التفسير المنير - ج ١١

الدكتور وهبة الزحيلي

قل أيها الرسول للمؤمنين : ليفرحوا بفضل الله وبرحمته بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق ، فإنه أولى ما يفرحون به. وقوله : (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) يفيد الحصر ، يعني يجب ألا يفرح الإنسان إلا بذلك. روى ابن مردويه وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن أنس مرفوعا : «فضل الله : القرآن ، ورحمته أن جعلكم من أهله» وقال الحسن البصري والضحاك وقتادة ومجاهد : «فضل الله : الإيمان ، ورحمته : القرآن».

إن الفرح بما تفضل به الله وبما رحم به المؤمنين هو أجدى وأنفع من كل ما يجمعونه من الأموال وسائر خيرات الدنيا ، لا محالة ؛ لأنه يؤدي إلى سعادة الدارين ، وتلك الأموال سبب السعادة في الدنيا فقط.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الصفات الأربع هي صفات القرآن ، ففي القرآن المواعظ والحكم ، وهو الشفاء النافع من الشك والنفاق والخلاف والشقاق ، وهو الهدى أي الرشد لمن اتبعه ، عصمة لمن تبعه ، ونجاة لمن تمسك به. ورحمة أي نعمة كبري خاصة بالمؤمنين.

وإن فضل الله ورحمته من أعظم دواعي الفرح والسرور ، بل لا فرح ولا سرور بغير فضل الله ورحمته ، وفضل الله : الإيمان ، ورحمته : القرآن. وهذا قول الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة. وعن أبي سعيد الخدري وابن عباس رضي‌الله‌عنهما العكس تماما ، فقالوا : فضل الله القرآن ، ورحمته الإسلام.

وعلى كل فإن مصدر الفرح الصحيح للمسلمين شيئان : الإيمان أو الإسلام ، والقرآن. وإن فضل الله ورحمته خير للمؤمنين مما يجمعون من حطام الدنيا ؛ لأن الآخرة خير وأبقى ، وما كان كذلك فهو أولى بالطلب والتحصيل. روى أبان عن أنس أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من هداه الله للإسلام ، وعلمه القرآن ، ثم شكا

٢٠١

الفاقة ، كتب الله الفقر بين عينيه إلى يوم يلقاه ، ثم تلا : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ ، فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ، هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).

الإنكار على المشركين بالتحليل والتحريم للأنعام

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠))

الإعراب :

(ما أَنْزَلَ ما) : منصوب ب (أَنْزَلَ) أو ب (أَرَأَيْتُمْ) ، فإنه بمعنى أخبروني.

(يَوْمَ الْقِيامَةِ) : منصوب بالظن ، وهو ظن واقع فيه ؛ أو منصوب على الظرف.

البلاغة :

(حَراماً وَحَلالاً) بينهما طباق.

(قُلْ : آللهُ) كرر الفعل للتأكيد.

(آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) الاستفهام للإنكار.

و (أَمْ) منقطعة بمعنى بل ، ومعنى الهمزة فيها تقرير لافترائهم على الله ، بمعنى : بل أتفترون على الله ، تقريرا للافتراء. ويجوز أن تكون متصلة ب (أَرَأَيْتُمْ).

المفردات اللغوية :

(أَرَأَيْتُمْ) أخبروني. (ما أَنْزَلَ اللهُ) ما خلق. (لَكُمْ) أي ما حل لكم ، ولذلك وبخ على التبعيض فقال : (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) كالبحيرة والسائبة والوصيلة. (قُلْ : آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) في ذلك بالتحليل والتحريم؟ لا. (أَمْ) بمعنى بل. (تَفْتَرُونَ) تكذبون بنسبة ذلك إليه.

٢٠٢

(وَما ظَنُّ الَّذِينَ ..) أي ، أيّ شيء ظنهم به. (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أيحسبون أنه لا يعاقبهم عليه؟ وفي إبهام الوعيد تهديد عظيم. (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) حيث أنعم عليهم بالعقل ، وهداهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وأنعم عليهم بنعم كثيرة ، وأمهلهم في العقاب. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) هذه النعمة.

المناسبة :

بعد أن أثبت الله تعالى في أوائل السورة الوحي والنبوة ، ذكر طريقا آخر في إثبات النبوة : وهو أن التشريع بالتحليل والتحريم هو حق الله تعالى ، وأن الأصل في الأرزاق والأشياء الإباحة ، فتحريم بعض الأشياء وتحليل بعض ، مع تساويها في الصفات والمنافع ، دليل على اعترافكم بصحة النبوة والرسالة ؛ لأنه لم يقم لكم دليل عقلي ولا نقلي على هذا التمييز ، فهو منهج فاسد باطل ، وأن ما عليه الأنبياء هو الحق والصواب.

التفسير والبيان :

ينكر الله تعالى على المشركين فيما كانوا يحلون ويحرمون من البحائر والسوائب والوصايا ، كقوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً ، فَقالُوا : هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ ، وَهذا لِشُرَكائِنا) [الأنعام ٦ / ١٣٦] وقوله : (وَقالُوا : هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ ، بِزَعْمِهِمْ) [الأنعام ٦ / ١٣٨] وقوله : (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا ، وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) [الأنعام ٦ / ١٣٩] وقوله : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ، وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ، قُلْ : آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ ، أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) [الأنعام ٦ / ١٤٤].

ورد الله تعالى عليهم كل ما شرعوه من تحليل وتحريم بقوله : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) [المائدة ٥ / ١٠٣].

٢٠٣

ومعنى الآية : قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين كفار مكة : أخبروني عما أنزل الله من رزق حلال لكم للانتفاع به ، فجز أتموه أو بعضتموه ، وقلتم : هذا حلال وهذا حرام بزعمكم ، أخبروني : آلله أذن لكم في التحليل والتحريم ، فأنتم تفعلون ذلك بإذنه ، أم تكذبون على الله ، في نسبة ذلك إليه.

والآية توبيخ على التبعيض ، وزجر بليغ على التهاون في الفتوى ، وباعثة على وجوب الاحتياط فيما يسأل عنه العالم من الأحكام ، وألا يقول أحد في شيء :جائز أو غير جائز ، إلا بعد إيقان وإتقان ، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت. وإلا فهو مفتر على الله (١) ، كما قال تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ : هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ ، لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) [النحل ١٦ / ١١٦].

(وَما ظَنُّ الَّذِينَ ...) المعنى : أي شيء ظن المفترين في ذلك اليوم ما يصنع بهم فيه؟ وهو يوم الجزاء ، والإحسان والإساءة ، أيظنون أنهم يتركون بغير عقاب على جريمة افتراء الكذب على الله أو أيحسبون أن الله لا يؤاخذهم به؟ وهو وعيد عظيم حيث أبهم أمره ، أم أن لهم شفعاء يشفعون لهم؟ كما قال تعالى : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) [الشورى ٤٢ / ٢١].

(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) حيث أنعم عليهم بالعقل ، ورحمهم بالوحي ، وتعليم الحلال والحرام ، وتشريع الدين ، وفضّل عليهم بالرزق وجعل الأصل فيما رزقهم من المنافع الإباحة ، ولكنه جعل حق التحليل والتحريم إليه وحده ، كيلا يعبث به ، كما عبث به الأخبار والرهبان ، ولم يحرّم عليهم إلا ما فيه ضرر بهم في دنياهم أو دينهم.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) هذه النعمة وذلك الفضل كما قال تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ ٣٤ / ١٣] ولا يتبعون ما هدوا إليه ، بل

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٧٨

٢٠٤

يحرمون ما أنعم الله به عليهم ، ويضيّقون على أنفسهم ، فيجعلون بعضا حلالا وبعضا حراما ، وقد وقع في هذا المشركون فيما شرعوه لأنفسهم ، وأهل الكتاب فيما ابتدعوه في دينهم. وربما وقع فيه بعض المسلمين ، فتغالوا في الزهد وتركوا طيبات الرزق ، أو أسرفوا في الأكل والشرب والزينة ، مخالفين نهج الإسلام في التوسط والاعتدال في الإنفاق ، كما قال تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ، فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) [الإسراء ١٧ / ٢٩] وقال سبحانه : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ، فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ ، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) [الطلاق ٦٥ / ٧].

وأيدت السنة ذلك الاتجاه ، روى البخاري والطبراني عن زهير بن أبي علقمة مرفوعا : «إذا آتاك الله مالا فلير عليك ، فإن الله يحب أن يرى أثره على عبده حسنا ، ولا يحب البؤس ولا التباؤس».

وأخرج أحمد عن أبي الأحوص عن أبيه قال : «أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنا رثّ الهيئة فقال : هل لك مال؟ قلت : نعم ، قال : من أيّ المال؟ قلت : من كل المال ، من الإبل والرقيق والخيل والغنم. فقال : إذا آتاك الله مالا فلير أثر نعمته عليك وكرامته».

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات ما يأتي :

١ ـ الشيء الذي جعله أهل الجاهلية المشركون حراما : هو ما حكموا به من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، كما ذكر في سورة المائدة ، وهو أيضا المذكور في سورة الأنعام من جعل نصيب من الزروع والثمار والمواشي لله تعالى يصرفونه إلى الضيفان والمساكين ، ولشركائهم نصيبا يصرفونه إلى سدنتها ، كما قال تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) [الأنعام ٦ / ١٣٦].

٢٠٥

٢ ـ مصدر التشريع هو الله عزوجل ، وحق التحليل والتحريم لله ، لا لأحد سواه من الخلق ولو كان نبيا أو رسولا ، فإن كانت الأحكام من الله تعالى فهو المراد بقوله : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) وإن كانت ليست من الله ، فهي افتراء ، وهو المراد بقوله تعالى : (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ).

٣ ـ توبيخ من تجرأ على تبعيض الأحكام الشرعية ، فجعل بعضها حلالا ، وبعضها حراما. وهذا أيضا تنديد بمن يتهاون في الفتوى ، ولا يحتاط في وصف الأحكام ، فيحلل أو يحرم برأيه دون تثبت ولا تيقن.

٤ ـ وعيد من يفتري على الله الكذب ، فينسب الحكم إليه ، وهو منه براء.

٥ ـ معاقبة المفترين يوم القيامة على جريمة افتراء الكذب على الله.

٦ ـ الله تعالى صاحب الفضل العظيم على الناس بإعطاء العقل ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وجعل التحليل والتحريم إليه دون سواه ، وجعل الأصل في المنافع والأرزاق والأشياء والأعيان الإباحة.

٧ ـ أكثر الكفار لا يشكرون الله على نعمه ، ولا على تأخير العذاب عنهم.

إحاطة علم الله تعالى بجميع شؤون العباد وأعمالهم

وبكل الكائنات

(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١))

٢٠٦

الإعراب :

(وَما تَتْلُوا مِنْهُ) الهاء تعود على «الشأن» على تقدير حذف المضاف ، وتقديره: وما تتلو من أجل الشأن من قرآن ، أي : يحدث لك شأن فتتلو القرآن من أجله. ومن : تبعيضية ، أو مزيدة لتأكيد النفي. وإضمار القرآن قبل التصريح به تفخيم له أو للهعزوجل.

(وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ) النصب فيهما على أن (لا) نافية ، و (أَصْغَرَ) اسمها ، و (فِي كِتابٍ) : خبرها وهذا كلام مستقل بنفسه ، مقرر لما قبله. ويجوز الرفع على الابتداء ليكون كلاما برأسه ، أو على العطف على محل : (مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ) وتقديره : وما يعزب عن ربك مثقال ذرة ولا أصغر ولا أكبر. ويجوز الجر ، مراعاة للفظ (مِثْقالِ) لأن (مِثْقالِ ذَرَّةٍ) في اللفظ مجرور. و (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) موضع الرفع لأنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هو في كتاب مبين.

المفردات اللغوية :

(وَما تَكُونُ) يا محمد ، و (ما) : نافية ، أي لست في شأن من عبادة أو غيرها إلا والربّ مطلع عليك. (شَأْنٍ) أمر مهم عظيم (وَما تَتْلُوا مِنْهُ) من الشأن ؛ لأن تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل هو معظم شأنه ، أو ما تتلو من التنزيل من قرآن ؛ لأن كل جزء منه قرآن ، والإضمار قبل الذكر تفخيم له. أو من الله عزوجل (وَلا تَعْمَلُونَ) أنتم جميعا أيها المؤمنون (الأمة والنبي) وهو تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم (شُهُوداً) شاهدين رقباء نحصي عليكم (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) أي تندفعون فيه وتخوضون أو تأخذون في العمل (وَما يَعْزُبُ) وما يبعد عنه وما يغيب عن علمه (مِثْقالِ) وزن (ذَرَّةٍ) أصغر نملة أو هباء (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي في الوجود والإمكان (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) بيّن وهو اللوح المحفوظ.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى أن القليل من الناس شاكرون نعم الله بدوام طاعته وترك معصيته ، ذكّرهم بأن علمه محيط بجميع شؤونهم وأعمالهم صغيرها وكبيرها ، وبكل الموجودات والكائنات كلها في السموات والأرض ، حتى يحملهم ذلك على الطاعة والشكر والعبادة وتجنب المعصية ؛ لأنه إذا كان الحق تعالى عالما بكل شيء ، سرّ الطائعون ، وهدّد المذنبون.

٢٠٧

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يعلم جميع أحواله وأحوال أمته وجميع الخلائق في كل لحظة.

وما تكون أيها الرسول في أي أمر من أمورك الخاصة أو العامة ، وما تتلو من أجل ذلك الشأن من قرآن ينزل عليك ، لنشر الدعوة بين الناس إلا ونحن شهود عليكم.

وفي التعبير بالشأن دليل على أن جميع أموره صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت عظيمة ، حتى العادات ؛ لأنه قدوة حسنة للمؤمنين. وبعد أن خصه الله بأمرين وهما (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) و (وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) خاطب جميع الأمة التي هو رأسها.

وضمير (مِنْهُ) إما عائد إلى الشأن ، وإما إلى القرآن أي وما تتلو من القرآن من قرآن ؛ لأن القرآن اسم للمجموع واسم لكل جزء من أجزاء القرآن ، والإضمار قبل الذكر يدل على التعظيم ، وإما إلى الله أي وما تتلو من قرآن نازل من عند الله.

(وَلا تَعْمَلُونَ ..) أي ولا تعملون أيتها الأمة أي عمل صغير أو كبير ، خير أو شر ، وأي عمل كان ، إلا كنا عليكم شاهدين رقباء مطلعين ، نحصي عليكم ، وسنجازيكم عليه.

(إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) أي تندفعون وتأخذون فيه ، أي في ذلك الشيء.

وما يبعد عن الله ولا يغيب عن علمه أي شيء ، ولو كان مثقال ذرة أي وزن أصغر نملة أو هباء ، وبه يضرب المثل في الصغر والخفة ، ولا أصغر من الذرة أي أجزاء الذرة ، وهذا يشير إلى نظرية أو مبدأ تحطيم الذرة واكتشاف جزيئاتها ،

٢٠٨

ولا شيء أكبر من ذلك ، كالعرش الذي هو أعظم المخلوقات ، إلا وهو معلوم له ، ومحصى معروف في كتاب عظيم الشأن وهو اللوح المحفوظ الذي كتب فيه مقادير الموجودات كلها.

وفي هذا دلالة إلى سبق القرآن إلى الإشارة إلى أصغر الموجودات في الكون مما لا يدرك بالعين المجردة ، وإنما بالمكبّرات ، كأجزاء الذرة والجراثيم ، ويحتاج تكبيره إلى مئات أو آلاف المرات. كما أن هناك أشياء كبيرة جدا ، أكبر من السموات والأرض ، وما فيهما ، فإن بعض النجوم أكبر من الشمس والأرض والقمر بملايين المرات ، والعرش أعظم المخلوقات.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها ، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام ٦ / ٥٩] أي أنه تعالى يعلم حركة الأشجار وغيرها من الجمادات ، وكذلك الدواب السارحة ، وكل ما هو موجود في طبقات الأرض ، وأجواء السماء.

فقه الحياة أو الأحكام :

إن كل من يتأمل في مدلول هذه الآية ـ ولا يتأمل فيها بحق إلا عالم مؤمن ، واسع العلم والأفق والنظر ـ فيجد سعة علم الله الشامل ، ورصده لكل شيء في الوجود ، وأعمال جميع الكائنات الحية ، والناس قاطبة في البر والبحر والجو ، يسيطر عليه الخوف والرهبة ، ويمتلئ قلبه اليقين بعظمة الله تعالى ، ويدرك أن جميع أعماله محصية عليه ، سواء أكانت صغيرة حقيرة أم كبيرة جليلة.

ولو قيل : إن شاشة كبيرة من التلفاز (الرائي) تصوّر جميع حركات الإنسان على أشرطة مسجلة في منزله وغيره ، وفي تنقلاته كلها ، وإن ما يرتسم على هذه الشاشة وما يسجل فيها من أصوات ، سيعرض على حاكم الدولة ،

٢٠٩

وسيحاسبه على أموره كلها ، هل أدى واجبه أو قصر ، وهل أدى الأمانة والمسؤولية الملقاة على عاتقه أو خانها ، وهل أحسن أو أساء إلى نفسه أو غيرها من الأهل والجيران والمجتمع ، لو قيل ذلك ، وقدّر كل إنسان ما يرصد عليه في هذه الشاشة في يوم أو شهر أو سنة أو في العمر كله ، لفكّر تفكيرا دقيقا جدا ، والتزم درب الاستقامة ، حتى لا يعرّض نفسه إلى الإهانة.

وهكذا ـ ولله المثل الأعلى ـ رصد الله لحركاتنا ، وعلمه بجميع أعمالنا ، بل اطلاعه على ما تكنه نفوسنا ، يملأ النفس رهبة وخوفا ، فسبحانك يا رب لا يسعنا إلا سترك وعفوك ورحمتك ، وكفى بهذه الآية باعثا على الطاعة والإيمان ، ورادعا عن المعصية والكفر ، وكفى بالله حسيبا ، وهو أسرع الحاسبين.

أولياء الله ـ أوصافهم وجزاؤهم

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤))

الإعراب :

(الَّذِينَ آمَنُوا) فيه ثلاثة أوجه : النصب على أنه صفة للأولياء أو بدل منهم ، أو النصب على المدح أي أخص أو أعني ، أو الرفع على الابتداء ، وخبره : (لَهُمُ الْبُشْرى).

ويجوز أن تكون (الْبُشْرى) مبتدأ ، و (لَهُمُ) خبره ، والجملة في موضع رفع : خبر (الَّذِينَ).

٢١٠

المفردات اللغوية :

(أَوْلِياءَ اللهِ) أي أحبابه وأصفياؤه والمقرّبون إليه ، الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة ، هم المؤمنون المتقون كما فسرتهم الآية ، فكل من كان تقيا كان لله وليا. (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بفوات مأمول.

(وَكانُوا يَتَّقُونَ) الله بامتثال أمره ونهيه (الْبُشْرى) الخبر السارّ ، وهي ما بشّر الله به المتقين في كتابه وعلى لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما يريهم في الرؤيا الصالحة ، كما في حديث صححه الحاكم : يراها الرجل أو ترى له ، وما يسنح لهم من المكاشفات ، وبشرى الملائكة عند النزع (وَفِي الْآخِرَةِ) الجنة والثواب وتلقي الملائكة إياهم مسلّمين مبشرين بالفوز والكرامة. (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) لا خلف لمواعيده (ذلِكَ) المذكور.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى إحاطة علمه بأعمال العباد وبجميع الكائنات ليكون ذلك باعثا لهم على الشكر والعبادة ، ذكر حال الشاكرين المتقين الذين حسن جزاؤهم في الآخرة.

التفسير والبيان :

إن أولياء الله الذين يتولونه بالطاعة والعبادة ، ويتولاهم بالكرامة هم الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وكانوا يتقون الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، فكل من كان تقيا كان لله وليا. وأولياء الله هم الذين جمعوا بين الإيمان الصحيح والتقوى. فلا خوف عليهم في الدنيا من مكروه يتوقع ، كما قال تعالى : (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران ٣ / ١٧٥] أي لا تخافوا أولياء الشيطان وأنصاره.

ولا خوف عليهم في الآخرة مما يخاف منه الكفار والعصاة من أهوال الموقف وعذاب القيامة ، كما قال تعالى : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٣].

٢١١

ولا هم يحزنون في الدنيا من فوات مأمول ، ولحوق مكروه ، وذهاب محبوب ؛ لأنهم يؤمنون بالقضاء والقدر ، ويبتغون رضوان الله ، كما لا يحزنون في الآخرة من مخاوف القيامة.

روى البزار عن ابن عباس قال : قال رجل : يا رسول الله ، من أولياء الله؟ قال : «الذين إذا رؤوا ذكر الله».

ولهم البشرى في الحياة الدنيا بالنصر والاستخلاف في الأرض ما داموا على شرع الله ودينه ، يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، كما قال تعالى : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ ، وَآتَوُا الزَّكاةَ ، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ ، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج ٢٢ / ٤١] وقال سبحانه : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) [النور ٢٤ / ٥٥].

ومن بشائر الدنيا لهم الرؤيا الصالحة ، روى أحمد والحاكم عن أبي الدرداء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) قال : «هي الرؤيا الصالحة ، يراها المسلم أو ترى له».

ومن البشائر بشرى الملائكة لهم بحسن الحال وبالدرجة الرفيعة عند النزع : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ : سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [النحل ١٦ / ٣٢].

ولهم البشرى في الحياة الآخرة بحسن الثواب والنعيم المقيم في الجنة ، كما قال تعالى : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) [التوبة ٩ / ٢١].

وتلقي الملائكة لهم يبشرونهم بالجنة ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا : رَبُّنَا اللهُ ، ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا ، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ، وَلَكُمْ فِيها

٢١٢

ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ ، وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت ٤١ / ٣٠ ـ ٣٢].

(لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أي لا تغيير لأقواله ، ولا إخلاف لمواعيده ، كقوله تعالى: (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) [ق ٥٠ / ٢٩] ومنها تبشير المؤمنين بالجنة.

(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك المذكور وهو البشارة لهم في الدارين بالسعادة هو الفوز العظيم الساحق الذي لا فوز غيره ؛ لأنه ثمرة الإيمان والعمل الصالح.

فقه الحياة أو الأحكام :

وضعت هذه الآية الحد الفاصل أمام الأدعياء ، فأبانت أن أولياء الله هم المؤمنون الأتقياء ، روى سعيد بن جبير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل : من أولياء الله؟ فقال : «الذين يذكر الله برؤيتهم».

وقال عمر بن الخطاب ـ فيما رواه أبو داود ـ سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء ، تغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة ، لمكانهم من الله تعالى. قيل : يا رسول الله ، خبّرنا من هم وما أعمالهم ، فلعلنا نحبّهم؟ قال : هم قوم تحابّوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطون بها ، فو الله ، إن وجوههم لنور ، وإنهم على منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس ، ثم قرأ : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(١).

وما أعظم وأجدى هذه الحوافر للعمل الصالح والاتصاف بصفة أولياء الله ، التي ذكرتها هذه الآية ، وهي المجموعة في قوله تعالى : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) وفي تلك البشرى إيماء إلى الوعد بنصرهم على الأعداء.

__________________

(١) قال ابن كثير : وهذا إسناد جيد إلا أنه منقطع بين أبي زرعة وعمر بن الخطاب ، لكن رواه أحمد عن أبي مالك الأشعري ، ورواه ابن جرير عن أبي هريرة.

٢١٣

والبشرى : هي الخبر السارّ أو البشارة السارّة بالخير والفضل والمكافأة ، وقد جمعت هذه البشرى بين سعادتي الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا : النصر والعز والثناء الحسن ، وفي الآخرة : الفوز والنجاة والظفر بالجنة ونعيمها الأبدي الخالد. ولا خلف لوعد الله ، ولا تبديل لأخباره ، فلا ينسخها شيء ، ولا تكون إلا كما قال ، فما أجلّ ذلك ، وما أكرم الله المبشّر وأحبّه إلى عباده ، وما أسعد المبشّرين! جعلنا الله منهم.

العزة والملك لله تعالى

وفائدة جعله الليل والنهار

(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧))

الإعراب :

(وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ .. ما) : إما بمعنى الذي ، وإما بمعنى النفي ، وإما بمعنى الاستفهام. فإن كانت بمعنى الذي فهي معطوفة بالنصب على (مَنْ) أي ، ألا إن لله تعالى الأصنام الذين تدعونهم من دون الله شركاء ، فحذف العائد من الصلة. و (شُرَكاءَ): حال من ذلك المحذوف.

وإن كانت نفيا وهو الظاهر كانت حرفا ، والتقدير : وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إلا الظن. وانتصب شركاء ب (يَدْعُونَ) ، والعائد إلى (الَّذِينَ) الواو في (يَدْعُونَ)

٢١٤

ومفعول (يَتَّبِعُ) قام مقامه : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) ، ولا ينتصب الشركاء ب (يَتَّبِعُ) ؛ لأنك تنفي عنهم ذلك ، والله تعالى قد أخبر به عنهم.

وإن كانت (ما) بمعنى الاستفهام ، والمراد به الإنكار والتوبيخ ، كانت اسما في موضع نصب ب (يَتَّبِعُ) ، وتقديره : وأي شيء يتبع الذين يدعون.

البلاغة :

(وَالنَّهارَ مُبْصِراً) استعارة ، شبه النهار بالإنسان ؛ لأن الناس يبصرون فيه ، فكأن ذلك صفة الشيء بما هو سبب له أي للإبصار على طريق المبالغة ، كما قالوا : ليل أعمى وليلة عمياء ، إذا لم يبصر الناس فيها شيئا لشدة إظلامها.

المفردات اللغوية :

(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) إشراكهم وتهديدهم وتكذيبهم وقولهم لك : لست مرسلا (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ) استئناف بمعنى التعليل ، و (الْعِزَّةَ) : الغلبة والقوة والمنعة (هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم (الْعَلِيمُ) بعزماتهم وأفعالهم ، فيجازيهم عليها وينصرك عليهم.

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من الملائكة والثقلين : الإنس والجن ، ملكا وخلقا وعبيدا. قال البيضاوي : وإذا كان هؤلاء الذين هم أشرف الممكنات عبيدا ، لا يصلح أحد منهم للربوبية ، فما لا يعقل منها ـ وهي الأصنام ـ أحق ألا يكون له ندا وشريكا ، فهو كالدليل على قوله. (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ) يعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره أصناما (شُرَكاءَ) له على الحقيقة ، تعالى الله عن ذلك (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي ما يتبعون في ذلك يقينا ، وإنما يتبعون ظنهم أنها شركاء ، أو أنها آلهة تشفع لهم (وَإِنْ هُمْ) ما هم (إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي يكذبون فيما ينسبون إلى الله ، فيستعمل الخرص بمعنى الكذب ؛ لأنه يغلب فيه الحزر والتخمين ، والأصل في الخرص : الحزر والتقدير ، ويجوز أن يراد : يحزرون ويقدرون أنها شركاء تقديرا باطلا.

(وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي ذا إبصار ، وإسناد الإبصار إلى النهار مجاز ؛ لأنه يبصر الناس فيه ، وإنما قال مبصرا ، ولم يقل : لتبصروا فيه ، تفرقة بين الظرف المجرد والظرف الذي هو سبب (لَآياتٍ) دلالات على وحدانيته تعالى (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع تدبر واعتبار أو اتعاظ.

المناسبة :

بعد أن أورد الله تعالى أنواع شبهات المشركين في هذه السورة ، وأجاب

٢١٥

عنها ، ذكر أنهم عدلوا إلى طريق آخر ، وهو التهديد والتخويف بأنهم أصحاب السلطة والمال ، فأجابهم الله عن ذلك بقوله : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) تبشيرا له بالنصر عليهم ، كما أنه تعالى مهد لذلك في بيان صفة الأولياء وبشارتهم في الآيات المتقدمة ، إيماء إلى الوعد بالنصر على الأعداء في مكة المغترين بقوتهم ، المكذبين بوعد الله.

التفسير والبيان :

ولا يحزنك أيها الرسول قول هؤلاء المشركين : لست مرسلا ، وغيره من إشراك وتكذيب وتهديد بأنهم أصحاب القوة والمال ، واستعن بالله عليهم ، وتوكل عليه ، فإن العزة أي الغلبة والقوة والقهر لله تعالى جميعا ، أي جميعها له ، وأما إثبات العزة لرسوله وللمؤمنين ففي آية أخرى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون ٦٣ / ٨] فالعزة كلها بالله ، وإلى الله.

هو السميع لأقوال عباده ، ومنها أقوالهم المتضمنة تكذيب الحق وادعاء الشرك ، العليم بأحوالهم وبما يفعلون من إيذاء وكيد ، وسيجازيهم عليه ، فلا تأبه لقولهم ومكيدتهم ، وفي هذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يلقاه من أذى قومه ، وتبشير له بالنصر عليهم.

ثم أقام الدليل على انفراده بالعزة كلها بقوله : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ...) أي انتبهوا أيها الناس ، إن لله ملك السموات والأرض وما بينهما ، لا ملك لأحد فيهما سواه ، فكيف تصلح الأصنام آلهة؟ وهي مملوكة ، والعبادة لا تكون إلا للمالك ، بل إنها لا تعقل ولا تملك شيئا ، لا ضرا ولا نفعا ، ولا دليل لهم على عبادتها ، بل إنما يتبعون في ذلك ظنونهم وأوهامهم.

(وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ) أي لا يتبع هؤلاء المشركون شركاء لله في الحقيقة ، فليس لله شريك أبدا ، وليس للشركاء المزعومين

٢١٦

قدرة على شيء من تدبير أمور العباد ودفع الضر عنهم ، بل إنهم لا يملكون دفع الضر عن أنفسهم ، ولا يملكون جلب أي نفع لهم.

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ..) أي ما يتبع المشركون في الحقيقة فيما يزعمون إلا الظن الفاسد والخطأ الفادح ، وما هم في هذا الظن إلا متخرصون كاذبون فيما ينسبون إلى الله ، أو حازرون مقدّرون أن تكون شركاء تقديرا باطلا.

فهذه الجمل الثلاث بعد بيان استقلال الله بملكية ما في السموات وما في الأرض مؤكدات متوالية ، تؤكد سلب صلاحية الملائكة والأصنام والمسيح وغيرهم عن اتخاذها آلهة ، ولا اتخاذها وسطاء أو شفعاء أو وسائل لله ، كما هو شأن حكام الدنيا والملوك الظالمين الذين لا يصل إليهم إلا الوسطاء ، فجميع من في السموات والأرض مملوك لله تعالى : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم ١٩ / ٩٣] والمملوك لا شأن له أمام المالك.

ثم استدل تعالى على كون العزة لله جميعا وانعدام أي دور للشركاء مع الله في الخلق والتقدير والتصرف والتدبير بقوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ ..) أي إنه تعالى قسم الزمان قسمين وهما الليل والنهار ، وجعل الليل للاستراحة والسكن والاطمئنان فيه بعد عناء النهار والاشتغال فيه ، وجعل النهار مضيئا للمعاش والسعي والأسفار وقضاء المصالح ، كقوله تعالى : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً ، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً ، وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) [النبأ ٧٨ / ٩ ـ ١١] وقوله سبحانه : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ ، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً ، لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ، وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [الإسراء ١٧ / ١٢].

ففي هذا تنبيه على كمال قدرته تعالى ، وعظيم نعمته المتوحد هو بهما ، ليدلّهم على تفرده باستحقاق العبادة ، وأن يوحدوه بها ، بأنه أظلم الليل للسكن فيه من متاعب المعاش في النهار ، وأضاء النهار لإبصار مطالب الأرزاق

٢١٧

والمكاسب. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ ..) أي إن في تخليق الليل والنهار وتعاقبهما واختلافهما لدلائل واضحة دالة على أن الإله المعبود بحق هو خالق الليل والنهار ، لقوم يسمعون هذه الحجج والأدلة ، فيعتبرون بها ويتدبرون ما يسمعون ، ويستدلون على عظمة خالقها ومقدّرها ومسيّرها.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن العزة لله جميعا ، أي القوة الكاملة والغلبة الشاملة والقدرة التامة لله وحده ، فهو ناصر رسوله ومعينه ومانعة من أذى الأعداء.

ولا يعارض هذا قوله : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) فإن كل عزة بالله ، فهي كلها لله ، قال تعالى : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات ٣٧ / ١٨٠].

٢ ـ إن الله هو السميع لأقوال العباد وأصواتهم ، العليم بأعمالهم وأفعالهم وجميع حركاتهم.

٣ ـ إن الله مالك من في السموات ومن في الأرض ، أي يحكم فيهم بما يريد ويفعل فيهم ما يشاء ، فليس للمحكوم والمملوك نفاذ أو تدخل في أي حكم ، أو قدرة على التصرف في الأملاك ، وهذا دليل سلب الألوهية عما سوى الله.

٤ ـ إن المشركين لا يتبعون في عبادتهم شركاء على الحقيقة ، بل يظنون ظنا باطلا أنها تشفع أو تنفع ، وما هم في ظنهم إلا يحدسون يخمنون ويكذبون فيما ينسبونه إلى الله.

٥ ـ إن الواجب عبادة من يقدر على خلق الليل والنهار ، وإحكام تعاقبهما بنظام دقيق ، لا عبادة من لا يقدر على شيء.

٢١٨

٦ ـ إن لله الحكمة البالغة في إيجاد الليل والنهار ، فالله جعل الليل لمنافع عديدة منها السكون (أي الهدوء عن الاضطراب) مع الأزواج والأولاد ، وزوال التعب والكلال الناجم عن الانهماك في الأعمال. وجعل النهار لفوائد جليلة منها إبصار موارد العيش ، والاهتداء به إلى الحوائج ، والأنس مع الناس.

٧ ـ إن في خلق السموات والأرض وفي خلق الليل والنهار لعلامات ودلالات قاطعات واضحات على استحقاق الخالق للعبادة والتفرد بها وحده ، ولكن لا يتعظ بهذا إلا القوم الذين يسمعون سماع تدبر واعتبار واتعاظ ، وذلك هو جوهر فائدة خلق السمع والبصر.

الإشراك بنسبة الولد لله تعالى

(قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))

الإعراب :

(بِهذا) متعلق ب (سُلْطانٍ) أو نعت له ، أو ب (عِنْدَكُمْ) ، كأنه قيل : إن عندكم في هذا سلطان.

(مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) خبر مبتدأ محذوف ، أي افتراؤهم أو تقلبهم متاع في الدنيا ، أو مبتدأ خبره محذوف أي لهم متاع أو تمتع في الدنيا.

٢١٩

البلاغة :

(أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) استفهام يراد به التوبيخ والتقريع على اختلافهم وجهلهم.

المفردات اللغوية :

(قالُوا) أي اليهود والنصارى والمشركون الذين زعموا أن الملائكة بنات الله (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) أي تبناه ، والولد يستعمل مفردا وجمعا (سُبْحانَهُ) رد الله عليهم بقوله : (سُبْحانَهُ) أي تنزيها وتقديسا له عن التبني ، فإنه لا يصح إلا ممن يتصور له الولد ، والمراد التعجب من كلمتهم الحمقاء (هُوَ الْغَنِيُ) عن كل أحد ، وإنما يطلب الولد من يحتاج إليه ، وهو علة لتنزيهه ، فإن اتخاذ الولد مسبب عن الحاجة.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وخلقا وعبيدا ، وهو تقرير لغناه (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) أي ما عندكم من حجة وبرهان على هذا الذي تقولونه (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) توبيخ وتقريع على قولهم.

(يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بنسبة الولد وإضافة الشريك إليه (لا يُفْلِحُونَ) لا يسعدون ، فلا ينجون من النار ، ولا يفوزون بالجنة (مَتاعٌ) أي لهم متاع قليل (فِي الدُّنْيا) يتمتعون به طوال حياتهم (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) بالموت فيلقون الشقاء المؤبد (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ) بعد الموت (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) بسبب كفرهم.

المناسبة :

بعد أن حكى الله تعالى أفعال المشركين باتخاذ الأوثان والأصنام شفعاء ، وردّ عليهم ردا مقنعا ، ذكر هنا نوعا آخر من أباطيلهم وهو نسبة الولد إلى الله تعالى ، وهذا يشمل المشركين القائلين بأن الملائكة بنات الله ، واليهود القائلين بأن عزيزا ابن الله ، والنصارى القائلين بأن المسيح عيسى ابن الله.

التفسير والبيان :

موضوع الآيات : الإنكار على المشركين واليهود والنصارى الذي ادعوا أن الله تعالى ولدا.

٢٢٠