التفسير المنير - ج ١١

الدكتور وهبة الزحيلي

اللهِ ، ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [الزمر ٣٩ / ٢٣].

فقه الحياة أو الأحكام :

١ ـ القرآن الكريم كتاب محكم واضح بيّن فيما اشتمل عليه من حلال وحرام وحدود وأحكام.

٢ ـ الإيحاء إلى رجل من البشر ليؤدي رسالة الله إلى الناس أمر طبيعي منطقي ، ليس محل تعجب واستغراب ، وإنما هو موافق للحكمة والعقل والواقع.

٣ ـ ليست مقومات اختيار الأنبياء بحسب معايير الناس ومفاهيمهم كالمال والغنى والثروة والجاه والزعامة ، وإنما المعيار هو ما في علم الله جل وعز من كون النبي المصطفى هو الأهل الأكفاء الأجدر بتحمل أعباء الرسالة ، والأوفق لتحقيق المصلحة وتبليغ الوحي إلى الناس.

٤ ـ مهمة الرسول هي الإنذار والتبشير ، إنذار من عصاه بالنار ، وتبشير من أطاعه بالجنة. وله خصائص أخرى مثل ما أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحاح عن نفسه أنه قال : «لي خمسة أسماء. أنا محمد وأحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب : أي آخر الأنبياء ، كما قال تعالى : (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) [الأحزاب ٣٣ / ٤٠].

٥ ـ لا يملك الضعيف أو الخاسر المفلس سوى الاتهام الرخيص الكاذب الذي لا فائدة منه ، لذا قال الكافرون : إن هذا أي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لساحر مبين ، أو إن هذا القرآن لسحر مبين ، بحسب القراءتين ، فوصف الكفار القرآن بكونه سحرا يدل كما قال الرازي على عظم محل القرآن عندهم ، وكونه معجزا ، وأنه تعذر عليهم فيه المعارضة ، فاحتاجوا إلى هذا الكلام الذي ذكروه في معرض الذم ، على

١٠١

ما يظهر ، وأرادوا به أنه كلام مزخرف حسن الظاهر ، ولكنه باطل في الحقيقة ، ولا حاصل له ، أو ذكروه في معرض المدح ، وأرادوا به أنه لكمال فصاحته وتعذر مثله ، جار مجرى السحر.

الله خالق السموات والأرض وعلى الخلق عبادته

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣))

المفردات اللغوية :

(خَلَقَ) الخلق : التقدير والإيجاد (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي في قدر أيام الدنيا ؛ لأنه لم يكن ثمّ شمس ولا قمر ، ولو شاء لخلقهن في لحظة ، ولكنه عدل عن ذلك لتعليم خلقه التثبت. واليوم لغة : الوقت الذي يحده حدث يحدث فيه. (الْعَرْشِ) مركز تدبير المخلوقات ، ولا نعلم حقيقته ، والاستواء على العرش شيء يليق به تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) بين الخلائق ، والتدبير : النظر في عواقب الأمر لإيقاعها على النحو المناسب محمودة العاقبة (شَفِيعٍ) يشفع لأحد (إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) رد لقولهم إن الأصنام تشفع لهم (ذلِكُمُ) الخالق المدبر (فَاعْبُدُوهُ) وحده.

المناسبة :

بعد أن حكى الله تعالى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحي والبعثة والرسالة ، ورد عليهم تعجبهم بأنه من الممكن الإيحاء إلى رجل يبشر على الأعمال الصالحة بالثواب ، وعلى الأعمال الفاسدة بالعقاب ، ذكر تعالى أمرين :

الأول هنا : إثبات أن لهذا العالم إلها قادرا نافذ الحكم بالأمر والنهي.

والثاني في الآية التالية : إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة ، ليحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر بهما الأنبياء.

١٠٢

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى أنه رب العالم جميعه ، وأنه خلق السموات والأرض في ستة أزمنة أو أيام ، قيل : كأيام الدنيا وهو قول الجمهور وهو الصواب ، وقيل : كل يوم كألف سنة مما تعدون ، والأصح عند جماعة أنه تعالى خلق الكون سماءه وأرضه في زمن لا يعلم مقداره إلا هو. واليوم في اللغة هو الجزء من الزمن.

ثم استوى على العرش استواء يليق بعظمته وجلاله ، ولا يعلمه إلا هو ، والعرش هو كرسيه أو مركز تدبير الخلائق ، وهو أعظم المخلوقات وسقفها ، ولا يعلم أحد حقيقة العرش إلا هو سبحانه وتعالى.

والله تعالى في استوائه على العرش يدبر أمر الخلائق والملكوت بما يتفق مع حكمته وعلمه ، ويقدر أمر الكائنات على ما اقتضته حكمته وسبقت به كلمته.

وإذا كان الله الرب خالق الأكوان وفاطر السموات والأرض على هذا النظام البديع المحكم ، فيمكنه ولا يستبعد عنه أن يوحي بشيء من علمه على بشر من خلقه ، ليهدي الناس إلى سواء السبيل ، فذلك مظهر من مظاهر قدرته وإرادته ، فيجب على منكري النبوة الإيمان بهذا الوحي وتصديق صاحبه وتأييده بكل ما جاء به.

ولله تعالى أيضا السلطان المطلق يوم القيامة في حساب الخلائق ، فلا يستطيع شفيع أن يشفع لأحد عنده تعالى إلا من بعد إذنه أي إرادته ومشيئته ، كقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة ٢ / ٢٥٥] وقوله : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ ٣٤ / ٢٣] وقوله : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [النجم ٥٣ / ٢٦] وقوله : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ، وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) [طه ٢٠ / ١٠٩].

١٠٣

وفي هذا رد واضح على عبدة الأصنام أو الملائكة أو البشر الذين يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم عند الله ، كما قال تعالى عن عبدة الأصنام : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر ٣٩ / ٣].

وفيه أيضا إثبات الشفاعة لمن أذن له الله الرحمن.

ذلكم الله ، أي الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية من الخلق والتقدير والحكمة والتدبير والتصرف في الشفاعة ، هو ربكم المتولي شؤونكم ، لا غيره ؛ إذ لا يشاركه أحد في شيء من ذلك.

فاعبدوه ، أي أفردوه بالعبادة وحده لا شريك له ، أفلا تذكرون ، أي أفلا تتفكرون أدنى تفكر في أمركم أيها المشركون ، فينبهكم على أنه المستحق للربوبية والعبادة ، لا ما تعبدونه من الآلهة ، وأنتم تعلمون أنه المتفرد بالخلق كقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ؟ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف ٤٣ / ٨٧] وقوله : (قُلْ : مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ، قُلْ : أَفَلا تَتَّقُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٨٦ ـ ٨٧].

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزمر ٣٩ / ٣٨].

فلقد كان العرب يؤمنون بوحدة الربوبية ، كما فهم من الآيات المذكورة ، ولكنهم يشركون معه غيره في الألوهية ، لذا قال تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ). ثم دعاهم تعالى إلى التفكر بقوله (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أتجهلون فلا تتذكرون أن الله هو خالق السموات والأرض ، فتستدلوا بها عليه؟!

فقه الحياة أو الأحكام :

تدل هذه الآية على ما يأتي :

١ ـ إثبات الألوهية أو وجود الله بإثبات صفة الخلق لله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).

١٠٤

٢ ـ كون خلق السموات والأرض في ستة أيام ، لتعليم الخلق التثبت في الأمور ، مع أنه تعالى قادر على خلق جميع العالم في أقل من لمح البصر.

٣ ـ اتفق المسلمون على أن فوق السموات جسما عظيما هو العرش ، الله أعلم به ، وبكيفية استوائه عليه.

٤ ـ إن الله وحده هو الذي يدبر الخلائق بمقتضى حكمته ، لا يشركه في تدبيرها أحد ، وتدبيره للأشياء وصنعه لها ، لا يكون بشفاعة شفيع وتدبير مدبر.

٥ ـ لا شفاعة لأحد ـ نبي ولا غيره ـ يوم القيامة إلا بإذن الله تعالى ؛ لأنه تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب. وهذا رد على الكفار في قولهم فيما عبدوه من دون الله : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس ١٠ / ١٨] فأعلمهم الله أن أحدا لا يشفع لأحد إلا بإذنه ، فكيف بشفاعة أصنام لا تعقل؟!

٦ ـ إن الله الذي فعل هذه الأشياء من خلق السموات والأرض هو ربكم لا رب لكم غيره ، فهو وحده الذي يستحق العبادة بإخلاص له.

٧ ـ قوله : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) دال على وجوب التفكر في تلك الدلائل القاهرة الباهرة ، وأن التفكر في مخلوقات الله تعالى والاستدلال بها على عظمته أعلى مراتب التفكير وأكملها.

إثبات البعث والجزاء

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤))

١٠٥

الإعراب :

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) مبتدأ مؤخر وخبر مقدم (جَمِيعاً) حال منصوب.

(وَعْدَ اللهِ حَقًّا) مصدران منصوبان بفعلهما المقدر ، أي وعد الله ذلك وعدا وحققه.

المفردات اللغوية :

(إِلَيْهِ) تعالى (يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي بدأه بالإنشاء (حَقًّا) صدقا لا خلف فيه (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بالبعث (لِيَجْزِيَ) يثيب (بِالْقِسْطِ) بالعدل (حَمِيمٍ) ماء شديد الحرارة (وَعَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي بسبب كفرهم.

التفسير والبيان :

أثبت الله تعالى في الآية السابقة وجوده ووحدانيته المقتضية توحيده الخالص في العبادة ، وهنا يثبت أمرا آخر مهما في الإسلام وهو البعث والجزاء.

يخبر الله تعالى أن إليه وحده مرجع الخلائق يوم القيامة ، بعد الموت ، لا يترك أحدا منكم أبدا ، ووعد الله ذلك وعدا حقا ثابتا لا خلف فيه.

ثم ذكر أنه تعالى كما بدأ الخلق وأنشأه حين التكوين ، كذلك يعيده في النشأة الأخرى ، والإعادة أهون من البدء ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ، ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم ٣٠ / ٢٧].

أما البدء فمشاهد بلا نزاع ، ولكن البشر لم يستطيعوا إلى الآن معرفة النشأة الأولى والقوة الموجدة للحركة في المادة.

وأما الإعادة فيتوقع العلماء خراب العالم ، لكن بعضهم ينكر البعث والجزاء ، ولكن القرآن أقام الدليل عليه بأن القادر على البدء والتكوين ، قادر على إعادة الحياة مرة أخرى بعد الموت والفناء.

والهدف من الإعادة حساب الخلق بالعدل : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي

١٠٦

ليجازي المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسله وما أنزل إليهم ، وعملوا الأعمال الطيبة الصالحة ، بالعدل والجزاء الأوفى ، فيعطي كل عامل ما يستحقه من الثواب : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها ، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٤٧].

والجزاء بالعدل لا يمنع التفضل بمضاعفة أجر المحسنين ، كما قال تعالى : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ، إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر ٣٥ / ٣٠] وقال سبحانه : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس ١٠ / ٢٦] فالحسنى جزاء ، والزيادة فضل من الله وإحسان.

وأما الذين كفروا بالله ورسله وأنكروا البعث ، وتعجبوا من الإيحاء إلى بشر ينذرهم ويبشرهم ، فلهم من الجزاء شراب ساخن شديد الحرارة يقطع الأمعاء ويشوي البطون ، بئس الشراب شرابهم ، ولهم أيضا يوم القيامة عذاب موجع مؤلم أشد الألم بسبب كفرهم ، من سموم وحميم وظل من يحموم : (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) [ص ٣٨ / ٥٧ ـ ٥٨] (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ. يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن ٥٥ / ٤٣ ـ ٤٤].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآية إلى ما يأتي :

١ ـ إثبات المعاد (البعث) والحشر والنشر ، بدليل أنه تعالى قادر على كل شيء ، فهو الذي بدأ الخلق ، وهو الذي يعيده : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [الأعراف ٧ / ٢٩] فالله قادر على أن يخلقنا ابتداء من غير مثال سبق ، فلأن يكون قادرا على إيجادنا مرة أخرى ، مع سبق الإيجاد الأول ، كان أولى وأهون.

٢ ـ الجزاء ثابت على الأعمال ، أما جزاء المؤمنين الصالحين فهو مقصود

١٠٧

بالذات ، بدليل تعليل الرجوع إليه تعالى بأنه للجزاء : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) لأن العدل يقضي بتقديم المقابل على العمل الصالح ، وهو جزاء حسن لا يعادل بالعمل المبذول ، بل هو أفضل وأرقى وأكمل منه بكثير ، كما قال تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة ٣٢ / ١٧] وروى البخاري حديثا قدسيا : «أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر».

وأما جزاء الكافرين على كفرهم فليس من مقاصد خلق الإنسان ، وإنما اقتضاه العدل والعقل ، للتمييز بين المحسنين والمسيئين ، وبين الأبرار والفجار ، وبين المؤمنين والكفار ، لأننا نرى الكفار والفساق في الدنيا في أعظم الراحات أحيانا ، ونرى العلماء والصالحين ضد ذلك ، فهل يعقل أن يتساوى العامل مع العاطل ، والمحسن مع المسيء؟! قال تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص ٣٨ / ٢٨] فثبت أنه لا بد بعد هذه الدار من دار أخرى ، لإقامة العدل بين الخلائق.

ودلت الآية أيضا على أنه لا واسطة بين أن يكون المكلف مؤمنا ، وبين أن يكون كافرا ؛ لأنه تعالى اقتصر في هذه الآية على ذكر هذين القسمين.

والخلاصة : أثبت تعالى البعث والحشر والنشر بناء على أنه لا بد من إثابة أهل الطاعة ، وعقوبة أهل الكفر والمعصية ، وأن الحكمة تقتضي تمييز المحسن عن المسيء.

١٠٨

إثبات القدرة الإلهية في الكون

بالشمس والقمر واختلاف الليل والنهار

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦))

الإعراب :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) ضياء : مفعول به ثان لجعل. (وَقَدَّرَهُ) الضمير إما راجع للشمس والقمر ، ووحّد لكنه في معنى التثنية ، اكتفاء بالمعلوم ، لأن عدد السنين والحساب إنما يعرف بسير الشمس والقمر مثل قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة ٩ / ٦٢].

وإما أن يكون الضمير راجعا إلى القمر وحده ؛ لأن بسير القمر تعرف الشهور ، والشهور المعتبرة في الشريعة هي الشهور القمرية ، المبنية على رؤية الأهلة ، وكذلك السنة المعتبرة في الشريعة هي السنة القمرية ، كما قال تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ) [التوبة ٩ / ٣٦].

المفردات اللغوية :

(ضِياءً) ذات ضياء أي نور (نُوراً) أي ذا نور ، وسمي نورا للمبالغة ، وهو أعم من الضوء. وقيل : ما بالذات ضوء ، وما بالاكتساب من غيره نور ، وقد نبه تعالى بذلك على أنه خلق الشمس نيّرة في ذاتها ، والقمر نيرا بالاكتساب من الشمس (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) الضمير لكل واحد من الشمس والقمر ، أي قدر مسير كل واحد منهما منازل أو قدر القمر ذا منازل ، والتقدير : جعل الأشياء على مقادير مخصوصة ، والمنازل : مكان النزول (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أى لتعلموا بذلك حساب الأوقات من السنين والأشهر والأيام في معاملاتكم وتصرفاتكم (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ) المذكور إلا خلقا ملتبسا بالحق ، مراعيا فيه مقتضى الحكمة البالغة ، لا عبثا. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يتدبرون ، فإنهم المنتفعون بالتأمل فيها.

١٠٩

(فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) بالذهاب والمجيء والزيادة والنقصان (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ) من ملائكة وشمس وقمر ونجوم وغير ذلك (وَالْأَرْضِ) وفي الأرض من حيوان وجبال وبحار وأنهار وأشجار وغيرها (لَآياتٍ) دلالات على قدرته تعالى ووجوده ووحدته وكمال علمه وقدرته. (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) يتقون عواقب الأمور ، فيؤمنون ، لأن ذلك يحملهم على التفكر والتدبر ، وخصهم بالذكر ؛ لأنهم المنتفعون بها.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى الأدلة على إثبات الألوهية والتوحيد ، والبعث ، من خلق السموات والأرض ، خصص بالذكر للتأكيد أحوال الشمس والقمر الدالة على التوحيد من جهة الخلق والإيجاد ، وعلى إثبات المعاد من جهة كونهما أداة لمعرفة السنين والحساب ، وذلك رصد للزمن الذي لا بد له من نهاية ، وموت أهله ، ثم ذكر المنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار ، وما خلق الله في السموات والأرض.

فصارت الأدلة على الألوهية والتوحيد أربعة : خلق السموات والأرض ، وأحوال الشمس والقمر ، والمنافع المترتبة على اختلاف الليل والنهار ، وما خلق الله في السموات والأرض من حوادث وأحوال ، كالأمطار والرعد والبرق ، والزلازل والبراكين ، والمد والجزر في البحار ، وأحوال النبات والحيوان والمعادن.

التفسير والبيان :

الله ربكم هو الذي خلق السموات والأرض ، وجعل الشمس في النهار ضياء للكون ، ومصدرا للحياة وإشعاع الحرارة الضرورية للحياة ، في النبات والحيوان ، وجعل القمر نورا في الليل يبدد الظلمات ، وقدر مسيره في فلكه منازل أو ذا منازل ، ينزل كل ليلة في واحد منها ، وهي ثمانية وعشرون منزلا معروفة لدى العرب ، يرى القمر فيها بالأبصار ، كقوله تعالى : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) [يس ٣٦ / ٣٩].

١١٠

وتخصيص القمر بذكر منازله ، إذا جعل الضمير عائدا إليه وحده ، لسرعة سيره ، ومعاينة منازله ، وإناطة أحكام الشرع به ، ولذلك علله بقوله : (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي يعرف به حساب الأوقات من الشهور والأيام والليالي ، والفصول الأربعة ، والحساب مطلوب لضبط أوقات العبادة من صلاة وصيام وحج وزكاة ومعاملات وعقود.

وإذا كان تقدير المنازل لكل من الشمس والقمر ، فيعرف بهما حساب الأوقات ، فبالشمس تعرف الأيام ، وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام. وقد حث الشرع على الانتفاع بالحساب الشمسي في نحو قوله تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) [الرحمن ٥٥ / ٥] وقوله : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ ، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً ، لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ، وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [الإسراء ١٧ / ١٢] وفي كل من الحساب الشمسي والقمري فوائد ، فالحساب الشمسي ثابت ، والحساب القمري أسهل على البدوي والحضري ، فأنيطت به الأحكام الشرعية.

ما خلق الله ذلك المذكور من الشمس والقمر إلا خلقا متلبسا بالحق الذي هو الحكمة البالغة ، ولم يخلقه عبثا ، بل له حكمة عظيمة في ذلك ، وحجة بالغة ، كقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) [ص ٣٨ / ٢٧] وقوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ١١٥].

(يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي يبين الله الآيات الكونية الدالة على عظمته وقدرته ، والآيات القرآنية ، لقوم يعلمون طرق الدلالة على الخالق ومنافع الحياة ، ويميزون بين الحق والباطل.

إن في اختلاف الليل والنهار أي في تعاقبهما ، إذا جاء هذا ذهب هذا ، وإذا

١١١

ذهب هذا جاء هذا ، لا يتأخر عنه شيئا ، وفي طولهما وقصرهما بحسب اختلاف مواقع الأرض من الشمس ، ومالهما من نظام دقيق ، وما فيهما من برودة وحرارة ، وكون الليل لباسا وسكنا والنهار معاشا.

وإن ما خلق الله في السموات والأرض من أحوال الجماد والنبات والحيوان ، وأحوال الرعود والبروق والسحب والأمطار ، وأحوال البحار من مد وجزر ، وأحوال المعادن من خواص وتركيب ونحو ذلك.

إن في ذلك كله لآيات ودلائل دالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته وحكمته ، وعظمته ، وكمال علمه ، لقوم يتقون مخالفة سنن الله في التكوين ، وسننه في التشريع ، فسنة الكون الحفاظ على الصحة ، من خالفها مرض ، وسنة الحياة الاستقامة ، من أفسدها وخالفها ، أساء لنفسه ، وكل من لم يتق عقاب الله وسخطه وعذابه بارتكاب المعاصي ومخالفة السنن ، عوقب على ذلك في الدنيا والآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ إن أحوال الشمس والقمر وما فيهما من فوائد ، والمنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار ، وكل ما خلق الله في السموات والأرض آيات دالة على وجود الله وتوحيده ، وكمال قدرته وعظيم سلطانه ، ولم يخلق الله ذلك إلا لحكمة وصواب ، ومصلحة للإنسان.

٢ ـ وإن تقدير الشمس والقمر في منازل مفيد في التوقيت لمعرفة عدد السنين والحساب. قال السيوطي : هذه الآية أصل في علم المواقيت ، والحساب ، والتاريخ ، ومنازل القمر.

١١٢

٣ ـ أودع سبحانه في أجرام الكواكب والأفلاك خواص معينة وقوى مخصوصة وفوائد وآثارا في هذا العالم ، وإلا كان خلقها عبثا وباطلا وغير مفيد.

٤ ـ المستفيد من آيات الكون هم العلماء العقلاء ، والمتقون الذين يخافون الله ويحذرون عقابه ، والحذر يدعوهم إلى التدبر والنظر.

المؤمنون والكافرون وجزاء كل

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠))

الإعراب :

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) استئناف ، أو خبر ثان ، أو حال من الضمير المنصوب على المعنى الأخير.

(فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) خبر أو حال آخر منه أو من الأنهار ، أو متعلق بتجري أو بيهدي.

البلاغة :

(لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) فيه التفات ، مع الإضافة إلى ضمير الجلالة لتعظيم الأمر وتهويله.

المفردات اللغوية :

(لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) لا يتوقعونه لإنكارهم للبعث ، وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها ، واللقاء : الاستقبال والمواجهة. (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) بدل الآخرة بإنكارهم لها وغفلتهم عنها. (وَاطْمَأَنُّوا بِها) سكنوا إليها ، وقصروا هممهم على لذائذها وزخارفها. (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) أي تاركون النظر في دلائل وحدانيتنا ، لا يتفكرون فيها ، لأنهما كهم فيما يضادها.

١١٣

(مَأْواهُمُ) ملجأهم الذي يأوون إليه وقد أطلق المأوى على الجنة في ثلاث آيات ، وعلى النار في بضع عشرة آية. (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من الشرك والمعاصي. (يَهْدِيهِمْ) يرشدهم. (بِإِيمانِهِمْ) بسبب إيمانهم ، إلى سلوك سبيل يؤدي إلى الجنة ، أو لإدراك الحقائق ، كما قال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه أبو نعيم عن أنس ، والظاهر أنه ضعيف : «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم» أو لما يريدونه في الجنة ، بأن يجعل لهم نورا يهتدون به يوم القيامة.

(دَعْواهُمْ فِيها) طلبهم لما يشتهونه في الجنة ، والدعوى : الدعاء ، والدعاء للناس: النداء والطلب المعتاد بينهم ، والدعاء لله : سؤاله الخير والرغبة فيما عنده ، مع الشعور بالحاجة إليه. ودعاؤهم هنا أن يقولوا : (سُبْحانَكَ اللهُمَ) أي تنزيها لك وتقديسا يا الله ، فإذا ما طلبوه وجدوه عندهم. (وَتَحِيَّتُهُمْ) فيها بينهم ، والتحية : التكرمة ، بقولهم : حياك الله ، أي أطال عمرك. (سَلامٌ) السلامة من كل مكروه. (أَنِ الْحَمْدُ) أن مفسرة.

المناسبة :

بعد أن أقام الله تعالى الدلائل على إثبات الإله ووجوده ، وعلى إثبات البعث والجزاء على الأعمال يوم الحساب ، ذكر حال من كفر به وأعرض عن أدلة وجوده ووحدانيته ، وحال المؤمنين الذين عملوا الصالحات ، ثم أوضح جزاء كل من الفريقين.

التفسير والبيان :

إن الذين لا يتوقعون لقاء الله في الآخرة للحساب والجزاء على الأعمال ، لإنكارهم البعث ، ورضوا بالحياة الدنيا بدل الآخرة ؛ لغفلتهم عنها ، واطمأنوا بها وسكنوا إليها وإلى شهواتها ولذائذها وزخارفها ، وكانوا غافلين عن آيات الله الكونية والشرعية ، فلا يتفكرون في الأولى ، ولا يأتمرون بالثانية ، أولئك المذكورون من الفريقين مثواهم ومقامهم النار وملجؤهم الذي يلجأون إليه ، جزاء على ما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا مع كفرهم بالله ورسوله واليوم الآخر. وهذا الجزاء توضيح للجزاء السابق المذكور في الآية [٤].

وعطف (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) الذي يقتضي المغايرة إما لتغاير

١١٤

الوصفين ، وإما لتغاير الفريقين ، والمراد بالفريق الأول : من أنكر البعث ولم يرد إلا الحياة الدنيا وهم الماديون الملحدون ، والمراد بالفريق الثاني : من ألهته الدنيا عن التأمل في الآخرة والإعداد لها.

هذا جزاء الفريق الكافر وهم الأشقياء ، أما جزاء الفريق المؤمن وهم السعداء فأخبرت الآية التالية عنه : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ..).

أي إن الذين آمنوا بالله وصدقوا برسله ، وامتثلوا ما أمروا به ، فعملوا الصالحات ، ولم يغفلوا عن آيات الله في الكون والشريعة ، يرشدهم ربهم بسبب إيمانهم إلى الصراط المستقيم الذي يؤدي بهم إلى الجنة التي تجري من تحتها الأنهار ، ومن تحت غرفهم في جنات النعيم والخلد ، وهذا مثل للتنعم والراحة والسعادة والانسجام في تلك المناظر الخلّابة ، التي تأخذ بمجامع القلوب ، وتسرّ النفوس.

ومفهوم الترتيب بين الإيمان والعمل الصالح ، وإن دلّ على أن سبب الهداية هو الإيمان والعمل الصالح ، لكن دلّ منطوق قوله : (بِإِيمانِهِمْ) على استقلال الإيمان بالسببية ، وأن العمل الصالح كالتابع له والتتمة.

(دَعْواهُمْ ...) أي يبدءون دعاءهم وثناءهم على الله تعالى بهذه الكلمة : (سُبْحانَكَ اللهُمَ) أي تنزيها وتقديسا لك يا الله ، أو اللهم إنا نسبحك ، وتحيتهم فيما بينهم (سَلامٌ) الدالة على السلامة من كل مكروه مثل قوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً ، إِلَّا قِيلاً : سَلاماً سَلاماً) [الواقعة ٥٦ / ٢٥ ـ ٢٦] ، وهي أيضا تحية المؤمنين في الدنيا ، وهي كذلك تحية الله تعالى حين لقائه لأهل الجنة (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ : سَلامٌ) [الأحزاب ٣٣ / ٤٤] وتحية الملائكة لهم عند دخول الجنة : (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها : سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر ٣٩ / ٧٣].

١١٥

وآخر دعائهم الذي هو التسبيح : الحمد لله رب العالمين ، وهو أيضا أول ثناء على الله حين دخول الجنة : (وَقالُوا : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) [الزمر ٣٩ / ٧٤] وهو كذلك آخر كلام الملائكة : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ ، وَقِيلَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الزمر ٣٩ / ٧٥].

قال ابن كثير : وفي هذا دلالة على أنه تعالى هو المحمود أبدا ، المعبود على طول المدى ، ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره ، وعند ابتداء تنزيل كتابه ، حيث يقول تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام ٦ / ١] (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) [الكهف ١٨ / ١].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على الأحكام التالية :

١ ـ للكافرين الجاحدين عذاب النار بسبب ما اكتسبوا أو اقترفوا من الكفر والتكذيب والمعاصي. وقد وصفهم الله تعالى بصفات أربع هي :

الأولى ـ إن الذين لا يرجون لقاءنا ، أي لا يخافون عقابا ولا يرجون ثوابا.

الثانية ـ ورضوا بالحياة الدنيا ، أي رضوا بها عوضا من الآخرة ، فعملوا لها.

الثالثة ـ واطمأنوا بها ، أي فرحوا بها وسكنوا إليها.

الرابعة ـ والذين هم عن آياتنا غافلون ، أي لا يعتبرون ولا يتفكرون بأدلتنا.

١١٦

٢ ـ للمؤمنين المحقين العاملين الأعمال الصالحة جنات النعيم ، تجري من تحتهم أي من تحت بساتينهم أو أسرّتهم الأنهار ، يمجدون فيها الله تعالى بقولهم : (سُبْحانَكَ اللهُمَ) ويحمدون ربهم بقولهم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) والفرحة تغمرهم ، والبهجة تملأ قلوبهم ، والسعادة ترفرف بأجنحتها عليهم ، تحية الله لهم ، أو تحية الملك أو تحيتهم لبعضهم : سلام.

٣ ـ التسبيح والحمد والتهليل قد يسمّى دعاء ، روى مسلم والبخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول عند الكرب : «لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله ربّ السموات وربّ الأرض ورب العرش الكريم» قال الطبري : كان السلف يدعون بهذا الدعاء ، ويسمّونه دعاء الكرب. وهذا الدعاء الصادر من أهل الجنة ليس بعبادة إذ لا تكليف في الجنة ، إنما يلهمون به ، فينطقون به تلذذا بلا كلفة.

٤ ـ من السنة لمن بدأ بالأكل أو الشرب أن يسمّي الله عند أكله وشربه ، ويحمده عند فراغه ، اقتداء بأهل الجنة.

ورد في صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة ، فيحمده عليها ، أو يشرب الشّربة ، فيحمده عليها».

٥ ـ يستحب للداعي أن يقول في آخر دعائه ، كما قال أهل الجنة : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

٦ ـ الإيمان والعمل الصالح طريق الإنسان إلى الجنة. والله يهدي أي يسدد ويرشد بسبب الإيمان إلى طريق الاستقامة المؤدي إلى الثواب على الأعمال.

ويجوز أن يريد الله تعالى بقوله : (يَهْدِيهِمْ) أي في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة ، كقوله تعالى : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) [الحديد ٥٧ / ١٢] ومنه الحديث : «إن المؤمن إذا خرج من

١١٧

قبره ، صوّر له عمله في صورة حسنة ، فيقول له : أنا عملك ، فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة ، والكافر إذا خرج من قبره ، صوّر له عمله في صورة سيئة ، فيقول : أنا عملك ، فينطلق به حتى يدخله النار».

وما على المؤمن إلا أن يستزيد من الأعمال الصالحة ليتبوأ مكانه في الجنة ، إذ ليست الجنة بمجرد الاتصاف بالإسلام ، أو بالتمنيات المعسولة ، كما قال تعالى : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) [النساء ٤ / ١٢٣ ـ ١٢٤] والنقير : قدر النّقرة في ظهر النواة.

والإيمان : هو المعرفة والهداية المترتبة عليها. والمقصود : معرفة صفات الله تعالى ، لا معرفة ذاته فذلك مستحيل.

والأعمال الصالحة : عبارة عن الأعمال التي تحمل النفس على ترك الدنيا وطلب الآخرة. والأعمال المذمومة ضدّ ذلك.

استعجال الإنسان الخير دائما والشرّ حال الغضب

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢))

١١٨

الإعراب :

(اسْتِعْجالَهُمْ) منصوب على المصدر ، تقديره : استعجالا مثل استعجالهم. فحذف المصدر وصفته ، وأقام ما أضيفت إليه الصفة مقامه.

(لِجَنْبِهِ) في موضع نصب على الحال ، وعامله (دَعانا) وقيل : العامل : مسّ ، أي مسّ الإنسان مضطجعا أو قاعدا أو قائما ، والأول أرجح.

(كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا) مخففة من الثقلية واسمها محذوف أي كأنه ، وحذف ضمير الشأن.

البلاغة :

(الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) أي كاستعجالهم أو مثل استعجالهم ، ففيه تشبيه مؤكد مجمل. وبين الشرّ والخير طباق. ووضع الاستعجال موضع التعجيل لهم بالخير إشعارا بسرعة إجابته لهم في الخير.

المفردات اللغوية :

(يُعَجِّلُ) يقدمه على وقته ، والتعجيل : تقديم الشيء على وقته المقدر له. (اسْتِعْجالَهُمْ) طلب التعجيل ، قال العلماء : التعجيل من الله ، والاستعجال من العبد. (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) بأن يهلكم ولكن يمهلهم ، وقضاء الأجل : انتهاؤه. (فَنَذَرُ) نترك. (فِي طُغْيانِهِمْ) الطغيان : مجاوزة الحد في الشر من كفر وظلم وعدوان. (يَعْمَهُونَ) يترددون متحيرين. (الضُّرُّ) الشدة كالمرض والفقر والخطر. (لِجَنْبِهِ) أي مضطجعا (أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) في كل حال. (مَرَّ) مضى في طريقته على كفره. (كَذلِكَ) أي كما زين له الدعاء عند الضر والإعراض عند الرخاء. (لِلْمُسْرِفِينَ) المشركين ، والإسراف: تجاوز الحد.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى تعجب القوم من تخصيص محمد بالنبوة ، ثم ذكر أدلة التوحيد والبعث ، أبان هنا الجواب عن قول كانوا يقولونه : اللهم إن كان ما يقول محمد حقا في ادعاء الرسالة ، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، ومضمون الجواب : أنه لا مصلحة لهم في استعجالهم الشر وإلا ماتوا وهلكوا.

١١٩

وأما مضمون الجواب عن تعجبهم : فهو أني ما جئتكم إلا بالتوحيد والإقرار بالمعاد ، وقد أقمت الأدلة على صحتها ، فلا معنى للتعجب من نبوتي.

التفسير والبيان :

العجلة من طبائع الإنسان ، فهو دائما يتعجل الخير ؛ لأنه يحبه ، ويتعجل الشّر حين الغضب والحماقة والضجر ، فلو يعجل أو يسرع الله للناس إجابة دعائهم في حال الشر ، كاستعجالهم تحقيق الخير ، لأميتوا وأهلكوا ، وذلك مثل استعجال مشركي مكة إنزال العذاب عليهم ، كما قال تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ، وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) [الرعد ١٣ / ٦] وقال سبحانه : (وَإِذْ قالُوا : اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال ٨ / ٣٢].

وسمى الله تعالى العذاب شرّا في هذه الآية ؛ لأنه أذى في حق المعاقب ، ومكروه عنده ، كما أنه سماه سيئة في قوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ ..) وفي قوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى ٤٢ / ٤٠].

ولكنه تعالى بحلمه ولطفه بعباده لا يستجيب لهم ويذرهم إمهالا لهم واستدراجا ، فإنه لو أجابهم لانتهى أمرهم وهلكوا ، كما هلك الذين كذبوا الرسل ، وربما آمن به بعضهم ، أما من عاند فيعاقبه الله بالقتل ، كما قال تعالى : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) [التوبة ٩ / ١٤].

وأما عذاب سائر الكفار فنتركه إلى يوم القيامة ، كما قال تعالى : (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي فنترك غير المتوقعين لقاءنا فيما هم فيه من طغيان الكفر والتكذيب ، يترددون فيه متحيرين ، ولا نعجل لهم في الدنيا عذاب الاستئصال تكريما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونمهلهم ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم ، إلزاما للحجة عليهم.

١٢٠