التفسير المنير - ج ١١

الدكتور وهبة الزحيلي

انقسام المشركين إلى فريقين حول الإيمان بالقرآن والنبي

(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤))

الإعراب :

(مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) حملا على معنى (مَنْ) لأن معناها الجمع.

(مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) ينظر حملا على لفظ (مَنْ) لأن لفظها مفرد.

(وَلكِنَّ النَّاسَ) ذهب جماعة من النحويين إلى أن الاختيار في (لكِنَ) إذا جاءت معها الواو أن تكون مشدّدة ، وإذا جاءت بغير واو أن تكون مخففة ، قال الفراء : لأنها إذا كانت بغير واو أشبهت «بل» فخففت لتكون مثلها في الاستدراك ، وإذا جاءت بالواو خالفت فشدّدت ، فمن شددها ، كان ما بعدها منصوبا لأنه اسمها ، ومن خففها رفع ما بعدها على الابتداء ، وما بعده الخبر (أَنْفُسَهُمْ) مفعول به مقدم.

البلاغة :

(مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ...) و (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) بينهما طباق السلب.

(الصُّمَّ .. الْعُمْيَ) مجاز عن الكافرين ، شبههم بالصم والعمي لإعراضهم عن الحق والهدى.

المفردات اللغوية :

(وَمِنْهُمْ) ومن المكذبين أهل مكة (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق

١٨١

ولكن يعاند ، أو من سيؤمن به ويتوب عن كفره. وضمير (بِهِ) يعود إلى القرآن (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) في نفسه لفرط غباوته وقلة تدبره ، أو فيما يستقبل بل يموت على الكفر (بِالْمُفْسِدِينَ) بالمعاندين أو المصرين على الكفر ، وهو تهديد لهم.

(وَإِنْ كَذَّبُوكَ) أصروا على تكذيبك (لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) أي لكل جزاء عمله ، وأنا بريء من عملكم ، وبما أني تبرأت منه فقد أعذرت (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) لا تؤاخذوني بعملي ولا أؤاخذ بعملكم.

(مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) إذا قرأت القرآن وعلّمت الشرائع ، ولكن لا يقبلون كالأصم الذي لا يسمع أصلا (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) شبههم بهم في عدم الانتفاع بالقرآن (وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) ولو انضم إلى صممهم عدم تعقلهم وتدبرهم. وهذا يدل على أن حقيقة استماع الكلام فهم المعنى المقصود منه.

(مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) يعاينون دلائل نبوتك ولكن لا يصدقونك (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) شبههم بهم في عدم الاهتداء (وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) ولو انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة ، فإن المقصود من الإبصار : هو الاعتبار والاستبصار. والآية كالتعليل للأمر بالتبري والإعراض عنهم.

(لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) بسلب حواسهم وعقولهم (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بإفسادها وتفويت منافعها عليها. وفيه دليل على أن للعبد كسبا وأنه ليس بمسلوب الاختيار بالكلية ، كما زعمت المجبرة.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى طعن الكافرين في النبوة والوحي ، وبعد أن أنذرهم بالدمار والعذاب في الدنيا بقوله : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) ذكر أنهم في الواقع فريقان : فريق يصدق بأن القرآن كلام الله ، ولكنه يكابر ويعاند ، وفريق لا يصدق به أصلا لفرط غباوته وجهله ، فيصر على تكذيب النبي ؛ لفقده الاستعداد للإيمان به ، فلا أمل في إصلاحه وهدايته ، فتكون المصلحة في إعطاء الفرصة للفريق الأول للإيمان دون الاستئصال.

التفسير والبيان :

المشركون في الحال والاستقبال فريقان : فريق يصدق بالقرآن في نفسه

١٨٢

ويعلم أنه حق ، ولكنه يعاند بالتكذيب ، وفريق يشك فيه لا يصدق به. هذا في الحال. ويجوز أن يراد بفعل (يُؤْمِنُ) الاستقبال ، أي ومن هؤلاء الذين بعثت إليهم يا محمد من سيؤمن بهذا القرآن ، ويتبعك ، وينتفع بما أرسلت به ؛ ومنهم من سيصرّ على كفره ، ويموت على ذلك ويبعث عليه.

(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) أي وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه ، ومن يستحق الضلالة فيضله ، وهؤلاء هم المعاندون أو المصرّون ، والله العادل الذي لا يجوز ، بل يعطي كلا ما يستحقه ، فمعنى الآية : وربك أعلم بمن يفسد في الأرض بالشرك والظلم والطغيان ، فلا أمل في صلاحهم ، لفقدهم الاستعداد للإيمان ، وسيعذبهم في الدنيا والآخرة.

وإن كذّبك هؤلاء المشركون وأصروا على ذلك ، فتبرأ منهم ومن عملهم ، وقل لهم : (لِي عَمَلِي) : وهو تبليغ الرسالة والإنذار والتبشير والطاعة والإيمان ، وسيجازيني الله عليه، (وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) : وهو الظلم والشرك والفساد ، وسيجازيكم الله عليه ، كما قال تعالى : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) [يونس ١٠ / ٥٢].

(أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) يراد بذلك الزجر والردع ، وإعلان مبدأ المسؤولية الفردية : وهي انحصار مسئولية كل إنسان بنفسه ، وعدم سؤاله عن ذنب غيره. والمعنى : فلا تؤاخذوني بعملي ، ولا أؤاخذ بعملكم فقد أعذرت وأنا بريء من عملكم ، كقوله تعالى : (قُلْ : إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) [هود ١١ / ٣٥] وقوله : (قُلْ : لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا ، وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سبأ ٣٤ / ٢٥] وقوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام ٦ / ١٦٤] وقوله : (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [الشعراء ٢٦ / ٢١٦].

١٨٣

وأما موقف المشركين المكذبين منك يا محمد ، فلا تعجب منه ، فمنهم من يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلّمت الشرائع ، ولكنهم لا يعون ولا يقبلون ، وإنما يسمعون دون تدبر ولا فهم ، ويهتمون بسماع نظم القرآن وجرس صوته ، فهم لاهون لاعبون غير جادّين: (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ ، وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) [الأنبياء ٢١ / ٢ ـ ٣] (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) أي لا تستطيع الإسماع النافع لقوم صموا آذانهم عن سماعك ، وضموا إلى ذلك أنهم لا يعقلون ما يسمعون ولا يفهمون معناه ، فينتفعوا به ، فإن السماع النافع للمستمع : هو ما عقل به ما يسمعه ، وعمل بمقتضاه وإلا كان في الواقع كالأصم حقيقة. وهذا حال بعض المسلمين مع الأسف اليوم. وفيه دلالة على أنه لا يقدر على إسماعهم وهدايتهم بالقسر والإلجاء إلا الله عزوجل.

ومنهم من ينظر إليك عند قراءتك القرآن نظرة إعجاب ، ولكنه لا يبصر نور الإيمان والقرآن وهداية الدين والخلق القويم. (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) أي لا تقدر على هداية هؤلاء ، لأنهم وإن كانوا مبصرين بأعينهم في الظاهر ، فهم غير مبصرين بقلوبهم في الحقيقة ، فلا تستطيع هدايتهم لفقدهم نعمة البصيرة المدركة والعقل المدرك : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج ٢٢ / ٤٦].

والخلاصة : إنك يا محمد لا تستطيع هداية هؤلاء ، لفقدهم الاستعداد للفهم والهداية ، وكأنهم مثل من فقد حاسة السمع في الحقيقة ، وفقد حاسة البصر أيضا ؛ لأن فائدة السمع والبصر هي الانتفاع ، فإذا لم ينتفعوا فكأنهم عطلوا حواسهم : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق ٥٠ / ٣٧] والمراد بذلك تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ..) أي إن الله تعالى لا يجور أبدا ، بسلب

١٨٤

حواسهم وعقولهم التي بها يدركون الأشياء ويهتدون إلى الحق والصواب ، ولكن الناس هم الظالمون أنفسهم وحدها دون غيرها ؛ لأنهم يعرّضونها لعقاب الكفر والتكذيب والمعاصي ، بتعطيلهم نعمة العقل ، وتنكرهم لهداية الدين. وهذا وعيد للمكذبين ، فإن عذابهم يوم القيامة عدل وحق لا ظلم فيه.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ جميع الكفار ومنهم أهل مكة في الماضي : منهم من يؤمن بالقرآن باطنا ، لكنه يتعمد إظهار التكذيب ، ومنهم من لا يؤمن به أصلا. ومنهم من يؤمن به في المستقبل بأن يتوب عن الكفر ويؤمن ، ومنهم من يصر على الجحود ويستمر على الكفر ، والله تعالى عليم بالجميع.

٢ ـ كل إنسان مسئول عن نفسه وسيلقى جزاءه إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، فلا يؤاخذ أحد بذنب الآخر.

٣ ـ إن الحواس من سمع وبصر لها هدفان : هدف ظاهري وهو سماع المسموعات ورؤية المبصرات ، لتكون الحياة بوجه سليم وهدف حقيقي : وهو استخدامها في تدبر المسموع وفهمه وتعقله ، وإنعام النظر وإدراك البصيرة في أمور الدين والأخلاق ، للتوصل إلى نعمة الإيمان والهداية والحق ، والتخلص من ظلمة الكفر والضلال والباطل.

٤ ـ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجرد مبلّغ ومنذر ومبشر ، فلا يقدر على غرس الإيمان في القلوب ، وزرع الهداية في النفوس ، وما على العقلاء إلا الاستجابة لبلاغاته ، والاستماع لمواعظه ؛ ولأنه كما لا يقدر على إسماع من سلب السمع ، وإبصار من حرم البصر ، فلا يقدر أن يوفق هؤلاء للإيمان إذا أصروا على الكفر.

١٨٥

٥ ـ إن السمع أفضل من البصر ، بدليل أنه كلما ذكر الله السمع والبصر ، فإنه في الأغلب وكما في هذه الآية يقدم السمع على البصر.

٦ ـ احتج أهل السنة بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ؛ لأن قلوب أولئك الكفار بالنسبة إلى الإيمان كالأصم بالنسبة إلى استماع الكلام ، وكالأعمى بالنسبة إلى إبصار الأشياء ، والله هو الذي يخلق القدرة على الهداية فيها.

٧ ـ إن الله لم يظلم أهل الشقاء ، فهو في جميع أفعاله عادل ، ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم بالكفر والمعصية ومخالفة أمر خالقهم.

زوال الدنيا سريع

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥))

الإعراب :

(وَيَوْمَ) منصوب بتقدير : اذكر ، أو على الظرف ، وعامله : (يَتَعارَفُونَ).

(كَأَنْ) الكاف في موضع نصب على الحال من الضمير (يَحْشُرُهُمْ) أي يحشرهم متشابهين أو صفة مصدر محذوف ، تقديره : يحشرهم حشرا مشابها لحشر يوم لم يلبثوا قبله ، أو صفة (ليوم) على تقدير محذوف أيضا ، أي كأن لم يلبثوا قبله ، فحذف المضاف فاتصلت الهاء يلبثوا ، فحذفت للطول. و (كَأَنْ) : مخففة من الثقيلة ، تقديره : كأنهم لم يلبثوا ، وواو (يَلْبَثُوا) عائدة إلى ضمير (يَحْشُرُهُمْ).

(يَتَعارَفُونَ) جملة فعلية حال من ضمير (لَمْ يَلْبَثُوا) ويجوز جعلها خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هم يتعارفون.

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ ..) إما استئناف فيه معنى التعجب أي ما أخسرهم ، وإما حال من ضمير يتعارفون.

١٨٦

المفردات اللغوية :

(يَحْشُرُهُمْ) الحشر : الجمع من كل جانب إلى موقف واحد. (كَأَنْ) أي كأنهم ، فخففت. (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا ، أو في القبور ، لهول ما يرون. (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) يعرف بعضهم بعضا إذا بعثوا ، ثم ينقطع التعارف لشدة الأهوال. (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) بالبعث. (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) طريق الرشاد ، وقوله : (قَدْ خَسِرَ ...) هو استئناف ، فيه معنى التعجب ، كأنه قيل : ما أخسرهم ، وهي شهادة من الله تعالى على خسرانهم ، أو حال من ضمير : (يَتَعارَفُونَ) ، على إرادة القول ، أي يتعارفون بينهم قائلين ذلك.

المناسبة :

لما وصف الله تعالى هؤلاء الكفار بقلة الإصغاء وترك التدبر ، وتكذيبهم القرآن الكريم والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أتبعه بالوعيد بالجزاء في الآخرة على ما كان منهم في الدنيا.

التفسير والبيان :

يذكّر الله تعالى الناس بقيام الساعة والحشر من قبورهم إلى أرض المحشر يوم القيامة ، فيقول : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) أي اذكر لهم أيها الرسول وأنذرهم يوم يجمعهم الله بالبعث بعد الموت في موقف الحساب والجزاء ، فيلاحظون كأنهم لم يمكثوا في الدنيا إلا مدة يسيرة ، والساعة مثل في القلة ، ثم انقضت ، حالة كونهم يتعارفون أي يعرف بعضهم بعضا إذا بعثوا ، ثم ينقطع التعارف ؛ لشدة الأهوال ، أو فهم يتعارفون.

وتقديرهم قصر الدنيا في ذلك الموقف الرهيب معنى متكرر في القرآن الكريم ، مثل قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ ، لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) [الأحقاف ٤٦ / ٣٥] وقوله : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) [النازعات ٧٩ / ٤٦] وقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) [الروم ٣٠ / ٥٥] وقوله : (قالَ : كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟

١٨٧

قالُوا : لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ، فَسْئَلِ الْعادِّينَ ، قالَ : إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ١١٢ ـ ١١٤].

ثم أعلن الله تعالى خسارتهم فقال : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا ..) أي إن هؤلاء الكفار المكذّبين بالبعث قد خسروا ثواب الجنة خسارة كبري ، إذ بدلوا الإيمان بالكفر ، وما كانوا مهتدين لأوجه الربح والنفع بعمل الصالحات ، فما أخسرهم! وهذا تعجب شديد من الله تعالى.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على أن عمر الدنيا قصير ، إذا قوبل بحياة الآخرة الطويلة الأمد بل الخالدة ، وعلى أن الكافرين المكذبين بالبعث خسروا ثواب الجنة خسارة كبري لا تعوض ؛ لأن الخسران إنما هو في يوم لا يرجى فيه القيام بالبديل ، ولا تنفع فيه التوبة ، وذلك بعد قيام الأدلة الكثيرة في القرآن المجيد على البعث والنشور. ويفهم من الآية أيضا أن لذات الدنيا بالنسبة إلى جميع العالم لا تعادل شيئا أمام العذاب الشديد والآفات الحاصلة للكافر يوم القيامة ، فمن باع آخرته بالدنيا فقد خسر ؛ لأنه أعطى الكثير وأخذ القليل ، وأن الكافر اهتدى إلى رعاية مصالح تجارته هذه.

كذلك أشارت الآية إلى أن الناس في الآخرة يعرف بعضهم بعضا ، ولكن التعارف يمكث وقتا يسيرا ، ويقولون : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) أي بالبعث والنشور.

ومع أنني اتجهت في تفسير الآية إلى مقابلة الدنيا بالآخرة فإن ما ذكر في الآية من لبث قدر ساعة من النهار يحتمل أن يكون ذلك هو عمرهم في الدنيا ، أو مدة بقائهم في قبورهم ، لهول ما يرون من البعث.

١٨٨

تعذيب المشركين في الدنيا والآخرة

(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦))

١٨٩

الإعراب :

(بَياتاً) منصوب على الظرف بمعنى وقت بيات.

(ما ذا يَسْتَعْجِلُ) يجوز جعله جوابا للشرط ، كقولك : إن أتيتك ماذا تطعمني؟ ويجوز جعل جواب الشرط محذوفا وهو : تندموا على الاستعجال أو تعرفوا الخطأ فيه.

(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ) إما بمعنى : يستخبرونك ، فيتعدى إلى مفعولين ، الأول هو الكاف والثاني جملة (أَحَقٌّ هُوَ) جملة اسمية في موضع المفعول الثاني. وإما بمعنى يستعملونك فيتعدى إلى ثلاثة مفاعيل ، فتكون الجملة الاسمية قد سدت مسدّ المفعولين.

(إِي وَرَبِّي) أي : حرف يكون مع القسم بمعنى نعم ، وجواب القسم : (إِنَّهُ لَحَقٌ).

(أَرَأَيْتُمْ) تستعمل «أرأيت» بمعنى أخبرني ، والرؤية إما بصرية أو علمية ، ولا تستعمل في غير الأمر العجيب مثل : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى).

البلاغة :

(ضَرًّا وَلا نَفْعاً) بينهما طباق ، ومثله بين (بَياتاً أَوْ نَهاراً) وبين (يُحيِي وَيُمِيتُ) وبين (يَسْتَأْخِرُونَ ..) و (يَسْتَقْدِمُونَ).

(يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) فيه وضع الظاهر موضع المضمر للتهويل والتشنيع على الجرم ، كما أن هذا الاستفهام للتهويل والتعظيم.

(أَثُمَ) دخول حرف الاستفهام على ثم لإنكار التأخير لإيمانهم ، فلا يقبل منهم.

المفردات اللغوية :

(وَإِمَّا) أدغمت فيه نون إن الشرطية في ما المزيدة. (نُرِيَنَّكَ) نبصرنك. (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) به من العذاب في حياتك ، كما أراه يوم بدر ، وجواب الشرط محذوف أي فذاك. (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل تعذيبهم. (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) فنريكه في الآخرة ، وهو جواب : نتوفينك. (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ) مطلع أو مجاز عليه ، فإنه ذكر الشهادة وأراد نتيجتها. (عَلى ما يَفْعَلُونَ) من تكذيبهم وكفرهم ، فيعذبهم أشد العذاب.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم الماضية. (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) إليهم بالبينات فكذبوه. (قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) بالعدل ، أي بين الرسول ومكذبيه ، فيعذبون وينجّى الرسول ومن آمن به. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بتعذيبهم بغير جرم ، فكذلك نفعل بهؤلاء.

١٩٠

(وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ؟) بالعذاب ، يراد استبعاد له واستهزاء به ، وقولهم خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين. (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن أملكه أو يقدرني عليه ، فكيف أملك لكم حلول العذاب. (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) مدة معلومة لهلاكهم. (فَلا يَسْتَأْخِرُونَ) يتأخرون عنه. (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) يتقدمون عليه.

(قُلْ : أَرَأَيْتُمْ) أخبروني. (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ) عذاب الله الذي تستعجلون به. (بَياتاً) ليلا. (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ) : أي شيء من العذاب يستعجلونه ، وكله شديد مؤلم لا يلائم الاستعجال. (الْمُجْرِمُونَ) المشركون. وجواب الشرط : هي جملة الاستفهام ، كقولك : إذا أتيتك ماذا تعطيني؟ والمراد به التهويل ، أي ما أعظم ما استعجلوه. (آلْآنَ) تؤمنون؟ على إرادة القول ، أي يقال لهم إن آمنوا بعد وقوع العذاب : آلآن آمنتم به؟ (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) استهزاء وتكذيبا.

(ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) عطف على (قيل أو : يقال) المقدر قبل : (آلْآنَ ..).

(عَذابَ الْخُلْدِ) أي الذي تخلدون فيه ، أي المؤلم على الدوام. (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي ما تجزون إلا جزاء على ما كسبتموه من الكفر والمعاصي.

(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ) يستخبرونك. (أَحَقٌّ هُوَ؟) أي أحق ما تقول من الوعد الذي وعدتنا به من العذاب والبعث. (قُلْ : إِي) نعم. (بِمُعْجِزِينَ) بفائتين العذاب.

(ظَلَمَتْ) بالشرك أو الكفر أو التعدي على الغير. (ما فِي الْأَرْضِ) ما فيها جميعا من خزائن وأموال. (لَافْتَدَتْ بِهِ) لجعلته فدية لها من العذاب يوم القيامة. (النَّدامَةَ) على ترك الإيمان. (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) لأنهم بهتوا بما عاينوا من الهول فلم يقدروا على النطق. (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين الخلائق. (بِالْقِسْطِ) بالعدل. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) شيئا. وليس هذا تكرارا مع ما سبق من القضاء بالقسط ؛ لأن الله يقضي بين الأنبياء ومكذبيهم ، والثاني فيه مجازاة المشركين على الشرك ، أو الحكم بين الظالمين والمظلومين.

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقرير لقدرته تعالى على الإثابة والعقاب. (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي إن وعده بالبعث والجزاء من ثواب وعقاب كائن ثابت لا خلف فيه. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أكثر الناس لا يعلمون ذلك ، لقصور عقولهم إلا ظاهرا من الحياة الدنيا.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى خسارة المشركين المكذبين بالبعث الذين لم يهتدوا إلى وجوه الخير والصلاح ، وأنهم سيعذبون ، أوضح أن بعض هذا العذاب سيكون في

١٩١

الدنيا ، وبعضه في الآخرة ، وهو تنبيه على أن عاقبة المذنبين مذمومة قبيحة جدا.

وليس هذا حال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع قومه ، بل هو حال كل الأنبياء مع أقوامهم. ثم بيّن الله تعالى الشبهة الخامسة (١) من شبهات منكري النبوة ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلما هددهم بنزول العذاب ، ومرّ زمان ولم يظهر ذلك العذاب ، قالوا : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ واحتجوا بعدم وجوده على القدح في نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم أجابهم تعالى بأنه لو نزل هذا العذاب ، ما الفائدة لكم فيه؟ فإن قلتم : نؤمن عنده ، فالإيمان وقت الإلجاء والعسر باطل ، فيكون هذا العذاب في الدنيا ، ثم يعقبه عذاب آخر أشد منه يوم القيامة؟

وبالرغم من سؤالهم : (مَتى هذَا الْوَعْدُ) وإجابتهم ، عادوا مرة أخرى إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم يسألونه : (أَحَقٌّ هُوَ) أي المعاد والقيامة من القبور ثم العذاب؟ هو حق وأنه ليس للظالم شيء يفتدي به ، فإن كل الأشياء ملك الله تعالى ، وأن ثبوت النبوة وصحة المعاد متفرعان على إثبات الإله القادر الحكيم ، وكل ما سواه ملكه.

التفسير والبيان :

كان المشركون يكذبون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في توعده لهم بالعذاب ، وكانوا يستعجلون نزوله تكذيبا له واستهزاء به ، ويتمنون موته لتموت دعوته ، فرد الله تعالى عليهم مخاطبا رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن ننتقم منهم في حياتك لتقرّ عينك كما حدث يوم بدر وحنين وغيرهما ، فذاك ؛ وإن توفيناك قبل ذلك فمصيرهم ومنقلبهم إلينا بكل حال ، فنريك عذابهم في الآخرة ، والله مطلع على أفعالهم بعدك ، فيجازيهم به ، على علم وشهادة حق. وذلك كقوله تعالى : (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ،

__________________

(١) قد مضى بيان الشبهات الأربعة في هذه السورة.

١٩٢

أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرعد ١٣ / ٤٠].

وهذا يدل على أنه تعالى يري رسوله أنواعا من ذل الكافرين وخزيهم في الدنيا ، وسيزيد عليه بعد وفاته.

وهذا ليس حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع قومه ، بل هو حال الأنبياء كلهم مع أقوامهم ، فإنه تعالى أرسل لكل أمة من الأمم الخالية رسولا ، يدعوهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر ، وإلى العمل الصالح مناط النجاة في الآخرة. وهذا يدل على أن كل جماعة ممن تقدم قد بعث الله إليهم رسولا : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر ٣٥ / ٢٤].

فإذا جاء رسولهم إليهم بالبينات فكذبوه ، قضى الله بينه وبينهم بالعدل ، فيعذبون ، وينجي الله رسوله ومن صدقه ، وهم لا يظلمون في قضائه شيئا ، مما ينزل بهم من عذاب ، فلن يكون عذاب بغير ذنب ارتكبوه.

ويقول كفار قريش للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين تكذيبا واستهزاء ، كلما هددهم بنزول العذاب على شركهم ولم ينزل : متى يقع هذا الوعيد ، إن كنتم صادقين في تهديدكم وقولكم؟

فأجابهم الله تعالى بجواب يحسم هذه الشبهة : قل أيها الرسول لمن يستعجل العذاب : إني بشر لا أملك لنفسي ضرا أمنعه ، ولا نفعا أجلبه ، إلا ما شاء الله أن يقدرني. والمراد أن إنزال العذاب على الأعداء وإظهار نصر المؤمنين لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه ، وأنه تعالى ما عيّن لذلك الوعيد وقتا معينا ، فهذا من شأن الإله ، وأما الرسول فمهمته مقصورة على التبليغ لما جاء من عند الله.

والاستثناء هنا في رأي أهل السنة منقطع ، أي ولكن ما شاء الله من ذلك كائن.

١٩٣

ولكل أمة من الأمم مدة من الزمن أو العمر مقدرة ، فإذا جاء أجلهم ، لا يملك رسولهم ولا غيره أن يقدمه ولا أن يؤخره ساعة من الزمان المقدر له.

وهذا يدل على أن الجزاء يحصل مع حصول الشرط ، لا متأخرا عنه ، وأن حرف الفاء لا يدل على التراخي ، وإنما يدل على كونه جزاء.

ثم أجابهم الله تعالى بجواب آخر : (قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ ..) أي قل لهم أيها الرسول : أخبروني عن حالكم وما يمكنكم أن تفعلوه ، إن أتاكم عذابه ليلا وقت مبيتكم ، أو نهارا وقت شغلكم.

وأي نوع من العذاب تستعجلون ، أعذاب الدنيا أم عذاب الآخرة؟ وكل من العذابين واقع شديد ، وأي عذاب تطلبون تعجيله فهو جهل وحماقة؟ فأي فائدة لكم فيه؟ إن قلتم : نؤمن عنده ، فالإيمان وقت الشدة واليأس باطل ، فالعذاب القريب هو عذاب الدنيا ، ويعقبه يوم القيامة عذاب آخر أشد منه.

وهذا معنى قوله : (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ؟) أي أتنتظرون مجيء هذا العذاب للإيمان؟ فإذا وقع بالفعل آمنتم به ، في وقت لا ينفع الإيمان ، ويقال لكم توبيخا : آلآن آمنتم بالله والرسول اضطرارا وقسرا ، مع أنكم كنتم قبل ذلك تستعجلون العذاب على سبيل السخرية والاستهزاء والتكذيب والاستكبار؟! ودخلت ألف الاستفهام على (ثُمَ) للتقرير والتوبيخ ، وليدل على أن معنى الجملة الثانية بعد الأولى.

ثم يقال للذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان ، وتكذيب الرسول ووعيده : تجرعوا عذاب الله الدائم لكم أبدا ، هل تجزون أي لا تجزون إلا بما كنتم تكسبون وتعملون باختياركم من الكفر والمعاصي.

وذكر هذه العلة : (بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) كلما ذكر العقاب والعذاب دليل على أن جانب الرحمة راجح غالبا ، وجانب العذاب مرجوح مغلوب.

١٩٤

وظاهر الآية يدل على أن الجزاء من جنس العمل ، ويوجب العمل ؛ لأن ذلك الجزاء عند أهل السنة واجب بحكم الوعد المحض ، وعند المعتزلة فلأن العمل الصالح يوجب استحقاق الثواب على الله تعالى.

والآية تدل أيضا على كون العبد مكتسبا للخير والشر ، خلافا للجبرية.

وبالرغم من جواب الله تعالى بما ذكر عن سؤال الكفار : (مَتى هذَا الْوَعْدُ؟) فإنه أخبر سبحانه أنهم رجعوا إلى الرسول مرة أخرى ، وسألوه مرة أخرى ، عن ذلك السؤال ، فقال : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ).

أي ويستخبرونك أيها الرسول أن تخبرهم عن عذاب الدنيا والآخرة أحق أنه سيقع على ما نكسبه من المعاصي في الدنيا ، أم هو مجرد إرهاب وتخويف؟.

وتكرار السؤال دليل على أن القوم تملّكهم إحساس شديد بالقلق والخوف من العذاب ، كأنهم لم يكونوا على يقين من تكذيبهم.

فقل لهم أيها الرسول : نعم وربي ، إنه لحق ثابت واقع ماله من دافع ، وما أنتم بمعجزين أي بفائتين العذاب ، وليس صيرورتكم ترابا بمعجز الله عن إعادتكم كما بدأكم من العدم : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) [يس ٣٦ / ٨٢].

وليس لهذه الآية نظير في القرآن إلا آيتان أخريان ، يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد ، وهما في سورة سبأ : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ، قُلْ : بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) [٣] وفي التغابن : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا ، قُلْ : بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ، ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ ، وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [٧].

ثم أخبر الله تعالى عن بعض مضايقات وأهوال القيامة فقال : (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِ

١٩٥

نَفْسٍ ..) أي أنه إذا قامت القيامة يود الكافر لو افتدى من عذاب الله بملء الأرض ذهبا.

وأسروا الندم : وهو ما يجد الإنسان في نفسه من الألم والحسرة عقب كل فعل ضارّ ، لما رأوا العذاب الشديد ، فصاروا مبهوتين متحيرين. وقد يجهرون بالندم كما قال : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر ٣٩ / ٥٦] ثم بين تعالى أنه لا ظلم حينئذ فقال : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ..) أي وحكم الله بين الظالمين والمظلومين بالعدل. لأن الكفار وإن اشتركوا في العذاب ، فإنه لا بد وأن يقضي الله تعالى بينهم بالحق ، رفعا لما ظلم به بعضهم بعضا في الدنيا ، فيكون في القضاء تخفيف عذاب بعضهم ، وتثقيل عذاب الباقين.

ثم أتبع ذلك الاعلام وأنه ليس للظالم شيء يفتدي به ، بأن الملك كله لله وأنه المعاقب فإن الله مالك السموات والأرض ، وكل الأشياء ملكه وفي سلطانه ، وأن وعده حق كائن لا محالة ، ولكن أكثر الكفار منكري البعث والجزاء لا يعلمون أمر الآخرة والمعاد ، لغفلتهم عنها ، وعدم إيمانهم بالإله القادر الحكيم ، فأبان تعالى لهم الحقيقة ، وأن كل ما سواه مملوك له.

والدليل على قدرته تعالى على البعث والجزاء والثواب والعقاب أنه تعالى هو المحيي والمميت ، وإليه مرجع الخلائق حين يحييهم بعد موتهم ، فيحشرهم للحساب والجزاء على أعمالهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ عذاب الكفار شديد مضاعف في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا يعذبون بالهزيمة والذل والخزي ونحوها من القلق والخوف ، وفي الآخرة بعذاب النار.

١٩٦

والله تعالى يري رسوله في الدنيا نماذج من عذابهم ، وسيريه يوم القيامة ما هو أشد وأكثر ، مما يدل على أن عاقبة المؤمنين محمودة ، وعاقبة المذنبين مذمومة.

٢ ـ لكل أمة رسول شاهد عليهم ، فإذا جاء رسولهم يوم القيامة قضي بينهم ، وكذلك لا يعذب الناس في الدنيا حتى يرسل الله إليهم رسولا ، فمن آمن فاز ونجا ، ومن لم يؤمن هلك وعذّب ؛ لقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء ١٧ / ١٥].

٣ ـ القضاء بين العباد حق قائم على العدل المطلق ، وهم لا يعذبون بغير ذنب ، ولا يؤاخذون بغير حجة.

٤ ـ النقاش حول نزول العقاب الإلهي ومجيء القيامة قديم بين الأمم مع الرسل عليهم‌السلام ، وبين الأمة العربية مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو مستمر دائم بين الكفار ودعاة الإسلام المصلحين.

٥ ـ إنزال العذاب مقدر بأجل معين في علم الله تعالى ، ولا يملك إنزاله إلا الله تعالى ، ومتى حان وقت هلاك أمة من الأمم ، فلا يتأخر ولا يتقدم لحظة. وليس لرسول أو نبي أو غير هما الحيلولة دون وقوع العذاب المقرر.

٦ ـ استعجال العذاب لا نفع فيه ، وإنما النافع هو الإيمان قبل نزول العذاب ، فإذا نزل فلا فائدة ولا نفع فيه ؛ لأن إيمان اليأس غير مفيد ولا صحيح.

والقائل في قوله : (آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) إما الملائكة استهزاء بهم ، وإما من قول الله تعالى.

٧ ـ تبكيت الظالمين بما يقال لهم : (ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) أي الذي لا ينقطع ، والجزاء لا يكون إلا جزاء الكفر والعصيان.

١٩٧

٨ ـ قيام الساعة والبعث والمعاد حق ثابت أقسم الله ورسوله على أنه حق كائن لا شك في وقوعه ، وجميع الناس غير فائتين عن عذابه ومجازاته.

٩ ـ لا يقبل من أحد الفداء عن ذنبه ؛ لأن الله هو مالك السموات والأرض وكل شيء في ملكه وسلطانه ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا ، وَهُمْ كُفَّارٌ ، فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً ، وَلَوِ افْتَدى بِهِ) [آل عمران ٣ / ٩١].

١٠ ـ يندم الكفار والظلمة والعصاة على أعمالهم في الدنيا ، وهم إما أن يخفوا الندامة أحيانا ، وإما أن يظهروها أحيانا أخرى. ورؤساء الضلالة يخفون ندامتهم عن أتباعهم قبل الإحراق بالنار ، فإذا وقعوا في النار ألهتهم النار عن التصنع ، بدليل قولهم : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا ، وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) [المؤمنون ٢٣ / ١٠٦] فبيّن أنهم لا يكتمون ما بهم.

١١ ـ القضاء بالعدل بين الكفار أنفسهم لدفع الظلم الذي كان بينهم واقع أيضا في الآخرة ، فيخفف العذاب حينئذ عن المظلوم ، ويزاد على الظالم.

١٢ ـ تنبيه الناس قاطبة على أمور هي : أن الله مالك السموات والأرض ، وأن وعد الله حق كائن لا محالة فلا مانع يمنعه من إنفاذ ما وعده ، وأنه يحيي ويميت ، وإليه مرجعهم ، وأنه القادر على ما يريد ، العليم بأماكن وجودهم قبل البعث والحشر في البر والبحر ، وأن أكثر الكفار منكري البعث غافلون عن أمر الآخرة ، مقصّرون في الاستعداد لها.

والله تعالى في الآخرة كما في الدنيا قادر لذاته على الإحياء والإماتة ، لا تزول قدرته ، والمادة القابلة بالذات للحياة والموت قابلة لهما أبدا.

١٩٨

مقاصد القرآن الكريم

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨))

الإعراب :

(مَوْعِظَةٌ .. وَشِفاءٌ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) التنكير للتعظيم.

(بِفَضْلِ اللهِ ..) الباء متعلقة بفعل يفسره قوله : (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) ، أي فليعتنوا أو فليفرحوا ثم قال : (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) وفائدة هذا التكرار : التأكيد والبيان بعد الإجمال. والفاء بمعنى الشرط ، كأنه قيل : إن فرحوا بشيء ، فبهما فليفرحوا ، وإعادة الباء (بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) دليل على أن كلا منهما سبب في الفرح. وقوله (فَبِذلِكَ) للواحد والاثنين والجمع.

البلاغة :

(شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) مجاز مرسل من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحالّ ، أي شفاء للقلوب التي في الصدور.

المفردات اللغوية :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي أهل مكة وغيرهم. (مَوْعِظَةٌ) أو عظة : هي الوصية بالحق والخير واجتناب الشر والباطل ، بأسلوب جمع بين الترغيب والترهيب. (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) ودواء من العقائد الفاسدة والشكوك. (وَهُدىً) بيان الحق من الضلال ، والبيان في العقيدة بالبرهان ، وفي التشريع العملي ببيان المصالح. (وَرَحْمَةٌ) رقة تقتضي الإحسان والعطف.

(بِفَضْلِ اللهِ) التوفيق لتزكية النفوس ، أو هو الإسلام. (وَبِرَحْمَتِهِ) أي ثمرة الفضل أو هي إنزال القرآن. (فَبِذلِكَ) الفضل والرحمة. (فَلْيَفْرَحُوا) الفرح والسرور : انفعال في النفس بنعمة حسية أو معنوية ترتاح له وتستمتع به.

١٩٩

المناسبة :

بعد أن أقام الله تعالى الأدلة على أسس الدين الثلاثة : وهي التوحيد ، والنبوة ، والبعث ، ذكر التشريع العملي وهو القرآن ، وأبان صفاته ومقاصده الأربعة.

التفسير والبيان :

يا أيها الناس ، قد جاءكم كتاب جامع لكل المواعظ أو الوصايا الحسنة التي تصلح الأخلاق والأعمال وتزجر عن الفواحش ، وتشفي الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد ، وتهدي إلى الحق واليقين والصراط المستقيم الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة ، وترحم المؤمنين رحمة خاصة.

وهذه هي صفات القرآن المجيد أو خصائصه.

١ ـ كونه موعظة حسنة من عند الله ، يجمع بين الترغيب والترهيب ، فيبعث على فعل الحسن وترك القبيح ، مثل قوله تعالى : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران ٣ / ١٣٨].

٢ ـ شفاء لما في القلوب من الشبهات والشكوك والنفاق والكفر وسوء الاعتقاد والخلق ، كقوله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء ١٧ / ٨٢].

٣ ـ هاد إلى الحق واليقين والصراط المستقيم المحقق لسعادتي الدنيا والآخرة كقوله تعالى : (قُلْ : هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) [فصلت ٤١ / ٤٤].

٤ ـ رحمة للمؤمنين خاصة ، ينجيهم من ظلمات الضلال إلى نور الإيمان ، ويحجبهم من النيران ، ويرفعهم إلى درجات الجنان. وخص المؤمنين ؛ لأنهم المنتفعون بالإيمان.

٢٠٠