التفسير المنير - ج ١١

الدكتور وهبة الزحيلي

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ الحشر (أي جمع الخلائق من كل جانب في موقف واحد) أمر ثابت يوم القيامة.

٢ ـ انقطاع الصلة تماما بين الشركاء والمشركين يوم القيامة.

٣ ـ وعيد الكفار المشركين المتكرر في قوله تعالى : (مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) وقوله : (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ : ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) وقوله : (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ...)

٤ ـ إظهار الخيبة والخزي والإفلاس من عبادة الشرك والمشركين ؛ للآية (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ...).

٥ ـ وصف الله تعالى نفسه بالحق ؛ لأن الحق منه ، كما وصف نفسه بالعدل ؛ لأن العدل منه ؛ أي كل عدل وحق فمن قبله.

٦ ـ خيبة الآمال التي تعلق بها المشركون في شفاعة الشركاء وتقريبهم إياهم إلى الله تعالى.

والسبب في قوله تعالى : (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) مع أنه تعالى أخبر بأن الكافرين لا مولى لهم : هو أن المولى هنا يراد به أنه مولاهم في الرزق وإدرار النعم ، وليس بمولاهم في النصرة والمعونة.

١٦١

إثبات التوحيد بثبوت الربوبية لدى المشركين

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣))

الإعراب :

(أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أن وصلتها : يجوز كونها في موضع نصب وجر ورفع ، فالنصب بتقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : بأنهم أو لأنهم ، فلما حذف حرف الجر اتصل الفعل به فنصبه ، والجر : بأن يجعل حرف الجر في نية الإثبات ، وإنما حذف للتخفيف ، والرفع على أن يكون بدلا من (كَلِمَةُ).

البلاغة :

(فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ؟) استفهام إنكاري ، أي ليس بعد الحق إلا الضلال ، فمن تخطى الحق الذي هو عبادة الله تعالى ، وقع في الضلال.

المفردات اللغوية :

(وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ومن يلي تدبير أمر العالم ، وهو تعميم بعد تخصيص.

(فَذلِكُمُ) الفعال لهذه الأشياء (الْحَقُ) الثابت ربوبيته ؛ لأنه الذي أنشأكم وأحياكم ورزقكم ودبر أموركم (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) أي ليس بعد عبادة الله التي هي الحق إلا الضلال والانحراف (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) كيف تصرفون عن الحق أي الإيمان إلى غيره مع قيام البرهان؟

١٦٢

(كَذلِكَ حَقَّتْ) أي كما صرف هؤلاء عن الإيمان ثبتت كلمة ربك أي حكمه (عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) كفروا ، وهي (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) أو هي (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى جناية المشركين على أنفسهم باتخاذهم الأنداد والشركاء ، ذكر أدلة فساد مذهبهم وهو عبادة الأوثان ، وإذا فسد مذهبهم ثبت التوحيد ، بدليل إقرارهم بأن الرازق ومالك الحواس ، والمحيي والمميت هو الله تعالى ، فهو سبحانه يحتج على المشركين باعترافهم بوحدانية الله وربوبيته على وحدانية الألوهية.

التفسير والبيان :

قل أيها النبي لمشركي مكة وأمثالهم : من ذا الذي ينزل من السماء المطر ، فيكون سببا في إثبات الأرض بالزرع والزهر والشجر ، فيخرج منها حبا وعنبا وقضبا (البرسيم) وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا متشابكة وفاكهة كثيرة ونحو ذلك؟ كقوله تعالى : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ؟) [الملك ٦٧ / ٢١] فهي مصدر رزقكم ، بسبب بركات السماء والأرض ، فيرزقكم منهما جميعا ، دون اقتصار على جهة واحدة ليفيض عليكم نعمته ويوسع رحمته.

ومن الذي أوجد لكم السمع والأبصار ، وغيرهما من الحواس ، فيملك خلقها وتسويتها على نحو بديع وتحصينها من الآفات ، ومن الذي وهبكم هذه القوة السامعة والقوة الباصرة ، ولو شاء لذهب بها وسلبكم إياها؟ كقوله تعالى : (قُلْ : هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) [الملك ٦٧ / ٢٣] فهي وسائل العلم والمعرفة وإدراك ما في هذا العالم.

وخص السمع والبصر ؛ لأنهما أهم الحواس ، وأداة تحصيل العلوم.

١٦٣

ومن الذي بقدرته العظيمة أمر الحياة والموت؟ فيحيي ويميت ، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، مثل إخراج النخلة من النواة والطائر أو الحيوان من البيضة أو النطفة ، وعكس ذلك كإخراج الحب والنوى وبيض الحيوان ومنيّه من الشجر والحيوان ، وفي هذا دلالة عامة على إيجاد أمارات الحياة والموت ، وعلامة الحياة في النبات : النمو ، وفي الحيوان : النمو والحركة الإرادية. وفسر بعضهم الحياة والموت بالشيء المعنوي وهو إخراج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، والأكثرون من المفسرين يفسرون الآية بالمعنى الأول ، وهو إلى الحقيقة أقرب ، كما قال الرازي.

وإذا كان المفسرون قد مثلوا للحي بالنطفة وللميت بالبيضة ، فهم يلاحظون الوضع الظاهر المشاهد للناس عادة وهي حياة الحركة والنمو ، وهذا لا ينفي ما يقوله الآن علماء الأحياء بأن في البذور والبيض والمني والنطفة حياة أي حياة الخلية ، لكن هذه حياة خاصة لا حركة فيها ولا نمو.

ويمكن التمثيل في العلم الحديث لإخراج الميت من الحي بما يطرحه البدن من الخلايا الميتة في الدم والجلد فيخرج مع البخار والعرق ، ومثال إخراج الحي من الميت الغذاء الذي يحرق بالنار ، ثم يتناوله الإنسان فيتولد منه الدم.

وإذا قال هؤلاء العلماء الجدد : الحي لا يخرج إلا من حي ، فإنهم يقررون أن الحياة الأولى هي من خلق الله بدون أي شك.

وعلى أي حال فإن المقصود من الآية إثبات القدرة الكاملة لله تعالى وأنه خالق الموت والحياة ، أيا كان المثال ؛ لأن إطلاق النص القرآني وعمومه يمكن تطبيقه على ما يقره العلم.

ومن الذي يدبر أمور العالم وبيده ملكوت كل شيء ، وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقّب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون؟.

١٦٤

هذه الأسئلة الخمسة لا يملك المشركون إلا أن يقولوا : إن الفاعل هو الله ، وأن يجيبوا بأن الموجد والمعدم هو الله تعالى ، بلا تردد ولا شك ، ومن غير مكابرة وعناد في ذلك ، لفرط وضوح الأمر ، ولأنه لا جواب في الواقع غيره.

وإذا اعترفوا بالحقيقة ، فقل لهم أيها الرسول عندئذ : أفلا تتقون أنفسكم عقاب الله بإشراككم إياه وعبادتكم غيره ، مما لا يشاركه في شيء من ذلك ، ولا يملك ضرا ولا نفعا.

فذلكم الذي يتصف بما ذكر من القدرة الخلاقة والإرادة المبدعة هو الله خالقكم ومربّيكم على فضله ومدبر أموركم ، وهو المستحق للعبادة ، وهو ربكم الثابت ربوبيته بذاته ، لأنه الذي أنشأكم وأحياكم ورزقكم ودبر أموركم ، فلا إله غيره ، ولا معبود سواه.

وإذا كان الله هو ربكم الحق الثابت بذاته ، فليس بعد القول الحق والفعل الحق إلا الضلال والباطل ، ولا واسطة بين الحق والباطل ، فمن تخطى الحق الذي هو عبادة الله تعالى وقع في الضلال.

فأنى تصرفون عن الحق إلى الضلال ، وكيف تتحولون عن الحق إلى الباطل ، وعن الهدى إلى الضلال؟ ذلك ما لا يقبله عقل ولا منطق.

(كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي كما حقت الربوبية لله والألوهية لله ، حقت أي ثبتت كلمة الله وحكمه أو وعيده على الذين فسقوا أي تمردوا في كفرهم وأصروا على ضلالهم ، وخرجوا عن دائرة الحق والصلاح وتوحيد الربوبية والألوهية ، أنهم لا يؤمنون ، أي حق عليهم انتفاء الإيمان وعلم الله منهم ذلك ، أو حق عليهم كلمة الله أنهم من أهل الخذلان وأن إيمانهم غير كائن. ويجوز أن يراد بالكلمة الوعيد بالعذاب ، ويكون قوله (أَنَّهُمْ

١٦٥

لا يُؤْمِنُونَ) تعليلا للحقية ، بمعنى : لأنهم لا يؤمنون (١). ويلاحظ أن الآية صرحت باليأس من إيمان الذين فسقوا وأصروا على كفرهم ، ولم تذكر غيرهم ؛ لأن من لم يصرّ يرجى إيمانه وتخلصه من العذاب إذا آمن وأطاع ، فلا مانع أمامه ، كما أنه ليس هناك أي مانع قهري يمنع من إيمان أي كافر ، وإنما هو الذي يمتنع باختياره من الإيمان ، ويصرّ على الكفر ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس ١٠ / ٩٦ ـ ٩٧].

وجعل ابن كثير الآية الأخيرة (كَذلِكَ حَقَّتْ) في المشركين أنفسهم ، فقال : أي كما كفر هؤلاء المشركون واستمروا على شركهم وعبادتهم مع الله غيره ، مع أنهم يعترفون بأنه الخالق الرزاق المتصرف في الملك وحده ، الذي بعث رسله بتوحيده ، فلهذا حقت عليهم أنهم أشقياء من ساكني النار ، كقوله : (قالُوا : بَلى ، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) [الزمر ٣٩ / ٧١] (٢).

فقه الحياة أو الأحكام :

هذا نقاش منطقي هادئ مع المشركين ، فإنهم إن سئلوا عن الرازق والخالق والمحيي والميت والمدبر ، فلا يسعهم إلا الاعتراف بأنه هو الله رب الخلائق قاطبة ، وهذا اعتراف صريح منهم بوحدة الربوبية ، فلم لا يعترفون بوحدة الألوهية ، وإنما يشركون مع الله إلها آخر؟!

والمنطق يقضي بالتسوية بين الأمرين والإقرار بوحدة الربوبية والألوهية ، فتكون الآية دالة على إثبات التوحيد.

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٧٤

(٢) تفسير ابن كثير : ٢ / ٤١٦

١٦٦

ودلت الآية على ما يأتي :

١ ـ الله تعالى هو الرزاق ، المتصرف في الملك والخلق والإيجاد وحده ، المحيي ، المميت ، المدبر أمر الكون والعالم.

٢ ـ من كانت هذه قدرته ورحمته ويفعل هذه الأشياء هو ربكم الحق الثابت ربوبيته ثباتا لا ريب فيه ، لا ما أشركتم معه : (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ). وبما أن الله تعالى هو الحق المبين ، وجب أن يكون ما سواه ضلالا ؛ لأن النقيضين لا يجتمعان ، فإذا كان أحدهما حقا ، وجب أن يكون ما سواه باطلا : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ؟) أي ما بعد عبادة الإله الحق إذا تركت عبادته إلا الضلال؟

وبناء عليه ، قال العلماء : حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى. ويقاس عليها مسائل الأصول ، الحق فيها واحد لا يتعدد ، بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى فيها : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة ٥ / ٤٨] وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : الحلال بيّن ، والحرام بيّن ، وبينهما أمور مشتبهات».

وثبت عن عائشة رضي‌الله‌عنها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قام إلى صلاة التهجد قال : «اللهم لك الحمد» وفي الحديث : «أنت الحق ووعدك الحق ..» فقوله : «أنت الحق» أي الواجب الوجود ، وهذا وصف لله تعالى بالذات والحقيقة ؛ إذ وجوده لنفسه لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم ، بخلاف غيره ، كقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص ٢٨ / ٨٨].

ومقابلة الحق بالضلال عرف لغة وشرعا ، كما في هذه الآية ، وكذلك أيضا مقابلة الحق بالباطل عرف لغة وشرعا ، كما في قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ

١٦٧

الْحَقُّ ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) [الحج ٢٢ / ٦٢]. وحقيقة الضلال : الذهاب عن الحق.

٣ ـ احتج الإمام مالك على تحريم اللعب بالشّطرنج والنّرد بقوله تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) فقال : اللعب بالشطرنج والنّرد من الضلال.

وقد اختلف العلماء في حكم اللعب بالشطرنج وغيره إذا لم يكن على وجه القمار ، فقال جمهور الفقهاء : إن من لم يقامر بها ولعب مع أهله في بيته مستترا به ، مرة في الشهر أو العام ، لا يطّلع عليه ولا يعلم به : أنه معفوّ عنه ، غير محرم عليه ولا مكروه له ، وأنه إن اشتهر به سقطت مروءته وعدالته ، وردّت شهادته.

وذهب الشافعي إلى أنه لا تسقط شهادة اللاعب بالنرد والشطرنج إذا كان عدلا في غير ذلك ، ولم يظهر منه سفه ولا ريبة ولا كبيرة إلا أن يلعب به قمارا ، فإن لعب بها قمارا ، سقطت عدالته ، وسفّه نفسه لأكله المال بالباطل.

وقال أبو حنيفة : يكره اللعب بالشطرنج والنرد وكل اللهو ، فإن لم تظهر من اللاعب بها كبيرة ، وكانت محاسنه أكثر من مساويه ، قبلت شهادته.

٤ ـ العاقل يلتزم المعقول ، لذا استنكر الله تعالى على المشركين الخروج عن دائرة المعقول بقوله : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟) أي كيف تستجيزون العدول عن هذا الحق الظاهر ، وكيف تصرفون عقولكم إلى عبادة ما لا يرزق ولا يحيي ولا يميت؟!

٥ ـ علم الله قديم واسع الإحاطة ، والعذاب حق وعدل ومعلوم سابقا في علم الله تعالى على الذين أصروا على الكفر وماتوا وهم كفار ؛ لقوله تعالى : (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي ثبت حكمه وقضاؤه وعلمه السابق على الذين خرجوا عن الطاعة وكفروا وكذبوا أنهم لا يصدقون ، أو ثبت عليهم استحقاق العذاب والوعيد به ؛ لأنهم لا يؤمنون.

١٦٨

إثبات البعث

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦))

الإعراب :

(أَفَمَنْ يَهْدِي .. مِنْ) : مبتدأ مرفوع ، و (أَحَقُ) : خبره ، وفي الكلام محذوف تقديره : أحق ممن لا يهدي. و (أَنْ يُتَّبَعَ) : إما موضعه النصب على تقدير حذف حرف الجر ، وإما الرفع على البدل من (مِنْ) بدل اشتمال. و (أَحَقُ) : الخبر. ويحتمل أن يجعل (أَنْ) مبتدأ ثانيا ، و (أَحَقُ) خبره مقدم عليه ، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول وهو (مِنْ).

و (يَهْدِي) أصله يهتدي ، فأبدل من التاء دالا ، وأدغم الدال في الدال ، وكسرت الهاء لاتباع ما بعدها ولالتقاء الساكنين ؛ لأنه الأصل في التقاء الساكنين. وقرئ بفتح الهاء (يهدّى) ؛ لأنه نقلت فتحة التاء إلى الهاء.

(فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) ما : مبتدأ مرفوع ، و (لَكُمْ) : خبره ، و (كَيْفَ) في موضع نصب بتحكمون.

(شَيْئاً) منصوب ؛ لأنه في موضع المصدر ، أي غناء ، مثل : (وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) أي إشراكا ويجوز أن يكون مفعولا به ، و (مِنَ الْحَقِ) : حالا منه.

البلاغة :

(يَبْدَؤُا ... ثُمَّ يُعِيدُهُ) بينهما طباق. (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) استفهام توبيخ وتقرير أي الأول أحق.

(فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) و (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) الاستفهام للتوبيخ.

١٦٩

المفردات اللغوية :

(مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) جعل الإعادة كالابتداء في الإلزام بها ، لظهور برهانها. (تُؤْفَكُونَ) تصرفون عن الحق إلى الباطل وعن عبادته مع قيام الدليل.

(مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) بإقامة الحجج ، وإرسال الرسل ، وخلق الاهتداء أو التوفيق للنظر والتدبر. (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) وهو الله (أَمَّنْ لا يَهِدِّي) أم الذي لا يهتدي ، والاستفهام للتقرير والتوبيخ ، أي الأول أحق. (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هذا الحكم الفاسد من اتباع ما لا يحق اتباعه ، وما يقتضي صريح العقل بطلانه.

(وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ) في عبادة الأصنام ، والمراد بالأكثر الجميع ، أو الذي عنده تمييز ونظر ولا يرضى بالتقليد. (إِلَّا ظَنًّا) وهو تقليد الآباء بالاعتماد على خيالات فارغة وقياسات فاسدة ، كقياس الغائب على الشاهد والخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة. (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) أي لا يفيد الظن فيما يطلب فيه العلم والاعتقاد الحق. (شَيْئاً) من الإغناء. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) فيجازيهم عليه.

المناسبة :

انتقل الله تعالى فورا في بيانه من إثبات التوحيد إلى إثبات البعث ، من طريق معرفة القادر ابتداء على خلق الإنسان وخلق السموات والأرض ، وأن الإعادة كالابتداء ، ثم عرض الأمر على العقلاء في بيان الأحق بالاتباع أهو الله الذي يخلق الاهتداء والتوفيق إليه ، أم المحتاج إلى هداية غيره؟

وصيغ البيان أو الحجة بطريق السؤال والاستفهام ؛ لأنه أوقع في النفس ، وأبلغ تأثيرا على القلب.

التفسير والبيان :

قل للمشركين أيها الرسول : من الذي بدأ خلق السموات والأرض ، ثم أنشأ ما فيهما من الخلائق؟ هل يستطيع أحد غير الله ذلك؟ سواء كان صنما أو وثنا أو كوكبا أو ملكا أو جنّا أو رسولا أو غيرهم؟ ومن يقدر أن يعيد الخلق خلقا جديدا؟

١٧٠

وبما أنهم بسبب اللجاج والمكابرة لا يؤمنون بالبعث والمعاد ، فلم يجيبوا كما أجابوا عن الأسئلة الخمسة المتقدمة ، فأجابهم الله تعالى بقوله : (قُلِ : اللهُ ...) أي قل أيها الرسول : الله هو القادر على بدء الخلق وإعادته ؛ لأن القادر على البدء قادر على الإعادة ، فهو سبحانه وتعالى الذي يفعل هذا ويستقل به وحده لا شريك له. علما بأنهم يعترفون بأن المبدئ والمعيد في النباتات هو الله ، لما يشاهدونه من تكرار بدء ظهور النبات بالمطر في فصل الشتاء ، ثم موته في الصيف ، ثم عودته إلى الظهور في الشتاء القادم مرة أخرى. ولكنهم ينكرون إعادة الحياة في الأحياء الحيوانية من إنسان وغيره.

(فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟) أي فكيف تصرفون عن طريق الرشد إلى الباطل وعن الحق وهو التوحيد إلى الضلال وهو الإشراك وعبادة الأصنام؟

أي إذا كانت فطرتكم وعقولكم أو أنظاركم وملاحظاتكم تؤدي إلى أن الله تعالى هو الذي يعيد الحياة إلى النبات ، فلم لا تعترفون بقدرته على إعادة الحياة إلى الإنسان؟ وذلك يؤدي بكم إلى الإيمان بالبعث والجزاء يوم القيامة؟!

ثم سألهم الله تعالى عن شأن من شؤون الربوبية ، بقوله : (قُلْ : هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ؟ ...) أي قل لهم أيها الرسول : هل يستطيع أحد من شركائكم هداية الضال والحيران : إما بالفطرة والغريزة ، وإما بالحواس من سمع وبصر ونحوهما ، وإما بالعقل والتفكير ، وإما بهداية الكتب السماوية والرسل ، أو هم عاجزون عن ذلك كله؟!

وهذه الهداية هي تماما كالقدرة على الخلق والتكوين ، كقوله تعالى : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ، ثُمَّ هَدى) [طه ٢٠ / ٥٠].

وبما أنهم يدركون تماما أن شركاءهم لا يستطيعون شيئا من الخلق والهداية التشريعية ، فلم يجدوا جوابا ، فأجابهم الله تعالى : (قُلِ : اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ)

١٧١

أي قل أيها الرسول : هو الله الذي يهدي إلى الحق بما أوجد من الأدلة والحجج ، وأرسل من الرسل ، وأنزل من الكتب ، ومنح الإنسان مفاتيح العلم والمعرفة والإيمان بالعقل والحواس.

ومن هو أحق باتباع قوله وطاعة أمره؟ أهو الذي يقدر على الهداية إلى الحق والرشد والإيمان ، أم الذي لا يهتدي بنفسه إلا أن يهديه غيره ، وهو الله تعالى؟

وهذا يشمل جميع الشركاء من ملائكة وغيرهم كالمسيح وعزير (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) أي فما بالكم وأي شيء دهاكم ، كيف سوّيتم بين الله وبين خلقه ، وحكمتم بجواز عبادة غير الله وشفاعتهم؟ وهذا تعجب شديد من حكمهم الجائر بالمساواة بين عبادة الله تعالى وعبادة شركائهم العاجزة عن كل شيء.

ثم بين الله تعالى أنهم لا يتبعون في اعتقادهم هذا وشركهم وعبادتهم غير الله دليلا ولا برهانا ، وإنما يتبع جميعهم نوعا من الظن الضعيف وهو التوهم والتخيل ، وذلك لا يغني عنهم شيئا ، لأن الظن الخائب لا يغني شيئا من الإغناء فيما يطلب فيه الحق الثابت ، أي العلم والاعتقاد الصواب.

إن الله عليم بأفعالهم ، فيجازيهم على كل فعل منها ، كتكذيب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع قيام الأدلة القطعية على صدقه ، وتقليد الآباء والأجداد بدون حجة أو دليل. وهذا تهديد لهم ووعيد شديد ؛ لأنه تعالى أخبر أنه سيجازيهم على ذلك أتم الجزاء.

والخلاصة : أن مجموعات ، الآيات السابقة اشتملت على حجج ثلاث للاستدلال على وجود الله تعالى : الأولى ـ أنه الرازق الموجد السمع والبصر خالق الموت والحياة ، والثانية ـ أنه خالق الإنسان والسموات والأرض وما بينهما ، والثالثة ـ

١٧٢

أنه القادر على الهداية. والاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولا ثم بالهداية ثانيا : عادة مطردة في القرآن.

فقه الحياة أو الأحكام :

اشتملت هذه الآيات من أجل إثبات البعث على توبيخين للمشركين وتهديد.

أما التوبيخ الأول : فهو على عبادتهم شركاء عاجزين عن الخلق بدءا وإعادة ، فكيف تصح تلك العبادة؟ وكيف تنقلبون أيها المشركون وتنصرفون عن الحق إلى الباطل؟

وبما أن الحق تعالى هو القادر على الخلق ، فخلق السموات والأرض وما بينهما ، وخلق الإنسان من تراب ثم من نطفة ثم من علقة دم ، وهو قدير على إعادته ، فيجب الإيمان بالبعث إيمانا لا يخالجه أي شك أو ريبة.

وأما التوبيخ الثاني : فهو أيضا على اتخاذ الشركاء آلهة معبودة مع أنهم لا يستطيعون هداية أنفسهم ولا غيرهم ، فيكون الأحق بالعبادة والتوحيد هو الله تعالى القادر على الإرشاد إلى الطريق المستقيم الذي هو القرآن ودين الإسلام ..

فما لكم كيف تحكمون ، أي فأي شيء لكم في عبادة الأوثان ، وكيف ترضون لأنفسكم وعقولكم وتقضون بهذا الباطل الصراح ، تعبدون آلهة لا تغني عن أنفسها شيئا إلا أن يفعل بها ، والله يفعل ما يشاء فتتركون عبادته؟

وأما التهديد : فهو على الكفر والتكذيب : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) وسيجازيكم عليه.

ودلت آية (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) على أنه لا يكتفى بالظن في

١٧٣

العقائد ، وعلى أن تحصيل العلم واليقين في الأصول واجب ، وأما الاكتفاء بالتقليد والظن فيها فهو غير جائز ؛ لأن أصول الإيمان أساسية ، فتبني على اليقين ، ولا يجدي فيها الظن ، وإنما يكفي هذا في فروع الأعمال.

القرآن كلام الله وتحدي العرب به

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩))

الإعراب :

(وَلكِنْ تَصْدِيقَ تَصْدِيقَ) : خبر كان مقدرة ، تقديره : ولكن كان هو تصديق ، أي القرآن. وأجاز الكسائي الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : ولكن هو.

(وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) خبر ثان.

(لا رَيْبَ فِيهِ) خبر ثالث داخل في حكم الاستدراك.

(مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) خبر آخر تقديره : كائنا من رب العالمين ، أو متعلق بتصديق أو بتفصيل ، و (لا رَيْبَ فِيهِ) : اعتراض ، ويجوز أن يكون حالا من الكتاب أو الضمير في (فِيهِ).

البلاغة :

(بَيْنَ يَدَيْهِ) استعارة لما سبقه من التوراة والإنجيل اللذين بشرا به.

(أَمْ يَقُولُونَ) الهمزة فيه للإنكار ، والمعنى : بل أيقولون افتراه محمد؟

١٧٤

المفردات اللغوية :

(أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) أي أن يفتري افتراء من غير الله تعالى. (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي كان أو أنزل مطابقا لما تقدمه من الكتب الإلهية المشهود على صدقها وليس كذبا. (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) تبيين ما كتبه الله من الأحكام وغيره ، وتوضيح ما حقق وأثبت من العقائد والشرائع. (لا رَيْبَ فِيهِ) لا شك.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي بل أيقولون : اختلقه محمد ، والهمزة للإنكار. (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وقوة المعنى ، على وجه الافتراء ؛ فإنكم عرب فصحاء ، مثلي في العربية والفصاحة ، وأشدّ تمرنا في النظم والعبارة. (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) ومع ذلك فاستعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به. (مِنْ دُونِ اللهِ) سوى الله أو غيره ، فإنه وحده قادر على ذلك. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنه افتراء وأنه اختلقه ، فلم يقدروا على ذلك.

(بَلْ كَذَّبُوا) بل سارعوا إلى التكذيب. (بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) أي القرآن أول ما سمعوه قبل أن يتدبروا آياته ويحيطوا بالعلم بشأنه. (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) لم يطلعوا على تأويله ، ولم تبلغ أذهانهم معانيه ، ولم تتحقق عاقبة ما فيه من الوعيد ، أو تقع أخباره عن المغيبات ، حتى يتبين لهم أنه صدق أم كذب. والمعنى : أن القرآن معجز من جهة اللفظ والمعنى ، ثم إنهم فاجؤوا بتكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه ، ويتفحصوا معناه.

(كَذلِكَ) التكذيب. (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) رسلهم. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) بتكذيب الرسل ، أي آخر أمرهم من الهلاك ، فكذلك نهلك هؤلاء.

المناسبة :

ذكر الله تعالى مطلب المشركين من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنزال آية من ربه (الآية ٢٠) لاعتقادهم أن القرآن ليس بمعجز ، وأن محمدا إنما يأتي به من عند نفسه اختلاقا ، وأجابهم بأن محمدا عاجز كغيره عن إنزال آية والإتيان بمثله ، ثم أبطل شركهم بأدلة كثيرة ، ثم عاد هنا إلى ترسيخ حقيقة أصيلة وهي أن القرآن وحي من عند الله تعالى ، وليس إتيان محمد عليه الصلاة والسلام به على سبيل الافتراء على الله تعالى ، مما يدل على أنه معجز نازل من عند الله ، وأنه مبرأ من الافتراء.

١٧٥

التفسير والبيان :

هذه الآيات في بيان إعجاز القرآن ، وكونه كلام الله ، وهذا من أصول الدين ، وقد تكرر هذا المعنى في القرآن لإثبات أنه من عند الله تعالى ، وليس من عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما هو معجزة خالدة تشهد بصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو معنى قول الله في الحديث القدسي : «صدق عبدي في كل ما يبلغه عني».

ومعنى الآية : ما شأن القرآن وما ينبغي أن يختلق من غير الله ؛ لأنه بفصاحته وبلاغته ، ووجازته وحلاوته ، وإخباره عن المغيبات ، وأصالة تشريعه ، واشتماله على المعاني الغزيرة النافعة في الدنيا والآخرة ، لا يكون إلا من عند الله تعالى ، فهو كلامه الذي لا يشبه كلام المخلوقين ، ولا يقدر أحد إلا الله أن يجاريه أو يعارضه.

وقد ثبت أن أبا جهل قال : إن محمد لم يكذب على بشرط ، أفيكذب على الله؟

وإنه مطابق ومصدّق لما تقدمه من الكتب الإلهية المنزلة على الرسل ، كإبراهيم وموسى وعيسى ، وموافق لها في الدعوة إلى أصول الدين من التوحيد والإيمان بالله واليوم الآخر ، وصالح الأعمال ، وفضائل الأخلاق ، وهو أيضا مهيمن عليها ، ومبيّن كاشف لما وقع فيها من تحريف وتبديل ، كما قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ ، وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [المائدة ٥ / ٤٨].

(وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) أي وبيان الأحكام والشرائع ، والحلال والحرام ، والعبر والمواعظ ، والآداب والأخلاق الشخصية والاجتماعية ، بيانا شافيا كافيا.

(لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك فيه أبدا ، ولا ينبغي لعاقل أن يرتاب فيه ، لوضوحه ، وبيانه الحق والهدى والصواب.

١٧٦

(مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي منزل وموحى به من الله لا من غيره ، بدليل سلامته عن الاضطراب والاختلاف ، كما قال تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ ، لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء ٤ / ٨٢].

وبه يتبين أن الله سبحانه وصف القرآن بصفات خمس هي :

١ ـ لا يصح أن يفتري من دون الله ؛ لأن القرآن معجز لا يقدر عليه البشر.

٢ ـ وهو مصدّق مؤيد لما قبله في أصول الدين والفضائل ، ومهيمن عليه ، فهو معجز لاشتماله على الإخبار عن المغيبات الماضية والمستقبلة ، وهو المراد بقوله : (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ).

ومن إخباره عن مغيبات المستقبل التي وقعت مطابقة للخبر : قوله تعالى : (الم. غُلِبَتِ الرُّومُ ..) وقوله تعالى في فتح مكة : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) [الفتح ٤٨ / ٢٧] وقوله في ظهور الدولة الإسلامية : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) [النور ٢٤ / ٥٥] مما يدل على أن الإخبار إنما حصل بالوحي من الله تعالى.

٣ ـ وهو مفصّل ما يحتاج إليه الإنسان من الأحكام الشرعية والعلوم الكثيرة الدينية والدنيوية ، ففيه علم العقائد والأديان : وهو معرفة الله تعالى (ذاتا وصفات) وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وفيه علم الأعمال وهو علم الفقه ، وعلم الأخلاق مثل قوله : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف ٧ / ١٩٩] وقوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) [النحل ١٦ / ٩٠] وهو المراد بقوله : (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) [يوسف ١٢ / ١١١].

١٧٧

٤ ـ لا ريب ولا شك فيه ، لبيانه العلوم الكثيرة ، وعدم وجود التناقض فيه.

٥ ـ كونه من عند الله تعالى ، نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليكون من المنذرين.

ثم أنكر الله تعالى على المشركين الجاهلين القائلين بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد افتراه ، وتحداهم أن يأتوا بمثله ، فقال : (أَمْ يَقُولُونَ : افْتَراهُ ..) أي بل أيقولون : اختلقه محمد؟! فمحمد بشر مثلكم ، وقد زعمتم أنه جاء بهذا القرآن ، فأتوا بسورة مثله ، أي من جنس هذا القرآن ، ولو بما يشابه أقصر سورة فيه في النظم والأسلوب ، والقوة والإحكام ، والبلاغة والدقة ، واستعينوا على ذلك بمن قدرتم عليه من إنس وجان ، ولن تستطيعوا فعل شيء ؛ فإن جميع الخلق عاجزون عن معارضته أو الإتيان بمثله : (قُلْ : لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء ١٧ / ٨٨].

فإن كنتم صادقين في ادعائكم أن القرآن من عند محمد ، فلتأتوا بنظير ما جاء به وحده ، ولتستعينوا بمن شئتم.

ولقد كان التحدي للإتيان بمثل القرآن على مراحل : أولها ـ ما ذكر في هذه الآية : (قُلْ : لَئِنِ اجْتَمَعَتِ) وهي أعلى المراتب. وثانيها ـ التنازل معهم إلى عشر سور منه ، فقال في أول سورة هود : (أَمْ يَقُولُونَ : افْتَراهُ ، قُلْ : فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [١٣]. وثالثها ـ التنازل إلى سورة ، فقال هنا في هذه السورة المكية : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) وكذا في سورة البقرة المدنية : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [٢٣].

ثم أثبت القرآن موقف هؤلاء المشركين منه فقال : (بَلْ كَذَّبُوا ..) أي بل

١٧٨

سارع هؤلاء إلى تكذيب القرآن من قبل أن يتدبروا ما فيه ، أو يفهموه ، وهذا. شأن المعاند الجاهل.

(وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) أي وكما أنهم كذبوا به بداهة قبل التدبر والمعرفة تقليدا للآباء ، كذلك كذبوه بعد التدبر ومعرفة علو شأنه وإعجازه وضعف قواهم في المعارضة ، تمردا وعنادا ، وبغيا وحسدا. ويجوز أن يكون معنى (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) : لم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالمغيبات ، حتى يتبين لهم أهو كذب أم صدق؟

(كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي مثل ذلك التكذيب كذبت الأمم السابقة بمعجزات الأنبياء قبل النظر فيها وقبل تدبرها من غير إنصاف من أنفسهم ، ولكن تقليدا للآباء وعنادا.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) أي فانظر أيها الرسول كيف كانت عاقبة أولئك الظالمين لأنفسهم بتكذيبهم رسلهم وطلبهم الدنيا وترك الآخرة ، وهي أننا أهلكناهم بسبب تكذيبهم رسلنا ، ظلما وعلوا ، وكفرا وعنادا وجهلا ، فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما أصابهم : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا ، وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت ٢٩ / ٤٠].

فقه الحياة أو الأحكام :

الآيات إثبات قاطع لكون القرآن كلام الله تعالى ووحيه إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس افتراء من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك بدليل وصفه بالأوصاف الخمس التي ذكرت في الآية ، وأوضحتها في التفسير السابق.

١٧٩

وبدليل التحدي للعرب بأن يأتوا بمثل سورة من هذا القرآن ، إذا كان في زعمهم من كلام محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بشر مثلهم ، وهم عرب فصحاء بلغاء مثله.

فالآية الأولى دلت على كون القرآن من عند الله تعالى ؛ لأنه مصدّق الذي بين يديه من الكتب ، وموافق لها ، من غير أن يتعلم محمد عليه الصلاة والسلام عن أحد.

والآية الثانية إلزام بسورة مثله إن كان مفترى. وهذا مناسب لما اشتهر به العرب من فصاحة وبلاغة وبيان ، فالقرآن معجزة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخالدة في بيانه ونظمه وتشريعه وعلومه. كما أن كل معجزة لنبي تناسب العصر الذي عاش فيه ، مثل معجزة العصا واليد لموسىعليه‌السلام في زمن برع فيه السحرة بفنون السحر ، ومعجزة عيسى عليه‌السلام الذي بعث في زمان اشتهار علم الطب ، فكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، وهذا من غير علاج ولا دواء. لهذا جاء في الحديث الصحيح المتقدم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما من نبي من الأنبياء ، إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وإنما الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا».

ودلت الآية الثالثة : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) على انهيار موقف العرب من القرآن ، فهم قبل أن يتأملوا بما فيه كذبوا به تقليدا للآباء وإبقاء على عبادة الأوثان ، وبعد أن تأملوا وتدبروا فيه كذبوا به أيضا تمردا وعنادا ، وبغيا وحسدا ، وعجزا وضعفا من معارضته والإتيان بمثل أقصر سورة فيه في سلامة النظم والأسلوب والمعنى والحكم. لذا أنذرهم القرآن بالدمار والهلاك على ظلمهم كما أهلك الأمم الخالية بسبب تكذيب الرسل.

١٨٠