التفسير المنير - ج ١١

الدكتور وهبة الزحيلي

والمعنى : وقال المشركون : الملائكة بنات الله ، وقالت اليهود : عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله.

(سُبْحانَهُ) تنزه وتقدس الله عن التبني ، والمراد التعجب من كلامهم الباطل ، فإن التبني لا يصح إلا ممن يتصور له الولد ، والله لا والد له ولا ولد.

(هُوَ الْغَنِيُ) علة لتنزيهه ، أي أن الله هو الغني بذاته عن كل ما سواه ، وكل شيء فقير إليه ، ولا حاجة له للولد ، وإن اتخاذ الولد ناشئ عن الحاجة.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ ..) فكيف يكون له ولد مما خلق؟ وكل شيء مملوك له وعبد له ، وهو خالق السموات والأرضين وكل ما فيهما ، لا يشبهه أحد من خلقه ، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه ، بل الكل محتاج إليه ، وكل ما في السموات وما في الأرض له ملكا وخلقا وعبيدا ، وتصريفا ، لا يشاركه في ذلك أحد ، فكيف بالموجد الخالق واهب الحياة وحوائجها يتخذ ولدا موجودا مخلوقا موهوبا له ، محتاجا إليه في كل شيء مادي كالرزق ومعنوي كالإعانة والنصرة والإعزاز؟!.

(إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) أي ليس عندكم دليل على ادعائكم وما تقولونه من الكذب والبهتان.

(أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي أتقولون على الله قولا لا حقيقة له ، وتنسبون إليه تعالى مالا يصح عقلا وواقعا نسبته إليه. وهذا استفهام يراد به التوبيخ والتقريع ، أو الإنكار والوعيد الأكيد ، والتهديد الشديد. قال البيضاوي : وفي هذا دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة ، وأن العقائد لا بد لها من دليل قاطع ، وأن التقليد فيها غير سائغ.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَقالُوا : اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا

٢٢١

لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم ١٩ / ٨٨ ـ ٩٥].

ثم توعد الله تعالى الكاذبين عليه المفترين ، ممن زعم أن له ولدا بأنهم لا يفلحون ، مما يدل على أن هذا المذهب افتراء على الله ونسبة لما لا يليق به إليه : (قُلْ : إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ ...) أي قل لهم أيها الرسول : إن الذين يختلقون على الله الكذب بنسبة الشريك إليه ، أو باتخاذ الولد ، لا يفلحون ولا يفوزون أبدا ، في الدنيا ولا في الآخرة. أما في الدنيا فيستدرجهم ويمتعهم قليلا ، وأما في الآخرة فيضطرهم إلى عذاب غليظ شديد ، كما قال تعالى : (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) أي لهم تمتع في الدنيا قليل لمدة قصيرة (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) ثم بعد الموت يرجعون إلى ربهم بالبعث يوم القيامة ، وما فيه من أهوال الحشر والحساب (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي ثم يلقون الشقاء المؤبد ويعذبون في نار جهنم العذاب الموجع المؤلم الغليظ أي الشديد ، بسبب كفرهم وافترائهم وكذبهم على الله ، فيما ادعوه من الإفك والزور.

وفي هذا دلالة واضحة على الخسارة المحققة للكافرين ، فإن ما يتوهمون أنه نجاح في الدنيا بالحصول على المنافع المادية والمعنوية ، لا قيمة له أصلا في مقابلة ما فاتهم في الآخرة من ثواب عظيم ونعيم مقيم في جنان الخلد ، فإن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة.

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات أمرين : الأول ـ بطلان القول بنسبة الولد لله تعالى بالأدلة القاهرة ، وبانعدام الدليل على صحة هذا القول. والثاني ـ ظهور أن هذا المذهب افتراء على الله ونسبة لما لا يليق به إليه.

٢٢٢

أما أدلة بطلان القول بنسبة الولد لله تعالى فهي كما ذكرت الآية الأولى خمسة :

١ ـ سبحانه : وهو تنزيه وتقديس الله تعالى عن الصاحبة والأولاد وعن الشركاء والأنداد ، وتعجب شديد من هذه الكلمة الحمقاء ؛ لأنه تعالى ليس محتاجا إلى غيره ، وإنما هو مصدر قضاء الحوائج.

٢ ـ هو الغني : الله هو الغني غنى مطلقا عن كل ما سواه ، وكل شيء فقير إليه.

وكل من كان غنيا امتنع أن يكون له أب وأم ، ومن تقدس عن الوالدين تقدس عن الأولاد. وامتنع أن ينفصل عنه جزء من أجزائه ، والولد عبارة عن انفصال جزء من أجزاء الإنسان. وامتنع أن يكون موصوفا بالشهوة واللذة ، فلا صاحبة له ولا ولد. وامتنع من اتخاذ الولد ، لعدم احتياجه إلى إعانته على المصالح الحاصلة والمتوقعة.

وكل من كان غنيا كان قديما أزليا باقيا سرمديا ، فلا يطرأ عليه الانقراض والانقضاء ، والولد إنما يحصل للشيء الذي ينقضي وينقرض.

وكل من كان غنيا مطلقا كان واجب الوجود لذاته ، فلو كان له ولد ، لكان ولده مساويا له ، أي يصبح واجب الوجود أيضا ، وإذا اتصف بهذه الصفة امتنع تولده من غيره ، وإذا لم يكن متولدا من غيره لم يكن ولدا.

فثبت أن كونه تعالى غنيا من أقوى الدلائل على أنه تعالى لا ولد له (١).

٣ ـ له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا ، فكيف يكون له ولد مما خلق ، وكل شيء مملوك له ، عبد له؟!.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٧ / ١٣٢ وما بعدها.

٢٢٣

٤ ـ إن عندكم من سلطان بهذا ، أي ليس عندكم من حجة ولا دليل على صحة قولكم ، والدعوى العارية من الدليل باطلة بطلانا مطلقا. (١)

٥ ـ أتقولون على الله مالا تعلمون؟ من إثبات الولد له ، والولد يقتضي المجانسة والمشابهة ، والله تعالى لا يجانس شيئا ، ولا يشابه شيئا. وهذا بالإضافة إلى كونه تأكيدا لما سبق إنكار شديد ووعيد أكيد وتقريع وتوبيخ على من تجرأ بنسبة الولد إلى الله تعالى.

وأما ظهور كون هذا المذهب افتراء وكذبا على الله ، فواضح مترتب على بطلان الادعاء بثبوت الولد لله تعالى.

وقد دل قوله تعالى : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) على أن إثبات العقيدة لا سيما فيما يتعلق بإثبات الله الصانع يتطلب دليلا قطعيا يقينا ، ولا يقبل فيه التقليد والوراثة ومحاكاة عقائد المسلمين المؤمنين بحق. ودل قوله (لا يُفْلِحُونَ) على إفلاس الكافر وخسارته المحققة يوم القيامة وعدم نجاته من العذاب.

كذلك دل قوله تعالى : (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ...) الآية على أن التمتع في الدنيا قليل وحقير جدا بالنسبة لنعيم الآخرة ، وأن مرجع جميع الخلائق إلى الله تعالى ، وأن الكفار والمشركين معذبون عذابا شديدا بسبب كفرهم.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٧ / ١٣٢ وما بعدها.

٢٢٤

قصة نوح عليه‌السلام مع قومه

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣))

الإعراب :

(إِذْ قالَ) بدل مما قبله.

(وَشُرَكاءَكُمْ) منصوب لوجهين : أحدهما ـ لأنه مفعول معه ، أي ، فأجمعوا أمركم مع شركائكم. والثاني ـ بتقدير فعل ، أي فأجمعوا أمركم واجمعوا شركاءكم. وقيل : التقدير : وادعوا شركاءكم. والنصب على تقدير الفعل مثل قول الشاعر :

إذا ما الغانيات برزن يوما

وزجّجن الحواجب والعيونا

وتقديره : وكحلن العيون ؛ لأن العيون لا تزجج.

وقرئ : وشركاؤكم بالرفع عطفا على ضمير (فَأَجْمِعُوا) المرفوع ، لوجود الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، وهو (أَمْرَكُمْ) لأن الفصل يتنزل منزلة التوكيد ، كقوله تعالى:(مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) [يونس ١٠ / ٢٨].

(ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) اسم يكن وخبرها.

البلاغة :

(فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) تقديم متعلّق (تَوَكَّلْتُ) لإفادة الحصر ، أي توكلت على الله لا على غيره.

٢٢٥

(لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) استعارة ، عبر عن الالتباس والستر بالغمة ، أي لا يكن أمركم مبهما ، فيكون كالغمة.

المفردات اللغوية :

(وَاتْلُ) يا محمد (عَلَيْهِمْ) أي على كفار مكة (نَبَأَ نُوحٍ) خبره مع قومه (كَبُرَ عَلَيْكُمْ) عظم وشق عليكم (مَقامِي) قيامي أو إقامتي ومكثي فيكم. (وَتَذْكِيرِي) وعظي إياكم بآيات الله (تَوَكَّلْتُ) وثقت به (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) فاعزموا عليه عزما لا تردد فيه أي اعزموا على أمر تفعلونه بي (وَشُرَكاءَكُمْ) أي مع شركائكم (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ) في قصدي (عَلَيْكُمْ غُمَّةً) مستورا خفيا ، بل أظهروه وجاهروني به ، والغمة : الستر واللبس (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) أدّوا إلى ذلك الأمر الذي تريدون بي ، ونفذوه بي (وَلا تُنْظِرُونِ) تمهلوني ولا تؤخروني ، فإني لست مباليا بكم.

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن تذكيري (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أي فما طلبت منكم ثوابا عليه يوجب تولّيكم لثقله عليكم واتهامكم إياي لأجله (إِنْ أَجْرِيَ) أي ما ثوابي على الدعوة والتذكير (إِلَّا عَلَى اللهِ) أي فهو يثيبني به ، سواء آمنتم أو توليتم (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المنقادين لحكمه ، لا أخالف أمره ، ولا أرجو غيره.

(فَكَذَّبُوهُ) فأصروا على تكذيبه بعد ما ألزمهم الحجة ، وبيّن أن توليهم ليس إلا لعنادهم وتمردهم ، فحقت عليهم كلمة العذاب (فَنَجَّيْناهُ) من الغرق (وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) السفينة ، وكانوا ثمانين.

(وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) أي وجعلنا من معه يخلفون غيرهم في عمارة الأرض وسكناها ، وهي جمع خليفة (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) بالطوفان (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) من إهلاكهم ، فكذلك نفعل بمن كذّب. وهذا تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن كذّب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسلية له.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى الأدلة الدالة على الوحدانية والرسالة والبعث والجزاء يوم القيامة ، وفنّد شبهات المشركين وكشف عنادهم لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتكذيبهم له ، ذكر هنا بعض قصص الأنبياء ، تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليتأسى بهم ، فيهون عليه ما يتعرض له من الشدائد والمكائد ، وتذكيرا للمشركين بمن سبقهم في مثل فعلهم ، وكيف كانت عاقبة المكذبين للرسلعليهم‌السلام.

٢٢٦

وذكر تعالى هنا ثلاث قصص : قصة نوح مع قومه ، وقصة موسى وهارون مع فرعون ، وقصة يونس مع قومه ، وفي كل قصة عبرة وعظة. ولقد ذكرت أضواء من التاريخ على القصتين الأوليين ، وسأذكر ما يناسب قصة يونس عليه‌السلام.

التفسير والبيان :

وأخبر أيها الرسول واقصص على كفار مكة الذين يخالفونك ويكذبونك خبر نوح مع قومه الذين كذبوه ، كيف أهلكهم الله ، ودمر هم بالغرق أجمعين عن آخرهم ، ليحذر هؤلاء أن يصيبهم من الهلاك والدمار ما أصاب أولئك.

اذكر لهم حين قال نوح لقومه : يا قوم إن كان قد شق عليكم وعظم قيامي معكم للدعوة إلى عبادة ربكم ، وتذكيري ووعظي إياكم بآيات الله أي بحججه وبراهينه الدالة على وحدانيته وعبادته ، فإني توكلت على الله وحده ووثقت به ، فلا أبالي ولا أكف عن دعوتي ورسالتي ، سواء عظم عليكم أو لا.

فأجمعوا أمركم ، أي اعزموا على ما تريدون من أمر تفعلونه بي ، أنتم وشركاؤكم الذين تعبدونهم من دون الله من صنم ووثن.

ولا تجعلوا أمركم الذي تعتزمونه خفيا ملتبسا عليكم ، بل أظهروه لي ، وتبصروا فيه ، وافصلوا حالكم معي.

فإن كنتم تزعمون أنكم محقون فاقضوا إلى ذلك الأمر ونفّذوه بالفعل ، ولا تؤخروني ساعة واحدة عن تنفيذ هذا القضاء ، فمهما قدرتم فافعلوا ، فإني لا أبالي بكم ولا أخاف منكم ؛ لأنكم لستم على شيء. وهذا الموقف الواثق بالله وبنصره لنوح أبي البشر الثاني مشابه لموقف هود عليه‌السلام إذ قال لقومه : (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ، مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ، ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) الآية [هود ١١ / ٥٤ ـ ٥٦].

٢٢٧

وهكذا يتبين الفرق الجلي بين موقف المؤمن الراسخ الإيمان الذي لا يعرف التردد ، المعتصم بالله وبوعده وثقته به ، وبين موقف الكافر الضعيف المتردد الذي لا ملاذ له ، إلا بالقوة الوهمية الخاثرة بل المنعدمة للشركاء والآلهة المزعومة.

فإن توليتم أي أعرضتم عن تذكيري وكذبتم ولم تؤمنوا برسالتي ولم تطيعوني فيما أدعوكم إليه من الدين الحق ، فإني لم أطلب منكم على نصحي إياكم شيئا : أجرا أو جزاء ، إن ثواب عملي وجزائي على الله ربي الذي أرسلني إليكم ، وأمرني أن أكون من المسلمين ، أي المنقادين الممتثلين لما أمرت به من الاستسلام لكل ما يصل إلى من أجل هذه الدعوة ، والإسلام والخضوع لله عزوجل ، والإسلام هو دين الأنبياء جميعا من أولهم إلى آخرهم (١) ، وإن تنوعت شرائعهم التفصيلية كما قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة ٥ / ٤٨] فأصولهم واحدة ، ومصدرهم واحد ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد :

__________________

(١) فهذا نوح يقول : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ). وقال تعالى عن إبراهيم الخليل : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ، قالَ : أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ، يا بَنِيَّ ، إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ ، فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة ٢ / ١٣١ ـ ١٣٢]. وقال يوسف : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ، وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، تَوَفَّنِي مُسْلِماً ، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف ١٢ / ١٠١]. وقال موسى : (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ ، فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا ، إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) [يونس ١٠ / ٨٤] وقال السحرة : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً ، وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) [الأعراف ٧ / ١٢٦] وقالت بلقيس : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ، وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ ، لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [النمل ٢٧ / ٤٤]. وقال تعالى واصفا رسالة الأنبياء : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) [المائدة ٥ / ٤٤] وقال تعالى عن الحوار بين : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ، قالُوا : آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) [المائدة ٥ / ١١١] وقال الرسول وسيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم امتثالا لقول الله : (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ ، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام ٦ / ١٦٣] أي من هذه الأمة.

٢٢٨

«الأنبياء أولاد علّات» أي أننا أولاد من أمهات شتى والأب واحد ، وديننا وإيماننا واحد: وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، وإن تنوعت شرائعنا.

فكذبوه ، أي فأصروا على تكذيبه ، فنجيناه هو ومن آمن معه في الفلك أي السفينة التي صنعها بأمرنا.

وجعلناهم خلائف ، أي وجعلنا الناجين مع نوح في السفينة خلائف أولئك الهالكين ، في عمارة الأرض وسكناها من بعدهم ، وأغرقنا بالطوفان الذين كذبوا نوحا ، فانظر أيها الرسول كيف أنجينا المؤمنين ، وأهلكنا المكذبين المنذرين ، الذين أنذرهم رسولهم بالعذاب قبل وقوعه ، فلم يرتدعوا ، وأصروا على تكذيبه ، وهذه عاقبة كل المصرّين على تكذيب الأنبياء ، وعاقبة المؤمنين.

فقه الحياة أو الأحكام :

١ ـ العبرة من قصة نوح : ذكر الله تعالى في هذه السورة قصة نوح عليه‌السلام لفائدتين : الأولى ـ أن تصير تلك القصة عبرة لهؤلاء الكفار ، وهجر الجحود بالتوحيد والإيمان بالنبوة ؛ لأن الله عجل هلاك قوم نوح بالغرق لما أصروا على الكفر والجحود.

والثانية ـ أن الإنذار بالعذاب لا بد أن يتحقق ، فقد كان كفار مكة يستعجلون العذاب الذي يذكره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم ، ويقولون له : كذبت ، فإنه ما جاءنا هذا العذاب ، فذكر الله تعالى قصة نوح ليبين لهم أن ما أنذر به نوح قومه وقع في نهاية الأمر ، كما أخبر ، فكذلك يقع كل عذاب أنذركم به.

٢ ـ النظر في الموقف والمقارنة بينها : موقف نوح وموقف قومه ، فموقف نوح عليه‌السلام كان موقف المؤمن الجريء الجسور الذي لا يخشى الصعاب ، ولا يعرف التردد ، ولا يهاب الموت في سبيل دعوته ، ويتحدى الجمع الغفير فيما

٢٢٩

يريدون أن يعملوه معه. وموقف قومه كان موقف الهيّاب الضعيف المتخاذل المتردد الذي لم يستطع اتخاذ قرار حاسم في شأن نوح ، الذي كانت هيبة الإيمان تحميه وتعصمه من مكائدهم وشرورهم.

٣ ـ كلمات نوح مع أولئك الكفار : كانت كلمات نوح مكونة من جملة شرط وجزاء. أما الشرط ففيه أمران : الأول ـ (إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي) أي ثقل وشق بسبب مكثه فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، وبسبب ما ألفه الكفار من مذاهب فاسدة وعقائد ومناهج باطلة ، والغالب أن من ألف طريقة في الدين يثقل عليه تغييرها.

والأمر الثاني ـ (تَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ) لأن من شغف بلذات الدنيا كان شديد النفرة من الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي والمنكرات.

وأما الجزاء على الشرط ففيه أمور خمسة :

الأول ـ (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) أي إن شدة بغضكم لي التي تحملكم على إيذائي تجعلني لا أقابل ذلك الشر إلا بالتوكل على الله ، وهذا منه توكل على الله في دفع شر هذه الساعة ، إن كان متوكلا أبدا على الله تعالى.

الثاني ـ (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) أي اعزموا على الأمر الذي تريدون إيقاعه بي ، وابذلوا جهودكم في الكيد لي والمكر بي ، مع شركائكم الأوثان التي تسمونها آلهة ، وفي هذا تحد شديد لمخططاتهم ومكائدهم.

الثالث ـ (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أي ليكن أمركم ظاهرا منكشفا تتمكنون فيه مما شئتم ، وفي هذا استعداد لمواجهة قراراتهم بصراحة وجرأة ، وصرامة وصبر.

الرابع ـ (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) أي امضوا إلى بمكروهكم وما توعدونني به ، وهذا

٢٣٠

دليل الإباء وعدم المبالاة بما ينفذون من قرار.

الخامس ـ (وَلا تُنْظِرُونِ) أي لا تمهلون بعد إعلامكم إياي ما اتفقتم عليه ، وهذا غاية الشجاعة والبأس ، فإنه لا يحتاج إلى إنذار وإمهال. وهو أيضا من دلائل النبوات ، فإنه أعلمهم أنهم لا يصلون إليه بسوء ؛ لأن الله عاصم أنبياءه.

٤ ـ النبي في دعوته لا يطلب أجرا من أحد على نصحه : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) قال المفسرون : هذا إشارة إلى أنه ما أخذ منهم مالا على دعوتهم إلى دين الله تعالى. ومتى كان الإنسان خاليا من الطمع كان قوله أقوى تأثيرا في القلب. وهكذا كانت سيرة جميع الأنبياء.

٥ ـ الثبات على المبدأ : (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فيه قولان :

الأول ـ أنكم سواء قبلتم دين الإسلام أو لم تقبلوا ، فأنا مأمور بأن أكون على دين الإسلام.

والثاني ـ أني مأمور بالاستسلام لكل ما يصل إلى لأجل هذه الدعوة. قال الرازي : وهذا الوجه أليق بهذا الموضع ، لانسجامه مع قوله السابق : (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ).

٦ ـ عاقبة القصة بين نوح وقومه : ترتب على هذا النقاش الحاد بين نوح وقومه الكفار نتائج حاسمة ومهمة جدا.

أما بالنسبة لنوح وأصحابه فأمران : أنه تعالى نجاهم من الكفار ، وأنه جعلهم خلائف بمعنى أنهم يخلفون من هلك بالغرق.

وأما بالنسبة للكفار : فهو أنه تعالى أغرقهم بالطوفان وأهلكهم. وهذه القصة زحر للمخالفين من حيث يخافون آن ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نوح ،

٢٣١

ودعوة المؤمنين للثبات على الإيمان.

وهذه الطريقة في الترغيب والتحذير إذا عرضت على سبيل الحكاية تقدم كانت أبلغ من الوعيد المبتدأ. وتفاصيل هذه القصة ذكرت في سور أخرى.

عادة الأمم في تكذيب الأنبياء

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤))

الإعراب :

(كَذَّبُوا بِهِ) الضمير يعود على قوم نوح ، أي فما كان قوم الأنبياء الذين أرسلوا بعد نوح ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح ، بل كذبوا كتكذيب قوم نوح.

المفردات اللغوية :

(مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد نوح. (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) كإبراهيم وهود وصالح (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) المعجزات المثبتة لدعواهم (مِنْ قَبْلُ) أي قبل بعث الرسل إليهم ، أي بسبب تعودهم تكذيب الحق وتمرنهم عليه قبل بعثة الرسل.

ويجوز أن يكون ذلك حكاية لما حدث في عهد نوح عليه‌السلام. (كَذلِكَ نَطْبَعُ) نختم والمراد أن القلوب تصبح غير قابلة لغير ما رسخ فيها (عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) أي كما طبعنا على قلوب أولئك نطبع على قلوب المعتدين ، أي المتجاوزين حدود الحق والعدل فلا تقبل الإيمان ، بخذلانهم لانهماكهم في الضلال واتباع المألوف. قال البيضاوي : وهذا دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة الله تعالى وكسب العبد.

٢٣٢

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى قصة نوح مع قومه والعبرة منها ، ذكر عبرة أخرى من تاريخ الأقوام مع أنبيائهم ، فإنهم لما كذبوا عوقبوا ، وكما طبع الله على قلوب هؤلاء فما آمنوا بسبب تكذيبهم المتقدم ، كذلك يطبع الله على قلوب أمثالهم. فما على أهل مكة وغيرهم إلا الاتعاظ بذلك ، وتجنب أسباب تلك العاقبة ، من الكفر والتكذيب ، وإلا أدى بهم الكفر إلى الحيلولة عن الإيمان وما يتبعه من السعادة.

التفسير والبيان :

ثم بعثنا من بعد نوح رسلا إلى قومهم ؛ مثل هود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب عليهم‌السلام ، بالبينات ، أي بالمعجزات القاهرة والأدلة والبراهين العقلية والحسية على صدق ما جاءوهم به.

(فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي فما كانت تلك الأقوام لتؤمن بما جاءتهم به رسلهم ، بسبب تكذيبهم إياهم أول ما أرسلوا إليهم ، وكما كذب به المتقدمون عنهم من قبل ممن كانوا أمثالهم في سبب الكفر.

والمراد بقوله (مِنْ قَبْلُ) ما كان إيمانهم إلا ممتنعا كالمحال لتصميمهم على الكفر قبل

بعثة الرسل ، وتكذيبهم كتكذيب قوم نوح ، وكأنه لم يبعث إليهم أحد. وعبارة المفسرين في تفسير القبلية متقاربة ، فقال بعضهم : قبل بعثة الرسل ، وقال آخرون : بما كذب به قوم نوح من قبل.

(كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) أي كما نختم على قلوب هؤلاء فلا يؤمنوا بسبب تكذيبهم المتقدم ، هكذا نختم على قلوب من أشبههم في العناد ممن بعدهم من المعتدين كقومك ، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.

٢٣٣

قال الزمخشري : والطبع جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم ؛ لأن الخذلان يتبعه ، ألا ترى كيف أسند إليهم الاعتداء ووصفهم به.

وبعبارة أخرى : المراد بالطبع عدم قبول القلوب شيئا من نور الهداية والمعرفة ؛ لأنهم تجاوزوا كل حد في الكفر والتكذيب ، فلا يؤمنوا.

وهذا إنذار شديد لمشركي العرب الذين كذبوا سيد الرسل وخاتم الأنبياء ، فإنه إذا كان قد أصاب المكذبين السابقين العذاب والنكال ، فما ظن هؤلاء وقد فعلوا مثلهم وأكبر مما فعله من تقدمهم؟!.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآية إلى ما يأتي :

١ ـ تكذيب الأنبياء عادة شائعة بين الناس ، لتأثرهم بما كانوا عليه قبل بعثة الرسل من تصميم على الكفر ورسوخ فيه.

٢ ـ الطبع أو الختم على القلوب معناه التعبير عن العناد واللجاج والخذلان.

٣ ـ لقد أهلك الله الأمم المكذبة للرسل وأنجى من آمن منهم.

٤ ـ احتج أهل السنة بالآية على أن الله تعالى قد يمنع المكلف عن الإيمان ، بسبب عناده وتصميمه على الكفر وتكذيبه الرسل.

٥ ـ في الآية دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة الله تعالى وكسب العبد ، أي أن الله يخلق للإنسان القدرة ، والعبد يستخدمها فيما يختاره من خير أو شر.

٢٣٤

قصة موسى عليه‌السلام مع فرعون

ـ ١ ـ

الحوار بين موسى وفرعون

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨))

المفردات اللغوية :

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد هؤلاء الرّسل. (وَمَلَائِهِ) قومه أو أشراف القوم. (بِآياتِنا) الآيات التّسع. (فَاسْتَكْبَرُوا) عن الإيمان بها. (لَسِحْرٌ مُبِينٌ) بيّن ظاهر. (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ) إنه لسّحر ، فحذف المحكي بالقول لدلالة ما قبله عليه.

(أَسِحْرٌ هذا) هو استئناف بإنكار ما قالوه. (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) من تمام كلام موسى ، للدّلالة على أنه ليس بسحر ، فإنه لو كان سحرا لاضمحلّ ، ولم يبطل سحر السّحرة ، فهذا دليل من موسى عليه‌السلام على أنه ليس بسحر ، وإنما السّحر تخييل وتمويه.

(لِتَلْفِتَنا) لتردّنا وتصرفنا عنه ، واللفت والفتل مترادفان. (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) الملك فيها ، سمي بها لاتّصاف الملوك بالكبر والتّكبر على الناس باستتباعهم. (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) بمصدقين فيما جئتنا به.

المناسبة :

هذه هي القصّة الثانية المذكورة في سورة يونس ، وهي قصة موسى وهارون مع فرعون وملئه ، وقد تكرر ذكرها في القرآن للدّلالة على أنّ قوة الحقّ وصوت

٢٣٥

النبّوة يعلوان الملك والحكم والسّلطان ، ويقوضان العروش ، ويزيلان دعائم الباطل. وهذا هو الفصل الأول من القصة وهو الحوار بين موسى وفرعون.

التفسير والبيان :

هذا هو الفصل الأول من قصة موسى عليه‌السلام.

والمعنى : ثم بعثنا من بعد تلك الرّسل موسى وأخاه هارون إلى فرعون ملك مصر وأشراف قومه ، أما بقية الناس فهم تبع لهم في الكفر والإيمان ، ولذا لم يذكروا.

بعثناهما بآياتنا المذكورة في سورة الأعراف (١) وغيرها ، فاستكبروا عن اتّباع الحقّ والانقياد له ، وعن الإيمان بموسى وهارون ، وكانوا قوما مجرمين أي معتادي الاجرام كفارا ذوي آثام عظام ، راسخين في الجريمة والظّلم والإفساد في الأرض. وأعظم الكبر : أن يتهاون الناس برسالة ربّهم بعد قيام الأدلّة على صحّتها.

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ ..) أي فلما جاءهم موسى بالأدلّة الدّالة على الربوبية والألوهية الحقّة ، قالوا عنادا وعتوا وحبّا للشّهوات : إن هذا لسحر واضح ، قالوا مقسمين على قولهم مؤكدين له بإنّ ، واسم الإشارة ، واللام في الخبر ، والجملة الاسمية. وهم يعلمون أن ما قالوه كذب وبهتان ، كما قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل ٢٧ / ١٤].

(قالَ مُوسى : أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ ..) قال لهم موسى منكرا عليهم وموبّخا لهم : أتقولون للحقّ الواضح البعيد كلّ البعد عن السّحر الباطل : إنه سحر ،

__________________

(١) وهي السّنون (أعوام الجدب والقحط) ونقص الأموال ، ونقص الأنفس ، ونقص الثّمرات ، والطّوفان ، والجراد ، والقمّل ، والضفادع ، والدّم ، قال تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ، وَالْجَرادَ ، وَالْقُمَّلَ ، وَالضَّفادِعَ ، وَالدَّمَ ، آياتٍ مُفَصَّلاتٍ ..) [الأعراف ٧ / ١٣٣].

٢٣٦

عجبا لكم أسحر هذا؟! والحال أنكم تعرفون أن السحر تخييل وتمويه ، ولو كان هذا سحرا لاضمحلّ ، ولم يبطل سحر السّحرة ، ولا يفوز السّاحرون في ساحات الحقائق ، وقضايا الدّين ، وأصول الحياة ، وإقامة الممالك ؛ لأن السّحر شعوذة وخفّة يد لا تغير من الحقيقة شيئا. وقولهم : هذا سحر محذوف ، والاستفهام بقوله : أتقولون؟ إنكار ، ثم استأنف إنكارا آخر من قبله ، فقال : (أَسِحْرٌ هذا)؟! وحذف قولهم الأول اكتفاء بالثاني من قولهم ، منكرا على فرعون وملئه.

فأجابوه إجابة الضعيف المفلس الحجة الذي لا يجد متمسكا له إلا التقليد للآباء والأجداد ووراثة العادات والطقوس الدّينية ، فقالوا : (قالُوا : أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا ..) أي أجئتنا يا موسى لتصرفنا عن دين آبائنا وأجدادنا ، ولتكون لكما أي لك ولهارون أخيك الكبرياء في الأرض ، أي الرّياسة الدّينية والدّنيوية أو العظمة والملك والسّلطان ، وما نحن لكما بمصدقين لكما فيما تدعيانه من دين جديد يغاير دين الأسلاف والآباء ، وهذا سبب تكذيب الرّسل دائما.

وقد خاطبوا موسى أولا ؛ لأنه كان هو الدّاعي لهم للإيمان بما جاء به ، والإقرار بتوحيد الإله ، ونبذ عبادة الأصنام والأوثان. ثم أشركوا معه أخاه في الإفادة من ثمرات الدّعوة وهي النّفوذ والسّلطة والعظمة.

فقه الحياة أو الأحكام :

لم يختلف شأن فرعون وقومه عمن قبله من الأمم ، في تكذيب الأنبياء ، وعناد الدّعاة إلى الإيمان بالله ، والتّخلص من عبادة الأصنام.

وتمثل هذه القصة شدّة العناد بسبب عظمة السلطان والملك والجاه ، أمام شخصين ضعيفين موسى وهارون ، وكان موسى قد تربى في بيت فرعون.

ولكن الضعف الشّخصي يزول أمام قوة الاعتزاز بالنّبوة والإيمان ، فبالرغم

٢٣٧

من هذا الضعف بادر موسى وهارون إلى دعوة فرعون وقومه إلى الإيمان بالله تعالى ، والتّرفع عن التّأله وتعظيم ما دون الله.

وأيد الله موسى بآيات تسع سلّطها على أهل مصر ، كالقحط المتوالي ، ونقص الأنفس والأموال والثّمرات بسبب الأمراض والجوع ، والطّوفان والجراد والقمّل والضّفادع والدّم ، ومع ذلك لم يؤمن فرعون وقومه ، ووصفوا الآيات والمعجزات بالسّحر.

فعجب موسى منهم ووبّخهم منكرا عليهم وصف المعجزة بالسّحر ، وناقشهم ببيان الفرق الواضح بين المعجزة والسّحر ، فلم يجدوا جوابا مقنعا إلا الارتماء في أحضان التّقليد واتّباع دين الآباء والأجداد ، والتّرفع عن الإيمان ، واتّهموا موسى وأخاه بأنهما يستهدفان من وراء دعوتهما الوصول إلى السلطة والملك في أرض مصر ، ولم يدروا بأن الإيمان بالله وبالأنبياء أسمى وأجل وأقدس من النزعات الشخصية الشهوانية ، وحبّ السّلطة والتّسلط ، فهذه مظاهر فانية ، وأثر الإيمان خالد باق.

والخلاصة :

إن قوم فرعون عللوا عدم قبول دعوة موسى بأمرين :

الأول ـ التّمسك بالتّقليد : وهو معنى قوله تعالى : (أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) فإنهم تمسكوا بالتّقليد ، ودفعوا الحجة الظاهرة بمجرد الإصرار.

والثاني ـ الاتّهام بالحرص على طلب الدّنيا والوصول إلى الرّياسة : وهو معنى قوله تعالى : (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) أي يكون لكما الملك والعزّ في أرض مصر ، والخطاب هنا لموسى وهارون ، ولما ذكروا هذين السّببين صرحوا بالحكم وقالوا : (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ).

٢٣٨

ـ ٢ ـ

إحضار فرعون السّحرة لمقاومة دعوة موسى

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢))

الإعراب :

(ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ فَلَمَّا) : إما اسم موصول بمعنى الذي ، وإما استفهامية ، فإذا كانت اسما موصولا كانت مع الصّلة في موضع رفع بالابتداء ، و (السِّحْرُ) : خبره. وإذا كانت استفهاما كانت أيضا مبتدأ ، و (جِئْتُمْ بِهِ) الخبر ، و (السِّحْرُ) خبر مبتدأ مقدر ، تقديره : هو السحر.

ويجوز أن تكون (فَلَمَّا) في موضع نصب على تقدير فعل بعد (فَلَمَّا) وتقديره : أي شيء أتيتم أو جئتم به ، و (السِّحْرُ) خبر مبتدأ مقدر أي هو السحر.

ولا يجوز أن تكون (فَلَمَّا) في موضع نصب إذا كانت بمعنى الذي ؛ لأن ما بعدها صلتها ، والصّلة لا تعمل في الاسم الموصول ، ولا تكون تفسيرا للعامل الذي تعمل فيه.

البلاغة :

(وَيُحِقُّ الْحَقَ) بينهما جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(ساحِرٍ عَلِيمٍ) حاذق في السحر ، فائق فيه. (فَلَمَّا أَلْقَوْا) حبالهم وعصيهم. (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) أي الذي جئتم به هو السّحر ، لا ما سمّاه فرعون وقومه سحرا وهو المعجزات. (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) سيمحقه أو سيظهر بطلانه. (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) لا يثبته ولا يقويه. وفيه دليل على أن السّحر إفساد وتمويه لا حقيقة له. (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَ) أي يثبته ويظهره. (بِكَلِماتِهِ) بأوامره وقضاياه. (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) ذلك.

٢٣٩

المناسبة :

هذا هو الفصل الثاني من قصة موسى مع فرعون ، فإن فرعون أراد الاستعانة بالسّحرة لمعارضة معجزة موسى ومقاومة دعوته ، فأمر بإحضار حذاق السّحرة ليظهر للناس أن ما أتى به موسى نوع من السّحر ، فيصد الناس عن اتّباعه ، باعتبار أنه ساحر.

التفسير والبيان :

هذا هو الفصل الثاني من قصة موسى عليه‌السلام حيث استعان فرعون عليه بالسحرة.

ويلاحظ أنه ذكرت قصة السّحرة مع موسى في سورة الأعراف ، كما تقدّم ، وفي هذه السّورة ، وفي سورة طه وفي الشّعراء ؛ لأن فرعون أراد التمويه على الناس وصدّهم عن اتّباع موسى ومعارضة ما جاء به عليه‌السلام من الحقّ المبين ، من طريق زخارف السّحرة والمشعوذين ، فانعكس عليه الأمر ، وصدم مرامه ، وظهرت البراهين الإلهية في ذلك المحفل العام : (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ ، قالُوا : آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) [الأعراف ٧ / ١٢٠ ـ ١٢٢].

ومعنى الآيات هنا : قال فرعون لحاشيته أو ملئه لما رأى العصا واليد البيضاء واعتقد أنها سحر فائق حاذق في علم السحر ، لظنّهم ألا فرق بين المعجزة الإلهية والسّحر. فأتوا بهم ، فلما جاء السّحرة وتجمّعوا ، قال لهم موسى بعد أن خيّروه بين أن يلقي ما عنده أولا ، أو يلقوا هم ما عندهم ، كما ذكر في سورة الأعراف : بل ألقوا ما أنتم ملقون من فنون السّحر ، ليظهر الحقّ ويبطل الباطل. فأراد موسى أن تكون البداءة منهم ليرى الناس ما صنعوا ، ويستنفدوا ما لديهم من طاقات وخبرات ، ثم يأتي بالحق بعده ، فيدمغ باطلهم ، ولهذا لما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم ، وجاؤوا بسحر عظيم : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ، قُلْنا :

٢٤٠