التفسير المنير - ج ١١

الدكتور وهبة الزحيلي

لا تَخَفْ ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى. وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا ، إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ ، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) [طه ٢٠ / ٦٧ ـ ٦٩].

(فَلَمَّا أَلْقَوْا ..) أي فلما ألقوا ما عندهم من الحبال والعصي قال موسى واثقا غير مبال بهم : ما أتيتم به هو السّحر بعينه ، لا ما سمّاه فرعون سحرا مما جئت به من الآيات والمعجزات من عند الله. وهذا السّحر الذي أظهر تموه إن الله سيمحقه وسيظهر بطلانه قطعا أمام الناس ، بما يفوقه من المعجزة التي هي آية خارقة للعادة تفوق السّحر وأشكاله المختلفة.

ثم علل ذلك بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) أي لا يثبّته ولا يقويه ، ولا يجعله صالحا للبقاء ، (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي ويريد الله أن يؤيّد الحقّ ويظهره ، ويثبته ويقويه ، وينصره على الباطل بأوامره ووعده موسى ، وقيل : بما سبق من قضائه وقدره. (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) أي ولو كره المجرمون الظالمون كفرعون وملئه ذلك ، أي نصر الحقّ على الباطل. وفي آية أخرى : (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف ٧ / ١١٨] ، وقوله تعالى : (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ ، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) [طه ٢٠ / ٦٩].

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه مبارزة بين الحقّ والباطل ، بين المعجزة والسّحر ، فالمعجزة آية إلهية خارقة للعادة يؤيّد الله بها صدق الأنبياء لإقناع الناس وتصديق دعوتهم. وأمّا السّحر فهو إفساد وتمويه وتزييف لا حقيقة له ، فلم يستطع الصمود أمام الشيء الحقيقي الثابت الذي لا تمويه فيه.

وهذا المعنى هو ما تضمنته آية : (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) أي لا يضرّ أحدا كيد ساحر. لذا قال العلماء : لا تكتب على مسحور إلا دفع الله عنه السحر.

٢٤١

وكان في خطة موسى عليه‌السلام بأن يبدأ السّحرة أولا بالإلقاء براعة وثقة بما لديه من المعجزة وعدم اكتراث بالسّحرة ، فإنّ كل ما فعلوه من لفت أنظار الناس وإخافتهم حينما ألقوا حبالهم وعصيهم ، محق وأبطل بإلقاء العصا التي انقلبت ثعبانا عظيما التهم جميع الحبال والعصي ، وصدق فيما أعلنه قبل المبارزة : (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ، إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ).

وحينئذ أدرك السّحرة خسارتهم ، وعرفوا أنّ فعل موسى ليس من قبيل السّحر ، فهم أعرف الناس بفنونه ، فلم يعاندوا ، وشرح الله صدورهم للإيمان ، واستيقظ فيهم عنصر العقل والتّفكير ، ولم يرهبهم تهديد فرعون ، فأعلنوا إيمانهم بربّ موسى وهارون ، فأسقط في أيدي فرعون وملئه ، وخابوا وخسروا ، واستوجبوا نار جهنم بإصرارهم على الكفر.

والخلاصة المستنبطة من هذه الآية : أن السّحر تمويه وزيف باطل ، والله تعالى يحقّ الحقّ ويبطل الباطل ، ولو كره المجرمون ، أي الفجرة الكافرون.

ـ ٣ ـ

إيمان طائفة من بني إسرائيل بدعوة موسى

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً

٢٤٢

وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧))

الإعراب :

(مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) جمع الضّمير في ملئهم لخمسة أوجه :

الأول ـ جمع الضمير على ما هو المعتاد في ضمير العظماء ، فيقول الواحد منهم : نحن فعلنا ، ومنه قوله : (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) ، وكان فرعون جبارا فأخبر عنه بفعل الجميع.

الثاني ـ جمع الضمير على أن المراد بفرعون آله ، كما يقال : ربيعة ومضر ، ويكون في الكلام حذف مضاف ، تقديره : على خوف من آل فرعون.

الثالث ـ جمع لأنه ذو أصحاب يأتمرون به.

الرابع ـ أن جمع الضمير يعود على الذّرية التي تقدم ذكرها.

الخامس ـ أنه يعود على القوم الذين تقدم ذكرهم.

(أَنْ يَفْتِنَهُمْ) بدل مجرور من (فِرْعَوْنَ) بدل اشتمال.

(أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) اللام مقحمة ، وجعل تبوأا متعديا مثل بوّأ ، يقال : بوّأته وتبوّأته ، كقولهم : علقته وتعلقته.

المفردات اللغوية :

(ذُرِّيَّةٌ) طائفة من شبّانهم ، والذّرية في أصل اللغة : صغار الأولاد ، وتستعمل عرفا في الصّغار والكبار. (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) أي مع خوف منهم ، والضّمير لفرعون (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) الفتنة في اللغة : الاختبار والابتلاء بالشّدائد ، والمراد هنا التّعذيب ، أي أن يعذّبهم فرعون ويصرفهم بالتّعذيب عن دينهم. وإفراده بالضّمير للدّلالة على أن الخوف من الملأ كان بسببه. (إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ) متكبّر قوي فتّاك. (فِي الْأَرْضِ) أرض مصر. (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) المتجاوزين الحدّ بادّعاء الرّبوبية واسترقاق أسباط الأنبياء.

(فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) فثقوا به واعتمدوا عليه. (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) مستسلمين لقضاء الله ، مخلصين له ، مذعنين لأمره. (فَقالُوا : عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) لأنهم كانوا مؤمنين مخلصين. (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً) موضع فتنة. (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي لا تظهرهم علينا ، فيظنّوا أنهم على الحقّ فيفتتنوا بنا ، أولا تسلّطهم علينا فيفتنونا. (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي من كيدهم

٢٤٣

وشؤم مشاهدتهم. وفي تقديم التّوكل على الدّعاء تنبيه على أن الدّاعي ينبغي أن يتوكّل أولا لتجاب دعوته.

(أَنْ تَبَوَّءا) اتّخذا مباءة ومسكنا يسكنون فيها أو يرجعون إليها للعبادة. (وَاجْعَلُوا) أنتما وقومكما. (بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) مصلّى أو مساجد تصلّون فيها لتأمنوا من الخوف ، وكان فرعون منعهم من الصّلاة. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أتّموها فيها حتى لا يؤذيهم الكفرة ويفتنوهم عن دينهم. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالنّصر في الدّنيا والجنّة في الآخرة.

وإنما ثنّى ضمير (تَبَوَّءا) أولا ؛ لأن التبوء للقوم واتّخاذ المعابد مما يتعاطاه رؤوس القوم بتشاور ، ثم جمع في قوله : (وَاجْعَلُوا) لأن جعل البيوت مساجد والصّلاة فيها مما ينبغي أن يفعله كل أحد ، ثم أفرد بقوله : (وَبَشِّرِ) لأن البشارة في الأصل وظيفة صاحب الشّريعة.

المناسبة :

أبان الله تعالى أنه بالرّغم من مشاهدة المعجزات الباهرة على يد موسى عليه‌السلام ، فإنه لم يؤمن به من بني إسرائيل إلا طائفة من شبّان قومه ، توطئة لإخراجهم من أرض مصر. وفي ذلك تسلية للنّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه كان يغتم بسبب إعراض القوم عنه واستمرارهم على الكفر ، فله بسائر الأنبياء أسوة.

التفسير والبيان :

هذا هو الفصل الثالث من قصة موسى عليه‌السلام.

يخبر الله تعالى أنه لم يؤمن بموسى عليه‌السلام في أول أمره ، مع ما جاء به من الآيات البيّنات والحجج القاطعات ، إلا قليل من قومه بني إسرائيل ، وهم طائفة من الشباب ، على وجل وخوف من فرعون وملئه أن يردوهم إلى ما كانوا عليه من الكفر ؛ لأن فرعون كان جبارا عنيدا ، مسرفا في التّمرد والعتوّ متجاوزا الحدّ في الظلم والفساد ، شديد البطش والفتك ، حتى إنه ادّعى الرّبوبية واسترقّ أسباط الأنبياء ، وكانت له سطوة ومهابة تخاف رعيته منه خوفا شديد. فالضمير في

٢٤٤

(قَوْمِهِ) عائد إلى بني إسرائيل قوم موسى ، لأن الضمير يعود إلى أقرب المذكورين. وهذا قول مجاهد.

وقيل : الضمير في (قَوْمِهِ) لفرعون ، والذّرّية : مؤمن آل فرعون ، وآسية امرأته ، وخازنه ، وامرأة خازنه ، وماشطته. وهذا قول ابن عباس.

وضمير (مَلَائِهِمْ) يعود إلى فرعون بمعنى آل فرعون ، أو على ما هو المعتاد في ضمير العظماء.

والذّرّية : أولاد الذين أرسل إليهم موسى.

(وَقالَ مُوسى : يا قَوْمِ ، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ ..) أي وقال موسى لمن آمن من قومه وقد رأى خوفهم من الاضطهاد والتّعذيب : إن كنتم آمنتم أي صدّقتم بالله وبآياته حقّ الإيمان ، فعليه توكّلوا واعتمدوا ، وبه ثقوا ، واطمئنوا لوعده ، إن كنتم مسلمين أي إن كنتم مستسلمين لقضاء الله ، مذعنين مخلصين له ؛ إذ لا يكون الإيمان كاملا إلا إذا صدّقه العمل وهو الإسلام ، فالمعلّق بالإيمان وجوب التّوكل ، فإنه المقتضي له ، ثم شرط في التّوكل الإسلام : وهو أن يسلموا نفوسهم لله بأن يجعلوها له سالمة خالصة ، لا حظّ للشيطان فيها ، وذلك بأن يعملوا بالأحكام ؛ لأن التوكل الصحيح لا يكون مع خلطه بغيره. والخلاصة : أن الإيمان : عبارة عن صيرورة القلب عارفا بأن واجب الوجود لذاته واحد ، وأن ما سواه محدث مخلوق تحت تدبيره وقهره وتصرفه. والإسلام : هو الانقياد للتّكاليف الصادرة عن الله تعالى ، وإظهار الخضوع وترك التّمرد.

فقالوا على الفور ممتثلين أمره لأنهم كانوا مؤمنين مخلصين : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) وبه وحده استعنا على أعدائنا ، ثم دعوا ربّهم قائلين : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي بأن تنصرهم علينا وتسلطهم علينا فيفتتن الناس ،

٢٤٥

ويقولون : لو كان هؤلاء على حقّ لما هزموا أمام فرعون وظلمه ، أو موضع فتنة لهم أي عذاب بأن يفتنونا عن ديننا (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي خلّصنا برحمتك وإحسانك وعفوك من تسلّط الكافرين بك ، الظالمين الطّغاة ، الذين كفروا الحقّ وستروه ، ونحن قد آمنّا بك وتوكّلنا عليك.

وقد دعوا بهذا الدّعاء ؛ لأن التّوكل على الله هو أعظم علامات الإيمان لا يكمل إلا بالصّبر على الشّدائد ، والدّعاء لا يستجاب إلا مع الطاعة واتّخاذ الأسباب ، قال تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق ٦٥ / ٣] ، وكثيرا ما يقرن الله بين العبادة والتّوكل كقوله : (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود ١١ / ١٢٣] ، وقوله تعالى : (قُلْ : هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) [الملك ٦٧ / ٢٩] ، وقوله تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [المزمل ٧٣ / ٩]. وأمر الله تعالى المؤمنين أن يكرروا في صلواتهم : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة ١ / ٥].

ثم ذكر الله تعالى سبب إنجائه بني إسرائيل من فرعون وقومه ، وكيفية خلاصهم منهم ، فقال : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ ..) أي أمرنا موسى وأخاه هارون عليهما‌السلام أن يتبوأ أي يتّخذا لقومهما بمصر بيوتا تكون مساكن للاعتصام فيها ، والأصح أن تكون مساجد وليست منازل مسكونة في رأي أكثر المفسّرين.

وأمرهما مع قومهما أن يجعلوا البيوت مساجد متّجهة نحو القبلة ، بأن يصلّوا في بيوتهم ؛ لأنهم كانوا خائفين. وقال قتادة والضّحّاك وسعيد بن جبير : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي يقابل بعضها بعضا. قال القرطبي : والقول الأول أصح ؛ أي اجعلوا مساجدكم إلى القبلة باتّجاه بيت المقدس ، وهو قبلة اليهود إلى اليوم.

٢٤٦

وأن يقيموا الصّلاة في تلك البيوت أي يتموها. وقد أمروا بذلك أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة ، فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم.

وبشّر يا موسى المؤمنين بالحفظ والنّصر على عدوّهم في الدّنيا ، والجنة في العقبى.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يأتي :

١ ـ بالرّغم من المعجزات العظيمة لموسى عليه‌السلام وانتصاره على السّحرة بتلقف العصا لكل ما أحضروه من آلات السّحر ، فإنه لم يؤمن به من قومه إلا طائفة قليلة من أولاد بني إسرائيل ، فإنه لطول الزّمان هلك الآباء وبقي الأبناء ، فآمنوا. وقيل : كانت الطائفة من قوم فرعون ، منهم مؤمن آل فرعون ، وخازن فرعون ، وامرأته ، وماشطة ابنته ، وامرأة خازنه.

وكان إيمانهم على خوف من فرعون ؛ لأنه كان مسلّطا عليهم ، عاتيا متكبّرا ، مجاوزا الحدّ في الكفر ؛ لأنه كان عبدا فادّعى الرّبوبية.

٢ ـ أراد موسى عليه‌السلام الاستيثاق من إيمان تلك الطائفة ، فقال لهم : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ) أي صدّقتم بالله وبرسالتي ، فتوكّلوا على الله وحده ، أي اعتمدوا عليه ، إن كنتم مسلمين ، كرر الشّرط تأكيدا ، أو أن الإسلام هو العمل ، وبيّن موسى أن كمال الإيمان بتفويض الأمر إلى الله.

فأجابوا بأنّا توكّلنا على الله ، أي أسلمنا أمورنا إليه ، ورضينا بقضائه وقدره ، وانتهينا إلى أمره.

ودعوا الله بألا ينصر الظالمين عليهم ، فيكون ذلك فتنة لهم في الدّين ، أو

٢٤٧

لا يمتحنهم بأن يعذّبوا على أيديهم ، وأن ينجيهم ويخلّصهم من الكافرين ، أي من فرعون وقومه ؛ لأنهم كانوا يأخذونهم بالأعمال الشاقة.

٣ ـ اتّخاذ البيوت في فترة ما مساجد ، حتى لا يؤذي فرعون المصلّين ؛ لأن بني إسرائيل كانوا لا يصلّون إلا في مساجدهم وكنائسهم ، فخرّبها فرعون ومنعهم من الصّلاة ، فأوحى الله إلى موسى وهارون : أن اتّخذا وتخيّرا لبني إسرائيل بيوتا بمصر ، أي مساجد متّجهة نحو القبلة ، ولم يرد في رأي أكثر المفسّرين المنازل المسكونة ، وإنما أراد الاتّجاه إلى بيت المقدس.

وهذا يدلّ على أن القبلة في الصّلاة كانت شرعا لموسى عليه‌السلام.

واستنبط العلماء من جواز أداء الصّلاة في البيوت : أن المعذور بالخوف وغيره يجوز له ترك الجماعة والجمعة ، والعذر الذي يبيح له ذلك كالمرض المانع من التّنقل ، أو خوف زيادته ، أو خوف جور السّلطان في مال أو بدن ، دون القضاء عليه بحقّ. والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع ، ومن له ولي حميم قد حضرته الوفاة ولم يكن عنده من يمرّضه عذر أيضا ، وقد فعل ذلك ابن عمر.

وأثير بهذه المناسبة خلاف في أداء صلاة التراويح (قيام رمضان) هل إيقاعه في البيت أفضل أو في المسجد؟ فذهب مالك وأبو يوسف وبعض الشّافعية إلى أنه في البيت أفضل لمن قوي عليه ، لما أخرجه البخاري : «فعليكم بالصّلاة في بيوتكم ، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة».

وقال أكثر الأئمة : إن حضورها في الجماعة أفضل ؛ لأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صلّاها في الجماعة في المسجد ، ثم أخبر بالمانع الذي منع منه على الدّوام على ذلك ، وهو خشية أن تفرض عليهم ، فلذلك قال : «فعليكم بالصّلاة في بيوتكم». ثم إن الصحابة كانوا يصلّونها في المسجد فرادى متفرّقين ، إلى أن جمعهم عمر على قارئ واحد ، فاستقرّ الأمر على ذلك ، وثبت سنّة.

٢٤٨

٤ ـ إن أداء الصّلاة في البيوت التي أمر الله بني إسرائيل فيها خوفا من أذى الأعداء أمر مشروع لا شكّ فيه. وكذلك تكتل الفئات القليلة في مواجهة طغيان الظالمين كفرعون أمر مطلوب سياسة ، إذا جرينا على القول بأن البيوت هي مساكن للاعتصام فيها ، لأن ذلك أدى إلى نجاة بني إسرائيل من ظلم فرعون.

٥ ـ دلّ إيمان الطائفة القليلة برسالة موسى عليه‌السلام وتقديمهم في دعائهم عدم الفتنة على النّجاة على أن اهتمامهم بأمر دينهم كان فوق اهتمامهم بأمر دنياهم ، فإنهم قالوا أولا : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ، ثم قالوا : (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ) (الْكافِرِينَ). فهذا الترتيب يدلّ على تفضيلهم أمر الدّين على أمر الدّنيا.

ـ ٤ ـ

دعاء موسى على فرعون وملئه

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩))

الإعراب :

(لِيُضِلُّوا) اللام للعاقبة وهي متعلقة ب (آتَيْتَ) ، ويحتمل أن تكون للعلة ؛ لأن إيتاء النّعم على الكفر استدراج وتثبيت على الضّلال.

(فَلا يُؤْمِنُوا) إما منصوب أو مجزوم ، الجزم : على أنه دعاء عليهم. والنّصب : إما لأنه معطوف على (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) ، أو على جواب الدّعاء أو جواب الأمر بالفاء بتقدير أن.

٢٤٩

(وَلا تَتَّبِعانِ) بالتّشديد ، أي أنه نهى بعد أمر. ومن قرأ بتخفيف النون ، كان في موضع نصب على الحال ، أي استقيما غير متبعين ، فتكون لا نافية ، لا ناهية.

البلاغة :

(رَبَّنَا اطْمِسْ) أمر أريد به الدّعاء بما علم من ممارسة أحوالهم أنه لا يكون غيره ، كقولك : لعن الله إبليس ، وتكرار (رَبَّنا لِيُضِلُّوا) للتّأكيد والتّنبيه على أن المقصود عرض ضلالاتهم وكفرانهم ، تقدمة لقوله تعالى : (رَبَّنَا اطْمِسْ).

(وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) استعارة لتغليظ العقاب ومضاعفته.

(فَلا يُؤْمِنُوا) جواب للدّعاء ، أو دعاء بلفظ النّهي ، أو عطف على : (لِيُضِلُّوا) وما بينهما دعاء معترض.

المفردات اللغوية :

(زِينَةً) ما يتزيّن به من الملابس والمراكب ونحوهما ، وأصل الزينة في اللغة : ما يتزين به من الحلي واللباس والأثاث والأموال والصحة ونحوها. (لِيُضِلُّوا) في عاقبته ، واللام لام العاقبة أي الصيرورة. (عَنْ سَبِيلِكَ) دينك. (اطْمِسْ) أي أهلكها وأزلها ، والطّمس : المحق وإزالة الأثر. (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي وأقسها واطبع عليها واستوثق حتى لا يدخلها الإيمان. فقوله تعالى : (رَبَّنا لِيُضِلُّوا) ، وقوله تعالى : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ) دعاء بلفظ الأمر. وقوله تعالى : (فَلا يُؤْمِنُوا) جواب للدّعاء أو دعاء بلفظ النّهي ، أو عطف على (لِيُضِلُّوا) وما بينهما دعاء معترض. (الْأَلِيمَ) المؤلم.

(قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) أي موسى وهارون ، روي أن موسى كان يدعو ، وهارون يؤمّن. (فَاسْتَقِيما) فاثبتا على ما أنتما عليه من الدّعوة وإلزام الحجة ، ولا تستعجلا ، فإن ما طلبتما كائن ، ولكن في وقته ، روي أنه مكث فيهم بعد الدعاء أربعين سنة. (سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) طريق الجهلة في الاستعجال ، أو عدم الوثوق والاطمئنان بوعد الله تعالى.

المناسبة :

لما بالغ موسى في إظهار المعجزات القاهرة الدّالة على نبوّته ، ورأى القوم : فرعون وملأه مصرّين على الجحود والعناد والإنكار ، دعا عليهم بعد أن ذكر سبب

٢٥٠

إقدامهم على تلك الجرائم وهو حبّهم الدّنيا وبسطة النّعيم التي أبطرتهم فتركوا الدّين ، لهذا قال موسى : (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً).

قال ابن كثير : هذه الدّعوة كانت من موسى عليه‌السلام غضبا لله ولدينه على فرعون وملئه الذين تبيّن له أنهم لا خير فيهم ، ولا يجيء منهم شيء ، كما دعا نوح عليه‌السلام ، فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ ، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [نوح ٧١ / ٢٦ ـ ٢٧] ولهذا استجاب الله تعالى لموسى عليه‌السلام فيهم هذه الدّعوة التي أمّن عليها أخوه هارون ، فقال تعالى : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما).

قال أبو العالية : دعا موسى وأمّن هارون ؛ فسمّي هارون وقد أمّن على الدّعاء داعيا.

التفسير والبيان :

هذا هو الفصل الرابع من قصة موسى مع فرعون ، بعد وجود فاصل استطرادي للإخبار بإيمان طائفة بموسى عليه‌السلام ، فبعد أن أبى فرعون وملؤه قبول دعوة الحقّ من موسىعليه‌السلام ، واستمرّوا على ضلالهم وكفرهم معاندين عتاة متكبّرين ، وبعد أن أعدّ موسى قومه بني إسرائيل للخروج من مصر ، وغرس في قلوبهم الإيمان وإيثار العزّة والكرامة ، بعد ذلك دعا ربّه مبيّنا سبب الدّعاء فقال : (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً ..) أي أعطيتهم من الدّنيا والنّعمة ما أبطرهم ، وهو الزّينة الشّاملة من حلي ولباس وأثاث ورياش وأموال كثيرة ومتاع الدّنيا ونحوها من الزّروع والأنعام ، وأدّى النعيم بهم أن تكون عاقبة أمرهم إضلال عبادك عن الدّين ، والطّغيان في الأرض ، كما قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق ٩٦ / ٦ ـ ٧] ، ويشهد لما ذكر ما يوجد في قبور الفراعنة والآثار المصرية من الذهب والفضة والحلي والتّحف ، وما بنوه من

٢٥١

القصور والقبور والتّماثيل الدّالة على رقي المدنية والحضارة.

فقوله تعالى : (لِيُضِلُّوا) اللام لام العاقبة أو الصّيرورة ، كقوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص ٢٨ / ٨] ، فكانت عاقبة قوم فرعون هو الضلال. ويحتمل أن تكون اللام لام التعليل ، لكن بحسب ظاهر الأمر لا في الحقيقة نفسها ، بمعنى أنه تعالى لما أعطاهم هذه الأموال ، وصارت تلك الأموال سببا لمزيد البغي والكفر ، أشبهت هذه الحالة حالة من أعطي المال لأجل الإضلال ، فورد هذا الكلام بلفظ التعليل لأجل هذا المعنى.

(رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ ..) أي ربّنا أمحق وأزل آثارها وأهلكها ، واختم على قلوبهم وأقسها حتى لا تنشرح للإيمان ، فيستحقوا شديد العقاب ، ولا يؤمنوا حتى يشاهدوا العذاب المؤلم الموجع.

ولما دعا موسى بهذا الدّعاء وكان هارون أخوه يؤمّن على دعائه ، قال تعالى : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) أي استجبنا دعاءكما وقبلناه كما سألتما من تدمير آل فرعون ، فاستقيما ، أي فاثبتا على ما أنتما عليه من الدّعوة إلى الحقّ ، وإلزام الحجة ، ولا تستعجلا الأمر قبل ميقاته ، فإن ما طلبتما كائن ولكن في وقته ، ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ، أي طريق الجهلة في الاستعجال أو عدم الوثوق والاطمئنان بوعد الله تعالى. ولا يعني هذا النّهي أن مقتضاه صدر من موسى وهارون عليهما‌السلام ، كما أنّ قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزّمر ٣٩ / ٦٥] لا يدلّ على صدور الشّرك منه.

قال ابن جريج : يقولون : إن فرعون مكث بعد هذه الدّعوة أربعين سنة. وقال محمد بن كعب وعلي بن الحسين : أربعين يوما.

٢٥٢

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن دعاء موسى وهارون كدعاء نوح عليهم‌السلام لم يكن إلا بعد اليأس من إيمان القوم ، بعد طول العهد من النّبي موسى بالدّعوة إلى الدّين الحقّ ، وملازمة قومه حال الكفر وإصرارهم عليه ، وبعد نفاد الصّبر منه.

وكل ذلك لم يتم إلا بعد إذن من الله ؛ لأن مهمة الرّسل استدعاء إيمان قومهم ، ولا يجوز أن يدعو نبي على قومه إلا بإذن من الله ، وإعلام أنه ليس فيهم من يؤمن ، ولا يخرج من أصلابهم من يؤمن ؛ بدليل قوله تعالى لنوح عليه‌السلام : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود ١١ / ٣٦] ، وعند ذلك قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح ٧١ / ٢٦].

٢ ـ احتجّ بهذه الآية من يقول : إن تأمين المأموم على قراءة الفاتحة ينزل منزلة قراءتها ؛ لأن موسى دعا ، وهارون أمّن.

والتأمين على الدّعاء : أن يقول : آمين ، فقولك : آمين دعاء ، أي يا ربّ استجب لي.

٣ ـ إن إجابة الدّعوات لها أوقات مخصوصة في علم الله وتقديره ، وليس ذلك بحسب مراد العبد الدّاعي ، وإنما بحسب مراد الله تعالى ، وإن تعجّل الإجابة جهل لا يليق مع الأدب مع الله تعالى ، وهو أيضا شكّ في الثّقة بوعد الله تعالى بإجابة دعاء الداعي إذا دعاه ، لهذا قال تعالى لموسى وهارون عليهما‌السلام : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما ، وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي لا تسلكا طريق من لا يعلم حقيقة وعدي ووعيدي.

٢٥٣

ـ ٥ ـ

إغراق فرعون وجنوده وإنجاء بني إسرائيل

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣))

الإعراب :

(بَغْياً وَعَدْواً) مفعول لأجله.

(بِبَدَنِكَ) في موضع الحال ، أي ببدنك عاريا عن الروح.

البلاغة :

(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) استفهام توبيخ وإنكار.

(بَوَّأْنا ... مُبَوَّأَ) بينهما جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(وَجاوَزْنا) أي جوزناهم في البحر حتى بلغوا الشط حافظين لهم. يقال : جاز المكان وجاوزه وتجاوزه : إذا قطعه حتى تركه وراءه. (فَأَتْبَعَهُمْ) لحقهم. (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي المنقادين لأمره ، كرر ذلك ليقبل منه فلم يقبل ، وقال جبريل له : (آلْآنَ) تؤمن ، أي أتؤمن

٢٥٤

الآن ، وقد أيست من نفسك ولم يبق لك اختيار. (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) قبل ذلك مدة عمرك. (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) الضالين المضلين عن الإيمان.

(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) نلقيك على نجوة (مكان مرتفع) من الأرض ليراك بنو إسرائيل ، أو لا نغرقك في قعر البحر ونجعلك طافيا. (بِبَدَنِكَ) جسدك الذي لا روح فيه. (لِمَنْ خَلْفَكَ) بعدك وهم بنو إسرائيل. (آيَةً) عبرة وعظة ، فيعرفوا عبوديتك ولا يقدموا على مثل فعلك. روي عن ابن عباس : أن بعض بني إسرائيل شكّوا في موته ، فأخرج لهم ليروه. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) أي أهل مكة وغيرهم. (عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها.

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا) أنزلنا. (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) منزل كرامة أو منزلا صالحا مرضيا وهو الشام ومصر. (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) من اللذائذ. (فَمَا اخْتَلَفُوا) في أمر دينهم ، بأن آمن بعض وكفر بعض ، إلا من بعد ما قرءوا التوراة وعلموا أحكامها ، أو اختلفوا في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من بعد ما علموا صدقه بنعوته وتظاهر معجزاته. (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين ، بإنجاء المؤمنين وتعذيب الكافرين ، فيميز المحق من المبطل بالإنجاء والإهلاك.

المناسبة :

هذا هو الفصل الخامس من قصة موسى مع فرعون التي ابتدأها الله تعالى بالحوار بينهما ، ثم أتبعها بقصة السحرة ، ثم استطرد في أثنائها لبيان إيمان طائفة من بني إسرائيل بدعوة موسى ، استعدادا للخروج من مصر ، ثم ذكر دعاء موسى على فرعون وملئه.

ولما أجاب الله تعالى دعاء موسى وهارون ، أمر بني إسرائيل بالخروج من مصر في الوقت المعلوم ويسّر لهم أسبابه ، وفرعون كان غافلا عن ذلك ، فذكر هنا خاتمة القصة الدالة على تأييد الله لموسى وأخيه على ضعفهما ، وقوة فرعون وقومه.

التفسير والبيان :

هذا هو الفصل الخامس من قصة موسى عليه‌السلام.

٢٥٥

وموضوع الآيات كيفية إغراق فرعون وجنوده ، فإن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر مع موسى عليه‌السلام ، وهم فيما قيل : ست مائة ألف مقاتل سوى الذرية ، وقد كانوا استعاروا من القبط حليا كثيرا ، فخرجوا به معهم ، فاشتد حنق فرعون عليهم ، فركب وراءهم مع جنوده وجيوشه الهائلة ، فلحقوهم وقت شروق الشمس عند ساحل البحر (البحر الأحمر ـ بحر السويس) فخاف أصحاب موسى عليه‌السلام ، وإذا ضاق الأمر اتسع ، فأمره الله تعالى أن يضرب البحر بعصاه ، فضربه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ، أي كالجبل العظيم ، وصار اثني عشر طريقا لكل سبط واحد ، وأمر الله الريح فنشفت أرضه ، وجاوزت بنو إسرائيل البحر ، فلما خرج آخرهم منه ، انتهى فرعون وجنوده إلى حافته من الناحية الأخرى ، فلما رأى ذلك هاله وأحجم وهاب وهمّ بالرجوع ، ثم صمّم على المتابعة وقال لأمرائه : ليس بنو إسرائيل بأحق بالبحر منا ، فاقتحموا كلهم عن آخرهم ، ولما أصبحوا في وسط البحر ، أمر الله القدير البحر أن يرتطم عليهم فارتطم عليهم ، فلم ينج منهم أحد ، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم ، وتراكمت الأمواج فوق فرعون ، وغشيته سكرات الموت فقال وهو كذلك : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فآمن حيث لا ينفعه الإيمان ، كقوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا : آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ، سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ ، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) [غافر ٤٠ / ٨٤ ـ ٨٥].

ولهذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) أي أهذا الوقت تؤمن ، وقد عصيت الله قبل هذا؟ (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أي في الأرض من الذين أضلوا الناس.

هذه القصة من أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٥٦

معنى الآيات :

وتجاوزنا ببني إسرائيل البحر بقدرتنا وحفظنا ، فلحقهم فرعون وجنوده ظلما وعدوا ، أي باغين وعادين عليهم ، أو للبغي والعدوان ، والفتك بهم ، أو إعادتهم إلى مصر ليعذبوهم سوء العذاب ويستعبدوهم كما كانوا يفعلون.

فلما أشرف على الغرق ، قال : آمنت بأنه لا إله بحق إلا الله الذي آمنت به بنو إسرائيل ، وأنا من المسلمين أي المنقادين المذعنين لأمره.

وكرر فرعون بهذه العبارة المعنى الواحد ثلاث مرات ، في ثلاث عبارات ، حرصا منه على القبول ، ومع ذلك لم يقبل منه إيمانه حيث أخطأ وقته ، وقاله عند الإكراه والاضطرار ، وحين لم يبق له اختيار قط. ويلاحظ أن المرة الواحدة كانت كافية في حال الاختيار.

فردّ الله تعالى عليه على لسان جبريل ، أو بإلهام من الله تعالى نفسه بقوله : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أي أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق ، وأيست من نفسك ، وقد عصيت الله قبل هذا ، وكنت من الضالين المضلين عن الإيمان ، كقوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا ، وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل ١٦ / ٨٨].

(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ ...) أي فاليوم نرفعك على مكان مرتفع من الأرض ، وننقذك بجسدك الذي لا روح فيه ، أو ببدنك كاملا سويا لم ينقص منه شيء ولم يتغير من الارتماء في قعر البحر ؛ لتكون لبني إسرائيل دليلا أو علامة على موتك وهلاكك وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأنا من أن يغرق ، ولتكون عبرة لمن بعدك من الناس يعتبرون بك ، فينزجرون عن الكفر والفساد في الأرض وادعاء الربوبية.

٢٥٧

وفي هذا دليل على كمال قدرة الله تعالى وعلمه وإرادته.

(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ...) أي وإن أكثر الناس لغافلون عن حججنا وأدلتنا على أن العبادة لله وحده ، فلا يتعظون بها ولا يعتبرون بها ، لعدم تفكرهم في أسبابها ونتائجها. وفي الآية دلالة على ذم الغفلة وعدم التفكر في أسباب الحوادث وعواقبها.

وقد كان هلاكهم يوم عاشوراء من شهر المحرم ، كما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال : قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء ، فقال : «ما هذا اليوم الذي تصومونه؟» فقالوا : هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «أنتم أحق بموسى منهم ، فصوموه».

ثم أخبر الله تعالى بالمناسبة عما أنعم به على بني إسرائيل من النعم الدينية والدنيوية فقال : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ ...) أي ولقد أنزلنا بني إسرائيل منزلا صالحا مرضيا ، وهو منزلهم سابقا في مصر ، ولاحقا في فلسطين ، ورزقناهم من الطيبات أي اللذائذ المستطابة المباحة فيها ، وأنعمنا عليهم فيها بكثير من الخيرات من الثمار والغلال والأنعام وصيود البر والبحر.

لقد وعدهم الله على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب أرض فلسطين في الماضي ، ولكن لما كفروا بالأنبياء ، وعلى التخصيص عيسى ومحمد عليهما‌السلام ، نزعها الله منهم. فليس لهم أي حق ديني بعدئذ في الاستيطان بأرض فلسطين بعد بغيهم وعدوانهم وكفرهم برسالات الله تعالى.

وللعلماء في تحديد المراد ببني إسرائيل قولان : الأول ـ أنهم اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه‌السلام ، وعلى هذا يكون مبوأ الصدق مصر والشام ، والطيبات منافع تلك البلاد ووراثة بني إسرائيل ما كان تحت أيدي قوم فرعون ، وأن التوراة هي العلم الذي أدى إلى الاختلاف بينهم .. والقول الثاني ـ هم اليهود

٢٥٨

المعاصرون للنبي عليه الصلاة والسلام ، وبه قال جمع عظيم من المفسرين وهم قبائل اليهود في المدينة (قريظة والنضير وبنو قينقاع) ومنزل الصدق : ما بين المدينة والشام ، والطيبات : ما في تلك البلاد من التمور ، والمراد بالعلم : القرآن ، وسماه علما لأنه سبب للعلم على سبيل المجاز ، وكونه سبب الاختلاف : أن اليهود اختلفوا فآمن قوم وبقي آخرون على كفرهم ، فصار نزول القرآن سببا لحدوث انقسام بينهم.

(فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي فما اختلف بنو إسرائيل في أمر دينهم إلا من بعد ما علموا وقرءوا التوراة وعلموا أحكامها ، أو ما اختلفوا في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من بعد ما علموا صدقه بنعوته وتظاهر معجزاته ، وذلك أنهم كانوا قبل بعثة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم مقرين بنبوته ، مجمعين على صحة رسالته ، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا ، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم بالنعت الذي كانوا يجدونه مكتوبا عندهم ، فلما بعث وجاءهم ما عرفوا ، كفروا به ، فكفر به بعضهم حسدا وحبا للرياسة ولجمع المال ، وآمن آخرون.

والخلاصة : إنهم ما اختلفوا في شيء من المسائل جهلا ، وإنما من بعد ما جاءهم العلم ، ولم يكن لهم أن يختلفوا.

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي ...) أي إن ربك يفصل ويحكم بينهم يوم القيامة في شأن ما اختلفوا فيه ، فيميز المحق من المبطل بالإنجاء للمحقين من النار وإدخالهم الجنة ، والإهلاك للمبطلين في عذاب جهنم.

فقه الحياة أو الأحكام :

اشتملت الآيات على الأحكام التالية :

١ ـ قد ينصر الله تعالى الضعفاء أو المستضعفين على الأشداء الأقوياء ، كما

٢٥٩

نصر الله موسى وأخاه هارون على ضعفهما ، على فرعون الجبار وجنوده الأشداء ، إذ كانت دولتهم أقوى دول العالم القديم.

٢ ـ إيمان اليأس لا ينفع ؛ لأنه في وقت الإلجاء والاضطرار والإكراه وفقد عنصر الاختيار وزوال وقت التكليف ، فلم يقبل الله إعلان فرعون الإيمان حينما أشرف على الغرق بمعان ثلاثة يؤكد بعضها بعضا.

قال الرازي : آمن فرعون ثلاث مرات ، أولها قوله : (آمَنْتُ) وثانيها قوله : (لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) وثالثها قوله : (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فما السبب في عدم القبول ، والله تعالى متعال عن أن يلحقه غيظ وحقد ، حتى يقال : إنه لأجل ذلك الحقد لم يقبل منه هذا الإقرار؟ والجواب أنه إنما آمن عند نزول العذاب. والإيمان في هذا الوقت غير مقبول ؛ لأن عند نزول العذاب يصير الحال وقت الإلجاء ، وفي هذه الحال لا تكون التوبة مقبولة ، ولهذا السبب قال تعالى : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا)(١) ٣ ـ كان فرعون عاصيا كافرا عاتيا متكبرا مفسدا في الأرض بالضلال والإضلال ، فاستحق التوبيخ والإنكار والتهكم عليه.

٤ ـ تمّ إنقاذ جثة فرعون من الغرق ، واسمه منپتاح بن رمسيس ١٢٢٥ ق. م ، وهي التي ما تزال موجودة في متحف الآثار المصرية بالقاهرة وشاهدتها بنفسي ، وشاهدت فيها آثار ملوحة ماء البحر البيضاء على عظم الجبهة. ويعدّ هذا الإنقاذ عبرة وعظة لكل من يدعي الربوبية ويكفر بالله ، فهو أحقر من أن يكون ربا ؛ لأن الرب لا يموت. قال المفسرون: إنما نجّى الله بدن فرعون بعد الغرق ؛ لأن قوما اعتقدوا فيه الألوهية ، وزعموا أن مثله

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٧ / ١٥٤

٢٦٠