التفسير المنير - ج ١١

الدكتور وهبة الزحيلي

لا يموت ، فأراد الله أن يشاهده الناس على ذلك الذل والمهانة ، ليتحققوا موته ، ويعرفوا أن الذي كان بالأمس في نهاية الجلالة والعظمة قد آل أمره إلى الذل والهوان ، فيكون عبرة للخلق ، وزجرا لأهل الطغيان.

٥ ـ ذم الغفلة وعدم التفكر في أسباب الحوادث الجسام وعواقبها المؤثرة في التاريخ.

٦ ـ إن في قصة إغراق فرعون الطاغية عبرة لمكذبي النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين يغترون بقوتهم وكثرتهم وثروتهم ، فقد كان فرعون وقومه أكثر منهم عددا ، وأشد قوة ، وأوفر ثروة ، وقد جعل الله تعالى سنته في المكذبين واحدة وهي التدمير والإهلاك ، إما في الدنيا وإما في الآخرة ، فالعاقل من المكذبين من يتدبر في الأمر ، ويبادر إلى ساحة الرضا والإيمان ، ليكون من أهل النجاة في الآخرة : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [يوسف ١٢ / ١١١].

٧ ـ لقد أنعم الله على بني إسرائيل بالنعم الكثيرة الدينية والدنيوية ، ومن أهمها إنقاذهم من طغيان فرعون ، وأمانهم واستقرارهم في فلسطين في الماضي ، ولكنهم لم يتعظوا ولم يعتبروا بها.

بل إنهم كفروا بهذه النعم ، وكفروا برسالة عيسى ومحمد عليهما‌السلام ، فأصبحوا مثل غيرهم ممن يستحق العذاب والطرد والإجلاء من ديار الإسلام. والمقصود بذلك أحوال بني إسرائيل القدامى والمعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن المتأخرين راضون بفعل المتقدمين ، وسائرون على نهجهم ، وهذا جمع بين القولين السابقين.

ولم يختلفوا في شأن رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدقه قبل بعثته ، بل كانوا مجمعين على نبوته والإيمان به على وفق الأوصاف المذكورة في كتبهم ، وإنما اختلفوا بعد بعثته حسدا وبغيا وحبا في بقاء المراكز الدينية ، والزعامة السياسية ، فكان اختلافهم

٢٦١

بإيمان بعضهم وكفر الآخرين لا عن جهل بحقيقة ووصف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما عن علم ومعرفة حقيقية به ، فإنهم يعرفونه بأوصافه المذكورة لديهم كما يعرفون أبناءهم.

٨ ـ كان فلق البحر بعصا موسى عليه‌السلام اثني عشر فرقا ، كل فرق منها كالجبل الأشم معجزة عظمي لسيدنا موسى عليه‌السلام ، تمّ على أثرها إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين ، لذا سن صوم يوم عاشوراء الذي تم فيه هذا الحدث شكرا لله على ما أنعم.

٩ ـ القضاء المبرم والحكم القاطع يتبين يوم القيامة في شأن المختلفين من بني إسرائيل وغيرهم في أمر قبول دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث ينجي الله المحقين ، ويدمر المبطلين.

تأكيد صدق القرآن فيما قال ووعد وأوعد

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧))

البلاغة :

(حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) كناية عن القضاء الأزلي بأنهم يموتون على الكفر ويخلدون في العذاب.

٢٦٢

المفردات اللغوية :

(فَإِنْ كُنْتَ) أيها السامع في شك مما أنزلنا على لسان نبيك إليك أو أن الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به قومه ، على نحو قول العرب : إياك أعني واسمعي يا جارة ، وهو مثل قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر ٣٩ / ٦٥] وقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) [الأحزاب ٣٣ / ٤١].

(فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يا محمد من القصص على سبيل الافتراض. (الْكِتابَ) هنا التوراة. (مِنْ قَبْلِكَ) فإنه ثابت عندهم يخبروك بصدقه ، قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أشك ولا أسأل». (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) واضحا لا مرية فيه ، بالآيات القاطعة. (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) الشاكين فيه. (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ ..) أيضا من باب التهييج والتثبيت وقطع الأطماع عنه ، كقوله : (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) [القصص ٢٨ / ٨٦].

(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ) وجبت وثبتت. (كَلِمَتُ رَبِّكَ) باستحقاق العذاب. (لا يُؤْمِنُونَ) وهذا واقع ؛ لأن الله لا يكذب كلامه ولا ينتقض قضاؤه. (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) لأنهم أصروا على الكفر. (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) وحينئذ لا ينفعهم ، كما لا ينفع فرعون.

المناسبة :

بعد أن أخبر الله تعالى عن قصص الأنبياء السابقين كنوح وموسى وهارون عليهم‌السلام بإنجاز النصر لهم على أقوامهم ، وحكى اختلاف بني إسرائيل عند ما جاءهم العلم حسدا وبغيا وإيثارا لبقاء الرياسة ، أورد ما يقوي صدق القرآن فيما قال ووعد وأوعد ، وخاطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأراد قومه.

التفسير والبيان :

أراد الله تعالى أن يؤكد صحة القرآن وصدق النبوة على سبيل الافتراض والمبالغة ، فقال : فإن وقع منك شك على سبيل الافتراض والتقدير في صحة ما أنزلنا إليك من القرآن المتضمن قصص الأنبياء المتقدمين مثل هود ونوح وموسى وغيرهم ، فاسأل علماء أهل الكتاب الذين يقرءون الكتاب أي التوراة من قبلك ، فهم على علم تام بصحة ما أنزل إليك.

٢٦٣

والمراد الإحالة على علماء أهل الكتاب الصادقين ووصفهم بالعلم ، لا وصف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشك ، قال ابن عباس : لا والله ما شك طرفة عين ، ولا سأل أحدا منهم ، وقال : «لا أشك ولا أسأل ، بل أشهد أنه الحق» كما ذكر قتادة وسعيد بن جبير والحسن البصري.

والرأي الأولى كما ذكرت في بيان المفردات : أن الخطاب للسامع أو للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به أمته ، وهذا تعبير مألوف بين العرب. كما أن افتراض الشك في الشيء لنفي احتمال وقوعه مألوف أيضا لدى العرب ، فيقول أحدهم : إن كنت ابني حقا فكن شجاعا. وذلك مثل قول عيسى عليه‌السلام : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) [المائدة ٥ / ١١٦] فهو يعلم أنه لم يقله ، ولكنه يفرضه ليستدل على أنه لو قاله لعلمه الله منه.

قال البيضاوي : وفي الآية تنبيه على أن كل من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم.

(لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ..) أي تالله لقد جاءك الحق واضحا لا مرية فيه ولا ريب ، بما أخبرناك في القرآن ، وبأنك رسول الله ، وأن اليهود والنصارى يعلمون صحة ذلك ، لما يجدون في كتبهم من نعتك وأوصافك ، فلا تكونن من الشاكين في صدق ما نقول.

وفي هذا تثبيت للأمة وإعلام لهم أن صفة نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف ٧ / ١٥٧].

وهذا النهي : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) تعريض بالشاكين والمكذبين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قومه.

٢٦٤

(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا ...) أي ولا تكونن أيها النبي ممن كذب بآيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته على إرسال الرسل لهداية البشر ، فتكون ممن خسروا الدنيا والآخرة.

وهذا أيضا من باب التهييج والتثبيت وقطع الأطماع عنه عليه الصلاة والسلام ، كقوله تعالى : (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) [القصص ٢٨ / ٨٦] وفيه تعريض بالكفار الخاسرين الضالين.

(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ ...) أي إن الذين ثبتت عليهم كلمة الله أي قضاؤه وحكمه بالعذاب لا يؤمنون أبدا ، لفقدهم الاستعداد للإيمان ، وتصميمهم على الكفر ، وليس المعنى أن الله يمنعهم الإيمان ، وإنما هم الذين اختاروا الكفر وكسبوه. والمراد من الآية : أن من علم الله منهم الإيمان أو الكفر ، لا بد من حصوله ؛ لأن علم الله واسع شامل ، لا يتخلف.

(وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ ..) أي إن هؤلاء الذين علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون ، سيبقون على كفرهم وجحودهم ، ولو جاءتهم كل آية كونية حسية ، أو علمية ، أو قرآنية ، مثل آيات موسى التي اقترحوا مثلها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومثل تفجير الأنهار والصعود في السماء ، وامتلاك الجنات أي البساتين ، ومثل آيات القرآن الدالة بإعجازها على أنها من عند الله تعالى ، وربما لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم الموجع الذي يحدق بهم ويطبق عليهم ، وحينئذ لا ينفعهم إيمانهم ، كما لم ينفع فرعون إيمانه حين أشرف على الغرق ، وكما قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) [الأنعام ٦ / ١١١] فالأدلة لا تنفعهم مهما كثرت ؛ لأن الدليل لا يهدي إلا بإعانة الله وتوفيقه ، وتوافر الاستعداد لقبوله.

٢٦٥

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ القرآن حق ، ونبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق ، وأدلة إثبات أحقيتهما : صدقهما فيما أخبرا به من قصص الأنبياء ، ومغيبات المستقبل ، وما أشار إليه من الآيات الدالة على الصدق في كل ما اشتمل عليه القرآن والسنة.

٢ ـ افتراض الشك أحيانا يفيد في إثبات عكسه وهو اليقين ، وهذه نظرية أخذ بها الفلاسفة مثل (ديكارت).

٣ ـ على كل من شك في شيء أن يبادر إلى سؤال العلماء لإزالته وتثبيت يقينه ، وترسيخ عقيدته.

٤ ـ الخطاب في الآيتين الأوليين : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) و (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد غيره. قال الحسين بن الفضل : الفاء مع حروف الشرط لا توجب الفعل ولا تثبته ، والدليل عليه ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لما نزلت هذه الآية : «والله لا أشك».

٥ ـ الإحالة في تبين صدق القرآن وصحة النبوة كانت على من أسلم من اليهود ، كعبد الله بن سلام وأمثاله.

٦ ـ إن الذين ثبت عليهم غضب الله وسخطه بمعصيتهم لا يؤمنون ، حتى ولو جاءتهم الآيات تترى بما يطلبون. فإن آمنوا حين نزول العذاب بهم لا ينفعهم إيمانهم ؛ لأنه إيمان يأس وإلجاء وقسر ، وتوبة يائس.

٧ ـ احتج أهل السنة بهذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) في إثبات القضاء اللازم والقدر الواجب ، وقال في الكشاف في هذه الآية : ثبت

٢٦٦

عليهم قول الله تعالى الذي كتبه في اللوح ، وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفارا ، فلا يكون غيره ، وتلك كتابة معلوم ، لا كتابة مقدّر.

قصة يونس عليه‌السلام مع قومه

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠))

الإعراب :

(إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) منصوب إما لأنه استثناء منقطع ليس من جنس الأول وإما على الاستثناء المتصل غير المنقطع ، بأن يقدر في الكلام حذف مضاف ، تقديره : فلو لا كان أهل قرية آمنوا إلا قوم يونس. ويونس : ممنوع من الصرف للعلمية (التعريف) والعجمة. وقرئ برفع يونس على البدل ، كقول الشاعر :

وبلدة ليس بها أنيس

إلا اليعافير وإلا العيس

والبدل من غير الجنس لغة بني تميم.

(كُلُّهُمْ) تأكيد لقوله (لَآمَنَ) ، و (جَمِيعاً) عند سيبويه : نصب على الحال. وقال الأخفش : جاء بقوله : (جَمِيعاً) بعد كل تأكيدا ؛ كقوله : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ).

البلاغة :

(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) الاستفهام للإنكار ، وتقديم الضمير على الفعل للدلالة على أن خلاف المشيئة مستحيل ، فلا يمكنه تحصيله بالإكراه عليه.

٢٦٧

المفردات اللغوية :

(فَلَوْ لا) فهلا ، وكل منهما للتحضيض والتوبيخ. (قَرْيَةٌ) أهل قرية أي فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكناها آمنت قبل معاينة العذاب ، ولم تؤخر إليها ، كما أخر فرعون. (آمَنَتْ) قبل نزول العذاب بها. (فَنَفَعَها إِيمانُها) بأن يقبله الله منها ويكشف العذاب عنها. (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) لكن قوم يونس (لَمَّا آمَنُوا) عند رؤية أمارة العذاب ، ولم يؤخروه إلى حلوله. (الْخِزْيِ) الذل والهوان. (وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) إلى انقضاء آجالهم ، الحين : مدة من الزمن ، والمراد بها هنا العمر الطبيعي الذي يعيشه الإنسان.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) قال المعتزلة : المراد مشيئة القسر والإلجاء ، أي لو شاء الله تعالى أن يلجئهم إلى الإيمان لقدر عليه ، ولصح ذلك منه ، ولكنه ما فعل ذلك ؛ لأن الإيمان الصادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه ولا يفيده فائدة ، فالمشيئة المرادة في الآية لم تقع في رأيهم. وقال أهل السنة : المراد تخليق الإيمان أو خلق الإيمان ، أي لو شاء ربك لخلق الإيمان فيهم ، ولكنه لم يفعل ، فدلّ على أنه ما أراد حصول الإيمان لهم ؛ لأن الإيمان لا يحصل إلا بخلق الله تعالى ومشيئته وإرشاده وهدايته ، فإذا لم يحصل ذلك المعنى لم يحصل الإيمان. والتقييد بمشيئة الإلجاء خلاف الظاهر ، فكل إيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان ٧٦ / ٣٠]. وهذا المذهب موافق للمعتزلة في أن الله تعالى ما قسر الخلق ، ولكنه أيضا ما سلب اختيارهم ، بل أمرهم بالإيمان وخلق لهم اختيارا وقصدا ، فإبقاء الآية على إطلاقها أولى ، وربط كل شيء من إيمان وغيره بمشيئة الله تعالى هو الواجب.

(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) بما لم يشأه الله منهم ، والاستفهام للإنكار ، وتقديم الضمير على الفعل للدلالة على أن خلاف المشيئة مستحيل ، فلا يمكنه تحصيله بالإكراه عليه.

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بإرادته وتوفيقه ، فلا تجهد نفسك في هداها ، فإنه إلى الله تعالى. والإذن بالشيء لغة : الاعلام بإجازته والرخصة فيه ورفع الحجر عنه. (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) هنا العذاب أو الخذلان. وأصله في اللغة : الشيء القبيح المستقذر. (لا يَعْقِلُونَ) لا يتدبرون آيات الله ، ولا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات.

المناسبة :

هذه هي القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة ، وهي قصة يونس عليه‌السلام. فبعد أن بيّن الله تعالى أن (الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أتبعه بهذه الآية

٢٦٨

للدلالة على أن قوم يونس آمنوا بعد كفرهم ، وانتفعوا بذلك الإيمان. وهذا يدل على أن الكفار فريقان : منهم من حكم عليه بخاتمة الكفر ، ومنهم من حكم عليه بخاتمة الإيمان ، وكل ما قضى الله به فهو واقع.

وذكر في هذه الآيات ما يكمل قبلها في أن الله تعالى خلق البشر مستعدين للإيمان والكفر والخير والشر ، وأن مشيئة الله وحكمته متعلقتان بأفعال عباده ، ووقوعها على وفقهما.

وكانت العبرة من إيراد هذه القصص الثلاث (قصة نوح ، وقصة موسى ، وقصة يونس) الرّد على شبهات الكفار التي منها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يهددهم بنزول العذاب عليهم ، ولم ينزل ، فأبان الله تعالى أن تأخير الموعود به لا يقدح في صحة الوعد ، بدليل أن الله أخّر العذاب عن قوم نوح ، وفرعون ، وقوم يونس ، ثم أوقعه في الأولين ولم يوقعه في قوم يونس بسبب إيمانهم.

أضواء من التاريخ :

ذكر يونس عليه‌السلام في القرآن الكريم باسمه أربع مرات : في سورة النساء [١٦٣] والأنعام [٨٦] ويونس [٩٨] والصافات [١٣٩] وذكر بوصفه في سورتين : في سورة الأنبياء : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) [٨٧] وفي سورة القلم : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ ، إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) [٤٨].

وهو يونس بن متى ، ويقول أهل الكتاب : يونس بن أمتاي. وقد أرسله الله تعالى إلى نينوى من أرض الموصل ، فكذبوه ، فوعدهم بالعذاب بعد مدة ، قيل : إلى أربعين يوما ، وذهب عنهم مغاضبا ، فلما فقدوه خافوا نزول العقاب ، ولما دنا الموعد غامت السماء غيما أسود ذا دخان شديد ، فهبط حتى غشي مدينتهم ، فهابوا فطلبوا يونس فلم يجدوه ، فأيقنوا صدقه ، فلبسوا المسوح ، وبرزوا إلى

٢٦٩

الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ، وفرّقوا بين كل والدة وولدها ، فحنّ بعضها إلى بعض ، وعلت الأصوات والعجيج ، وأخلصوا التوبة ، وأظهروا الإيمان ، وتضرعوا إلى الله تعالى فرحمهم وكشف عنهم ، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء يوم الجمعة (١). قال الطبري : خص قوم يونس من بين سائر الأمم بأن تيب عليهم بعد معاينة العذاب ، وذكر ذلك عن جماعة من المفسرين. وقال الزجاج : إنهم لم يقع بهم العذاب ، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب ، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان.

أما يونس فقد ذهب مغاضبا لقومه الذين أرسل إليهم ؛ لإبطائهم عن تلبية دعوته ، والدخول فيما دعاهم إليه من الإيمان ، فهرب إلى الفلك المشحون ، من غير إذن الله تعالى.

ثم امتحنه الله تعالى بالإلقاء في اليم والتقام الحوت ، قال تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ، فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ، فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ ، سُبْحانَكَ ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ ، وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٨٧ ـ ٨٨].

فنبذه الله بالعراء وهو سقيم بعد أن مكث في بطنه ثلاثا أو سبعا أو أكثر أو أقل ، وحماه من هضم الحوت له ، وأنبت عليه شجرة من يقطين. ثم أرسله الله تعالى إلى مائة ألف أو يزيدون ، فآمنوا ، وقبل الله منهم إيمانهم.

وأما قوله تعالى : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) فمعناه المناسب للأنبياء المعصومين عن الخطأ : فظن أن لن نضيق عليه ، أي ظن أننا لن نلزمه بالذهاب إلى القوم الذين أرسل إليهم ، ولا نلجئه إلى تبليغ رسالة الله تعالى إليهم ، والمراد أنه تأول الأمر وهو أمر الذهاب إلى قومه على أنه أمر إرشاد لا أمر وجوب ، ولا

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٧ / ١٦٥ ، تفسير القرطبي : ٨ / ٣٨٤

٢٧٠

إثم في مخالفته ، كما تأول الفقهاء كتابة الدين المأمور به في قوله تعالى : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) على أنه أمر ندب وإرشاد ، ففهم الأمر على هذا الوجه (١).

التفسير والبيان :

فهلا كان أهل قرية من قرى الرسل الذين أرسلوا إليهم ، آمنوا بعد دعوتهم وإقامة الحجة عليهم ، وقبل نزول العذاب واستحالة الإيمان ، فنفعهم إيمانهم.

ولكن قوم يونس عليه‌السلام الذي بعث في أهل نينوى بأرض الموصل شمال العراق ، كانوا قد كفروا ، ثم لما رأوا أمارات العذاب ، تضرعوا إلى الله تعالى ، وأخلصوا التوبة ، وأظهروا الإيمان فرحمهم‌الله ، وكشف عنهم العذاب ـ أي العذاب الذي وعدهم يونس بنزوله ـ وقبل إيمانهم ، ومتّعهم إلى أجلهم.

أي لم توجد قرية آمنت بكمالها بنبيهم من القرى الغابرة إلا قوم يونس ، وهم أهل نينوى ، وما كان إيمانهم إلا تخوفا من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم ، بعد ما عاينوا أسبابه. وكان قبول إيمانهم مغايرا لقبول إيمان فرعون ، فإنه آمن عند الإشراف على الغرق واقتراب الموت. أما قوم يونس فآمنوا قبل وقوع العذاب بهم بالفعل ، وإن كان إيمانهم عند ظهور أماراته.

وفي القصة تعريض بأهل مكة ، وحض لهم على أن يكونوا كقوم يونس ، قبل أن يصلوا إلى درجة اليأس ، فإن العذاب قابل للتحقق كما حدث في قوم نوح ، وفرعون وجنوده. وعلى هذا التأويل لا تعارض ولا إشكال ولا خصوص لقوم يونس. قال عليرضي‌الله‌عنه: إن الحذر لا يردّ القدر ، وإن الدعاء ليردّ القدر.

__________________

(١) قصص القرآن للأستاذ عبد الوهاب النجار : ص ٣٥٧ ، ٣٥٩

٢٧١

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) أي ولو شاء ربك يا محمد أن يأذن لأهل الأرض كلهم في الإيمان بما جئتهم به ، وأن يخلق فيهم الإيمان ، لفعل ولآمنوا كلهم ، ولكن له حكمة فيما يفعله تعالى ، كقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود ١١ / ١١٨ ـ ١١٩].

وقال تعالى : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) [الرعد ١٣ / ٣١]. و (كُلُّهُمْ) في الآية أي على وجه الإحاطة والشمول ، و (جَمِيعاً) أي مجتمعين على الإيمان ، مطبقين عليه ، لا يختلفون فيه.

(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ ...) أي أفأنت يا محمد تلزم الناس وتلجئهم إلى الإيمان ، ليس ذلك عليك ولا إليك ، بل إلى الله وعليه. فالإيمان لا يتم بالإكراه والإلجاء والقسر ، وإنما يتم بالطواعية والاختيار ، كما قال تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) [البقرة ٢ / ٢٥٦] وقال تعالى : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) [ق ٥٠ / ٤٥] وإنما مهمتك فقط التبليغ بالإنذار والتبشير ، كما قال تعالى : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) [الشورى ٤٢ / ٤٨] وقال سبحانه : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية ٨٨ / ٢١ ـ ٢٢]. (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص ٢٨ / ٥٦].

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي ليس لنفس أن تؤمن إلا بإرادة الله ومشيئته وتوفيقه أو ما ينبغي لنفس أن تؤمن إلا بقضائه وقدره ومشيئته وإرادته ، والنفس مختارة في الإيمان اختيارا غير مطلق ، وليست مستقلة في اختيارها استقلالا تاما ، بل مقيدة بسنة الله في الخلق ، يهدي الله من يشاء بحكمته وعلمه وعدله.

٢٧٢

(وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) أي ويجعل الله العذاب على الذين لا يتدبرون حجج الله وأدلته ، ولا يستعملون عقولهم في النظر بما يرشدهم إلى الحق من آيات الله وحججه الكونية والعقلية القرآنية ، فهم لتعطيلهم منافذ المعرفة وحواسهم الهادية إلى الصواب ، ولاتباع الهوى ، يؤثرون الكفر على الإيمان.

فقه الحياة أو الأحكام :

استنبط العلماء من الآيات ما يأتي :

١ ـ الحض على الإيمان وقت الرخاء والسعة قبل الإحاطة بالعذاب ، فهو الوقت الذي يقبل فيه الإيمان.

٢ ـ خص الله قوم يونس من بين سائر الأمم بقبول توبتهم بعد معاينة العذاب ، كما ذكر الطبري عن جماعة من المفسرين. وقال الزجاج : إنهم لم يقع بهم العذاب ، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب ، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان.

قال القرطبي معلقا : قول الزجاج حسن ؛ فإن المعاينة التي لا تنفع التوبة معها هي التلبس بالعذاب كقصة فرعون ، ولهذا جاء بقصة قوم يونس على أثر قصة فرعون ؛ لأنه آمن حين رأى العذاب فلم ينفعه ذلك ، وقوم يونس تابوا قبل ذلك. ويعضد هذا قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن ابن عمر : «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» والغرغرة : الحشرجة ، وذلك هو حال التلبس بالموت ، وأما قبل ذلك فلا (١).

فعلى قول الزجاج والقرطبي : لا تخصيص لقوم يونس.

٣ ـ احتج أهل السنة بآية : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ...) على قولهم بأن جميع

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٨ / ٣٨٤

٢٧٣

الكائنات بمشيئة الله تعالى ؛ لأن كلمة (لَوْ) تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فقوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ) يقتضي أنه ما حصلت تلك المشيئة ، وما حصل إيمان أهل الأرض بالكلية ، فدل هذا على أنه تعالى ما أراد إيمان الكل (١).

ولقد أوردت في بيان المفردات مذهبي أهل السنة والمعتزلة في تفسير (وَلَوْ شاءَ) هل المشيئة مشيئة القسر والإلجاء ، أم مشيئة الخلق والإرشاد والهداية؟ وفسر القرطبي الآية بقوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) لاضطرهم إليه ، أي إلى الإيمان.

٤ ـ الإكراه في الدين ممنوع ، لقوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) قال ابن عباس : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حريصا على إيمان جميع الناس ؛ فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبقت له السعادة في الذّكر الأول ، ولا يضلّ إلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول.

٥ ـ احتج أهل السنة على قولهم : «أنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع». بقوله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) وجه الاستدلال به : أن الإذن عبارة عن الإطلاق في الفعل ورفع الحرج ، وصريح هذه الآية يدل على أنه قبل حصول هذا المعنى ليس له أن يقدم على هذا الإيمان.

٦ ـ احتج أهل السنة أيضا على قولهم : بأن خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى بقوله تعالى : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) وتقريره أن الرجس هو العمل القبيح ، سواء كان كفرا أو معصية ، فلما ذكر الله تعالى فيما قبل هذه الآية أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى وتخليقه ، ذكر بعده أن

__________________

(١) انظر تفسير الرازي : ١٧ / ١٦٦ ، وكذا ص ١٦٧ للحكم رقم (٥) ، وص ١٦٨ للحكم رقم (٦).

٢٧٤

الرجس لا يحصل إلا بتخليقه وتكوينه ، والرجس الذي يقابل الإيمان ليس إلا الكفر. هذا ما ذكره الرازي.

ويلاحظ أننا فسرنا الرجس بالعذاب ، كما ذهب إليه كثير من المفسرين ، وهو ما قرره أبو علي الفارسي النحوي في أن الرجس يحتمل كون المراد منه العذاب.

فرضية النظر والتفكير وإنذار المهملين

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣))

الإعراب :

(ما ذا) إما استفهام مبتدأ ، وخبره : (فِي السَّماواتِ) ، أو أن الخبر : ذا بمعنى الذي ، والجملة الابتدائية في موضع نصب.

(ثُمَّ نُنَجِّي) معطوف على كلام محذوف يدل عليه قوله : (إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) كأنه قيل : نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا.

(كَذلِكَ) الكاف : صفة مصدر محذوف ، تقديره : ننجي رسلنا ، والذين آمنوا ننجيهم مثل ذلك ، وتصير الجملة : كذلك ننج المؤمنين ، أي مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم ونهلك المشركين.

(حَقًّا عَلَيْنا) اعتراض ، وهو منصوب بفعله المقدر ، أي حق ذلك علينا حقا ، ويجوز أن يكون (حَقًّا) بدلا من (كَذلِكَ). ولا يجوز أن ينصب (كَذلِكَ) و (حَقًّا) ب (نُنَجِّي) ؛ لأن الفعل الواحد لا يعمل في مصدرين ، ولا في حالين ، ولا في استثناءين ، ولا في مفعولين معهما.

٢٧٥

البلاغة :

(ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا) عبر بصيغة المضارع عن الماضي ، لتهويل الأمر ، باستحضار صورة ذلك الماضي.

المفردات اللغوية :

(قُلِ) يا محمد لكفار مكة وغيرهم. (انْظُرُوا) تفكروا (ما ذا) أي الذي. (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من عجائب صنعه ليدلكم على وحدته وكمال قدرته. وإن جعلت (ما ذا) استفهامية علقت (انْظُرُوا) عن العمل. (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) في علم الله وحكمته. وما : نافية أو استفهامية في موضع النصب. (مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم أي مثل وقائعهم من نزول العذاب بهم ؛ إذ لا يستحقون غيرها. مأخوذ من قولهم : أيام العرب أي وقائعها. (فَانْتَظِرُوا) ذلك.

(ثُمَّ نُنَجِّي) المضارع لحكاية الحال الماضي. (رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) من العذاب.

(كَذلِكَ) الإنجاء. (حَقًّا عَلَيْنا) اعتراض. (نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) أي كذلك الإنجاء ننج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حين تعذيب المشركين.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى في الآيات السالفة أن الإيمان لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته ، أمر بالنظر والاستدلال في الأدلة ، حتى لا يتوهم أن الحق هو الجبر المحض ، فقال: (انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فعلى كل عاقل التمييز بين الخير والشر ، وما على الرسول إلا التبشير والإنذار ، وما الدين إلا مساعد للعقل على حسن الاختيار.

التفسير والبيان :

يأمر الله تعالى عباده بالتفكر في خلق السموات والأرض وما فيهما من الآيات الباهرة ذات النظام البديع ، كالكواكب النيرة من ثوابت وسيارات ، والشمس والقمر ، والليل والنهار واختلافهما ، وتعاقبهما طولا وقصرا ، وارتفاع السماء واتساعها وحسنها وزينتها ، وما أنزل الله منها من مطر ، فأخرج به أنواع

٢٧٦

الثمار والزروع والأزاهير وصنوف النبات ، وما ذرأ في الأرض من دواب برية وبحرية مختلفة الأشكال والألوان والمنافع ، وما فيها من جبال وسهول وثروات معدنية ، وما في البحر من العجائب ، وهو مع ذلك مذلل للسالكين ، يحمل سفنهم ، ويجري بها برفق بتسخير العلي القدير العليم الذي لا إله غيره ، ولا رب سواه : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات ٥١ / ٢١ ـ ٢٠].

فالنظر في ذلك يرشد إلى وجود الخالق ، ويدعو إلى التصديق بالرسل ، والإيمان بالقرآن والوحي المخبر عن هذه الآيات العظام.

ولكن ما تغني وما تفيد وما تنفع أي لن تغني هذه الآيات أي الدلالات الكونية والقرآنية والرسل المنذرون أو الإنذارات قوما لا يتوقع إيمانهم كما ذكر في (الكشاف) وهم الذين لا يعقلون ، أي لا ينظرون في تلك الآيات. وقال القرطبي : عمن سبق له في علم الله أنه لا يؤمن. وقيل : ما استفهامية والتقدير : أي شيء تغني.

والمعنى على الاستفهام : أي شيء تغني الآيات السماوية والأرضية والرسل بآياتها وحججها وبراهينها الدالة على صدقها لقوم لا يؤمنون بالله ورسله ، ولم يستخدموا عقولهم فيما خلقت من أجله؟ وقوله : (وَما تُغْنِي ... عَنْ قَوْمٍ) أي لا تفيدهم شيئا ، أو أي شيء تغني الآيات وهي الدلائل ، والظاهر أن (ما) للنفي ، ويجوز أن تكون استفهاما(١).

(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ ..) يحذّر الله المشركين قائلا : فهل ينتظر هؤلاء المكذبون لك يا محمد من النقمة والعذاب إلا مثل وقائع الأمم الماضية المكذبة لرسلهم ، من نزول العذاب بهم؟ وهي وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود

__________________

(١) البحر المحيط : ٥ / ١٩٤

٢٧٧

وغيرهم. والأيام هنا بمعنى الوقائع ، يقال : فلان عالم بأيام العرب أي بوقائعهم ، والعرب تسمي العذاب أياما والنعم أياما ؛ كقوله تعالى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) [إبراهيم ١٤ / ٥] ، وكل ما مضى لك من خير أو شر فهو أيام.

(قُلْ : فَانْتَظِرُوا ..) قل أيها الرسول لهم منذرا مهددا موعدا : انتظروا عذاب الله وعقابه ، إني من المنتظرين هلاككم ، أو فانتظروا هلاكي ، إني معكم من المنتظرين هلاككم ، أو من المنتظرين موعد ربي.

(ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا ..) أي إن حكمنا المتبع وسنتنا السائدة أنه إذا وقع العذاب إنجاء رسلنا والمؤمنين معهم ، وإهلاك المكذبين.

(كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا ...) أي مثل هذا الإنجاء للرسل السابقين ومن آمن معهم ، ننجي المؤمنين معك أيها الرسول ، ونهلك المكذبين بالرسل. وهذا حق أوجبه الله تعالى على نفسه الكريمة ، كقوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام ٦ / ٥٤] وكما جاء

في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله كتب كتابا ، فهو عنده فوق العرش ، إن رحمتي سبقت غضبي».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ وجوب النظر في الدلائل السماوية والأرضية للاهتداء بها إلى معرفة الخالق ، فلا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلا بالتدبر في الدلائل ، كما قال عليه الصلاة والسلام : «تفكروا في الخلق ، ولا تفكّروا في الخالق ، فإنكم لا تقدرون قدره» (١).

__________________

(١) رواه أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن ابن عباس ، وهو حديث صحيح.

٢٧٨

فعلى الناس الاعتبار والنظر في المصنوعات الدالة على الصانع والقادر على الكمال.

٢ ـ وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم عبرة وعظة للمكذبين الرسل.

٣ ـ سنة الله تعالى عند إيقاع العذاب الشامل إنجاء الرسل والمؤمنين معهم ، وإهلاك الكافرين الضالين المكذبين. وهذا الاصطفاء والتمييز عدل من الله ورحمة.

إخلاص العبادة لله تعالى ونبذ الشرك

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧))

الإعراب :

(وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ) حذف حرف الجر من (إِنْ) أمر مطرد ، مثل «أنّ» وقد يكون الحذف غير مطرد ، فيقال : أمرتك الخير ، (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [الحجر ١٥ / ٩٤].

(وَأَنْ أَقِمْ) عطف على (أَنْ أَكُونَ) لكن المعطوف محكي بصيغة الأمر ، ولا ضير في ذلك لأن المقصود هو الوصل بما يتضمن معنى المصدر ، ولا فرق في الأفعال كلها ، سواء الخبر منها والطلب ، والمعنى : وأمرت بالاستقامة في الدين بأداء الفرائض ، والانتهاء عن القبائح ، وقد سوغ سيبويه أن توصل (أَنْ) بالأمر والنهي ، لأن الغرض وصلها بما تكون معه في معنى المصدر.

٢٧٩

(حَنِيفاً) حال من (لِلدِّينِ) أو من الوجه (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) معطوف على قوله : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). (فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر عن تبعة الدعاء.

البلاغة :

(ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) بينهما طباق.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ .. وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) بين الجملتين مقابلة.

(فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) إظهار الفضل في موضع الضمير للدلالة على أنه متفضل بما يريد لهم من الخير ، لا استحقاق لهم عليه.

المفردات اللغوية :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب لأهل مكة وغيرهم. (فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) أي في صحته وأنه حق (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره وهو الأصنام ، لشككم فيه. (يَتَوَفَّاكُمْ) يقبض أرواحكم ، والمعنى كما ذكر البيضاوي : هذا خلاصة ديني اعتقادا وعملا ، فاعرضوها على العقل الصرف ، وانظروا إليها بعين الإنصاف ، لتعلموا صحتها : وهو أني لا أعبد ما تختلقونه وتعبدونه ، ولكن أعبد خالقكم الذي هو يوجدكم ويتوفاكم. وإنما خص التوفي بالذكر للتهديد. (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي وأمرت بأن أكون من المصدقين بما دل عليه العقل ونطق به الوحي.

(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) أي وبأن أستقيم في الدين بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح. (حَنِيفاً) مائلا عن الشرك وتوابعه إلى الدين الحق. (ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) بنفسه إن. دعوته أو خذلته ، فلا ينفعك إن دعوته ، ولا يضرك إن لم تعبده. (فَإِنْ فَعَلْتَ) فإن دعوته وفعلت ذلك افتراضا.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ) يصبك. (بِضُرٍّ) أي سوء من مرض أو ألم أو فقر. (فَلا كاشِفَ) رافع. (فَلا رَادَّ) فلا دافع لفضله الذي أرادك به. قال البيضاوي : ولعله ذكر الإرادة مع الخير ، والمس مع الضر ، مع تلازم الأمرين ، للتنبيه على أن الخير مراد بالذات ، وأن الضر إنما مسهم لا بالقصد الأول. (يُصِيبُ بِهِ) أي بالخير. (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي فتعرضوا لرحمته بالطاعة ، ولا تيأسوا من غفرانه بالمعصية.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى الأدلة على صحة الدين ووحدانية الخالق وصدق

٢٨٠