن تاب ، رحيم بمن أحسن وأناب : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف ٧ / ٥٦].

وهذه الآية ، وإن كانت نزلت في أناس معينين إلا أنها عامة في كل المذنبين الخطائين المخلطين المتلوثين. قال مجاهد : إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة : إنه الذبح ، وأشار بيده إلى حلقه. وقال ابن عباس وآخرون : نزلت في أبي لبابة وجماعة من أصحابه تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، فقال بعضهم : أبو لبابة وخمسة معه ، وقيل : وسبعة معه ، وقيل : وتسعة معه ... إلخ ما ذكر في سبب النزول.

٢٢

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار : وهم الذين سبقوا إلى الهجرة قبل صلح الحديبية ، وإلى النصرة في بيعتي العقبة الأولى والثانية. وقيل : هم الذين صلوا إلى القبلتين ، أو الذين شهدوا بيعة الرضوان ، وهي بيعة الحديبية ، أو أهل بدر.

وأفضلهم الخلفاء الأربعة ، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة المبشرين بالجنة ، ثم البدريون ، ثم أصحاب أحد ، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية. ولا خلاف أن أول السابقين من المهاجرين أبو بكر الصديق.

وقال ابن العربي : السبق يكون بثلاثة أشياء : وهو التقدم في الصفة أو في الزمان أو في المكان ، فالصفة : الإيمان ، والزمن : لمن حصل في أوان قبل أوان ، والمكان : من تبوّأ دار النصرة واتخذه بدلا عن موضع الهجرة. وأفضل هذه الوجوه : سبق الصفات. والدليل عليه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح : «نحن الآخرون الأولون ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم. فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فاليهود غدا ، والنصارى بعد غد» فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن من سبقنا من الأمم بالزمان ، فجئنا بعدهم ، سبقناهم بالإيمان ، والامتثال لأمر الله تعالى ، والانقياد إليه ، والاستسلام لأمره ، والرضا بتكليفه ، والاحتمال لوظائفه ، لا نعترض عليه ، ولا نختار معه ، ولا نبدّل بالرأي شريعته ، كما فعل أهل الكتاب ، وذلك بتوفيق الله لما قضاه ، وبتيسيره لما يرضاه ، وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله (١).

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ٩٩٠ ، ٩٩٣

٢٣

والصحابي في علم الحديث : كل مسلم رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والتابعي : من صحب الصحابي. قال أحمد بن حنبل : أفضل التابعين سعيد بن المسيّب ، فقيل له : فعلقمة والأسود؟ فقال : سعيد بن المسيب ، وعلقمة والأسود. وفي التابعين طبقة تسمى المخضرمين : وهم الذين أدركوا الجاهلية وحياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأسلموا ولا صحبة لهم ، وعددهم كما ذكر مسلم عشرون نفسا ، منهم أبو عمرو الشيباني ، وسويد بن غفلة الكندي ، وعمرو بن ميمون الأودي. وممن لم يذكره مسلم : أبو مسلم الخولاني عبد الله بن ثوب ، والأحنف بن قيس.

لكن رجح الرازي : أن السبق ليس في زمن الإيمان أو الإسلام ؛ لأن لفظ السابق مجمل أو مطلق ، يمكن حمله على السبق في سائر الأمور ، لكن وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارا ، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصارا ، وهو الهجرة والنصرة ، فوجب أن يكون المراد منه : السابقون الأولون في الهجرة والنصرة ، إزالة للإجمال عن اللفظ (١).

٢ ـ الرضا الدائم عنهم ؛ لأن قوله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) يتناول جميع الأحوال والأوقات ، بدليل أنه لا وقت ولا حال إلا ويصح استثناؤه منه ، مثل وقت طلب الإمامة ، ولأن ذلك الحكم معلل بكونهم سابقين في الهجرة ، والسبق في الهجرة وصف دائم في جميع مدة وجوده ، ولأن إعداد الجنات لهم يقتضي بقاءهم على تلك الصفة التي لأجلها صاروا مستحقين لتلك الجنات.

وبعض العلماء أثبت هذا المدح لجميع الصحابة ؛ لأن كلمة (مِنَ) في قوله : (مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) ليست للتبعيض ، بل للتبيين ، فأوجب الله لجميع أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجنة والرضوان. وشرط على التابعين شرطا هو أن

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٦ / ١٦٨ ـ ١٦٩

٢٤

يتبعوهم بإحسان في العمل : وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة ، ولا يقتدوا بهم في غير ذلك.

٣ ـ الرضا عن التابعين والثواب إلى يوم القيامة مشروط باتباع الصحابة بإحسان ، أي إحسان القول والعمل ، فمن لم يحسن القول في المهاجرين والأنصار لا يكون مستحقا للرضوان من الله تعالى ، ولا يكون من أهل الثواب لهذا السبب.

٤ ـ هناك قوم منافقون مردوا على النفاق ، أي ثبتوا واستمروا فيه ولم يتوبوا عنه ، وهم قوم من الأعراب حول المدينة ، يعني مزينة وجهينة وأسلم وغفار وأشجع ، وقوم من أهل المدينة أيضا. وهؤلاء لهم عذاب مضاعف : في الدنيا بالأمراض والمصائب ، وفي الآخرة بالإصلاء (الإلقاء) في نار جهنم. وقيل : بالفضيحة في الدنيا ، ثم عذاب القبر. وقيل بغير ذلك. والأولى في رأي الرازي حمل قوله تعالى : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) على عذاب الدنيا بجميع أقسامه ، وعذاب القبر ، وأما قوله : (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) يراد منه العذاب في يوم القيامة.

٥ ـ ومن أهل المدينة ومن حولها قوم أقروا بذنبهم ، وآخرون مرجون لأمر الله ، يحكم فيهم بما يريد. والصنف الأول : إما قوم من المنافقين ، تابوا عن النفاق وما مردوا عليه ، أو إنهم قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك ، لا للكفر والنفاق ، لكن للكسل ، ثم ندموا على ما فعلوا ثم تابوا.

ومجرد الاعتراف بالذنب لا يكون توبة وإنما هو مقدمة للتوبة ، فإذا اقترن به الندم على الماضي ، والعزم على تركه في المستقبل ، كان ذلك توبة.

وقد تاب هؤلاء ؛ لقوله تعالى : (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) والمفسرون قالوا : إن (عسى) من الله يدل على الوجوب.

٢٥

قال ابن عباس : نزلت في عشرة تخلفوا عن غزوة تبوك ، فأوثق سبعة منهم أنفسهم في سواري المسجد. وقال بنحوه قتادة ، وقال : وفيهم نزل : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) وهي الآية التالية.

أخذ الصدقة وقبول التوبة والأمر بالعمل الصالح

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))

الإعراب :

(تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ) جملتان فعليتان في موضع نصب على الحال من ضمير (خُذْ) أو أن يكون (تُطَهِّرُهُمْ) وصفا لصدقة ، وتزكيهم : حالا من ضمير : (خُذْ).

البلاغة :

(إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) فيه تشبيه بليغ ، وأصله كالسكن ، فحذفت أداة التشبيه ووجه الشبه.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا) استفهام للتقرير في النفس ، قصد به حثهم على التوبة والصدقة.

(وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) مجاز عن قبوله لها.

المفردات اللغوية :

(صَدَقَةً) ما ينفقه المؤمن قربة لله (وَتُزَكِّيهِمْ بِها) تنمي بها حسناتهم وترفعهم إلى منازل

٢٦

المخلصين ، فأخذ ثلث أموالهم وتصدق بها. (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) ادع لهم واستغفر (سَكَنٌ) أي تسكن إليها نفوسهم وتطمئن بها قلوبهم ، والسكن في الأصل : ما تسكن إليه النفس وترتاح من منزل وأهل ومال ودعاء وثناء (وَاللهُ سَمِيعٌ) لاعترافهم (عَلِيمٌ) بندامتهم (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) يقبلها (التَّوَّابُ) صيغة مبالغة ، أي يقبل توبة عباده (الرَّحِيمُ) بهم ، صيغة مبالغة أيضا. (اعْمَلُوا) ما شئتم (وَسَتُرَدُّونَ) بالبعث (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) الله (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يجازيكم به

سبب النزول :

نزول الآية (١٠٣):

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ) : أخرج ابن جرير عن ابن عباس : أن هؤلاء الذين أطلقهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من سواري المسجد لما اعترفوا بذنوبهم وتاب الله عليهم ، وهم أبو لبابة وأصحابه ، جاؤوا بأموالهم ، فقالوا : يا رسول الله ، هذه أموالنا التي كانت سببا في تخلفنا ، فتصدق بها عنا واستغفر لنا ، فقال : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا ، فأنزل الله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) الآية. فأخذ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أموالهم الثلث. قال الحسن البصري : وكان ذلك كفارة الذنب الذي حصل منهم. وقال جماعة من الفقهاء : المراد بهذه الآية الزكاة المفروضة ، وعلى هذا يكون قوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ) هو لجميع الأموال والناس ، وهو عام يراد به الخصوص في الأموال ، إذ يخرج عنه الأموال التي لا زكاة فيها كالديار والثياب(١).

وهذا النص ، وإن كان خاصا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذا سبب خاص ، فهو عام يشمل خلفاء الرسول ومن بعدهم من أئمة المسلمين ، لذا قاتل أبو بكر الصديق وسائر الصحابة مانعي الزكاة من أحياء العرب ، حتى أدّوا الزكاة إلى الخليفة ، كما كانوا يؤدونها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال الصدّيق : «والله لو منعوني عقالا ـ أو عناقا ـ كانوا يؤدونه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأقاتلنهم على منعه».

__________________

(١) البحر المحيط : ٥ / ٩٥

٢٧

المناسبة وتعيين المراد بالصدقة :

إذا كان المقصود من كلمة (صَدَقَةً) كفارة الذنب الذي صدر من المتخلفين عن غزوة تبوك ، كما قال الحسن البصري فيما تقدم ، فالمناسبة بين هذه الآية وما قبلها واضحة ؛ لأن المراد علاج خطأ هذه الفئة من الناس ، وتكون الآية خاصة بهم. ويمكن تعميم المراد بالآية بأن يقال : إنكم لما رضيتم بإخراج الصدقة التي هي غير واجبة ، فلأن تصيروا راضين بإخراج الواجبات أولى.

وأما إذا كان المقصود من الآية الزكوات الواجبة أو إيجاب أخذ الزكاة من الأغنياء ، وهو رأي أكثر الفقهاء ، وهو الصحيح ، فالمناسبة تكون على النحو التالي : لما أظهر هؤلاء التوبة والندامة عن تخلفهم عن غزوة تبوك ، وأقروا بأن السبب الموجب لذلك التخلف هو حبهم للأموال ، وشدة حرصهم على صونها عن الإنفاق ، فكأنه قيل لهم : إنما تظهر صحة قولكم في ادعاء هذه التوبة والندامة لو أخرجتم الزكاة الواجبة ؛ لأن الدعوى لا تتقرر إلا بالمعنى ، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. فإن أدوا تلك الزكوات عن طيب نفس ، ظهر كونهم صادقين في توبتهم ، وإلا فهم كاذبون.

ومما يدل على أن المراد الصدقات الواجبة قوله : (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) أي تطهرهم عن الذنب بسبب أخذ تلك الصدقات.

قال الجصاص : والصحيح أنها الزكوات المفروضة ، إذ لم يثبت أن هؤلاء القوم أوجب الله عليهم صدقة دون سائر الناس ، سوى زكوات الأموال ، وإذا لم يثبت بذلك خبر ، فالظاهر أنهم وسائر الناس سواء في الأحكام والعبادات ، وأنهم غير مخصوصين بها دون غيرهم من الناس.

ولأنه إذا كان مقتضى الآية وجوب هذه الصدقة على سائر الناس لتساوي الناس في الأحكام إلا من خصه دليل ، فالواجب أن تكون هذه الصدقة واجبة

٢٨

على جميع الناس ، غير مخصوص بها قوم دون قوم ، وإذا ثبت ذلك كانت هي الزكاة المفروضة ؛ إذ ليس في أموال سائر الناس حق سوى الصدقات المفروضة.

وقوله : (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) لا دلالة فيه على أنها صدقة مكفرة للذنوب غير الزكاة المفروضة ؛ لأن الزكاة المفروضة أيضا تطهر وتزكي مؤديها ، وسائر الناس في المكلفين محتاجون إلى ما يطهرهم ويزكيهم (١).

التفسير والبيان :

خذ أيها الرسول وكل حاكم مسلم بعدك من أموال هؤلاء التائبين ومن غيرهم صدقة مقدرة بمقدار معين ، تطهرهم بها من داء البخل والطمع ، وتزكي أنفسهم بها ، وتنمي بها حسناتهم ، وترفعهم إلى منازل المخلصين. والتزكية : مبالغة في التطهير وزيادة فيه ، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال ، أي أنه تعالى يجعل النقصان الحاصل بسبب إخراج قدر الزكاة سببا للإنماء ، وفي الحديث الذي رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة : «ما نقصت صدقة من مال».

(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) أي ادع لهم واستغفر وترحم ، فإن دعاءك واستغفارك سكن لهم يسكنون إليه وتطمئن قلوبهم بأن الله قد تاب عليهم. والصلاة من الله على عباده : الرحمة ، ومن ملائكته : الاستغفار ، ومن النبي والمؤمنين : الدعاء.

(وَاللهُ سَمِيعٌ) يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم ، وسميع لدعائك سماع قبول وإجابة ، عليم بما في ضمائرهم وبإخلاصهم في توبتهم وصدقاتهم وبما فيه الخير والمصلحة لهم.

فالصدقة مطهرة للنفس ، مرضاة للرب ، وحصن للمال.

ألم يعلم أولئك التائبون وجميع المؤمنين أن الله هو الذي يقبل توبة عباده ،

__________________

(١) أحكام القران للجصاص : ٣ / ١٤٨

٢٩

ويتجاوز عن سيئاتهم ، ويأخذ الصدقات أي يقبلها ويثيب عليها ويضاعف أجرها ، كما قال : (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً ، يُضاعِفْهُ لَكُمْ ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ) [التغابن ٦٤ / ١٧] وفي الحديث الثابت الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة : «إن الله يربي الصدقة كما يربي أحدكم فلوّه» أي ولد الفرس ، وهذا تمثيل لزيادة الأجر. وفي هذا حث على التوبة وإعطاء الصدقة سواء كانت فريضة أو تطوعا. قيل في سبب نزول هذه الآية : قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين : هؤلاء كانوا معنا بالأمس ، لا يكلّمون ولا يجالسون ، فما لهم الآن؟ وما هذه الخاصة التي خصّوا بها ؛ فنزلت : (أَلَمْ يَعْلَمُوا) فالضمير في (يَعْلَمُوا) عائد إلى الذين لم يتوبوا من المتخلفين.

وأن الله هو التواب الذي من شأنه قبول توبة التائبين ، والتفضل عليهم ، وهو الرحيم

بعباده التائبين ، الذي يثيبهم على أعمالهم الصالحة ، كما قال تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) [طه ٢٠ / ٨٢] وقال عزوجل : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ ، فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران ٣ / ١٣٥] والتوبة مفيدة في تجديد همة النفس والعهد ، ومحو الذنب.

وقل أيها الرسول لهؤلاء التائبين ولغيرهم : اعملوا ، فإن عملكم لا يخفى على الله وعباده ، خيرا كان أو شرا ، فالعمل أساس السعادة ، وسيرى الله عملكم ، ورسوله والمؤمنون باطلاعه إياهم على أعمالكم. وهذا وعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار على الذنب والذهول عن التوبة ، ولكل المخالفين أوامر الله ، بأن أعمالهم ستعرض عليه تعالى ، وعلى الرسول ، وعلى المؤمنين ، وهذا كائن لا محالة يوم القيامة ، كما قال : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) [الحاقة ٦٩ / ١٨].

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه أحمد والبيهقي عن أبي سعيد الخدري : «لو أن

٣٠

أحدكم يعمل في صخرة صماء ، ليس لها باب ولا كوّة ، لأخرج الله عمله للناس ، كائنا ما كان» وقد ورد : أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ ، كما قال أبو داود الطيالسي ، روي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم في قبورهم ، فإن كان خيرا استبشروا به ، وإن كان غير ذلك قالوا : اللهم ألهمهم أن يعملوا بطاعتك».

وستردون يوم القيامة إلى الله الذي يعلم سرائركم وعلانيتكم ، يعلم الغائب والحاضر ، والباطن والظاهر ، فيعرفكم أعمالكم ، ثم يجازيكم عليها إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. وهذا كلام جامع للترغيب والترهيب.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات الأحكام الثلاثة التالية :

١ ـ فرضية أخذ الصدقات وهي الزكوات الواجبة لتطهير النفوس وتزكيتها وتنمية الأموال والبركة فيها. وأن صلاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم شفاعة وطمأنينة.

٢ ـ قبول الله توبة التائبين بحق أي التوبة الصحيحة ، وقبول الصدقات الصادرة عن خلوص النية والإثابة عليها ، وسمى تعالى نفسه باسم (اللهُ) لينبه على أن كونه إلها يوجب قبول التوبة ، والتخصيص بالله يدل على أن قبول التوبة وردها إلى الله ، لا إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ كل إنسان مجزي بعلمه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، والعمل مشهود عند الله ورسوله والمؤمنين ، وفي ذلك وعيد من الله تعالى للمخالفين أوامره بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى وعلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى المؤمنين ، في عالم البرزخ ، كما قال تعالى : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) [الحاقة ٦٩ / ١٨].

٣١

لكن آية : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ) عامة في أصناف الأموال ، لم تبين نوع المال المأخوذ منه ولا مقدار المأخوذ ، فيقتضي الظاهر أن يؤخذ من كل صنف بعضه ؛ لأن (مِنْ أَمْوالِهِمْ) تقتضي التبعيض ، فدلت الآية على أن القدر المأخوذ بعض تلك الأموال ، لا كلها ، لكن البعض غير مذكور هنا صراحة في اللفظ ، فجاءت السنة والإجماع لبيان مقدار المأخوذ والمأخوذ منه ، ومقادير الأنصبة ووقت الاستحقاق ، ويكون لفظ الزكاة مجملا في هذه الوجوه كلها ، مفتقرا إلى البيان فيما ذكر كما قال الجصاص. وقد نص القرآن على زكاة الذهب والفضة بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ، وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ ، فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [التوبة ٩ / ٣٤] ونص أيضا على زكاة الزروع والثمار في قوله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ) إلى قوله : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ ، وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) [الأنعام ٦ / ١٤١] وأوضحت السنة زكاة سائر الأموال الأخرى التي تجب فيها الزكاة ، وهي عروض التجارة ، والأنعام السائمة (الإبل والبقر والغنم) وبينت مقاديرها وأنصبتها روى الأئمة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة ، وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة» (١). وأجمع العلماء على أن الأوقية أربعون درهما ؛ فإذا ملك الحر المسلم مائتي درهم من الفضة ، وهي الخمس الأواق المنصوصة في الحديث ، حولا كاملا ، فقد وجبت عليه صدقتها ، وذلك ربع عشرها خمسة دراهم.

وإنما اشترط الحول لما أخرجه الترمذي من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول. وما زاد على المائتي درهم من الفضة فبحساب ذلك في كل شيء منه ربع عشره ، قل أو كثر.

__________________

(١) الخمسة أوسق ٦٥٣ كغ ، والورق : الفضة ، والذود من الإبل : ما بين الثلاث إلى العشرة.

٣٢

وأما زكاة الذهب فتجب في رأي جمهور العلماء إذا كان الذهب عشرين دينارا قيمتها مائتا درهم ، فما زاد ، عملا بحديث علي الذي أخرجه الترمذي.

وأما زكاة الغنم ففي كل أربعين شاة شاة ، على ما جاء في كتاب الصّديق لأنس لما وجهه إلى البحرين ، وأخرجه البخاري وأبو داود والدار قطني والنسائي وابن ماجه وغيرهم.

وزكاة البقر في كل ثلاثين بقرة تبيع أو تبيعة ، وفي كل أربعين مسنّة ؛ لما رواه الدار قطني والترمذي عن معاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن.

ولا زكاة في رأي الجمهور على الأنعام إلا إذا كانت سائمة ترعى في البراري ونحوها ؛لما روى الدار قطني عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس في البقر العوامل صدقة» وروى الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) عن معاذ رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «وفي البقر في كل ثلاثين تبيع ، وفي الأربعين مسّنة» وروى أبو داود والدارقطني عن علي «ليس على العوالم شيء» وفي حديث البخاري عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب لأبي بكر الصديق كتابا في الصدقات ، جاء فيه : «صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين ، فيها شاة» فنفى بذلك الصدقة عن غير السائمة.

وقال مالك والليث : في العوامل صدقة ، لعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث أنس المتقدم : «في خمس من الإبل شاة» والجواب : ذلك مخصوص بالأحاديث المتقدمة. وظاهر عموم هذه الآية يوجب الزكاة في مال المديون وفي مال الضمان أي الكفالة.

وأما قوله تعالى : (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) فقال الزجاج : والأجود أن تكون المخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي فإنك تطهرهم وتزكيهم بها ، على القطع والاستئناف. ويجوز الجزم على جواب الأمر ، والمعنى : إن تأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم. وظاهر الآية يدل على أن الزكاة إنما وجبت طهرة عن

٣٣

الآثام ، وبما أن الإثم لا يتقرر إلا في حق البالغ ، فوجب ألا تجب الزكاة في حق الصغير ، كما قال أبو حنيفة رحمه‌الله. وأوجب الجمهور الزكاة في مال الصبي والمجنون ، لأن الآية تدل على أخذ الصدقة من أموالهم ، فتكون طهرة للأموال.

وظاهر قوله تعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) أنه يجب على الإمام أو نائبه إذا أخذ الزكاة أن يدعو للمتصدق بالبركة ، وهذا رأي الظاهرية. وأما سائر الأئمة فحملوا الأمر على الندب والاستحباب ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاذ في الحديث المتفق عليه عن ابن عباس : «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم ، وترد في فقرائهم»ولم يأمره بالدعاء لهم ، ولأن الفقراء إذا أخذوا الزكاة لا يلزمهم الدعاء.

ومع هذا ، روى مسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم : قال : «اللهم صل عليهم» فأتاه ابن أبي أوفى بصدقته ، فقال : «اللهم صلّ على آل أبي أوفى» والصلاة هنا : الرحمة والترحم. وبناء عليه قال الحنابلة والظاهرية في صيغة الدعاء : لا مانع أن يقول آخذ الزكاة : اللهم صل على آل فلان. وقال باقي الأئمة : لا يجوز هذا القول ؛ لأن الصلاة صارت مخصوصة بالأنبياء عليهم‌السلام. ولا خلاف أن يجعل غير الأنبياء تبعا لهم ، فيقال : اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه ؛ لأن السلف استعملوه ، وأمرنا به في التشهد.

والسلام في حكم الصلاة ؛ لأن الله تعالى قرن بينهما ، فلا يفرد به غائب على غير الأنبياء. أما استحباب السلام في مخاطبة الأحياء تحية لهم وفي تحية الأموات فهو ثابت في السنة.

واستحسن الشافعي أن يقول : آجرك الله فيما أعطيت ، وجعله لك طهورا ، وبارك لك فيما أبقيت.

٣٤

وقوله : (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) دليل على كونه تعالى رائيا للمرئيات ، ودليل لأهل السنة أن كل موجود فإنه يصح رؤيته ، أي إبصاره ؛ لأن الرؤية المعداة إلى المفعول الواحد معناها الإبصار. والعمل المرئي يشمل أعمال القلوب كالإرادات والكراهات والأنظار ، وأعمال الجوارح ، كالحركات والسكنات.

وقوله تعالى : (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) نص صريح في أن الله تعالى هو الآخذ لها والمثيب عليها وأن الحق له جل وعز ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واسطة ، فإن توفي فعامله هو الواسطة بعده ، والله عزوجل حي لا يموت. وهذا يبين أن قوله سبحانه وتعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) ليس مقصورا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما يشمل الأئمة بعده ، كما تقدم. روى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يقبل الصدقة ، ويأخذها بيمينه ، فيربيها لأحدكم ، كما يربي أحدكم مهره ، حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد ، وتصديق ذلك في كتاب الله : (هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ، وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) ، و (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا ، وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ). وفي صحيح مسلم : «لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه ، فتربو في كفّ الرحمن ، حتى تكون أعظم من الجبل». وهذا كناية عن القبول والجزاء عليها ، كما كنى بنفسه الكريمة المقدسة عن المريض ، تعطفا عليه بقوله في الحديث القدسي : «يا ابن آدم ، مرضت فلم تعدني». وخصّ اليمين والكف بالذكر ؛ إذ كل قابل لشيء إنما يأخذه بكفه وبيمينه ، أو يوضع له فيه ؛ فخرج على ما يعرفونه ، والله جل وعز منزّه عن الجارحة.

الثلاثة الذين خلّفوا عن التوبة عليهم

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦))

٣٥

المفردات اللغوية :

(وَآخَرُونَ) من المتخلفين (مُرْجَوْنَ) مؤخرون عن العقوبة ، وموقوف أمرهم (لِأَمْرِ اللهِ) في شأنهم بأن يأمر فيهم بما شاء (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) بأن يميتهم بلا توبة وإما يتوب عليهم (وَاللهُ عَلِيمٌ) بخلقه (حَكِيمٌ) في صنعه.

سبب النزول :

قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وآخرون : هم الثلاثة الذين خلّفوا عن التوبة ، وهم مرارة بن الربيع ، وكعب بن مالك ، وهلال بن أمية من بني واقف ، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد كسلا وميلا إلى الدعة والحفظ وطيب الثمار والظلال ، لا شكا ونفاقا.

وكان المتخلفون عن غزوة تبوك أصنافا ثلاثة (١) :

١ ـ المنافقون الذين مردوا على النفاق ، وهم أكثر المتخلفين.

٢ ـ التائبون المؤمنون الذين اعترفوا بذنوبهم وتابوا فتاب الله عليهم ، وهم الذين ربطوا أنفسهم بالسواري وهم أبو لبابة وأصحابه ، فنزلت توبتهم.

٣ ـ الذين بقوا موقوفين وهم المؤمنون الذين حاروا في أمرهم ولم يعتذروا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تخلفهم ، وأرجؤوا توبتهم ، فلم يربطوا أنفسهم بالسواري ، فأرجأ الله الحكم في أمرهم ، فوقف أمرهم خمسين ليلة ، وهجرهم الناس حتى نزلت توبتهم بعد ، وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون ، والذين نزلت فيهم هذه الآية : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) [التوبة ٩ / ١١٨].

التفسير والبيان :

وآخرون من المتخلفين موقوفون مرجون أي مؤخرون لأمر الله في شأنهم ،

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٦ / ١٩١

٣٦

ولا يدري الناس ما ينزل فيهم ، هل يتوب الله عليهم أولا ، وقد نهى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مجالستهم ، وأمرهم باعتزال نسائهم وإرسالهن إلى أهلهن ، إلى أن نزل قوله : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ـ إلى قوله ـ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ..) [التوبة ٩ / ١١٨].

هؤلاء في هذه الآية أمرهم متردد بين أمرين : التعذيب والتوبة. وقد ترك أمرهم غامضا ، لا للشك ، فالله تعالى منزه عنه ، وإنما ليكون أمرهم على الخوف والرجاء ، وإثارة الغم والحزن في قلوبهم ، ليقدموا على التوبة ، ويصير أمرهم عند الناس على الرجاء ، فجعل أناس يقولون : هلكوا إذا لم ينزل الله تعالى لهم عذرا ، وآخرون يقولون : عسى الله أن يغفر لهم.

ولا شك أن القوم كانوا نادمين على تأخرهم عن الغزو ، فلم يحكم تعالى بكونهم تائبين ؛ لأن الندم وحده لا يكون كافيا في صحة التوبة ، ثم ندموا على المعصية لكونها معصية ، فصحت توبتهم.

والله عليم بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو ، وبما يصلح عباده ويربّيهم ، حكيم

في أفعاله وأقواله ، وفيما يشرعه لهم من الأحكام المؤدية لهذا الصلاح. ومن حكمته : إرجاء النص على توبتهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

إن الحكمة الإلهية قد تقتضي البت في شأن بعض العباد ، وقد ترجئ ذلك ، ليظل الناس في أمل ورجاء ورهبة وخوف ، وقد أثمرت هذه الحكمة في دفع هؤلاء المخلفين عن التوبة إلى مزيد من الشعور بالقلق والاضطراب والخوف والهلع ، وكادوا يحسون باليأس من قبول عذرهم ، حتى أنزل الله في شأنهم ما يدل على قبول توبتهم في قوله : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ...).

وقوله : (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) دليل على أنه لا حكم إلا أحد

٣٧

هذين الأمرين ، وهو إما التعذيب وإما التوبة. أما العفو عن الذنب من غير توبة فغير معتبر.

مسجد الضّرار (مسجد المنافقين) ومسجد التّقوى (مسجد قباء)

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠))

الإعراب :

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) عطف على (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ) أو مبتدأ ، وخبره : (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ) ، أو خبره محذوف ، أي وفيمن وصفنا أو ممن ذكرنا الذين اتّخذوا ، أو كما رجح أبو حيان منصوب على الاختصاص ، كقوله تعالى : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) [النساء ٤ / ١٦٢].

(ضِراراً) إما منصوب على المصدر أي مضارّة للمؤمنين ، وإما مفعول به ، وما بعده من المنصوبات عطف عليه. (مِنْ قَبْلُ) متعلق بحارب أو باتّخذوا ، أي اتّخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتّخلف ، لما روي أنه بني قبيل غزوة تبوك.

(مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) فيه مضاف محذوف ، تقديره : من تأسيس أول يوم ؛ لأن (مِنْ)

٣٨

لا تدخل على ظروف الزمان. ويرى الكوفيون أنها تدخل على ظروف الزمان ، فلا تحتاج إلى تقدير مضاف.

(هارٍ) صفة ، أصله هائر ، فقلب ، كما قالوا : لاث في لائث ، وشاك في شائك. وحذفت الياء كما حذفت في نحو قاض ورام في الرّفع والجّر.

(أَفَمَنْ أَسَّسَ) من : بمعنى الذي مبتدأ ، وخبره : (خَيْرٌ).

البلاغة :

(هارٍ فَانْهارَ) بينهما جناس ناقص.

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى) استعارة مكنية ، حيث شبهت التّقوى والرّضوان بأرض صلبة يقوم عليها البناء ، ثم حذف المشبه به وأشير إلى شيء من لوازمه وهو التّأسيس. والاستفهام معناه التّقرير.

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ) مصدر أريد به اسم المفعول.

المفردات اللغوية :

(وَالَّذِينَ) أي ومنهم الذين اتّخذوا مسجد الضّرار. وهم اثنا عشر من المنافقين. (ضِراراً) مضارّة لأهل مسجد قباء ، والضّرار : إيقاع الضّرر بالغير ولا منفعة لك فيه ، والضرر : إيقاع الضّرر بالغير وفيه لك منفعة. وكلاهما ممنوع للحديث الذي رواه أحمد وابن ماجه عن ابن عباس : «لا ضرر ولا ضرار». (وَكُفْراً) لأنهم بنوه بأمر أبي عامر الرّاهب ، ليكون معقلا له ، يقدم فيه من يأتي من عنده ، وكان ذهب ليأتي بجنود من قيصر ، لقتال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) الذين يصلّون بقباء ، بصلاة بعضهم فيه ، أي الذين يجتمعون للصّلاة في مسجد قباء. (وَإِرْصاداً) ترقبا وانتظارا مع العداوة. (لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) يعني من قبل بنائه ، وهو أبو عامر الراهب. (إِنْ أَرَدْنا) ما أردنا ببنائه. (إِلَّا الْحُسْنى) الفعلة أو الخصلة أو الإرادة الحسنى من الرّفق بالمسكين في المطر والحرّ والتّوسعة على المسلمين. (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في حلفهم ذلك ، وكانوا سألوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزل : (لا تَقُمْ).

(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) لا تصلّ فيه أبدا ، فأرسل جماعة هدموه وحرقوه وجعلوا مكانه كناسة تلقى فيها الجيف.

(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) أسسه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلّى فيه أيام مقامه بقباء من الاثنين إلى الجمعة. والتأسيس : وضع الأساس الأول الذي يقوم عليه البناء. (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) أي بني من

٣٩

أول أيام وجوده ، يوم حللت بدار الهجرة ، وهو مسجد قباء ، كما في البخاري. والتّقوى : ما يرضي الله ويبقي من سخطه. (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) أجدر بأن تقوم فيه. (فِيهِ رِجالٌ) هم الأنصار. (يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) أي يثيبهم.

(عَلى تَقْوى) مخافة من الله. (وَرِضْوانٍ) ورجاء رضوان منه وهذا مثال مسجد قباء. (عَلى شَفا) طرف أو حرف أو حدّ. (جُرُفٍ) جانب الوادي ونحوه. (هارٍ) مشرف على السقوط. (فَانْهارَ بِهِ) سقط مع بانيه. (فِي نارِ جَهَنَّمَ) وهذا تمثيل للبناء على غير التقوى بما يؤول إليه ، وهو مثال مسجد الضّرار.

(رِيبَةً) شكّا وحيرة. (تَقَطَّعَ) تنفصل وتنفرق قلوبهم أجزاء ، بأن يموتوا. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بخلقه. (حَكِيمٌ) في صنعه بهم.

سبب النزول :

نزول آية (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) :

قال المفسّرون : إن بني عمرو بن عوف وهم من الأوس اتّخذوا مسجد قباء (١) ، وبعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتيهم ، فأتاهم فصلّى فيه ، فحسدهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وهم من الخزرج ، وقالوا : نبي مسجدا ، ونبعث إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتينا فيصلّي لنا فيه ، كما صلّى في مسجد إخواننا ، ويصلّي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشّام ؛ فأتوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يتجهّز إلى تبوك ، فقالوا : يا رسول الله ، قد بنينا مسجدا لذي الحاجة ، والعلّة ، والليلة المطيرة ، ونحبّ أن تصلّي لنا فيه وتدعو بالبركة.

فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّي على سفر وحال شغل ، فلو قدمنا لآتيناكم ، وصلّينا لكم فيه».

__________________

(١) لما هاجر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، نزل أولا قباء على كلثوم بن الهدم شيخ بني عمرو بن عوف ، وهم بطن من الأوس. وقباء : قرية على ميلين جنوب المدينة ، وأقام بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الاثنين إلى الجمعة ، وأسس مسجد قباء.

٤٠