التفسير المنير - ج ١١

الدكتور وهبة الزحيلي

وكذلك اقتضت رحمته تعالى بعباده أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم بالشر ، في حال الضجر والغضب ؛ لأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك. روى أبو داود والحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن جابر قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تدعوا على أنفسكم ، لا تدعوا على أولادكم ، لا تدعوا على أموالكم ، لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة ، فيستجيب لكم» وقال عليه الصلاة والسلام أيضا : «إني سألت الله عزوجل ألا يستجيب دعاء حبيب على حبيبه».

ومن عجلة الإنسان أيضا وضجره وقلقه أنه إذا أصابه الضرّ أي الشدة والألم من مرض أو فقر أو خطر : يدعو ربه بإلحاح في كشف ضره وإزالته ، حالة كونه مضطجعا لجنبه ، أو قاعدا أو قائما وفي جميع أحواله ؛ لأن فائدة الترديد في القعود وغيره تعميم الدعاء لجميع الأحوال ، فإذا فرّج الله شدته وكشف كربته ، أعرض ونأى بجانبه ، وذهب كأنه ما كان به من ذلك شيء ، ومضى في طريقه من الغفلة عن ربه والكفر به ، كأنه لم يدع إلى شيء ولم يكشف الله عنه ضره.

فقوله : (إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) أي إلى كشف ضر. وذلك كقوله تعالى : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) [فصلت ٤١ / ٥١] ، ثم قال تعالى : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي مثل ذلك العمل القبيح المنكر أو التزيين وهو الذي حدث من اللجوء إلى الله تعالى وقت الشدة وتركه في الرخاء ، زيّن للمشركين طغاة مكة وغيرهم ما كانوا يعملون من أعمال الشرك والإعراض عن القرآن والعبادات ، واتباع الشهوات.

والمراد بالإنسان في قوله : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ) هو الكافر ؛ لأن العمل المذكور لا يليق بالمسلم البتة.

١٢١

وقوله : (دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) يراد به أحوال الدعاء.

والمراد بالمزين في قوله : (زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ) هو الشيطان أو النفس ، أو الله تعالى. وسمي الكافر مسرفا في نفسه وماله ومضيعا لهما ؛ لأنه في النفس جعلها عبدا للوثن ، وفي المال فلأنه أضاعه فيما لا يفيد. والأصح كما قال القرطبي أن الآية تعم الكافر وغيره ، وهذه صفة كثير من المخلطين الموحدين ، إذا أصابته العافية ، استمر على ما كان عليه من المعاصي.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على الآتي :

١ ـ الله لطيف بعباده حليم رحيم بهم لا يستجيب دعاءهم على أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم بالشر في حال الضجر والغضب ، فلو عجل الله للناس العقوبة ، كما يستعجلون الثواب والخير ، لماتوا ؛ لأنهم خلقوا في الدنيا خلقا ضعيفا ، وذلك على عكس خلقهم يوم القيامة ؛ لأنهم حينئذ يخلقون للبقاء.

فالآية ذامّة خلقا ذميما في بعض الناس ، يدعون في الخير ، فيريدون تعجيل الإجابة ، ثم يحملهم أحيانا سوء الخلق على الدعاء في الشرّ ، فلو عجّل لهم لهلكوا. ومن حكمة الله تعالى أن آمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قومه العرب وآخرون من الأمم ، ومن يكفر يعاقبه الله بالقتل أو يؤخره إلى يوم القيامة ، وهذا معنى قوله : (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ ..).

٢ ـ لا يعجل الله للناس الشر ، فربما يتوب منهم تائب ، أو يخرج من أصلابهم مؤمن. وقد رحم الله تعالى العالم كله بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرفع عن الأمم عذاب الاستئصال ؛ لأنه رحمة للعالمين.

٣ ـ الإنسان في جميع حالاته الاضطرارية لا يجد ملجأ أمامه سوى الله تعالى

١٢٢

فيدعوه لكشف ما تعرض له من ضرّ ، ولكنه سرعان ما ينسى ربه ، ولا يكون وفيا لفضل الله عليه ، فإذا نجا وكشف الله عنه الضر ، استمر على كفره ولم يشكر ولم يتّعظ.

٤ ـ وكما زيّن للإنسان الدعاء عند البلاء ، والإعراض عند الرخاء ، زيّن للمشركين أعمالهم من الكفر والمعاصي ، وهذا التزيين يجوز أن يكون من الله بخذلانه وتخليته ، ويجوز أن يكون من الشيطان بوسوسته. وإضلال الشيطان : دعاؤه إلى الكفر.

سنة الله في إهلاك الأمم الظالمة الكافرة واستخلاف خلائف بعدهم

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤))

الإعراب :

(لَمَّا ظَلَمُوا لَمَّا) : ظرف لأهلكنا (لِيُؤْمِنُوا) اللام لتأكيد النفي.

(وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) عطف على (ظَلَمُوا) ، أو حال من واو (ظَلَمُوا) بإضمار : قد.

(كَيْفَ تَعْمَلُونَ) كيف : معمول (تَعْمَلُونَ) ومنصوب به.

البلاغة :

(كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على كمال جرمهم وأنهم أعلام فيه.

١٢٣

(لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) في النظر استعارة تمثيلية ، حيث شبه حال العباد مع الله ، بحال رعية مع حاكمها ، في إمهالهم للنظر في أعمالهم ، وأستعير المشبّه به للمشبه للتقريب والتمثيل ، لكن ليس كمثل الله شيء. وأستعير لفظ النظر للعلم الحقيقي الذي لا يتطرق الشك إليه ، وشبه هذا العلم بنطر الناظر وعيان المعاين.

المفردات اللغوية :

(الْقُرُونَ) الأمم ، جمع قرن : وهم القوم المقترنون في زمان واحد. (مِنْ قَبْلِكُمْ) يا أهل مكة وأمثالكم. (لَمَّا ظَلَمُوا) بالشرك والتكذيب. (بِالْبَيِّناتِ) الدلالات الواضحات الدالة على صدقهم. (كَذلِكَ) مثل ذلك الجزاء : وهو إهلاكهم بسبب تكذيبهم للرسل وإصرارهم عليه بحيث تحقق أنه لا فائدة في إمهالهم. (نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) الكافرين.

(ثُمَّ جَعَلْناكُمْ) يا أهل مكة. (خَلائِفَ) جمع خليفة وهو من يخلف غيره في الشيء أي استخلفناكم فيها بعد القرون التي أهلكناها استخلاف من يختبر. (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) فيها ، أتعملون خيرا أو شرا ، فنعاملكم على مقتضى أعمالكم ، وهل تعتبرون بالأمم السابقة ، فتصدقوا رسلنا. وننظر : نشاهد ونرى.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى أنهم كانوا يتعجلون العذاب ، وأوضح أنه لا فائدة في إجابة دعائهم ، ثم ذكر أنهم كاذبون في هذا الطلب ؛ إذ لو نزل بهم ضر ، تضرعوا إلى الله تعالى في إزالته وكشفه ، بيّن هنا ما يجري مجرى التهديد : وهو أنه تعالى قد ينزل بهم عذاب الاستئصال ، كما أنزله في الأمم السابقة ، ليكون ذلك رادعا لهم عن مطلبهم تعجيل العذاب.

التفسير والبيان :

يخاطب الله تعالى أهل مكة ويخبرهم بأنه أهلك كثيرا من الأمم قبلهم بسبب ظلمهم وتكذيبهم الرسل فيما جاءوهم به من البينات والحجج الواضحات ، كما قال : (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ، وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) [الكهف ١٨ / ٥٩] وهلاك تلك القرى والأمم بالظلم : إما بعذاب الاستئصال لأقوام

١٢٤

الرسل الذين كذبوا بهم مثل قوم نوح وعاد وثمود ، وإما بإضعافهم واستيلاء الأمم القوية عليهم بسبب ظلم الأفراد بالفسق والفجور أو ظلم الحكام.

لقد أهلكناهم لما كذبوا بالبينات الدالة على صدق رسلهم ، وما كانوا ليؤمنوا ، أي وما كانوا يؤمنون حقا ، وهو تأكيد لنفي إيمانهم ، وأن الله قد علم منهم أنهم يصرون على الكفر ، وأن الإيمان مستبعد منهم. والمعنى : أن السبب في إهلاكهم تكذيبهم الرسل ، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل.

كذلك .. أي مثل ذلك الجزاء أي الإهلاك ، نجزي كل مجرم. وهذا وعيد شديد لأهل مكة على إجرامهم بتكذيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم خاطب الله الذين بعث إليهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ) أي جعلناكم خلفاء في الأرض بعد تلك القرون التي أهلكنا ، لننظر أتعملون خيرا أم شرا ، وننظر طاعتكم لرسولنا واتباعكم له.

وفي هذا بيان بأن أمة الإسلام ستكون لها الخلافة في الأرض إذا لازمت الطاعة واتبعت هدي القرآن : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ، كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [النور ٢٤ / ٥٥] وقد تمت هذه فملكوا ملك كسرى وقيصر وفرعون وكثير من الأمم. وجاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري : «إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها ، فناظر كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت من النساء».

والخلافة منوطة بالأعمال الصالحة ، لا بمجرد الوراثة للصفة الإسلامية.

١٢٥

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى المبادئ التالية :

١ ـ إن إهلاك الأمم الظالمة قديما وحديثا إنما يكون بسبب الظلم ، والظلم : إما الكفر والشرك ، وإما طغيان الأفراد أو الحكام.

٢ ـ هذه الآية تخويف ووعيد لأهل مكة الكفار ولأمثالهم على تكذيبهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالله قادر على إهلاك الأمة التي تكذب محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن حكمته اقتضت إمهالهم لعلمه بأن فيهم من يؤمن ، أو يخرج من أصلابهم من يؤمن. وهكذا حال الأمم الحالية ، نرى في كل أمة اتجاها إلى إيمان الآلاف منهم بعقيدة الإسلام ونظامه.

٣ ـ هذه الآية ترد على أهل الضلال القائلين بخلق الهدى والإيمان.

٤ ـ الاستخلاف في الأرض منوط بالعمل الصالح ، فالله يستخلف قوما بعد آخرين لينظر كيف يعملون ، خيرا أو شرا ، فيعاملهم على حسب عملهم. وبما أن الله يعلم ما سيكون في المستقبل في كل أنحاء الكون ومن المخلوقات ، فيكون المقصود إقامة الدليل الحسي والمادي المشاهد على الناس من خلال أعمالهم الواقعية ، لذا قال المفسرون كالرازي :

ليس معنى الآية بأن الله تعالى ما كان عالما بأحوال الخلق قبل وجودهم ، وإنما المراد منه أنه تعالى يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم ، ليجازيهم بحسبه ، كقوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك ٦٧ / ٢].

١٢٦

مطالبة المشركين بقرآن آخر أو بتبديل بعض آياته

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧))

الإعراب :

(بَيِّناتٍ) حال. (مِنْ تِلْقاءِ) مصدر استعمل ظرفا.

البلاغة :

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) استفهام إنكار وتوبيخ.

المفردات اللغوية :

(آياتُنا) القرآن. (بَيِّناتٍ) ظاهرات. (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) وهم المشركون الذين لا يخافون البعث. (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) ليس فيه عيب آلهتنا ، ولا ما نستبعده من البعث والثواب والعقاب بعد الموت. (أَوْ بَدِّلْهُ) بنفسك بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى. (ما يَكُونُ لِي) ما ينبغي وما يصح لي. (أَنْ) ما (عَصَيْتُ رَبِّي) بتبديله. (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) هو يوم القيامة. وهذا يعني أنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح.

(وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) ولا أعلمكم به على لساني ، (وَلا) : نافية عطف على ما قبله والمعنى أن الأمر بمشيئة الله تعالى ، لا بمشيئتي حتى أجعله على نحو ما تشتهونه. (لَبِثْتُ) مكثت. (فِيكُمْ عُمُراً) أربعين سنة. (مِنْ قَبْلِهِ) لا أحدثكم بشيء. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أنه ليس من قبلي ، أي أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر فيه ، لتعلموا أنه ليس إلا من الله.

١٢٧

(فَمَنْ أَظْلَمُ) أي لا أحد. (افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بنسبة الشريك إليه. (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) القرآن فكفر بها. (إِنَّهُ) أي الشأن. (لا يُفْلِحُ) لا يسعد. (الْمُجْرِمُونَ) المشركون.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى شبهتين للمشركين (وهما التعجب من إنزال الوحي على بشر وتخصيص محمد بالنبوة ، والمطالبة بتعجيل العذاب إن كان ما يقول محمد حقا ، ثم أثبت لهم الألوهية والتوحيد والقدرة على الوحي والبعث بخلق العالم وبطبيعة الإنسان وتاريخه وغرائزه ، ذكر هنا النوع الثالث من شبهاتهم في الطعن في نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو التشكك في القرآن ، لذا طالبوه بأحد أمرين : أن يأتيهم بقرآن غير هذا القرآن ، أو أن يبدل هذا القرآن. روي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : أن خمسة من الكفار كانوا يستهزئون بالرسول عليه الصلاة والسلام وبالقرآن : الوليد بن المغيرة المخزومي ، والعاص بن وائل السهمي ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، والحارث بن حنظلة ، فقتل الله كل رجل منهم بطريق آخر ، كما قال : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر ١٥ / ٩٥] فذكر تعالى أنهم كلما تليت عليهم آيات : (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا : ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ).

التفسير والبيان :

إذا قرأ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المشركين كتاب الله وحججه الواضحة ، قالوا له : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) أي رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر ، ليس فيه ما يعيب آلهتنا ولا ما لا نؤمن به من البعث والجزاء على الأعمال ، أو بدّله إلى وضع آخر ، بأن تجعل مكان آية الوعيد آية أخرى.

ومقصدهم من هذه المساومة إذا نفّذ اقتراحهم إبطال دعواه أن القرآن كلام

١٢٨

الله. وقوله : (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) يعني لا يخافون يوم البعث والحساب ولا يرجون الثواب ، أي أنهم مكذبون بالحشر والنشر.

فأمره الله أن يقول ردا عليهم : ما يصح لي وليس من شأني أن أبدل هذا القرآن من قبل نفسي ، فإني ما أتبع فيه إلا ما يوحى إلي ، وهو ما أبلّغكم به ، وما علي إلا البلاغ ، فهو كلام الله تعالى ، والمتبع لغيره في أمر ليس له التصرف فيه.

وإنما اكتفى بالجواب عن التبديل ، لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر.

فقوله : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) تعليل لما يكون ، ثم أكد ما سبق بقوله : (إِنِّي أَخافُ ..) أي إني أخشى إن ارتكبت أي مخالفة أو عصيان لما أمر ربي عذاب يوم عظيم هو عذاب النار يوم القيامة.

وفيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح.

ثم احتج لهم في مجال صحة ما جاءهم به ، وهو جواب عن طلبهم الأول تغيير القرآن ، بقوله : (قُلْ : لَوْ شاءَ اللهُ ..) أي قل لهم أيها الرسول : لو شاء الله ألا أتلو عليكم هذا القرآن ما تلوته عليكم ، فإنما أتلوه بأمره ، وجئتكم به بإذنه ، وأفعل ذلك بمشيئته وإرادته. ولو شاء الله ألا يعلمكم به بإرسالي إليكم ، لما أرسلني ، ولما أعلمكم الله به ، ولا أخبركم به ، ولكنه شاء أن يرفدكم بهذا الكتاب المشتمل على الهدى والسعادة : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ ، هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف ٧ / ٥٢].

والدليل على ما أقول أني لبثت فيكم مقدار عمر أربعين سنة من قبل نزول القرآن ، لا أتلو شيئا منه ولا أعلمه (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر في أن من عاش أميا أربعين سنة ، لم يقرأ كتابا ، ولا تعلم من

١٢٩

أحد ، ولا خطّ بيمينه شيئا من الكلام ، لا يستطيع أن يأتي بمثل هذا القرآن المعجز لكم ولكل العلماء ، فأنتم وغيركم من الإنس والجن لم تستطيعوا معارضته.

وهذه إشارة إلى أن القرآن معجز خارق للعادة ؛ لأنه كلام الله ، وليس كلام بشر ، بدليل أنكم فرسان البلاغة والفصاحة وأساطين البيان ، ولم تأتوا بسورة من مثله ؛ لأن فصاحته بذّت فصاحة كل منطيق ، وعلا عن كل منثور ومنظوم ، واحتوى على قواعد الأصول والفروع ، وأعرب عن قصص الأولين ، وأخبر عن مغيبات المستقبل ، وجاء مطابقا للعلوم الصحيحة والنظريات العلمية الثابتة : (قُلْ : لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء ١٧ / ٨٨].

فلا أحد أظلم من رجلين : أحدهما ـ من افترى على الله الكذب بنسبة الشريك أو الولد إليه ، أو بتبديل كلامه على النحو الذي اقترحتموه ، أو بالتقول على الله والزعم أن الله أرسله ولم يكن كذلك. والثاني ـ من كذّب بآيات الله البينة ، فكفر بها ، ثم علل تعالى ذلك بقوله : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ ...) أي إنه لا يفوز المجرمون ، أي الكافرون في الآخرة ، فالمقصود من قوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ ...) نفي الكذب عن نفسه. والمقصود بقوله : (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) إلحاق الوعيد الشديد بهم حيث كذبوا بآيات الله.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ التسجيل الواضح الفاضح لكلام المشركين المطالبين إما الإتيان بغير القرآن وإما تبديله ، والفرق بينهما أن الإتيان بغيره قد يجوز أن يكون معه غيره ، وأما التبديل فلا يجوز أن يكون معه غيره. وسبب هذا الطلب إما السخرية والاستهزاء ، وإما التجربة والامتحان.

١٣٠

ومضمون الأمرين : إما إسقاط ما في القرآن من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم ، وإما تحويل الوعد وعيدا ، والوعيد وعدا ، والحلال حراما والحرام حلالا ، وإما إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور. ويصح إرادة كل هذه الأشياء.

٢ ـ رفض مطالب المشركين ، وإعلان كون القرآن كلام الله ، وأن مهمة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم مقصورة على تبليغ ما يوحى إليه ، واتباع ما يتلوه عليهم من وعد ووعيد ، وتحريم وتحليل ، وأمر ونهي.

٣ ـ الموقف الثابت من عدم التبديل والتغيير لشريعة القرآن ، والإصرار على العمل بالقرآن إنما هو بسبب التعرض لعذاب عظيم يوم القيامة.

٤ ـ المقصود من إنزال القرآن تبليغه إلى جميع الناس ، ولا سيما المشركون ، ولولا أن تكون مشيئة الله ذلك لما أنزله ، ولما أمر بتلاوته عليهم ، ولما أخبرهم بمضمونه.

٥ ـ القرآن كلام الله بدليل إعجازه من حيث النظم والأسلوب والمبنى ، ومن حيث المعاني التي اشتمل عليها ، وبدليل كون المبلّغ له أمّيا لم يقرأ ولم يكتب ولم يتعلم من أحد ، وبدليل التحدي لمعارضته والإتيان بمثله أو بأقصر سورة من مثله.

٦ ـ لا أحد أظلم ولا أعتى ولا أشد إجراما ممن افترى على الله الكذب ، وبدّل كلامه وأضاف شيئا إليه مما لم ينزله ، وكذلك لا أحد أظلم منكم أيها المشركون والكفار إذا أنكرتم القرآن وافتريتم على الله الكذب ، وقلتم : ليس هذا كلامه.

٧ ـ لا فوز ولا فلاح للمجرمين الكافرين ، والاجرام مصيره الخيبة حتما.

١٣١

عبادة الأصنام وادعاء شفاعتها

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨))

الإعراب :

(هؤُلاءِ) إشارة إلى (ما) في قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ) حملا على معنى (ما) لأنها هاهنا في معنى الجمع ، وإن كان لفظها مفردا ، كما أن (مِنْ) تقع على الجمع ، وإن كان لفظها مفردا.

(فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) حال من العائد المحذوف في (يَعْلَمُ) مؤكدة للنفي ، منبهة على أن ما تعبدون من دون الله إما سماوي وإما أرضي. (عَمَّا يُشْرِكُونَ) ما : موصولة أو مصدرية أي عن الشركاء أو عن إشراكهم.

البلاغة :

(أَتُنَبِّئُونَ) استفهام تقريع وتهكم بهم.

المفردات اللغوية :

(مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (ما لا يَضُرُّهُمْ) إن لم يعبدوه (وَلا يَنْفَعُهُمْ) إن عبدوه وهو الأصنام ؛ لأنه جماد لا يقدر على نفع ولا ضر ، والمعبود ينبغي أن يكون مثيبا ومعاقبا حتى تعود عبادته بجلب نفع أو دفع ضر. (وَيَقُولُونَ) عنها (هؤُلاءِ) الأوثان (شُفَعاؤُنا) تشفع لنا فيما يهمنا من أمور الدنيا وفي الآخرة إن يكن بعث ، وكأنهم شاكين فيه. (أَتُنَبِّئُونَ) أتخبرون (بِما لا يَعْلَمُ) وهو أن له شريكا ، إذ لو كان له شريك لعلمه ، إذ لا يخفى عليه شيء (سُبْحانَهُ) تنزيها له (عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن إشراكهم.

١٣٢

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى أن المشركين طلبوا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرآنا غير هذا القرآن أو تبديله ؛ لأن هذا القرآن مشتمل على شتم الأصنام التي اتخذوها آلهة لأنفسهم ، ندد بعبادتهم تلك الأصنام وجعلها شفعاء ، مع أنها جماد لا تضر ولا تنفع ، ولا برهان لهم على ما يدّعون ، فكيف يليق بالعقلاء عبادتها من دون الله؟!

التفسير والبيان :

ينكر الله تعالى على المشركين أمرين : عبادة الأصنام وجعلها شفعاء لهم عند الله ، ظانين أنها تنفعهم شفاعتها عند الله ، فأخبر تعالى أنها لا تضر ولا تنفع ولا تملك شيئا.

إن أكثر العرب كانوا يعترفون بالخالق : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، لَيَقُولُنَّ : خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف ٤٣ / ٩] وينكرون البعث ، ويعبدون الأصنام ، وهي لا تنفع ولا تضر ؛ لأنها حجارة أو أجسام مصنوعة ، فهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره ، كما قال تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ ، إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف ١٢ / ١٠٦].

فهم يزعمون وجود قدرة للأصنام على النفع والضرر ، وأنها وسطاء تملك الشفاعة لهم عند الله : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر ٣٩ / ٣] فهذان هما السببان في عبادتهم الأصنام. روي أن النضر بن الحارث قال : إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللّات والعزى.

فرد الله عليهم بقوله : (قُلْ : أَتُنَبِّئُونَ اللهَ ..) أي قل أيها الرسول لهم : لا دليل لكم على ما تدعون ، أتخبرون الله بما لا وجود له في السموات ولا في الأرض ، وما لا يعلمه من هؤلاء الشفعاء؟ نظيره قوله : (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ

١٣٣

فِي الْأَرْضِ) [الرعد ١٣ / ٣٣] ونفي العلم دليل على عدم وجود تلك الشفعاء والشركاء لله ، فلا شيء من الموجودات السماوية والأرضية إلا وهو حادث مقهور مثلهم ، لا يليق أن يشرك به.

ثم نزّه الله تعالى نفسه الكريمة عن شركهم وكفرهم فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه الله وتعاظم وتعالى علوا كبيرا عما يشركون به من الشفعاء والوسطاء ، فهو منزه عن إشراكهم وعن الشركاء الذين يشركونهم به.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على ما يأتي :

١ ـ عبد المشركون الأصنام مع اعترافهم بأن الرب الخالق هو الله تعالى لأمرين : اعتقادهم فيها القدرة على الضرر والنفع ، وأنها تملك الشفاعة لهم عند الله في أمور الدنيا والآخرة. وهذا غاية الجهالة منهم ، حيث ينتظرون الشفاعة في المآل ممن لا يوجد منه نفع ولا ضر في الحال ، وتركوا عبادة الموجد الضار النافع.

٢ ـ عبادة المشركين الأوثان واتخاذها شركاء لله افتراء على الله بوجودها ، فلا وجود أصلا لتلك الشركاء في السموات والأرض ؛ لأن الله لا يعلم لنفسه شريكا في السموات ولا في الأرض ؛ لأنه لا شريك له ، فلذلك لا يعلمه ، فلو كان موجودا لكان معلوما لله تعالى ، وحيث لم يكن معلوما لله تعالى وجب ألا يكون موجودا.

٣ ـ دل قوله : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) على أنه أعظم من أن يكون له شريك.

قال الزمخشري عن (عَمَّا) ما : موصولة أو مصدرية. أي عن الشركاء الذين يشركونهم به ، أو عن إشراكهم.

٤ ـ أثبتت الآية بطلان الشرك في الألوهية : وهو عبادة غير الله مطلقا ،

١٣٤

وبطلان الشرك في الربوبية ، بادعاء وساطة المعبود في الخلق والتدبير ، أو الشفاعة عند الله.

الأصل في الناس جميعا كونهم على الدين الحق

(وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩))

المفردات اللغوية :

(أُمَّةً واحِدَةً) أي على دين واحد وهو دين الإسلام من لدن آدم إلى نوح ، أو من عهد إبراهيم إلى عمرو بن لحيّ الذي سنّ للعرب عبادة الأصنام (فَاخْتَلَفُوا) بأن ثبت بعض وكفر بعض (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بتأخير الحكم بينهم أو تأخير الجزاء والعذاب الفاصل إلى يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي بين الناس عاجلا في الدنيا (فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من الدين بإهلاك المبطلين وهم الكافرون ، وإبقاء المحقين وهم المؤمنون.

المناسبة :

بعد أن أقام الله تعالى الأدلة على بطلان عبادة الأصنام ، بيّن سبب حدوث هذا المذهب الفاسد ، وأن هذا الشرك حادث في الناس بسبب الاختلاف أي اتباع الهوى والباطل ، بعد أن لم يكن ، وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد هو الدين الحق وهو دين الإسلام.

قال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون ، كلهم على الإسلام ، ثم وقع الاختلاف بين الناس ، وعبدت الأصنام والأنداد والأوثان ، فبعث الله الرسل بآياته وبيناته وحججه البالغة وبراهينه الدامغة (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال ٨ / ٤٢].

١٣٥

التفسير والبيان :

ما كان الناس في كل زمن إلا أمة واحدة على الفطرة النقية المؤمنة بالله تعالى وحده لا شريك له ، أي فطرة الإسلام والتوحيد. ثم اختلفوا بعدئذ في الأديان باتباع الأهواء والأباطيل ، أو عند بعثة الرسل فتبعتهم طائفة وأصرّت أخرى على الضلال. ونظير هذه الآية قوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ، فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) [البقرة ٢ / ٢١٣] ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه» (١).

فكل الناس كانوا جميعا على الدين الحق وهو دين الإسلام ، ثم اختلفوا فبعث الله الأنبياء والمرسلين لهدايتهم وإزالة الاختلاف بكتاب الله ، فمنهم من آمن واهتدى ، ومنهم من ضل واعتدى ، ثم اختلفوا في كتاب الله اتباعا لأهوائهم.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) ، أي ولو لا ما تقدم من الله تعالى من كلمة حق في جعل الجزاء الفاصل بين الناس يوم القيامة ؛ فإنه يوم الفصل والجزاء ، لعجّل لهم العذاب في الدنيا بإهلاك المبطلين ، وتعذيب العصاة بسبب اختلافهم ، ولقضي بينهم فيما اختلفوا فيه : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [يونس ١٠ / ٩٣].

وفي هذا وعيد على الاختلاف في أصول الاعتقاد وفي الكتاب الذي أنزل لإعادة الناس إلى الوحدة الأولى وإزالة الشقاق بينهم. كما أن فيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تأخير العذاب عمن كفر به ، وبيانا لطبع الإنسان.

__________________

(١) رواه أبو يعلى والطبراني والبيهقي عن الأسود بن سريع ، وهو حديث صحيح.

١٣٦

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآية أحكاما ثلاثة :

١ ـ الأصل في الإنسان كونه على دين الفطرة والتوحيد ، وهذا دليل على عدل الخالق ورحمته ، فإنه تعالى خلق كل إنسان موحدا ، وحكم ببقائه على التوحيد إلى البلوغ ، ثم تركه للعقل والتفكر في الوحي الإلهي.

٢ ـ الاختلاف على الأنبياء والكتب الإلهية بسبب اتباع الهوى والباطل هو سبب تفرق الناس وانقسامهم إلى مؤمنين وكفار.

٣ ـ سبق القضاء والقدر وتم حكم الله بأنه لا يقضي بين العباد فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب قبل يوم القيامة ، ولو لا ذلك الحكم السابق والتأجيل المتقدم ، لقضى الله بين الناس في الدنيا ، فأدخل المؤمنين الجنة ، والكافرين النار بكفرهم ، وهو موعدهم يوم القيامة الذي جعله الله لحكمة بالغة هي إعطاء الفرصة الكافية للإنسان في تصحيح عقيدته ، وتعديل وضعه ، والتوبة من عصيانه وكفره وضلاله ، حتى لا يؤخذ على حين غرّة.

طلب المشركين إنزال آية كونية

(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠))

المفردات اللغوية :

(وَيَقُولُونَ) أي أهل مكة (لَوْ لا) هلا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ) على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي آية حسية كونية مادية من الآيات التي اقترحوها ، كما كان للأنبياء من ناقة صالح ، والعصا واليد لموسى ، والمائدة لعيسى عليهم‌السلام (فَقُلْ : إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) فقل لهم : إنما الغيب (وهو ما غاب

١٣٧

عن العباد) لأمر الله ، فهو المختص بعلمه ، ولا يأتي بها إلا هو ، وإنما على التبليغ ، ولعله لا ينزلها ، لعدم الفائدة في إنزالها ، فقد نزلت آيات كثيرة ولم يؤمن بها المعاندون الجاحدون ، والمانع من إنزالها أمر مغيب لا يعلمه إلا هو (فَانْتَظِرُوا) نزول ما اقترحتموه ، أو العذاب إن لم تؤمنوا (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) لما يفعل الله بكم بجحودكم ما نزل عليه من الآيات العظام واقتراحكم غيره.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى ثلاث شبهات للمشركين للطعن في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وهي عجبهم من نزول الوحي على محمد ، وتعجلهم العذاب إن كان صادقا ، وتشككهم في القرآن) ذكر هنا شبهة رابعة لإنكار نبوته ، وهي أن الكتاب لا يكون معجزا ، بدليل أن كتاب موسى وعيسى ما كان معجزة لهما ، بل كان لهما معجزات أخرى دلت على نبوتهما ، وكان في مشركي العرب من يدعي إمكان معارضة القرآن ، لقوله تعالى : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) [الأنفال ٨ / ٣١] وإنما لا بد لإثبات نبوته من نزول آية كونية حسية مادية غير هذا القرآن ، ليكون معجزة له.

هذا مع العلم بأن القرآن الكريم اشتمل على آيات علمية وعقلية دالة على النبوة والرسالة.

التفسير والبيان :

ويقول هؤلاء الكفرة المكذبون المعاندون قولا متكررا : هلا أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية كونية حسية مشاهدة كالتي نزلت على نوح وشعيب وهود وصالح وموسى وعيسى ، أو أن يحول الصفا لهم ذهبا ، أو يزيح ، عنهم جبال مكة ، ويجعل مكانها بساتين وأنهارا ، أو نحو ذلك مما الله عليه قادر.

وقد حكى القرآن عنهم في مواضع كثيرة هذا الطلب بإنزال معجزات مادية ، وأجاب عنه إما مجملا كما هنا ، وإما مفصلا ، كما في سورة الفرقان : (وَقالُوا

١٣٨

ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ، لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ، أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) [٧ ـ ٨] ثم في آيات بعدها : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) [١٠].

وفي سورة الإسراء طالبوا بواحدة من بضع آيات : (وَقالُوا : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ ، فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً ، أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ ، أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ، قُلْ : سُبْحانَ رَبِّي ، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [٩٠ ـ ٩٣].

وكان الرد الحاسم على مثل هذه الاقتراحات قوله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) [الإسراء ١٧ / ٥٩] أي كذب بها قوم عاد وثمود وغيرهم. وقضينا ألا نعاملهم بمثل معاملة الأقوام الغابرة ، فنستأصلهم ؛ لأن محمدا خاتم النبيين ، ورحمة عامة شاملة للعالمين ، وقد يلد منهم من يؤمن ويوحد الله تعالى.

ومع كل هذا آتى الله نبيه آيات علمية وكونية ، ولكنه لم يجعلها حجة على رسالته ، ولا طالبهم بالإيمان بموجبها ، بل كانت لضرورة كاستجابة بعض أدعيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كشفاء المرضى ، وإشباع العدد الكثير في غزوتي بدر وتبوك من الطعام القليل ، وانشقاق القمر نصفين ، وحنين الجذع ، وتكليم الضب ، ونحو ذلك مما هو معروف مستقصى في كتب السنة والسيرة مثل أعلام النبوة للماوردي.

وبالرغم من تلك الآيات ، ظل القرآن الكريم هو معجزة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخالدة ، ولعل عصرنا بما اكتشف فيه من اختراعات عجيبة ، وظهرت فيه

١٣٩

نظريات كونية وعلمية تتفق مع الأخبار الواردة في القرآن ، يؤيد الاكتفاء بهذه المعجزة. روى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه مرفوعا : «ما من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».

وكان الجواب الإجمالي في هذه الآية : (فَقُلْ : إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) أي إن تلبية مقترحاتكم ونزول الآية من الأمور الغيبية ، والله وحده هو المختص بعلم الغيب ، فلا يعلم به إلا هو ، والأمر كله لله ، وهو يعلم عواقب الأمور ، وليس لي ولا لأحد علم بالغيب المستأثر به سبحانه وتعالى ، فإن قدّر إنزال آية علي ، فهو يعلم وقتها.

(فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أي إن كنتم لا تؤمنون بي حتى تشاهدوا ما سألتم من نزول الآيات المقترحة ، فانتظروا حكم الله فيّ وفيكم ، وهو ما سيحلّ بكم من العذاب لعنادكم وجحودكم بالآيات.

وقد فسّر الله تعالى ما ينتظر في القسم الأخير من هذه السورة : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ (أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ، قُلْ : فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) [١٠٢].

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآية أمرين :

١ ـ علم الغيب ومنه الوحي وإنزال المعجزات والآيات الكونية مختص بالله تعالى ، وما النبي إلا رسول موحى إليه ، يبلّغ ما أنزل إليه من ربه.

٢ ـ تهديد كفار مكة وأمثالهم بحلول العذاب إن لم يؤمنوا برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنذارهم بفصل القضاء بينه وبينهم بنصره عليهم ، وإظهار المحق على المبطل.

١٤٠