التفسير المنير - ج ٩

الدكتور وهبة الزحيلي

من الجاحد ، وجعل الشّر ابتلاء أيضا ليعرف الصابر من الساخط ، وليرجع أهل الغي والفساد عن غيّهم وفسادهم ، ويقلعوا عن طغيانهم وضلالهم. والله تعالى أيضا جعل أعمال العباد سببا لما ينزل بهم من خير وشرّ غالبا. قال الزّمخشري في تفسير (طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) : أي سبب خيرهم وشرّهم عند الله ، وهو حكمه ومشيئته ، والله هو الذي يشاء ما يصيبهم من الحسنة والسّيئة ، وليس شؤم أحد ولا يمنه بسبب فيه ، كقوله تعالى : (قُلْ : كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ويجوز أن يكون معناه : ألا إنما سبب شؤمهم عند الله ، وهو عملهم المكتوب عنده الذي يجري عليهم ما يسوؤهم لأجله ، ويعاقبون عليه بعد موتهم بما وعدهم الله في قوله سبحانه : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) [غافر ٤٠ / ٤٦]. (١)

ولكن أكثر الناس لا يعلمون حكمة الله في تصريف الكون ، ولا يعلمون كيفية ارتباط الأسباب بالمسببات ، ولا أن الأمور تجري بالمقادير ، وأنّ كل شيء عنده بمقدار ، فليس الشؤم بسبب موسى وقومه ، وإنما بسبب سوء العمل ، وبمقتضى النظام الإلهي في قانون السّببية المذكور.

وفضلا عن أن كلّا من الحسنات والسيئات لم تذكّرهم بما يجب عليهم نحو ربّهم ، فإنهم تمرّدوا وعتوا ، وعاندوا الحق ، وأصرّوا على الباطل بقولهم لموسى : إن أي آية جئتنا بها ، وأي حجّة ودلالة أظهرتها لنا ، وأثبتها لإقناعنا وصرفنا عما نحن عليه من ديننا ، رددناها ولم نقبلها منك ، ولا نؤمن بك ولا بما جئت به ، ولا نصدّق برسالتك وقولك أبدا.

لذا عاقبهم الله على كفرهم وتكذيبهم وجرائمهم ، فأرسل عليهم الطّوفان : وهو كثرة الأمطار المتلفة للزروع والثمار ، كما قال ابن عباس ، فالطّوفان : ما طاف بهم وغلبهم من مطر أو سيل.

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٥٦٨ ـ ٥٦٩.

٦١

وأرسل عليهم الجراد ، فأكلت كلّ زروعهم وثمارهم ، ثم أكلت كل شيء ، حتى الأبواب وسقوف البيوت والثياب. ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء ، ففزعوا إلى موسى ، فكشف عنهم بعد سبعة أيام. خرج موسى عليه‌السلام إلى الفضاء ، فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب ، فرجع الجراد إلى النّواحي التي جاء منها ، فقالوا : ما نحن بتاركي ديننا.

فأقاموا شهرا ، فسلّط عليهم القمّل : وهو كبار القراد ، أو السّوس ، فأكل ما أبقاه الجراد ، ولحس الأرض ، أو صغار الذّباب أو البراغيث أو القمل المعروف الذي يلدغ ويمصّ الدّم ، أي أنّه سلّط عليهم بعد الجراد من الآفات الزراعية من صغار الذّر كالدودة ، فأكلت الزّروع واستأصلت كلّ شيء أخضر. ثم فزعوا إلى موسى فكشف عنهم ، ثم عادوا إلى ما كانوا عليه.

فأرسل الله الضّفادع ، فدخلت بيوتهم ، وامتلأت منها آنيتهم وأطعمتهم ، وكان الرجل إذا أراد أن يتكلّم وثبت الضفدع إلى فمه ، وامتلأت منها مضاجعهم فلا يقدرون على الرّقاد ، وكانت تقذف بأنفسها في القدور وهي تغلي ، وفي التنانير وهي تفور ، فشكوا إلى موسى ، وقالوا : ارحمنا هذه المرة ، فما بقي إلا أن نتوب التوبة النصوح ، ولا نعود ، فأخذ عليهم العهود ، ودعا فكشف الله عنهم ، ثم نقضوا العهد.

فأرسل الله عليهم الدّم ، أي تحوّلت مياههم إلى دم ، فكانوا إذا ما استقوا من الأنهار والآبار ، وجدوه دما عبيطا ، فشكوا إلى فرعون ، فقال : إنه قد سحركم ، فكان يجمع بين القبطي والإسرائيلي على إناء واحد ، فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء ، وما يلي القبطي دما.

كلّ ذلك آيات مفصّلات أي واضحات بيّنات ظاهرات ، لا يشكل على عاقل أنها من عند الله ، ولا يقدر عليها غيره ، وأنها عبرة ونقمة على كفرهم ، وهي دالّة

٦٢

على صدق موسى ، إذ قد توعّدهم بوقوع كلّ واحدة منها تفصيلا.

أما فرعون وقومه فظلّوا على عنادهم وكبريائهم فاستكبروا عن عبادة الله ، ولم يتّعظوا ، وكانوا قوما مجرمين في حقّ أنفسهم وغيرهم ، مصرّين على الجرم والذّنب.

فقه الحياة أو الأحكام :

ترشد الآيات في الجملة إلى قانون السّببيّة : وهو ربط الأسباب بالمسبّبات والنتائج على حسب مشيئته تعالى ، وإلى أن ما يتعرّض له الناس من آفات زراعية ومصائب فهو بسبب أعمالهم.

وأما تفصيلا فدلّت الآيات على أنه تعالى إنما أنزل عليهم هذه المضار ، لأجل أن يتركوا العناد والتّمرد ، ويرجعوا إلى الانقياد والعبودية لله ، لأن أحوال الشدّة ترقّق القلب ، وترغّب فيما عند الله ، كما قال تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء ١٧ / ٦٧] ، وقال : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) [فصلت ٤١ / ٥١].

وقوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي ليتّعظوا وترقّ قلوبهم ، يدلّ على أنه تعالى فعل ذلك إرادة منه أن يتذكّروا ، لا أن يقيموا على ما هم عليه من الكفر.

وأول آية على فرعون وقومه من آيات العقاب : السّنين أي الجدوب ، يقال : أصابتهم سنة أي جدب ، وفي الحديث الثابت : «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنّي يوسف». يروى أنه كان بين الآية والآية ثمانية أيام ، وقيل : شهر ، وقيل : أربعون يوما.

والثانية : نقص محصول الثّمار وغلاته نقصا شديدا مريعا ، لا يكفي أحدا.

٦٣

وهذان عقابان ، كلّ منهما أخفّ من أنواع العقاب الأخرى ، بدءا بالتّدرج في العذاب لعلّهم ينزجروا ، ولكن القوم عند نزول تلك المحن عليهم لم يتّعظوا ولم يرعووا ، وإنما أقدموا على ما يزيد في كفرهم ومعصيتهم ، فقال تعالى : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا : لَنا هذِهِ) الآية.

فهم ينسبون الخير من الخصب والثّمار وسعة الرّزق والعافية والسّلامة والمواشي إلى أنفسهم ، مدّعين أنهم جديرون بذلك ، مستحقّون للإكرام والإنعام ، لتفوّقهم وذكائهم ، وعملهم ومعرفتهم. أمّا الشّر من الجدب والقحط والمرض والضّر والبلاء فهو بسبب موسى وقومه وشؤمهم.

والحقّ أن ما لحقهم من القحط والشدائد إنما هو من عند الله عزوجل بذنوبهم ، لا من عند موسى وقومه ، ولكنّهم قوم يجهلون هذا المعنى ، فطائرهم عند الله ، أي ما قدّر لهم وعليهم.

أمّا التّطيّر والتّشاؤم فجاء الإسلام بالنّهي عنه عند سماع صوت طائر ما كان ، وعلى أي حال كان ، لأن الواحد من أهل الجاهلية كان كثيرا إذا أراد الحاجة أتى الطّير في وكرها فنفّرها ، فإذا أخذت ذات اليمين مضى لحاجته ، وهذا هو السّائح عندهم. وإن أخذت ذات الشمال رجع ، وهذا هو البارح عندهم ، فنهي النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذا بقوله فيما رواه أبو داود والحاكم عن أم كرز : «أقرّوا الطّير على مكناتها» أي بيضها أو على تمكنها فلا تنفّروها. وقال عكرمة : كنت عند ابن عباس ، فمرّ طائر يصيح ، فقال رجل من القوم : خير خير ، فقال ابن عباس : ما عند هذا لا خير ولا شرّ. وقال عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه أحمد ومسلم عن جابر : «لا طيرة ولا هام».

قال العلماء : وأما أقوال الطّير فلا تعلّق لها بما يجعل دلالة عليه ، ولا لها علم

٦٤

بكائن ، فضلا عن مستقبل فتخبر به ، ولا في الناس من يعلم منطق الطّير ، إلا ما كان الله تعالى خصّ به سليمان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك ، فالتحق الطّير بجملة الباطل (١).

وروى أبو داود عن عبد الله بن مسعود عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الطّيرة شرك ـ ثلاثا ـ وما منّا إلا (٢) ، ولكن الله يذهبه بالتّوكل».

واشتدّ تمادى قوم فرعون في عنادهم ، فقالوا لموسى : مهما تأتنا من آية لتصرفنا عما نحن عليه ، فلن نصدق بك. ففي الآية الأولى : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ) أسندوا حوادث هذا العالم ، لا إلى قضاء الله تعالى وقدره ، ثم وقعوا بجهالة وضلالة أخرى في الآية الثانية : (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ) وهي أنهم لم يميزوا بين المعجزات وبين السّحر ، وجعلوا جملة الآيات الدّالة على صدق موسى مثل انقلاب العصا حيّة من باب السّحر منهم ، وقالوا لموسى : إنّا لا نقبل شيئا منها البتة.

قال ابن عباس : إن القوم لما قالوا لموسى : مهما أتيتنا بآية من ربك ، فهي عندنا من باب السّحر ، ونحن لا نؤمن بها البتة ، وكان موسى عليه‌السلام رجلا حديدا ، فعند ذلك دعا عليهم ، فاستجاب الله له ، فأرسل عليهم الطّوفان الدّائم ليلا ونهارا ، سبتا إلى سبت ، ثم ذكر بقية الآيات الخمسة ، وهي : الجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم.

أمّا الطّوفان : فهو المطر الشّديد حتى عاموا فيه ، وأمّا الجراد فأكل النّبات ، وأما القمّل فلم يبق في أرضهم عودا أخضر. إلا أكلته ، وأما الضّفادع فخرج من

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٧ / ٢٢٦.

(٢) قال ابن الأثير : هكذا جاء في الحديث مقطوعا ، ولم يذكر المستثنى ، أي إلا وقد يعتريه التّطيّر ، وتسبق إلى قلبه الكراهة ، فحذف اختصارا واعتمادا على فهم السّامع. وقوله : «ولكن الله يذهبه بالتّوكل» : معناه أنه إذا خطر له عارض التّطيّر ، فتوكل على الله وسلّم إليه ، ولم يعمل بذلك الخاطر ، غفره الله له ولم يؤاخذه به.

٦٥

البحر مثل الليل الدّامس ووقع في الثّياب والأطعمة ، فكان الرّجل منهم يسقط وعلى رأسه ذراع من الضّفادع ، وأما الدّم فجرت أنهارهم دما ، فلم يقدروا على الماء العذب. وبنو إسرائيل يجدون الماء العذب الطّيّب.

فاشتكوا إلى موسى وفرعون ، فقال فرعون لموسى : (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ ..) إلى آخر الآية الآتي بيانها.

وتلك الآيات البيّنات لا يخفي على عاقل أنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره. ومع ذلك استكبروا عن عباده الله وعن الإيمان به وكانوا قوما مجرمين أي مصرّين على الجرم والذّنب.

واختلف العلماء في قتل الجراد إذا حلّ بأرض فأفسد ، فقيل : لا يقتل ، وقال أكثر الفقهاء : يقتل.

احتجّ الأوّلون : بأنه خلق عظيم من خلق الله ، يأكل من رزق الله ولا يجري عليه القلم ، أي لا تبعة عليه ، وبما روى الطبراني والبيهقي عن أبي زهير ، وهو ضعيف : «لا تقتلوا الجراد فإنه من جند الله الأعظم».

واحتجّ الجمهور : بأن في ترك الجراد فساد الأموال ، وقد رخّص النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتال المسلم إذا أراد أخذ ماله ، فالجراد إذا أرادت فساد الأموال ، كانت أولى أن يجوز قتلها. وروى ابن ماجه عن جابر وأنس بن مالك أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذ دعا على الجراد قال : «اللهم أهلك كباره ، واقتل صغاره ، وأفسد بيضه ، واقطع دابره ، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا ، إنك سميع الدعاء» ، قال رجل : يا رسول الله ، كيف تدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره؟ قال : «إن الجراد نثرة (١) الحوت في البحر».

__________________

(١) النّثرة : شبه العطسة.

٦٦

وأما أكله فجائز في السّنّة ، ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال : غزونا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبع غزوات ، كنّا نأكل الجراد معه. وأكله جائز باتّفاق الأمة ، وأنه إذا أخذ حيّا وقطعت رأسه أنه حلال بالاتّفاق ، وذلك بمنزلة الذّكاة (الذّبح). واختلفوا هل يحتاج إلى اصطياد؟ فقال الجمهور : لا يحتاج إلى ذلك ، ويؤكل كيفما مات ، كالحيتان ، لما روى الدارقطني عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أحلّ لنا ميتتان : الحوت والجراد ، ودمان : الكبد والطّحال».

وذهب مالك إلى أنه لا بدّ للجراد من سبب يموت به ، كقطع رؤوسه أو أرجله أو أجنحته إذا مات من ذلك ، أو يطرح في النّار ، لأنه عنده من حيوان البرّ ، فميتته محرّمة.

وأما الضّفادع فلا تؤكل إلا في مذهب مالك.

اللجوء إلى موسى لرفع العذاب ونقض العهد وإغراق فرعون وقومه

(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦))

٦٧

الإعراب :

(بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) ما : مصدرية ، والمعنى : بعهده عندك ، وهو النبوة ، والباء إما أن تتعلق بقوله : (ادْعُ لَنا) أي أسعفنا بالدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوة ، وإما أن يكون قسما جوابه : (لَنُؤْمِنَنَ) أي أقسمنا بعهد الله عندك لنؤمنن (لَئِنْ) اللام لام القسم.

(إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ) : هم بالغوه : جملة اسمية في موضع جر صفة (أَجَلٍ).

(إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) جواب (فَلَمَّا كَشَفْنا).

المفردات اللغوية :

(الرِّجْزُ) العذاب الشديد الذي يضطرب له الناس في شؤونهم. (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي من كشف العذاب عنا إن آمنا ، والعهد : النبوة والرسالة ، وكشف العذاب من إكرام الله لنبيه.

(فَلَمَّا كَشَفْنا) بدعاء موسى العذاب عنهم لأجل مؤقت. (يَنْكُثُونَ) ينقضون عهدهم ويصرون على كفرهم. (الْيَمِ) البحر المالح. (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم. (غافِلِينَ) متجاهلين لها لا يتدبرونها.

التفسير والبيان :

هذا هو الفصل التاسع من فصول قصة موسى مع فرعون ، وهو أنه لما نزلت آيات العذاب المتقدمة على فرعون وجماعته الكافرين ، اضطربوا وتضايقوا ، وطلبوا من موسى عليه‌السلام أن يرفع الله عنهم العذاب ، وعاهدوه على الإيمان برسالته إن فعل ، فلما دعا موسى ربه ، فكشف عنهم ، نقضوا العهد ، كل مرة طلبوا فيها ذلك ، حتى استأصلهم الله بالإغراق في البحر.

والمعنى : ولما نزل العذاب الشديد بجماعة فرعون واضطربوا واشتد فزعهم ، طلبوا من موسى أن يدعو ربه بسبب ما عهد عنده من النبوة والرسالة والكرامة والمحبة أن يكشف عنهم ما نزل بهم ، وأقسموا له : (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا) ذلك العذاب لنصدقن برسالتك ، ونؤمننّ بما جئت به من عند ربك ، ولنرسلن معك بني إسرائيل إلى أرض الميعاد : فلسطين ، كما طلبت منا ، ليعبدوا ربهم كما شاؤوا.

٦٨

فلما رفع الله عنهم العقاب وكشف العذاب ، مرة بعد أخرى ، إلى أجل محدود منتهون إليه حتما ، فمعذبون فيه ، وهو الغرق ، إذا هم ينقضون العهد ويخنثون في كل مرة. أي أنا لم نزل عنهم العذاب مطلقا ، بل إنما أزلنا عنهم العذاب إلى أجل معين ، وعند حلول ذلك الأجل لا نرفع عنهم العذاب ، بل نهلكهم به. والدليل أنهم بادروا بعدئذ إلى النكث بالعهد.

وقد روي أنهم كانوا يمكثون في العذاب الواحد من الطوفان والجراد والقمل والضفادع ، وصيرورة مياههم دما فاسدا أسبوعا ، ثم يطلبون من موسى الدعاء برفعه ، ويعدونه بالإيمان بالله تعالى ، ثم ينقضون العهد.

ولما كشف عنهم العذاب من قبل مرات وكرات ، ولم يمتنعوا عن كفرهم وجهلهم ، ثم حان الأجل المؤقت ، انتقم الله منهم ، بأن أهلكهم بالغرق ، بسبب تكذيبهم بآيات الله التي نزلت عليهم كلها ، وكانوا غافلين عما يتبعها من العذاب في الدنيا والآخرة. والمراد بالغفلة هنا : الإعراض عن الآيات وعدم الالتفات إليها ، فهم أعرضوا عنها ، حتى صاروا كالغافلين عنها.

أغرق الله الكافرين منهم ونجّى المؤمنين الذين كانوا يكتمون إيمانهم ، أغرقهم في اليم وهو البحر الذي فرقه لموسى ، فجاوزه وبنو إسرائيل معه ، ثم ورده فرعون وجنوده على أثرهم ، فلما أصبحوا في وسط البحر ، أطبقه الله عليهم ، فغرقوا عن آخرهم بسبب تكذيبهم بآيات الله وتغافلهم عنها.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على أمور أربعة :

١ ـ اللجوء إلى موسى عند الشدة والضيق بدافع نداء الإيمان الفطري ، وهذا شأن الناس غالبا لا يجدون في وقت المحنة غير الله ملجأ وملاذا.

٦٩

٢ ـ سمة جماعة فرعون : تكرار نقض العهود وخلف الوعود ، وتمرير المصالح إلى وقت محدود.

٣ ـ كان الجزاء المحتم لقوم فرعون هو عذاب الاستئصال بالإغراق في البحر.

٤ ـ الواجب في الآيات النظر فيها وتدبرها والتأمل بأسبابها ونتائجها ، ولذلك ذمهم بأن غفلوا عنها ، وذلك يدل على أن التقليد طريق مذموم.

وراثة بني إسرائيل أرض مصر والشام

بعد الفراعنة والعمالقة

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧))

الإعراب :

(مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) : منصوب إما على أنه مفعول به لأورثنا ، أي جعلنا ملوك الشام ومصر ، وإما على الظرف ، والعامل : (يُسْتَضْعَفُونَ). (الَّتِي بارَكْنا فِيها) : (الَّتِي) إما في موضع نصب على الوصف لمشارق الأرض ومغاربها ، وإما في موضع جر على الوصف للأرض.

والضمير في (فِيها) : إما أن يعود إلى (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) ، وإما أن يعود إلى (الْأَرْضِ) وتقديره : مشارق الأرض التي باركنا فيها ومغاربها. ففصل بين الصفة والموصوف بالمعطوف على المضاف إلى الموصوف ، وهذا جائز لغة ، كقولك : أكرمت صاحب زيد وجاريته العاقل.

(ما كانَ يَصْنَعُ) اسم (كانَ) مضمر فيها ، وهو يعود على (بِما) : و (يَصْنَعُ) : خبرها ، والهاء منه محذوفة ، وتقديره : يصنعه ، وهو عائد على اسم (كانَ) الضمير العائد على :

٧٠

(بِما). وقيل : إن (كانَ) زائدة ، وتقديره : ودمّرنا ما يصنع فرعون ، وقد جاء زيادة : كان في كلامهم ، فقالوا : زيد كان قائم ، أي زيد قائم.

البلاغة :

(ما كانَ يَصْنَعُ) و (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) : عدل فيهما عن الماضي إلى المضارع لاستحضار الصورة في ذهن المخاطب ، والأصل : ما صنعوا وما عرشوا.

المفردات اللغوية :

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) هم بنو إسرائيل كان يستضعفهم فرعون وقومه. (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) المراد جميع نواحيها أو جهاتها ، والمراد بالأرض : أرض مصر والشام ، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة ، وتصرفوا كيف شاؤوا في أطرافها ونواحيها الشرقية والغربية. (بارَكْنا فِيها) بالماء والشجر والخصب وسعة الأرزاق ، وهي صفة للأرض.

(وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) أي وصلت إلى آخر الحد ، والمعنى : مضت عليهم واستمرت ، من قولك : تم على الأمر : إذا مضى عليه ، وكلمة الله : هي وعده لبني إسرائيل بإهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض ، في قوله تعالى : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) [الأعراف ٧ / ١٢٩] وقوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) [القصص ٢٨ / ٥].

(بِما صَبَرُوا) أي بسبب صبرهم على أذى عدوهم. (وَدَمَّرْنا) أهلكنا وخربنا (ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) : ما كانوا يعملون ويبنون من العمارات والقصور. (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) ما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء كصرح هامان وغيره ، أو ما يرفعون من السقائف والمباني للنبات والشجر المتسلق ، كعرائش العنب ، ومنه : عرش الملك.

التفسير والبيان :

هذا هو الفصل العاشر من قصة موسى مع فرعون ، فبعد أن بيّن الله تعالى جزاء فرعون وملئه من أهل مصر على تكذيبهم بموسى ، بالرغم من توالي الآيات الدالة على صدقه ، وهو جزاء الظالمين ، أبان تعالى جزاء المؤمنين الصابرين من بني إسرائيل ، إذ أصبحوا ملوك مصر والشام بعد الفراعنة والعمالقة.

٧١

والمعنى : وأورثنا القوم المستضعفين من بني إسرائيل بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم وتعذيبهم واستخدامهم وأخذ الجزية منهم ، أورثناهم أرض مصر والشام التي باركنا فيها بالخصب والنماء ، وسعة الأرزاق والخيرات ، ووفرة الأنهار ، تحقيقا لوعدنا السابق وهو : (نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص ٢٨ / ٥ ـ ٦]. ومشارق الأرض ومغاربها : جهات الشرق والغرب بها ، والمراد بالأرض : أرض مخصوصة ، وهي أرض الشام ومصر ؛ لأنها هي التي كانت تحت سلطة فرعون ، ولوصفها بالبركة ، وذلك لا يليق إلا بأرض الشام ، وقيل : المراد جنس الأرض ؛ لأن داود وسليمان من بني إسرائيل قد ملكا الأرض.

(وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى ..) أي مضت واستمرت ونفذت كلمة الله الحسنى على بني إسرائيل ، بسبب صبرهم على أذى فرعون وملئه ، وما كابدوه من الشدائد منهم ، كما أمرهم موسى : (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ : اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا) [الأعراف ٧ / ١٢٨] وهكذا فإن الصبر مفتاح الفرج. والحسنى : صفة للكلمة ، تأنيث الأحسن. وقيل : معنى تمام الكلمة الحسنى : إنجاز الوعد الذي تقدم بإهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض ؛ لأنه إذا حصل الموعود به ، فقد تم لك الوعد وكمل.

تم وعد الله لهم حينما استقاموا ، ثم سلبهم تلك الأرض بظلمهم لأنفسهم وللناس ، ولم يصدر وعد آخر من الله بالعودة إلى الأراضي المقدسة مرة أخرى.

وخربنا ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العمارات والمزارع ، وما كانوا يقيمونه من العرائش والسقف في البساتين ، أو يبنونه من القصور الشاهقة.

٧٢

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات واردة على سبيل المقارنة والموازنة بين المؤمنين والكافرين ، وجزاء كل منهم ، فلما بيّن الله تعالى إهلاك قوم فرعون معه بالغرق على وجه العقوبة ، بيّن ما فعله بالمؤمنين من الخيرات ، وهو أنه تعالى أورثهم أرضهم وديارهم.

لقد أنقذ الله موسى وهارون وبني إسرائيل من ظلم فرعون وقومه ، وكان عبورهم في البحر معجزة خارقة لموسى ، إذ أوحى الله إليه بأن يضرب بعصاه البحر : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ ، فَانْفَلَقَ ، فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء ٢٦ / ٦٣].

وذلك لصموده مع أخيه في وجه الطاغية فرعون ، أكبر ملك في أكبر دولة في الأرض ، استعبدت شعب مصر عدة قرون ، فما زالا يجادلانه بالحجج والبينات ، حتى نصرهما الله ، وهكذا فلا تستعظم قوة أي دولة كبري أمام قوة الحق ، ويفعل الإيمان القوي في القلب المليء باليقين ما لا تفعله قوى الشر المتكاثرة ، وهكذا يتصدى موسى وأخوه هارون لعدو الله ، وقومهما أذلة مستضعفون ، وفرعون مصر صاحب السلطة والمال والجند والأتباع ، ثم ينتصر الضعفاء ، ويتلاشى الأقوياء : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [آل عمران ٣ / ١٣] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق ٥٠ / ٣٧].

٧٣

جحود بني إسرائيل نعم الله عليهم

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١))

الإعراب :

(كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) ما : اسم موصول بمعنى الذي ، و (لَهُمْ) : صلته ، والعائد الضمير في (لَهُمْ). و (آلِهَةٌ) : مرفوع إما على أنه بدل من الضمير المرفوع في (لَهُمْ) ، وإما على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره : هي الهة ، وإما على أنه مرفوع ب (لَهُمْ) على تقدير : كما استقر لهم آلهة. (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) : (كانُوا) : صلة زائدة.

(أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً) تقديره : أبغي لكم إلها غير الله ، و (غَيْرَ اللهِ) : منصوب على الحال : لأن صفة النكرة إذا تقدمت عليها انتصب على الحال.

البلاغة :

(إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أتى بالمضارع بدل الماضي إشعارا بأن ذلك منهم بمثابة الطبع الملازم لهم ، لا يتخلون عنه ولو في المستقبل.

المفردات اللغوية :

(وَجاوَزْنا) عبرنا ، يقال : جاز الشيء وجاوره وتجاوزه : انتقل عنه (فَأَتَوْا) فمروا. (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ) يقيمون على عبادتها. والأصنام : جمع صنم ، وهو ما يصنع من خشب أو حجر أو معدن مثالا لشيء حقيقي أو خيالي ، بقصد تعظيمه تعظيم العبادة ، وهو شرك. أما

٧٤

التمثال : فلا بد أن يكون مثالا لشيء حقيقي ، فإن عبد فهو صنم. وقد يتخذ التمثال للزينة كالمتخذ على جدران الأبنية أو في مداخل الجسور ، وقد يكون التمثال لتذكر سيرة بعض القادة بقصد التعظيم غير الديني ، كتماثيل بعض الزعماء والعلماء في الساحات العامة.

(اجْعَلْ لَنا إِلهاً) صنما نعبده. (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) حيث قابلتم نعمة الله عليكم بما قلتموه. (مُتَبَّرٌ) هالك ، والتتبير : الإهلاك والتدمير. (وَباطِلٌ) زائل لا بقاء له. (أَبْغِيكُمْ إِلهاً) مثل أبتغيكم : أي أطلب لكم.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى أنواع نعمه على بني إسرائيل ، بأن أهلك عدوهم ، وأورثهم أرضهم وديارهم ، أتبع ذلك بالنعمة العظمى : وهي أن الله جاوز بهم البحر مع السلامة. وهذا تكملة الفصل العاشر من قصة موسى مع فرعون.

ثم ارتدوا وجهلوا وطلبوا من موسى عبادة الأصنام. وفي هذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عما رآه من يهود المدينة ، فقد فعلوا ما هو أعظم مع نبيهم موسى عليه‌السلام. وفي بيان ذلك تذكير للمؤمنين أن يشكروا نعمة الله ، وألا يكونوا مثل بني إسرائيل.

التفسير والبيان :

أنقذ الله بني إسرائيل من كيد فرعون وملئه ، فعبروا البحر آمنين بالسير في أرضه دون سفن ، بعد أن أوحى الله لنبيه موسى بضرب البحر فانفلق ، فكان كل فرق كالطود العظيم ، ثم أغرق الله فرعون وقومه حينما لحقوا بهم ، وفي وسط البحر أطبق عليهم الماء ، كما وصف تعالى هذا الحادث العجيب بقوله : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ ، فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ. وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ. وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٦٣ ـ ٦٧].

٧٥

وبعد أن جاوز بنو إسرائيل البحر ، وقد رأوا من آيات الله وعظيم سلطانه ما رأوا ، وشاهدوا أنه تعالى أهلك فرعون وجنوده ، وخصهم بالنجاة والسلامة ، كانوا في غاية الجهالة والضلالة وجحود النعمة ، إذ طلبوا من موسى اتخاذ إله من الأصنام ، تأثرا بما رأوه من بعض العرب أو من غيرهم يعبدون الأصنام ويعظمونها ويلازمونها ويقبلون عليها ، وتشبها بالمصريين الذين كانوا يعبدون التماثيل. وكأنهم لم يدركوا معنى التوحيد الذي دعاهم إليه موسى عليه‌السلام.

أما القوم الذين رأوهم فهم من الكنعانيين (وهم الذين أمر موسى عليه‌السلام بقتالهم) وقيل : كانوا من لخم. قال الطبري : وكانوا يعبدون أصناما على صور البقر ، فلهذا أثار ذلك شبهة لهم في عبادتهم العجل بعدئذ.

فقالوا : (يا مُوسَى ، اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) ، أي اجعل لنا صنما نعكف عليه ونلازمه ، (كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) أصنام يعكفون عليها ، والمراد أنهم طلبوا منه أن يعين لهم أصناما. وهذا يدل على تأثرهم بالبيئة المصرية وحنينهم لها ، وعلى نزعتهم المادية بتجسيد الإله في صورة معدن أو حجر.

فأجابهم موسى تعجبا من قولهم على أثر ما رأوا من الآية العظمى والمعجزة الكبرى ، فوصفهم بالجهل المطلق وأكده ؛ لأنه لا جهل أعظم مما رأى منهم ولا أشنع ، فإنهم جهلوا مقام التوحيد ، وما يجب من إفراد الله بالعبادة بلا واسطة من إنسان أو مادة ، جهلوا عظمة الله وجلاله وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل.

واتخاذ الواسطة إلى الله بهذه الأصنام كفر ؛ فقد أجمع كل الأنبياء عليهم‌السلام على أن عبادة غير الله تعالى كفر ، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلها للعالم ، أو اعتقدوا أن عبادته تقربهم إلى الله تعالى ؛ لأن العبادة نهاية التعظيم ،

٧٦

ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام والإكرام (١).

وهذه طريقة السذّج والجهلة ، وقد حدث في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل ذلك ، روى أحمد والنسائي عن أبي واقد الليثي قال : «خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل حنين ، فمررنا بسدرة ، فقلت : يا رسول الله ، اجعل لنا هذه ذات أنواط (٢) ، كما للكفار ذات أنواط ، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ، ويعكفون حولها ، فقال : الله أكبر ، كما قالت بنو إسرائيل لموسى : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) ، إنكم تركبون سنن من قبلكم».

وتتمة ردّ موسى : إن هؤلاء يعني عبدة تلك التماثيل مدمّر مكسّر ما هم فيه ، وزائل ما كانوا يعملون من عبادتها فيما سلف ، فكل ما عملوه مضمحل الأثر ، لا ينتفعون به ، بل يعاقبون عليه ، وإن كان في زعمهم تقربا إلى الله ، كما قال تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان ٢٥ / ٢٣].

وفي عبارة القرآن : (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ) إشارة إلى أن عبدة الأصنام هم المعرضون للهلاك ، وأن عملهم إلى زوال ، وهذا بشارة بزوال عهد الوثنية من تلك الأرض.

ثم قال لهم موسى : أغير الله خالق السموات والأرض المنعم عليكم بهذه النعم أطلب لكم معبودا؟ وهو الذي (فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) ، أي عالمي زمانهم بالتوحيد وهداية الدين وتجديد ملة إبراهيم عليه‌السلام.

ثمّ ذكّرهم موسى عليه‌السلام نعم الله العظمى عليهم ، من إنقاذهم من أسر

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٤ / ٢٢٣.

(٢) كان للكفار سدرة أي شجرة السدر ، يعكفون عندها ، ويعلقون بها أسلحتهم ، يقال لها : ذات أنواط.

٧٧

فرعون وقهره وما كانوا فيه من الهوان والذلة ، وما صاروا إليه من العزّة والسيادة وخلافة الملك والسلطان ، والاشتفاء أو الانتقام من عدوهم والنظر إليه وقت هلاكه وغرقه ودماره ، بعد أن كان يسومكم سوء العذاب ، بتقتيل أبنائكم ، وترك نسائكم أحياء ، وتسخيركم للخدمة. وفي ذلكم المذكور من الإنجاء من فرعون وعمله ، والإنعام عليكم بهذه النعم بلاء عظيم ، أي أن النعمة أو المحنة اختبار مهم جدا ، فأنتم أجدر الناس بعبادة ربكم الذي منحكم نعمة الحياة والإنقاذ والعزة ، وأولى من غيركم بشكر تلك النعم الجليلة ، وهل هناك عجب أشد من هذا العجب أن تطلبوا جعل آلهة مزيفة عاجزة خسيسة ضعيفة واسطة بينكم وبين الله الذي فضلكم عليها وعلى من يعبدونها.

والمراد بقوله : (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ) أي اذكروا ذلك الوقت ، والقصد ذكر ما حصل فيه ، حتى يشكروا الله عليه.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية الأولى : (وَجاوَزْنا) على جهالة بني إسرائيل بحقيقة التوحيد الذي جاء موسى عليه‌السلام من أجل إرشادهم إليه ، فقد طلبوا منه أن يعين لهم أصناما وتماثيل يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى ، وهذا تماما مشابه لفعل عبدة الأوثان حيث قالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر ٣٩ / ٣]. قال قتادة : كان أولئك القوم من لخم ، وكانوا نزولا بالرّقة. وقيل : كانت أصنامهم تماثيل بقر ؛ ولهذا أخرج لهم السامري عجلا.

ونظيره قول جهال الأعراب في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد رأوا شجرة خضراء للكفار تسمى «ذات أنواط» (١) يعظمونها في كل سنة يوما : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط ، كما لهم ذات أنواط. فقال عليه الصلاة والسلام ـ كما

__________________

(١) ينوطون بها سلاحهم ، أي يعلقونه.

٧٨

تقدم ـ : «الله أكبر ، قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً ، كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ، قالَ : إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) ، لتركبنّ سنن من قبلكم حذو القذّة (١) بالقذّة ، حتى إنهم لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه» وكان هذا في مخرجه إلى حنين.

وإن طلب إله آخر هو في غاية الجهل ؛ لأن المعبود المستحق للعبادة والتعظيم هو القادر على خلق الأجساد والحياة والقدرة والعقل ، وخلق الأشياء المنتفع بها ، ولا يقدر على ذلك غير الله تعالى ، فلا تليق العبادة إلا به.

ودلت آية : (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ) على أن عبدة الأصنام هم المعرضون للهلاك ، وأن عملهم إلى زوال ، وأن عهد الوثنية من الأرض سينتهي ، لمناقضته العقل والفطرة.

وقد ندد موسى عليه‌السلام بطلب بني إسرائيل من نواح أربع :

أولها ـ أنه حكم عليهم بالجهل ، فقال : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ).

وثانيها ـ أنه قال : (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ) أي سبب للخسران والهلاك.

وثالثها ـ أنه قال : (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي هذا العمل الشاق لا يفيدهم نفعا في الدنيا والدين.

ورابعها ـ التعجب منهم على وجه يوجب الإنكار والتوبيخ فقال : (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي أن الإله ليس شيئا يطلب ويلتمس ويتخذ ، بل الإله هو الله الذي يكون قادرا على الإنعام بالإيجاد وإعطاء الحياة

__________________

(١) القذّة : ريش السهم ، قال ابن الأثير : يضرب مثلا للشيئين يستويان ولا يتفاوتان.

٧٩

وجميع النعم ، وهو المراد من قوله : (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي على عالمي زمانهم.

ومن المعروف أن بني إسرائيل يجحدون نعم الإله عليهم ، فالله أنعم عليهم بتفضيلهم على عالمي زمانهم ، وهي نعمة عظيمة ، فكيف يليق بهم الاشتغال بعبادة غير الله تعالى؟!

وأنعم عليهم بالعزة بعد الذلة ، وبالسلطان والحكم والخلافة في الأرض بعد العبودية والاستعمار والتبعة ، وبالنجاة من ظلم فرعون الذي كان يقتل أبناءهم ويبقي نساءهم أحياء. والخطاب وإن كان ليهود عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو تذكير لهم بإنجاء أسلافهم.

مناجاة موسى لربه

أو مكالمة موسى ربه وطلبه رؤية الله وإنزال التوراة عليه

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)

٨٠