التفسير المنير - ج ٩

الدكتور وهبة الزحيلي

وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥))

الإعراب :

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) أي تمام ثلاثين ليلة ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، وهو في موضع المفعول الثاني لواعدنا. ولا يجوز أن يكون (ثَلاثِينَ) منصوبا على الظرف ؛ لأن الوعد لم يكن في الثلاثين.

و (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) : حال ، كأنه قال : فتم ميقات ربه معدودا أربعين ليلة ، وليلة : تمييز.

و (هارُونَ) مجرور على البدل من (لِأَخِيهِ) أو على عطف البيان.

(جَعَلَهُ دَكًّا) إما منصوب على المصدر من : دككت الأرض دكّا ، إذا جعلتها مستوية.

وإما أن يكون منصوبا على المفعول ، وفيه حذف مضاف ؛ لأن الفعل الذي قبله ليس من لفظه وهو «جعل» وتقديره : فجعله ذا دكّ ، أي ذا استواء.

(لِكُلِّ شَيْءٍ) بدل من الجار والمجرور قبله وهو (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ).

البلاغة :

(سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) فيه التفات من الغيبة أي (سأريهم) إلى الخطاب ، للمبالغة في الحض على انتهاج طريق الصالحين.

المفردات اللغوية :

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) أي وعدناه بأن نكلمه عند انتهائها ، وبعد أن يصومها ، وهي ذو القعدة ، فصامها ، فلما تمت أنكر خلوف ـ رائحة ـ فمه ، فاستاك ، فأمره الله بعشرة أخرى ، ليكلمه ، بسبب إزالة خلوف فمه (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) من ذي الحجة. (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ) وقت وعده بكلامه إياه ، والميقات : ما قدر فيه عمل من الأعمال ، كمواقيت الصلاة والصوم والحج. أما

٨١

الوقت : فهو وقت للشيء قدر فيه عمل أو لم يقدر. (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ) عند ذهابه للجبل للمناجاة (اخْلُفْنِي) كن خليفتي (وَأَصْلِحْ) أمرهم (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) بموافقتهم على المعاصي.

(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) أي للوقت الذي وعدناه للكلام فيه (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) بلا واسطة كلاما سمعه من كل جهة (لَنْ تَرانِي) لن تقدر على رؤيتي ، والتعبير به دون (لن أرى) يفيد إمكان رؤيته تعالى.

(فَإِنِ اسْتَقَرَّ) ثبت (فَسَوْفَ تَرانِي) أي تثبت لرؤيتي ، وإلا فلا طاقة لك (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ) انكشف وظهر نوره ، قدر نصف أنملة الخنصر ، كما في حديث صححه الحاكم (دَكًّا) مدكوكا مستويا بالأرض (صَعِقاً) مصعوقا مغشيا عليه لهول ما رأى (أَفاقَ) عاد إليه رشده وعقله وفهمه (سُبْحانَكَ) تنزيها لك (تُبْتُ إِلَيْكَ) من سؤال ما لم أؤمر به (أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) في زماني.

(اصْطَفَيْتُكَ) اخترتك (عَلَى النَّاسِ) أهل زمانك (وَبِكَلامِي) أي تكليمي إياك (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) من الفضل (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لأنعمي (الْأَلْواحِ) أي ألواح التوراة ، وكانت سبعة أو عشرة ، وهي من سدر الجنة ، أو زبرجد أو زمرّد (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه في الدين (وَتَفْصِيلاً) تبيينا (بِقُوَّةٍ) أي يجد وعزيمة واجتهاد (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) فرعون وأتباعه ، وهي مصر ، لتعتبروا بها.

المناسبة :

بعد أن عدد الله تعالى طائفة من النعم على بني إسرائيل ، كإنجائهم من عبودية فرعون ، وجعلهم أمة مستقلة ، ذكر هنا كيفية نزول التوراة على موسى ، التي هي دستور حياتهم ، وتبيان شريعتهم والأحكام التي أمر ربهم بها.

وسبب الآيات : هو ما روي أن موسى عليه‌السلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر : إن أهلك الله عدوهم ، أتاهم بكتاب من عند الله ، فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب ، فهذه الآيات في بيان كيفية نزول التوراة (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٤ / ٢٢٦.

٨٢

وموضوع الآيات : تحديد موعد لموسى لمكالمة ربه ، واستخلاف هارون على بني إسرائيل في غياب موسى ، وطلب موسى رؤية الله عزوجل ، وإنزال التوراة المتضمنة أصول الشريعة.

التفسير والبيان :

امتن الله على بني إسرائيل بما ظفروا به من الهداية ، بتكليمه موسى عليه‌السلام ، وإعطائه التوراة وفيها أحكامهم وتفاصيل شرعهم.

والمعنى : وعد الله تعالى موسى مكالمته ، في تمام ثلاثين ليلة ، وأمره بصومها ، فصامها ، وهي شهر ذي القعدة ، فلما تمت أنكر موسى رائحة فمه ، فاستاك بلحاء شجرة ، فأمره الله تعالى أن يكمل صيام عشرة أيام أخرى من ذي الحجة ، وأن يلقى الله صائما ، فأصبح موعد اللقاء في تمام أربعين ليلة ، ذكرت في سورة البقرة مجملة ، وفصلت هنا.

وإنما قال : (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) إزالة لتوهم أن ذلك العشر من الثلاثين : لأنه يحتمل أتممناها بعشر من الثلاثين ، كأنه كان عشرين ، ثم أتمه بعشر ، فصار ثلاثين ، فأزال هذا الإيهام (١).

روي عن أبي العالية أنه قال في بيان زمان الموعد : يعني ذا القعدة وعشرا من ذي الحجة ، فمكث على الطور ليلة ، وأنزل عليه التوراة في الألواح ، فقرّبه الرب نجيا ، وكلمه وسمع صريف القلم.

قال ابن كثير : فعلى هذا يكون قد كمل الميقات يوم النحر ، وحصل فيه التكليم لموسى عليه‌السلام ، وفيه أكمل الله الدين لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما قال تعالى :

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٤ / ٢٢٦ ، أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٣٤.

٨٣

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [المائدة ٥ / ٣] (١).

وقال موسى حين أراد الذهاب إلى الطور لميقات ربه لأخيه هارون الأكبر منه سنا : كن خليفتي في القوم مدة غيابي ، وأصلح أمر دينهم ، ولا تتبع سبيل أهل الفساد والضلال ، وهو يشمل مشاركتهم في أعمالهم الفاسدة. وهذا تنبيه وتذكير وتأكيد ، وإلا فهارون عليه‌السلام نبي شريف كريم على الله.

وكان هارون وزيرا لموسى بسؤاله ربه : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) [طه ٢٠ / ٢٩ ـ ٣٢]. وكانت الرياسة في بني إسرائيل لموسى عليه‌السلام.

ولما جاء موسى لميقات الله تعالى المحدد له للكلام مع ربه وإعطائه الشريعة ، وكلمه ربه بلا واسطة كلاما سمعه من كل جهة وسمعه السبعون المختارون للميقات ، رغب في الجمع بين فضيلتي الكلام والرؤية ، فقال : أرني ذاتك المقدسة ، وقوّني على النظر إليك ، فقال الله له : لن تراني الآن ولا في المستقبل في الدنيا ؛ إذ ليس لبشر القدرة على النظر إلى في الدنيا ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه مسلم : «حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ـ أنواره ـ ما انتهى إليه بصره من خلقه».

ثم أبان له أنه لا يطيق الرؤية فقال مستدركا : ولكن انظر إلى الجبل ، فإن ثبت مكانه عند التجلي الأعظم عليه ، فسوف تراني. وإذا كان الجبل في قوته وثباته لم يستطع أن يثبت ، فكيف أنت يا موسى؟

فلما تجلى ربه للجبل ، وما تجلى منه إلا قدر الخنصر ، جعله ترابا مدكوكا ، وخرّ ـ سقط ـ موسى مغشيا عليه.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٤٣.

٨٤

فلما أفاق من إغماءته وغشيانه أو صعقته ، قال : سبحانك ، أي تنزيها وتعظيما وإجلالا أن يراك أحد في الدنيا إلا مات.

إني تبت إليك من طلب الرؤية أي أن أسألك الرؤية ، وأنا أول المؤمنين في زماني من بني إسرائيل بعظمتك وجلالك ، وفي رواية عن ابن عباس : وأنا أول المؤمنين أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة.

ثم طيب الله خاطره وأبان له مكانته ، فقال له : يا موسى إني اخترتك على ناس زمانك وآثرتك عليهم بتكليمي إياك وبإعطائك رسالاتي المتنوعة ، فخذ ما أعطيتك من الشريعة وهي التوراة ، وكن من جماعة الشاكرين نعمي ، المظهرين لإحساني إليك وفضلي عليك.

(مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) الموعظة : تشمل كل ما يوجب الرغبة في الطاعة والنفرة من المعصية ، والتفصيل : بيان أقسام الأحكام ، أي وأعطيناه ألواحا كتبنا له فيها أنواع الهداية والمواعظ المؤثرة ، والأحكام المفصلة المبينة للحلال والحرام وأصول العقيدة والآداب ، وكانت هذه الألواح مشتملة على التوراة ، وهي أول ما أوتيه من التشريع.

(فَخُذْها بِقُوَّةٍ) أي فقلنا له : خذها عطفا على (كَتَبْنا) أي فخذها بقوة وجد وعزيمة ، أي وعزم على الطاعة ونية صادقة ، (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) ، أي يعملوا بالأوامر ويتركوا النواهي ، ويتدبروا الأمثال والمواعظ. ومعنى (بِأَحْسَنِها) أي بحسنها وكلها حسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر ، فليأخذوا بما فيه الحسن والصواب ، كقوله تعالى : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الزمر ٣٩ / ٥٥].

(سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) أي سترون عاقبة من خالف أمري ، وخرج عن طاعتي ، وكيف يصير إلى الهلاك والدمار.

٨٥

قيل : أراد بها مصر ، أي سأريكم ديار القبط ومساكن فرعون خالية منهم.

وقال قتادة : سأريكم منازل الكفار التي سكنوها قبلكم من الجبابرة والعمالقة ليعتبروا بها ؛ يعني الشام وأهل الشام ، أي منازل عاد وثمود والشعوب التي أهلكها الله بسبب الفسق ، وتمرون عليها في أسفاركم. قال ابن كثير : وهذا هو الأولى ؛ لأن هذا كان بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر ، وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه.

وإذا كان المراد مصر فإن الله تعالى لما أغرق فرعون ، أوحى إلى البحر أن اقذف بأجسادهم إلى الساحل ، ففعل ؛ فنظر إليهم بنو إسرائيل ، فأراهم هلاك الفاسقين. وهذا رأي أكثر المفسرين.

قال ابن جرير الطبري : وإنما قال : (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) كما يقول القائل لمن يخاطبه : سأريك غدا إلى ما يصير إليه حال من خالف أمري ، على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره. أي أن في آية (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) وجهين : إما التهديد الوعيد على مخالفة أمر الله تعالى ، وإما الاعتبار بمن أهلكهم الله ، وهم إما فرعون وجنوده ، وإما منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكهم الله.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ تعظيما لشأن الميقات أو الموعد بتكليم الله أمر الله موسى أن يصوم ثلاثين يوما وأن يعمل فيها ما يقربه إلى الله تعالى ، ثم أنزلت التوراة عليه في العشر البواقي في رأي ، أو أنه أزال خلوف فمه بنهاية صوم الثلاثين يوما وهو شهر ذي القعدة في رأي الكثيرين ، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة. فهذا هو فائدة تفصيل الأربعين إلى الثلاثين وإلى العشرة.

٨٦

٢ ـ إنه تعالى كلّم موسى عليه‌السلام ، وكلام الله تعالى في قول أكثر أهل السنة والجماعة صفة أزلية قديمة ، مغايرة للحروف والأصوات ، فليس كلام الله حرفا ولا صوتا ، وقد سمع موسى عليه‌السلام تلك الصفة الحقيقية الأزلية التي ليست بحرف ولا صوت ، وإلا كان كلامه محدثا.

٣ ـ قد سمع السبعون المختارون للميقات أيضا كلام الله تعالى ؛ لأن الغرض بإحضارهم أن يخبروا قوم موسى عليه‌السلام عما يجري هناك ، وهذا المقصود لا يتم إلا عند سماع الكلام ، ثم إن حادثة التكليم معجزة لموسى ، فلا بد من اطلاع غيره عليها.

٤ ـ أنزل الله تعالى على موسى في هذه المكالمة الألواح وفيها التوراة المشتملة على أصول العقيدة والأخلاق والآداب والشريعة والأحكام المفصلة المبينة للحلال والحرام ، عن مقاتل : كتب في الألواح : «إني أنا الله الرحمن الرحيم ، لا تشركوا بي شيئا ، ولا تقطعوا السبيل ، ولا تحلفوا باسمي كاذبين ، فإن من حلف باسمي كاذبا ، فلا أزكيه ، ولا تقتلوا ، ولا تزنوا ، ولا تعقّوا الوالدين».

٥ ـ يجب تلقي الشريعة بحزم وجد وعزم على الطاعة وتنفيذ ما ورد فيها من الصلاح والإصلاح ومنع الفساد والإفساد ، وتكوين الأمة تكوينا جديدا. والأخذ بأحسن ما في التوراة وكل ما فيها حسن وهو الأخذ بالفرائض والنوافل ، دون المباح الذي لا حمد فيه ولا ثواب (١).

٦ ـ اعتز شعب إسرائيل حين أقام شريعته ، فلما غلب عليه الغرور ، وظن أنه شعب الله المختار ، وظلم وفسق ، سلط الله عليه البابليين ، فأزالوا ملكه ، ثم تاب فعاد إليه بعض ملكه ، ثم ظلم وأفسد ، فسلط عليه النصارى ، فهزموه وشتتوه.

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٣٥.

٨٧

وكذلك المسلمون لما عصوا كتاب ربهم وأهملوه ، سلط الله عليهم الأعداء من كل جانب ، فأفسدوا أفكارهم وعقيدتهم وأخلاقهم ، وأوقعوا الشقاق والنزاع بينهم.

والخلاصة : أن الأمة تكون عزيزة الجانب مرهوبة ما دامت متمسكة بدينها ، فإذا أهملته انهارت وضاعت ولا يغترن أحد بدول أوربا وأمريكا وروسيا واليهود ، فإن ذلك لأجل محدود ، ولحكمة يعلمها الله تعالى.

٧ ـ الآراء في رؤية الله عزوجل : استدل المعتزلة بهذه الآية : (لَنْ تَرانِي) وبقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام ٦ / ١٠٣] على نفي رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة ، وما كان طلب موسى عليه‌السلام الرؤية إلا تبكيت السفهاء الذين طلبوا الرؤية ، فأراد أن يسمعوا النص من عند الله بامتناع ذلك.

وأثبت أهل السنة إمكان رؤية الله في الآخرة ، بقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة ٧٥ / ٢٢ ـ ٢٣] وبالأحاديث الصحيحة المتواترة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنها : ما أخرجه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة عن جرير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنكم سترون ربّكم كما ترون هذا القمر ، لا تضامون في رؤيته ...» ومنها ما أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» وهي المعبر عنها بقولهم : إنها رؤية بلا كيف.

أما الآية هنا : (لَنْ تَرانِي) فتدل على أنه تعالى جائز الرؤية ؛ لأنه تعالى لو كان مستحيل الرؤية لقال : لا أرى ؛ ولأنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز وهو استقرار الجبل ، وما علق على جائز الوجود فهو جائز ؛ ولأن موسى عليه

٨٨

السلام سأل الرؤية ، ولا يسأل إلا الجائز ، فلو كانت الرؤية ممتنعة على الله تعالى لما سألها ، وحيث سألها ، علمنا أن الرؤية جائزة على الله تعالى.

ثم إن التجلي في قوله تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) هو إما ظهور بالرؤية أو الدلالة ، وبما أن الرؤية غير مقدورة للإنسان ، فكان المراد ظهور آياته التي أحدثها لحاضري الجبل ، أي أن المقصود تقرير أن الإنسان لا يطيق رؤية الله تعالى ، بدليل أن الجبل مع عظمته لما رأى الله تعالى اندك وتفرقت أجزاؤه.

وفي نهاية الحادثة تسلية موسى عليه‌السلام عن منع الرؤية ، وكأنه قال له : إن كنت قد منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظيمة كذا وكذا ، فلا يضيق صدرك بسبب منع الرؤية. وهذا أيضا يدل على أن الرؤية جائزة على الله تعالى (١).

عقوبة التكبر والكفر بصرف المتكبرين عن فهم أدلة العظمة الإلهية

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧))

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٤ / ٢٢٩ ـ ٢٣٥ ، أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٣٤ ـ ٣٥.

٨٩

الإعراب :

(بِغَيْرِ الْحَقِ) فيه وجهان : أن يكون حالا ، بمعنى يتكبرون غير محقين ؛ لأن التكبر بالحق لله وحده ، وأن يكون صلة لفعل التكبر ، أي يتكبرون بما ليس بحق.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ ذلِكَ) : في محل الرفع مبتدأ ، على معنى : ذلك الصرف بسبب تكذيبهم أو في محل النصب ، على معنى : صرفهم الله ذلك الصرف بسببه.

(وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) يجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به ، أي ولقائهم الآخرة ومشاهدتهم أحوالها ، أو من إضافة المصدر إلى الظرف ، بمعنى ولقاء ما وعد الله في الآخرة.

المفردات اللغوية :

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) بالطبع على قلوب المتكبرين وخذلانهم ، ومنعهم فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي ، فلا يفكرون فيها ، ويتكبرون عن طاعتي. وآياتي : دلائل قدرتي من المصنوعات وغيرها (يَتَكَبَّرُونَ) أي يتكبرون عن طاعتي ، ويتكبرون على الناس بغير حق. والتكبر : غمط الحق بعدم الخضوع له ، مع احتقار الناس غالبا. (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ) طريق (الرُّشْدِ) الهدى الذي جاء من عند الله ، والصلاح والاستقامة ، وضده الغي والسفه ، والرّشد والرّشد في اللغة : أن يظفر الإنسان بما يريد ، وهو ضد الخيبة.

(الغَيِ) الضلال (ذلِكَ) الصرف (كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي الآيات المنزلة من عندنا المشتملة على الهدى وتزكية النفوس. فالآيات هنا غير الآيات الأولى التي هي الدلائل والبينات.

(وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) البعث وغيره (حَبِطَتْ) بطلت (أَعْمالُهُمْ) ما عملوه في الدنيا من خير كصلة رحم وصدقة ، فلا ثواب لهم لانعدام شرط القبول وهو الإيمان.

(هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ما يجزون إلا جزاء عملهم من التكذيب والمعاصي.

المناسبة :

هذه الآيات تتحدث عن طبائع المتكبرين القدامى والمعاصرين ، فبعد أن بيّن الله تعالى ما لحق بفرعون وقومه من الهلاك بسبب استكباره وظلمه ، ذكر أن امتناع قريش عن الإيمان إنما هو بسبب التكبر أيضا ، وهذا يدل على أن منشأ

٩٠

الإعراض عن الإيمان والإصرار عن الكفر هو التكبر ، والكبر يصرف الإنسان عادة عن النظر في الحق ويؤدي إلى التكذيب به ، ويجعل المتكبر غافلا عن آيات الله الدالة عليه.

التفسير والبيان :

سأمنع قلوب المتكبرين عن طاعتي والمتكبرين على الناس بغير حق من فهم الدلائل الدالة على عظمتي وشريعتي ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف ٦١ / ٥]. والمراد بآياتي هنا : الأدلة والبينات.

وهذا خطاب شامل كل أمة وفرد ، مثل فرعون وقومه الذين منعهم الله من فهم آيات موسى ، وقد يفهمون بعض الآيات ويجحدونها غرورا وتعاليا وتكبرا مثل قوم فرعون الذين قال الله فيهم : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل ٢٧ / ١٤] ومثل كفار قريش الذين حجبهم الكبر عن النظر في الآيات مع يقينهم بصدق محمد.

هؤلاء المتكبرون من صفاتهم أولا ـ أنهم لا يؤمنون بأي آية تدل على الحق وتثبته ؛ إذ لا تفيد الآيات إلا من كان مستعدا للفهم وقبول الحق ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس ١٠ / ٩٦ ـ ٩٧].

وثانيا ـ أنهم يبتعدون عن طريق الهدى والرشاد ، وهي الطريق الممهدة المؤدية إلى النجاة ، فإذا رأى أحدهم هذه السبيل لا يسلكها ويسلك غيرها ، وهذا عن تعمد وعناد ، وقد يكون بعضهم عن جهل ، وحكم الفريقين واحد.

وثالثا ـ أنهم إذا ظهر لهم سبيل الغي والضلال والفساد ، بادروا إليه مسرعين ، بما تزينه لهم أهواؤهم ونفوسهم الأمارة بالسوء ، وهذا سلوك شر مما سبقه.

٩١

ثم علل مصيرهم إلى هذه الحال بعلة ثابتة وهي تكذيبهم بآيات الله المنزلة على رسله ، وغفلتهم عن النظر بما فيها ، وإعراضهم عن العمل بها.

ومجمل حال هؤلاء المتكبرين أن الله لم يخلقهم مطبوعين على الكفر والضلال ، ولم يجبرهم عليه ، بل حدث ذلك باختيارهم ؛ إذ أنهم كذبوا بالآيات ، وانغمسوا بأهوائهم وشهواتهم في بؤر الضلال والانحراف ، وحجبوا أفهامهم عن إدراك الحق والهدى وسلوك سبيل السعادة والنجاة ، فهم كما قال تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها ، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف ٧ / ١٧٩].

ثم أوضح الله تعالى مآل ما قد يعملونه من أعمال خيّرة في الدنيا : وهو إحباطها وإبطالها وتلاشي آثارها ، وعدم ترتيب الثواب عليها ، فقال : والذين كذبوا بآياتنا المنزلة على رسلنا ، ولم يؤمنوا بها ، ولم يصدقوا بالآخرة والبعث وما فيه من جزاء على الأعمال ثوابا على الخير وعقابا على الشر ، واستمروا على وضعهم هذا إلى الممات ، بطلت أعمالهم ، وذهبت سدى ، لفقد شرط القبول وهو الإيمان ، ولأن من سنته تعالى جعل الجزاء في الآخرة بحسب أعمالهم التي أسلفوها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وكما تدين تدان.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه أحوال المتكبرين عن طاعة الله وعلى الناس ، الظانين أنهم أفضل الخلق ، وهو ظن باطل ، لقوله تعالى : (بِغَيْرِ الْحَقِ) فلا يتبعون نبيا ، ولا يصغون إليه لتكبرهم.

يصرفهم الله تعالى عن التفكير في آيات الله الدالة على عظمته وشريعته

٩٢

وأحكامه ، بالطبع على قلوبهم ، وإلقاء الغفلة على نفوسهم ، وشغلهم بأهوائهم وشهواتهم ، وهم في تركهم تدبر الحق كالغافلين عنه.

إنهم يمنعون في معاداة الأنبياء ، ويكذبون بالآيات المنزلة على الرسل ، وينكرون وجود الآخرة ، ولا يصدقون بكل آية ، ويتركون طريق الرشاد ، ويتبعون سبيل الغي والضلال ، أي يتخذون الكفر دينا.

واحتج أهل السنة بآية (سَأَصْرِفُ) على أنه تعالى قد يمنع عن الإيمان ويصد عنه.

وقالت المعتزلة : لا يمكن حمل الآية على ذلك ، فليس المراد منها صرفهم عن الإيمان بآيات الله ولا خلق الكفر فيهم ؛ لأن قوله : (سَأَصْرِفُ) يتناول المستقبل ، والكفر حدث منهم في الماضي ، مما يدل على أنه ليس المراد من هذا الصرف الكفر بالله ، وإنما المراد العقوبة على التكبر والكفر.

ولأنه لو صرفهم عن الإيمان وصدهم عنه ، فكيف يمكن أن يقول مع ذلك : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)؟ (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ)؟ (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا)؟ [الانشقاق ٨٤ / ٢٠ ، المدثر ٧٤ / ٤٩ ، الإسراء ١٧ / ٩٤] (١).

ودل قوله تعالى : (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) على أن الجزاء من جنس العمل ، فمن آمن وعمل الصالحات فله الجنة ، ومن كفر وعمل السيئات فله النار.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٥ / ٢ ـ ٣.

٩٣

قصة اتخاذ السامري العجل

(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩))

الإعراب :

(مِنْ حُلِيِّهِمْ) جار ومجرور متعلق بفعل (وَاتَّخَذَ) والحلي : جمع حلي ، وأصله حلوي على فعول ، نحو فلس وفلوس ، فاجتمعت الواو والياء ، والسابق منهما ساكن ، فقلبوا الواو ياء ، وجعلوهما ياء مشددة. ومفعول (اتخذ) الثاني محذوف أي إلها.

البلاغة :

(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) كناية عن شدة الندم ؛ لأن النادم يعض على يده عادة ألما وحزنا. قال في (تاج العروس) : هذا نظم لم يسمع قبل القرآن ولا عرفته العرب. وذكرت اليد ؛ لأن الندم يحدث في القلب ، وأثره يظهر فيها بالعضّ أو بالضرب بها على اليد الأخرى ، كما قال سبحانه في النادم : (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) [الكهف ١٨ / ٤٢].

المفردات اللغوية :

(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد ذهابه إلى جبل الطور للمناجاة (مِنْ حُلِيِّهِمْ) حلي القبط الذي كانوا استعاروه منهم لعرس فبقي عندهم ، والحلي : ما يتخذ للحلية من ذهب أو فضة (عِجْلاً) صنع لهم السامري عجلا من الحلي بعد إذابته ، والعجل : ولد البقرة كالمهر لولد الفرس ، والحوار لولد الناقة (جَسَداً) جسما (لَهُ خُوارٌ) صوت يسمع ، بوضع التراب الذي أخذه من حافر فرس جبريل في فمه. والخوار : صوت البقر كالرّغاء لصوت الإبل (اتَّخَذُوهُ) إلها (وَكانُوا ظالِمِينَ) باتخاذه.

٩٤

(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) ندموا على عبادته (وَرَأَوْا) علموا (أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا) بها بعد رجوع موسى.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى قصة مناجاة موسى لربه وإنزال التوراة عليه ، ذكر هنا ما حدث أثناء المناجاة من اتخاذ قومه على يد السامري عجلا مصوغا من الحلي (الذهب والفضة) تقليدا للمصريين في عهد الفراعنة الذين كانوا يعبدون الأصنام والأوثان من شمس وغيرها ، ثم عبدوه من دون الله.

وهذا هو الفصل الأول من قصة عبادة العجل.

التفسير والبيان :

اتخذ بنو إسرائيل بعد خروج موسى إلى جبل الطور ، لمناجاة ربه ، على حسب الموعد الذي وعده الله به ، اتخذوا من حلي القبط الذي كانوا استعاروه منهم ، (عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) ، أي تمثالا بصورة العجل وصوته ، ثم عبدوه.

وكان بقاء حلي القبط في أيدي بني إسرائيل بعد أن أغرق الله القبط ، وأهلك قوم فرعون.

وقد جمع موسى السامري تلك الحلي ، وكان رجلا مطاعا فيهم ، وصاغ لهم عجلا ، واتخذوه إلها لهم ، ثم عبدوه. وإنما نسب إليهم جميعا ؛ لأنه عمل برأي جمهورهم ، ولم ينكر عليه أحد ، فصاروا مجمعين عليه ، مريدين لاتخاذه ، راضين به.

وكانوا قد سألوا موسى عليه‌السلام أن يجعل لهم إلها يعبدونه ، كما لغيرهم من المصريين والشعوب التي مروا بها في فلسطين آلهة.

واختلف المفسرون على قولين في هذا العجل ، هل صار لحما ودما له خوار ،

٩٥

أو استمر على كونه من ذهب ، إلا أنه يدخل فيه الهواء ، فيصوت كالبقر (١)؟.

قال جماعة مثل قتادة والحسن البصري بالرأي الأول : وهو أن السامري رأى جبريل حين جاوز ببني إسرائيل البحر راكبا فرسا ، ما وطئ بها أرضا إلا حلّت فيها الحياة ، واخضرّ نباتها ، فأخذ كفا من أثرها ، فألقاها في جوف ذلك العجل ، فانقلب لحما ودما ، وظهر منه الخوار مرة واحدة ، فقال السامري : هذا إلهكم وإله موسى!.

وقال أكثر مفسري المعتزلة بالرأي الثاني : إنه كان قد جعل ذلك العجل مجوّفا ، ووضع في جوفه أنابيب على شكل مخصوص ، وكان قد وضع ذلك التمثال على مهب الرياح ، فكانت الريح تدخل في جوف الأنابيب ، ويظهر منه صوت مخصوص يشبه خوار العجل.

ورأى آخرون أن ذلك الخوار كان تمويها يشبه عمل السحرة (الحواة) وذاك أنه جعل التمثال أجوف ، وجعل تحته في الموضع الذي نصب فيه العجل من ينفخ فيه من حيث لا يشعر به الناس ، فسمعوا الصوت من جوفه كالخوار ، والناس يفعلون مثل هذا في النافورات التي تقذف المياه (٢).

ثم رد الله على اتخاذهم العجل إلها بقوله : (أَلَمْ يَرَوْا ..) أي ألم ينظروا أنه فاقد لمقومات الإله ، فلا يكلمهم ولا يرشدهم إلى خير ، ولا يهديهم سبيل السعادة ، فهو تعالى ينكر عليهم ضلالهم وذهولهم عن خالق السموات والأرض أن عبدوا معه عجلا فاقدا صفة الإله الحق ، وهي الكلام الذي يصدر عنه الهداية والإرشاد ، وهذا كقوله تعالى : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) [طه ٢٠ / ٨٩] ولكن الجهل والعمى حجبهم عن إدراك الحقيقة ، روى الإمام أحمد وأبو داود عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حبّك

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٤٧.

(٢) تفسير الرازي : ١٥ / ٥ وما بعدها.

٩٦

الشيء يعمي ويصمّ». لذا قال تعالى مؤكدا ضلالهم : (اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) أي إنهم اتخذوه إلها بلا دليل ولا برهان ، بل عن جهل وتقليد لغيرهم ، كالمصريين الذين يعبدون العجل : «أبيس» والأقوام العاكفين على عبادة الأصنام في فلسطين ، فكانوا بذلك ظالمين لأنفسهم ؛ إذ عبدوا ما لا ينفعهم ، وإنما يضرهم.

ولما عاد موسى من مناجاة ربه أو من الميقات ، وكان قد أخبره الله تعالى ، وهو على الطور ، باتخاذ قومه عبادة العجل كما قال تعالى : (قالَ : فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ ، وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) [طه ٢٠ / ٨٥] لما عاد ، ندم بنو إسرائيل على ما فعلوا ، وهذا هو معنى قوله : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) ورأوا أنهم قد ضلوا ضلالا بعيدا بعبادة العجل ، فتابوا واستغفروا ربهم ، وقالوا : إن لم يرحمنا ربنا بقبول توبتنا ، ومغفرة ذنبنا ، لنكونن من الهالكين ، ومن الذين خسروا سعادة الدنيا وهي الحرية والاستقلال في أرض الموعد ، وخسروا سعادة الآخرة وهي الإقامة في جنات النعيم. وهذا اعتراف منهم بذنبهم والتجاء إلى اللهعزوجل.

فقه الحياة أو الأحكام :

يتبين من الآية أن بني إسرائيل يصعب عليهم الاستقرار على حال واحدة ، وإن كانت هذه الحال من أسعد الأحوال ، فهم قوم متناقضون ، مترددون ، متحيرون لا يدرون ماذا يفعلون ، كثيرو الشكوى والضجر ، قليلو الحمد والشكر على النعمة ، نظرتهم أحيانا سطحية ساذجة ، وتفكيرهم بدائي متأثر بالتقليد ، والتقليد داء يسري في الأمة كما يسري في الفرد من حيث لا يشعر ، أرادوا تقليد المصريين الذين عاشوا معهم في عبادة الأصنام والأوثان ، وأكد حنينهم للوثنية ما وجدوه من عكوف على الأصنام عند الأقوام الذين سبقوهم في فلسطين.

ووجد موسى السامري رغبتهم باتخاذ العجل إلها ، فصاغه لهم بذكائه من الحلي ، ولكنهم لم يفكروا في جدارة العجل للألوهية ، وظلموا أنفسهم ؛ إذ إن هذا

٩٧

العجل لا يمكنه أن يكلمهم ، ولا يمكنه أن يهديهم إلى الصواب والرشد ، فهو إما جماد وإما حيوان عاجز ، وفي الحالين فإنه لا يصلح للألوهية.

ثم تابوا وندموا على سوء فعلهم ، واستغفروا ربهم ، وطلبوا منه قبول التوبة والمغفرة على ذنبهم العظيم ، وتأكدوا كونهم من الخاسرين إن لم يغفر الله لهم.

وهذا إقرار واضح بالعبودية ، واعتراف بألوهية الإله الحق ، وفي قراءة حمزة والكسائي : لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا معنى الاستغاثة والتضرع والابتهال في السؤال والدعاء. وفي ذلك أيضا دلالة على اعترافهم بعظيم الجرم الذي أقدموا عليه ، وأنه لا ملجأ من الله في إقالة عثرتهم إلا إليه.

واحتج أهل السنة بآية : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ ...) على أن من لا يكون متكلما ولا هاديا إلى السبيل ، لم يكن إلها ؛ لأن الإله هو الذي له الأمر والنهي ، وذلك لا يحصل إلا إذا كان متكلما ، فمن لا يكون متكلما لم يصح منه الأمر والنهي. وبما أن العجل عاجز عن الأمر والنهي لم يكن إلها.

وبمناسبة اتخاذ السامري العجل إلها لبني إسرائيل يذكر علماء التوحيد مقارنة لطيفة تدل على أن السعادة والشقاوة في علم الله من الأزل ، فموسى بن عمران عليه‌السلام ربّاه فرعون ، فكان مؤمنا بإلهام من الله تعالى ، وموسى السامري ربّاه جبريل وكان في النهاية كافرا ، وقال بعضهم :

إذا المرء لم يخلق سعيدا من الأزل

فقد خاب من ربّى وخاب المؤمّل

فموسى الذي ربّاه جبريل كافر

وموسى الذي رباه فرعون مرسل

وهذا لا يعني أن التربية والتوجيه لا أثر لهما ، وإنما للبيئة كما هو معروف في حديث «كلّ مولود يولد على الفطرة» (١) تأثير كبير ، وللتربية دور مهم جدا ،

__________________

(١) رواه أبو يعلى والطبراني والبيهقي عن الأسود بن سريع.

٩٨

فلو لا المربي ما عرفت ربي ، ولكن الإرادة الإلهية فوق كل شيء ، والله غالب على أمره ، ولله في خلقه شؤون ، وله الحكمة العليا ، وقد تجنح نفس الإنسان إلى السوء والفساد والانحراف ، بالرغم من حسن التربية ورقابة المربي ، كما نشاهد في بعض أولاد العلماء والصلحاء والأشراف.

غضب موسى وتعنيفه هارون لاتخاذ العجل إلها

(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١))

الإعراب :

(ابْنَ أُمَ) أمّ : تقرأ بكسر الميم وفتحها ، فمن كسر الميم فعلى الأصل ؛ لأن الأصل فيه : أمّي ، وتكون فتحة (ابْنَ) فتحة إعراب ؛ لأنه منادى مضاف.

ومن فتح الميم بنى ابن مع أم ، وجعلهما بمنزلة اسم واحد ، كخمسة عشر ، وتكون فتحة (ابْنَ) فتحة بناء ، وليست بإعراب.

المفردات اللغوية :

(غَضْبانَ) بسبب فعل قومه (أَسِفاً) شديد الحزن ، ومن استعمال الأسف بمعنى الحزن قول يعقوب : (وَقالَ : يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) [يوسف ١٢ / ٨٤] وقد يستعمل الأسف بمعنى الغضب مثل : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) [الزخرف ٤٣ / ٥٥] قال أبو الدرداء : الأسف : أشد الغضب.

٩٩

(بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي) أي بئس خلافة خلفتمونيها من بعد خروجي إلى ميقات ربي لمناجاته. (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) استعجلتم ، والعجلة : التقدم بالشيء قبل وقته أما السرعة فهي عمل الشيء في أول أوقاته (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) طرح ألواح التوراة غضبا لربه ، فتكسرت (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ) أي بشعره بيمينه ، ولحيته بشماله (يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) غضبا على وجه المعاتبة لا على وجه الإهانة (ابْنَ أُمَ) ذكر الأم أعطف لقلبه (وَكادُوا) قاربوا (فَلا تُشْمِتْ) تفرح ، والشماتة : الفرح بالمصيبة ، ولا تشمت بي الأعداء : بإهانتك إياي. (وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) بعبادة العجل في المؤاخذة.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى قصة السامري باتخاذ العجل إلها لبني إسرائيل ، ذكر أثر ذلك ووقعة على موسى ؛ إذ أنه في حال رجعته ، كان غضبان أسفا ، واشتد أساه وحزنه حين رأى الواقع المؤلم من ضلال قومه وغيهم ، فبادر إلى تعنيف أخيه هارون بسبب عبادة قومه العجل ، ولامه على سكوته على قومه. وهذا هو الفصل الثاني من قصة عبادة العجل.

التفسير والبيان :

أخبر الله موسى بفعل بني إسرائيل ، وهو على الطور ، بقوله : (قالَ : فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ، فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً ، قالَ : يا قَوْمِ : أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً ، أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ ، أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ ، فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) [طه ٢٠ / ٨٥ ـ ٨٦].

فكان موسى أثناء رجوعه من الميقات غضبان أسفا ، أي ساخطا شديد الحزن والأسى ، وقال لقومه : بئسما فعلتم من بعد غيبتي ، وبئست الخلافة التي خلفتموها من بعد ذهابي إلى جبل الطور لمناجاة ربي ، حيث عبدتم العجل واتبعتم السامري ، وتركتم عبادة الله وتوحيده ، وقد كنت أوضحت لكم عقيدة التوحيد ، وغرست في قلوبكم تلك العقيدة ، وطهرت نفوسكم من الشرك والوثنية ، وحذرتكم من ضلال القوم الذين كانوا يعكفون على أصنام لهم من

١٠٠