التفسير المنير - ج ٩

الدكتور وهبة الزحيلي

محتاج إلى إله يوجده ويخلقه ، ومتصف بصفات كالضعف والتغير ونحوها تجعله مفتقرا إلى ربّ يربّيه.

٣ ـ وقوله : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) يشير إلى أن الرسول لا يقول إلا الحق.

٤ ـ إن طلب موسى عليه‌السلام إرسال شعب بني إسرائيل معه الذي رتبه على كونه رسولا طلب ليس من السهل على حاكم تلبيته ، لاحتمال تكوين خصوم ضده ، من طريق تبليغهم الحكم الإلهي ، وإعدادهم لمجابهة فرعون.

٥ ـ قوله : (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) هو المعجزة الظاهرة القاهرة ، وقد طلب فرعون من موسى إظهار تلك المعجزة : (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها ..) دليلا على صدقه فيما يدعيه من الرسالة المرسل بها من الله. وكانت المعجزة قلب العصا ثعبانا ، وإظهار اليد البيضاء.

٦ ـ اختار الطاغية الكافر : فرعون وجماعته تكذيب هذه المعجزة الخارقة ، وادعى كون موسى ساحرا ، فتشاور مع كبار رجال دولته ، فأشاروا بالمبارزة بين سحرة صعيد مصر المهرة وبين موسى.

وتم جمع السحرة من أنحاء المملكة ، قيل : كانوا سبعين رجلا أو ثلاثة وسبعين. ودل قوله : (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) على أن السحرة كانوا كثيرين في ذلك الزمان.

٧ ـ دل قوله : (فَأَلْقى عَصاهُ ...) وقوله : (وَنَزَعَ يَدَهُ) على أنه تعالى يجعل معجزة كل نبي من جنس ما كان غالبا على أهل ذلك الزمان ، فلما كان السحر غالبا على أهل زمان موسى عليه‌السلام ، كانت معجزته شبيهة بالسحر ، وإن كان مخالفا للسحر في الحقيقة. ولما كان الطب غالبا على أهل زمان عيسى

٤١

عليه‌السلام كانت معجزته من جنس الطب ، ولما كانت الفصاحة غالبة على أهل زمان محمد عليه الصلاة والسلام كانت معجزته القرآن أبلغ الكلام من جنس الفصاحة.

٨ ـ دل قوله : (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا ...) على أن كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبدا ذليلا مهينا عاجزا ، وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة في دفع موسى عليه‌السلام. ودل أيضا على أن السحرة ما كانوا قادرين على قلب الأعيان أو الأشياء ، فلم يتمكنوا من قلب الحبال والعصي حيات فعلية ، كما لم يتمكنوا من قلب التراب ذهبا ، وأن يجعلوا أنفسهم ملوك العالم ، ولو كانوا قادرين على ذلك لما احتاجوا إلى طلب الأجر والمال من فرعون.

والمقصود من هذه الآيات تنبيه الإنسان لهذه الدقائق ، وألا يغتر بكلمات أهل الأباطيل والأكاذيب.

٩ ـ قوله : (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) فيه ما يدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله ، من قولهم : (نَكُونَ) وتأكيد الضمير المتصل بالمنفصل وهو (نَحْنُ) وتعريف الخبر وهو (الْمُلْقِينَ) بقصد كسب الشهرة واجتذاب أنظار الناس.

وقد جاراهم موسى في رغبتهم ازدراء لشأنهم وقلة المبالاة بهم ، وثقته بالتأييد الإلهي ، وأن المعجزة لن يغلبها شيء.

١٠ ـ دل قوله تعالى : (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) على أن السحر محض التمويه. ولو كان السحر حقا ، لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم. وكل ما في الأمر أنهم تخيلوا أحوالا عجيبة ، مع أن الأمر في الحقيقة خلاف ذلك. ودل قوله : (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) على أن العوام خافوا من حركات تلك الحبال والعصي.

٤٢

وأما خوف موسى فليس كخوف العوام ، وإنما لعله خاف من وقوع التأخير في ظهور حجته على سحرهم.

١١ ـ السحر كما دلت الآية مجرد خيال وتمويه لا حقيقة فيه ، لذا يسمى بالشّعوذة والدجل ، وهو إما أن يعتمد على بعض خواص المادة كتمدد الزئبق الذي وضعه سحرة فرعون في حبالهم وعصيهم ، وإما أن يستعان فيه بخفة اليد في إخفاء بعض الأشياء وإظهار بعضها ، وإما أن يلجأ فيه إلى تأثير النفس القوية في إرادة النفس الضعيفة ، وقد يستعان حينئذ بأرواح الشياطين ، ومنه ما يسمى في عصرنا بالتنويم المغناطيسي.

١٢ ـ الفرق بين السحر والمعجزة : أن المعجزة حقيقة تظهر على يد مدعي النبوة ، والسحر خيال يحدث على يد رجل فاسق.

لذا أخطأ من زعم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سحر ، وأن السحر أثّر فيه ، حتى قال : «إنه يخيّل إلي أني أقول الشيء وأفعله ، ولم أقله ولم أفعله» وإن امرأة يهودية سحرته في وعاء طلع النخل ووضعته تحت الحجر الذي يقف عليه المستقي من البئر ، حتى أتاه جبريل فأخبره بذلك ، فاستخرج وزال عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وهذا كله من وضع الملحدين الذين يحاولون العبث بالنبوة وإبطال معجزات الأنبياء عليهم‌السلام.

وهذا ينافي قوله تعالى : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى). وجائز أن تفعل المرأة اليهودية ذلك بجهلها ، ثم أطلع الله نبيه على فعلها ، لا أن ذلك ضره وخلط عليه أمره.

٤٣

إيمان السّحرة بربّ العالمين

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢))

الإعراب :

(أَنْ أَلْقِ عَصاكَ أَنْ) : إما مصدرية في موضع نصب ، وتقديره : بأن ألق عصاك ، فحذف حرف الجر فاتّصل الفعل بها ، وإما أن تكون مفسّرة بمعنى أي ، فلا يكون لها موضع من الإعراب ، كقوله تعالى : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا) [ص ٣٨ / ٦] أي : امشوا. (ما يَأْفِكُونَ ما) : موصولة ، أي : زال وذهب الذي عملوا به السّحر ، أو مصدرية بتقدير : فإذا هي تلقف إفكهم ، تسمية للمأفوك بالإفك. (صاغِرِينَ) حال منصوب.

البلاغة :

(فَوَقَعَ الْحَقُ) استعارة أستعير لوقع للثبوت والظهور والحدوث.

المفردات اللغوية :

(تَلْقَفُ) تتناول وتبتلع بسرعة. (ما يَأْفِكُونَ) يقلبون بتمويههم ، أو يكذبون ويموهون ، مأخوذ من الإفك : وهو قلب الشيء عن وجهه الأصلي ، وهو إما أن يكون بالقول الكاذب ، وإما أن يكون بالفعل كالسحر. والمأفوك : المصروف عن وجهته الأصلية ، قال تعالى : (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [المائدة ٥ / ٧٥ وموضع أخرى] أي يصرفون عن الحقّ في الاعتقاد إلى الباطل ، ومنه سمّيت الرياح المعدولة عن مهبها مؤتفكة ، كما قال تعالى : (وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ) [الحاقة ٦٩ / ٩] أي أهل تلك القرى. وهي قرى قوم لوط.

التفسير والبيان :

هذا هو الفصل الخامس من قصة موسى مع فرعون ، وهو موقفه من

٤٤

السّحرة. وهو إخبار من الله تعالى إلى رسوله موسى عليه‌السلام في ذلك الموقف العظيم الذي فرّق فيه بين الحق والباطل ، ومضمون الإخبار : إلقاء ما في يمينه وهي عصاه.

أوحى الله إلى موسى وأمر بإلقاء عصاه ، التي تحولت إلى ثعبان عظيم ، فإذا هي تبتلع ما ألقوه ، وموّهوا به أنه حق وهو باطل ، أو ما يقلبونه من الحقّ إلى الباطل ويزوّرونه. قال ابن عباس : فجعلت لا تمرّ بشيء من حبالهم ولا من خشبهم إلا التقمته ، فعرفت السّحرة أن هذا شيء من السّماء ، ليس بسحر ، فخرّوا سجّدا ، و (قالُوا : آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ).

وكانوا قد جعلوا الحبال مجوّفة محشوّة بالزئبق ، وقد تحرّكت بتأثير الحرارة : إما بحرارة الشّمس حين أصابتها ، وإما بنار أعدت لها.

(فَوَقَعَ الْحَقُّ ..) أي فثبت الحقّ وظهر كالشّمس ، وفسد ما كان السّحرة يعملون من الحيل والتّخييل ، وذهب تأثيره ، وأدركوا أن فعل موسى فوق السّحر.

وغلب السّحرة في ذلك الجمع العظيم بأمر الله وقدرته ، وانقلب فرعون وقومه معه صاغرين أذلّة ، بما لحقهم من عار الهزيمة والخيبة والخذلان ، لكن السّحرة آمنوا.

وألقي السّحرة عند ذلك وعند معاينة المعجزة سجّدا لربّهم ؛ لأنّ الحق بهرهم وحملهم على السجود ، وقالوا : صدّقنا وآمنا برب العالمين ، رب موسى وهارون ، أي ربّ جميع الأشياء والخلائق من الإنس والجنّ.

وكان هؤلاء منسجمين مع أنفسهم ، منطقيين في تصرّفهم ، فلم يكابروا ، وإنما كانوا صادقين مع نفوسهم ، بدليل أن فرعون قبل المبارزة دعا رؤساء السّحرة

٤٥

ومعلميهم ، فقال لهم : ما صنعتم؟ قالوا : قد عملنا سحرا لا يطيقه سحرة أهل الأرض ، إلا أن يكون أمرا من السّماء ، فإنه لا طاقة لنا به.

فقه الحياة أو الأحكام :

الآيات إظهار واضح لقدرة الله تعالى بإعدام الحبال والعصي وإذهابها من الوجود ، مما يدلّ على وجود الإله القادر المختار ، وعلى المعجز العظيم لموسى عليه‌السلام ، والحسم القاطع بين الحقّ والباطل.

ولكن المشكلة تكمن في مواقف البشر ، فالمعاندون وهم فرعون وقومه ، بالرغم من عار الهزيمة والخذلان ، ظلّوا على وضعهم من الكفر والعناد والتكذيب ، وهو طيش وخفّة عقل ومكابرة للحقّ. وأما السّحرة البسطاء في الظاهر ، والعقلاء في الحقيقة والواقع ، فإنهم عرفوا أن فعل موسى ليس من قبيل السّحر ، وإنما هو معجزة سماوية إلهية ، فلم يتمالكوا أنفسهم ، وخرّوا ساجدين لربّهم ، خاضعين لإله الكون.

فما أحرى الناس بتقليد هؤلاء ونبذ أولئك!!

ذلك لأنّ السّحرة كانوا مهرة في علم السّحر ، متقنين لفنونه وأنواعه ، ولأجل مهارتهم وإتقانهم وكمال علمهم بالسّحر انتقلوا من الكفر إلى الإيمان.

واحتجّ أهل السّنّة بقوله تعالى : (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) على أن غيرهم ألقاهم ساجدين ، وما ذاك إلا الله رب العالمين. وهذا يدلّ على أن فعل العبد من خلق الله تعالى ، فهو سبحانه هو خالق الميل إلى الإيمان في قلوبهم.

ولما ظفروا بمعرفة الله تعالى في الحال ، جعلوا سجودهم شكرا لله تعالى على الفوز بالمعرفة والإيمان ، وعلامة أيضا على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان ، وإظهار الخضوع والتّذلل لله تعالى.

٤٦

ولما قالوا : (وَهارُونَ) زالت الشّبهة في أن المقصود ليس فرعون مربّي موسى ، وإنما المقصود هو إله السّماء ، وإعلان الكفر بفرعون ؛ إذ أنهم لما قالوا : (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) قال لهم فرعون : إياي تعنون؟ فلما قالوا : (رَبِّ مُوسى) قال : إياي تعنون ؛ لأني أنا الذي ربّيت موسى ، فلما قالوا : (وَهارُونَ) زالت الشّبهة وعرف الكلّ أنهم كفروا بفرعون وآمنوا بإله السّماء.

تهديد فرعون للسّحرة وإصرارهم على الإيمان بالله

(قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦))

المفردات اللغوية :

(آمَنْتُمْ) استفهام معناه الإنكار والاستبعاد لمكر ، المكر : صرف الإنسان غيره عما يريده بحيلة ، والمعنى : إن هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر ، قد تواطأتم على ذلك لغرض لكم ، وهو أن تخرجوا منها القبط ، وتسكنوها بني إسرائيل. وكان هذا الكلام من فرعون تمويها على الناس ، لئلا يتّبعوا السّحرة في الإيمان.

(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما ينالكم منّي. (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) أي يد كلّ واحد اليمني ورجله اليسرى وبالعكس ، والصّلب : الشدّ على خشبة ونحوها. (مُنْقَلِبُونَ) راجعون في الآخرة. (تَنْقِمُ) تنكر. (أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) أفض علينا صبرا يغمرنا كغمرة الماء ، أي هب لنا صبرا واسعا ، عند فعل ما توعدنا به فرعون ، لئلا نرجع كفارا. (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) ثابتين على الإسلام.

٤٧

التفسير والبيان :

هذا هو الفصل السادس من قصّة موسى مع فرعون ، فيه يخبر الله تعالى عمّا توعّد به فرعون السّحرة لما آمنوا بموسى عليه‌السلام ، وبما ردّوا به عليه من تسليم أمرهم لله ؛ لأن مصيرهم إليه في الآخرة.

ومعنى (آمَنْتُمْ) على أنه إخبار بخبر : صدقتم ، ويراد به التّوبيخ ، وعلى أنه استفهام يراد به الإنكار والاستبعاد ، أي آمنتم بموسى واتبعتموه في رسالته قبل أن آذن لكم بذلك.

إن صنعكم هذا وغلبته لكم في هذا اليوم ، إنما كان عن تشاور منكم ورضا منكم لذلك ، كقوله في الآية الأخرى : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) [طه ٢٠ / ٧١]. إنكم دبّرتم هذه المؤامرة في هذه المدينة لتخرجوا المصريين منها بسحركم ، وتسكنوا فيها مع بني إسرائيل ، فسوف تعلمون ما أصنع بكم من العذاب والنّكال على هذا المكر.

وهذا القول من فرعون مجرّد تمويه وتدليس وتغطية للهزيمة ، لئلا يتّبعوا السّحرة في الإيمان ، كما قال تعالى : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ) [الزّخرف ٤٣ / ٥٤] ؛ إذ إنه يعلم أن هذا قول باطل ، فهو الذي أرسل جنوده في مدائن مملكته ، لجمع السّحرة المتفرّقين من سائر الأقاليم بمصر ، ووعدهم بالعطاء الجزيل ، وموسى عليه‌السلام لا يعرف أحدا منهم ، ولا رآه ولا اجتمع به ، وفرعون يعلم بذلك.

وقد استفاد فرعون هذه الفكرة أي الاتّهام بالمكر والمؤامرة من مناقشة دارت بين موسى وكبير السّحرة قبل المبارزة ، روي أن موسى عليه‌السلام قال لأمير السّحرة أو للسّاحر الأكبر : أتؤمن بي إن غلبتك؟ قال : لآتين بسحر لا يغلبه سحر ، وإن غلبتني لأومننّ بك. وفرعون يسمع ذلك ، فلذلك قال ما قال.

٤٨

وبعد أن أجمل الوعيد السابق بقوله : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) فصله بقوله : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ) يعني قسما لأقطعنّ الأيدي والأرجل من خلاف ، ثم لأصلبنّ كل واحد على جذوع الشّجر ، كما قال : (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه ٢٠ / ٧١] أي على الجذوع ، لتكونوا عبرة لمن يكيد لنا ويخرج عن سلطاننا ، قال ابن عباس : وكان أوّل من صلب ، وأوّل من قطّع الأيدي والأرجل من خلاف : فرعون.

فأجابه السّحرة على تهديده ووعيده : إنّنا لا نأبه بالقتل ولا نبالي بالموت ؛ لأننا قد تحقّقنا أنا إلى الله راجعون ، ففي الآخرة يوم الجزاء ، فيثيبنا على شدائد القطع والصّلب ، ونريد أن نفدي أنفسنا من عذاب الله ، فعذابه أشدّ من عذابك ، ونكاله على ما تدعونا إليه اليوم ، وما أكرهتنا من السّحر ، أعظم من نكالك ، فلنصبرنّ اليوم على عذابك ، لنخلص من عذاب الله ، كما قال تعالى : (قالُوا : لا ضَيْرَ ، إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ. إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٥٠ ـ ٥١].

ويحتمل ـ كما ذكر الزّمخشري ـ أن يكون المعنى : إنّا جميعا نحن وأنت يا فرعون ، سننقلب إلى الله ، فيحكم بيننا. وفي هذا إيماء إلى تكذيبه في ادّعاء الرّبوبيّة ، وإيثار ما عند الله على ما عنده من شهوات الدّنيا الفانية.

وما تعيب منّا إلا الإيمان بآيات الله ، الذي هو خير الأعمال ، وأصل المناقب والمفاخر كلها. وفي هذا إعلان لقرار لا رجعة فيه ، وكأنّهم يقولون : لا أمل لك في رجوعنا عن إيماننا.

ربنا هب لنا صبرا واسعا ، وعمّنا بالصبر على دينك والثّبات عليه ، واغمرنا به حتى يفيض علينا كما يغمر الماء الأشياء.

والظاهر أنّ فرعون نفّذ تهديده ووعيده فعلا ، بدليل قوله تعالى في بداية

٤٩

القصّة : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي فرعون وجماعته. قيل : إنّ فرعون أخذ السّحرة ، وقطعهم على شاطئ النهر ، وإنه آمن بموسى عند إيمان السّحرة ستمائة ألف.

(وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) أي ثابتين على الإسلام ، متابعين لنبيّك موسى عليه‌السلام ، وقالوا لفرعون : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ ، إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ، وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى. إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً ، فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى. وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ ، فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) [طه ٢٠ / ٧٢ ـ ٧٥].

قال ابن كثير نقلا عن ابن عباس وغيره : فكانوا في أوّل النهار سحرة ، فصاروا في آخره شهداء بررة.

فقه الحياة أو الأحكام :

حاول فرعون إنقاذ نفسه من عار الهزيمة ، فلما علم أن أمهر الناس بالسحر أقر بنبوّة موسى عليه‌السلام أمام الخلق الكثير ، والحشد العظيم ، خاف أن يصير ذلك حجّة قويّة عند قومه على صحّة نبوّة موسى عليه‌السلام ، فألقى في الحال نوعين من الشّبهة إلى إسماع العوام (١) :

الشّبهة الأولى :

قوله : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ) أي إن إيمان هؤلاء بموسى عليه‌السلام ليس لقوّة الدّليل ، بل لأجل التّواطؤ مع موسى على الإيمان به والإقرار بنبوّته.

__________________

(١) تفسير الرّازي : ١٤ / ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

٥٠

والشّبهة الثانية :

أنّ الهدف من التّواطؤ إخراج قوم فرعون من المدينة وإبطال ملكهم والاستيلاء على مصر. ولا شكّ أن مفارقة الوطن والنّعمة المألوفة من أصعب الأمور ، فجمع فرعون بين الشّبهتين ، لتغطية آثار الهزيمة ، وإبقاء التّماسك حوله.

ثم أتبع فرعون التّدليس والتّمويه بالتّهديد والوعيد للسّحرة ، وبالتّنكيل الشّديد بهم ، وتقطيع أطرافهم ، وصلبهم ، قال ابن العربي : هذا يدلّ على أنّ الصّلب وقطع اليد والرّجل من خلاف كان عقوبة متأصّلة عند الخلق ، تلقّفوها من شرع متقدّم ، فحرّفوها حتى أوضحها الله في ملّة الإسلام ، وجعلها أعظم العقوبات لأعظم الاجرام أي عقوبة المحاربين(١).

ولكن غباء فرعون وجماعته وكلّ الكفار جعلهم لا يدركون ما الذي يفعله الإيمان الحقّ من الأعاجيب ، فلم يبالوا بالموت ، وطلبوا الثّبات على الإسلام ، والعون على إفراغ الصّبر عليهم عند القطع والصّلب.

وإذا كان الإيمان بالدّين الحقّ والصّبر على الشّدائد من خلق الله تعالى ، كما يقول أهل السّنة ، فإنّ اتّجاه إرادة الإنسان للأخذ بهما ، والاستعانة بالله للثّبات على الإسلام ، دليل على استحقاق العبد الثّواب على ما اتّجهت إليه إرادته ، إذ لو كان الإيمان مجرّد منحة من الله ، لما كان هناك داع لإثابة المؤمن ، وتعذيب الكافر.

وموقف السّحرة وإعلان إيمانهم بجرأة وصراحة يدلّ على أنّ الإنسان إذا تجرّد عن هواه ، وأذعن للعقل والفكر السّليم ، بادر إلى الإيمان عند ظهور الأدلّة عليه.

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ٧٧٩.

٥١

وصلابة السّحرة ومن تابعهم في إيمانهم أحد المظاهر التي تدلّ على أنّ الإيمان الرّاسخ في النّفس يكون أعزّ وأمنع من الجبال الرّاسيات.

وقد دلّت التّجارب وأثبت التاريخ قديما وحديثا أنّ أهل الإيمان بالله واليوم الآخر هم أشدّ الناس حزما ، وأكثرهم شجاعة وصبرا في أوقات الأزمات والمحن والحروب ، والأمثلة كثيرة في تاريخ الإسلام قديما في الفتوحات ، وحديثا في لقاء اليهود وأمثالهم في فلسطين والجزائر والهند وأفغانستان وغيرها.

تمالؤ فرعون وملئه على موسى وقومه

ونصيحة موسى لقومه وحوارهم معه

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩))

الإعراب :

(وَيَذَرَكَ) معطوف على : يفسدوا ، والواو عاطفة ، ويصحّ أن تكون حالية.

المفردات اللغوية :

(الْمَلَأُ) كما تقدّم : السّادة والأشراف. (أَتَذَرُ) أتترك. (لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالدّعوة إلى مخالفتك. (وَيَذَرَكَ) يتركك. (وَآلِهَتَكَ) كان صنع لهم أصناما صغارا يعبدونها ، وقال :

٥٢

أنا ربّكم وربّها ، ولذا قال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى). والواو في قوله (وَيَذَرَكَ) : قيل : إنّها حالية ، أي أتذروه وقومه يفسدون وقد ترك عبادتك؟ وقيل : هي عاطفة ، أي أتدعهم يصنعون من الفساد ما قد أقررتهم عليه وعلى ترك آلهتك.

(سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ) المولودين. (وَنَسْتَحْيِي) نستبقي. (نِساءَهُمْ) أحياء كما فعلنا بهم من قبل. (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) قادرون ، ففعلوا بهم ذلك ، فشكا بنو إسرائيل. (يُورِثُها) يعطيها. (وَالْعاقِبَةُ) المصير المحمود. (لِلْمُتَّقِينَ) الله.

التفسير والبيان :

هذا هو الفصل السّابع من قصّة موسى مع فرعون ، يخبر فيه الله تعالى عن تمالؤ فرعون وملئه على موسى وقومه ، وما أضمروه لهم من الأذى والبغضاء ، بعد إيمان السّحرة بموسى وانضمامهم له على مشهد من الجموع الغفيرة.

والمعنى : وقال أشراف قوم فرعون لفرعون : أتترك موسى وقومه أحرارا ، فيتمكّنوا من إفساد رعيّتك ، بإدخالهم في دينهم ، أو جعلهم تحت سلطانهم وقيادتهم ، ويدعوهم إلى عبادة ربّهم دونك ، ويتركك مع آلهتك فلا يعبدونك ولا يعبدونها كما قررت؟!

ومن المعروف في التّاريخ المصري القديم أنه كان للمصريين آلهة كثيرة منها (الشمس) ويسمّونها (رع) وفرعون عندهم سليل الشّمس وابنها.

قال الحسن البصري : كان فرعون يعبد الأصنام ، فكان يعبد ويعبد. قال التّيمي : كان يعبد شيئا كان قد جعله في عنقه. فأجابهم فرعون : سنقتّل أبناء بني إسرائيل تقتيلا ، ونستبقي نساءهم أحياء ، كما كنّا نفعل من قبل ، فلا يتكاثرون حتى ينقرضوا ، وإنّا مستعلون عليهم ، قاهرون لهم ، فلا يقدرون على أذانا ولا الإفساد في أرضنا ، ولا الخروج من سلطاننا.

وفي موقف آخر همّ فرعون بقتل موسى كما جاء في قوله تعالى : (وَقالَ

٥٣

فِرْعَوْنُ : ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى ، وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ، إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ، أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) [غافر ٤٠ / ٢٦].

وحين قال فرعون : (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ) وسمع الإسرائيليّون ذلك ، فزعوا وجزعوا وتضجّروا ، فطمأنهم موسى ونصحهم وقال لهم : استعينوا بالله وحده ، واطلبوا العون والتّأييد منه على رفع ذلك الوعيد عنكم ، واصبروا ولا تحزنوا ، فالله هو المعين على الشّدائد ، والصّبر سلاح المؤمن ومفتاح الفرج ، واعلموا (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ). وهذا وعد لهم بالنّصر ، وأنّ الدّار ستصير لهم.

واللام في (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ) يجوز أن تكون للعهد ، ويراد أرض مصر خاصة ، كقوله تعالى : (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) [الزّمر ٣٩ / ٧٤] ، ويجوز أن تكون للجنس ، فيتناول أرض مصر ؛ لأنها من جنس الأرض. ثمّ بشّرهم بحسن الخاتمة والعاقبة ، فقال :

واعلموا أن العاقبة الحسنى والخاتمة المحمودة لمن اتّقى الله ، والنّصر للمؤمنين ، لا كما يتوهّم فرعون وقومه.

ثم دار حوار بين بني إسرائيل وموسى ، وكأنّ الوصية لم تؤثّر فيهم ، ولشدّة فزعهم من فرعون وقومه ، فقالوا : أوذينا من قبل مجيئك وقبل ولادتك ، ومن بعد إرسالك ، وفعلوا بنا مثلما رأيت من الهوان والإذلال من قبل ما جئت يا موسى ، ومن بعد ذلك ، فقتلوا أولادنا ، وعذّبونا وأساؤوا لنا ، واليوم يتكرر ما كان في الماضي ، وتعود المأساة ، كما تسمع من الوعيد والتّهديد.

فأجابهم موسى مؤكّدا نصر الله لهم ، وما يصيرون إليه في المستقبل القريب ، وثقته بالله تعالى ، ومبشّرا بهلاك فرعون واستخلافهم بعده في أرض مصر : أملي بالله ورجائي بفضله ، والله محققه بمشيئته : (أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) فرعون وقومه ،

٥٤

ويجعلكم خلفاء في الأرض من بعدهم ، فينظر عملكم الكائن منكم ، حسنه وقبيحه ، وشكر النّعمة وكفرانها ، وسيجازيكم على حسب ما يوجد منكم ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ.

وهذا حضّ لهم على العزم على الشكر عند حلول النّعمة ، وزوال النّقمة.

وعبّر بالرّجاء دون الجزم بذلك ، لتفويض المشيئة لله تعالى ، ولئلا يتركوا العمل ويتّكلوا على ذلك. قال سيبويه : عسى : طمع وإشقاق. وقال الزّجاج : وما يطمع الله تعالى فيه فهو واجب.

فقه الحياة أو الأحكام :

لم يختلف واقع التّاريخ في الماضي والحاضر والمستقبل بالنّسبة للأقوياء والضّعفاء ، فإن صاحب القوّة والسّلطة يعتمد على سلطانه وبأسه ، فيشيع بين الناس الرّهبة والذّعر والخوف ، ويعلن الإنذار والتّهديد والوعيد.

المنتفعون من السّلطة لسان حالهم ومقالهم وفعلهم فعل تلك السّلطة ، لذلك حرّض السّادة والأشراف من قوم فرعون على موسى وبني إسرائيل.

وكانت استجابة فرعون الطاغية للتحريض فورية ، فجدّد تنكيله ببني إسرائيل وهو قتل أولادهم بعد الولادة ، وتشديد قبضة السّلطة عليهم ، ليظلّوا مقهورين أذلّاء خائفين خاضعين له.

أمّا موسى فكان فرعون كلما رآه خافه أشدّ الخوف ، لذا لم يتعرّض له ، مع أنّ قومه لم يعرفوا ذلك ، فحملوه على أخذه وحبسه ، ولكنه لم يحبسه لعدم الاهتمام به ، ولعدم خوفه في الظاهر منه.

وأمّا المستضعفون بقيادة موسى فلا أمل لهم إلا بالله ، ولا ملجأ إلا إليه ، لذا طلب موسى من قومه أن يطلبوا العون والتّأييد من الله تعالى ، وأن يتذرّعوا

٥٥

بالصّبر ، فإن صدقوا في إيمانهم ، وصبروا على بلائهم ، حقّق الله لهم الغلبة والنّصر ، وجعل العاقبة الحسنة لهم لتقواهم.

أمرهم موسى بشيئين ، وبشّرهم بشيئين :

أمّا اللّذان أمر موسى عليه‌السلام بهما : فهما الاستعانة بالله تعالى ، والصّبر على بلاء الله. وإنّما أمرهم أوّلا بالاستعانة بالله ، فلأن من عرف أنه لا مدبّر في العالم إلا الله تعالى ، انشرح صدره بنور معرفة الله تعالى ، وحينئذ يسهل عليه أنواع البلاء ، ولأنه يرى عند نزول البلاء أنّه إنما حصل بقضاء الله تعالى وتقديره.

وأمّا اللّذان بشّر بهما ، فالأوّل : وراثة الأرض ، وهذا إطماع من موسى قومه في أن يورثهم الله تعالى أرض فرعون بعد إهلاكه ، وذلك معنى الإرث : وهو جعل الشيء للخلف بعد السّلف.

والثّاني : قوله : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي العاقبة الحسنى والمصير الأفضل لكلّ من اتّقى الله تعالى وخافه ، سواء في الدنيا والآخرة ، أما في الدّنيا فهو الفتح والنّصر على الأعداء ، وأمّا في الآخرة فهو نعيم الجنة (١).

ولكن النّفس البشرية تخاف عادة من تهديد صاحب السّلطة ، فخاف بنو إسرائيل ؛ لأنهم كانوا قبل مجيء موسى عليه‌السلام مستضعفين في يد فرعون ، فكان يأخذ منهم الجزية ، ويستعملهم في الأعمال الشّاقة ، ويمنعهم من التّرفّه والتّنعّم ، ويقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم. فلما بعث موسى عليه‌السلام قوي رجاؤهم في زوال تلك المضار والمتاعب ، فلما سمعوا إعادة تهديد فرعون ، عظم خوفهم وحزنهم ، فقالوا : (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ ...).

__________________

(١) تفسير الرّازي : ١٤ / ٢١٢.

٥٦

أمّا نبيّ الله موسى فأعلن بشارته بإهلاك فرعون ، وقوّى قلوبهم بما وعدهم من خلافة الأرض ، ليتمسّكوا بالصبر ، ويتركوا الضّجر والجزع المذموم ، ثم بيّن بقوله : (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) ما يريده من حثّهم على التّمسّك بطاعة الله ، والاستعداد لشكر النّعمة ، وزوال النّقمة. وقد تحقّق الوعد بالإغراق وبأنواع العذاب الآتية في الآيات التّالية.

أنواع عذاب الدّنيا بآل فرعون

الآيات التسع

(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣))

الإعراب :

(مَهْما تَأْتِنا مَهْما) : اسم شرط ، والدّليل على أنه اسم عود الضمير إليه من قوله تعالى : (تَأْتِنا بِهِ) وهو منصوب بفعل : (تَأْتِنا) على قول من قال : زيدا ضربته ، ويجوز أن يكون في موضع رفع ، على قول من قال : زيد ضربته ، و (تَأْتِنا) : مجزوم بمهما ؛ لأنه شرط ، وجواب الشّرط قوله تعالى : (فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ).

(آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) حال منصوب مما قبله من الأشياء المذكورة في قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ...) والعامل : أرسلنا.

٥٧

البلاغة :

بين (الْحَسَنَةُ) و (سَيِّئَةٌ) طباق.

وبين (طائِرُهُمْ) و (يَطَّيَّرُوا) جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(وَلَقَدْ أَخَذْنا) كثر استعمال الأخذ في العذاب ، كقوله : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى ، وَهِيَ ظالِمَةٌ ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود ١١ / ١٠٢]. (آلَ فِرْعَوْنَ) قومه وخاصته ، وهم الملأ من قومه ، ولا يستعمل الآل إلا فيمن يختص بقرابة مثل : (وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ) [آل عمران ٣ / ٣٣] أو يختصّ بموالاة ومتابعة في الرّأي مثل : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر ٤٠ / ٤٦].

(بِالسِّنِينَ) جمع سنة وهي الحول ، لكن كثر استعمالها في حول الجدب والقحط ، كما هنا ، فيكون المراد منها القحط ، بدليل نقص الثّمرات (يَذَّكَّرُونَ) يتّعظون فيؤمنوا. (الْحَسَنَةُ) الخصب والنّماء والرّخاء. (قالُوا : لَنا هذِهِ) أي نستحقها ولم يشكروا عليها. (سَيِّئَةٌ) جدب أو بلاء في الأنفس والأرزاق. (يَطَّيَّرُوا) يتشاءموا ويتطايروا ، وأطلق التّطير على التّشاؤم أخذا بعادة العرب في زجر الطّير ، فكانوا يتأمّلون الخير إذا طار الطائر يمينا ويسمّونه (السّائح) ويتوقّعون الشّرّ إذا طار شمالا ، ويسمّونه (البارح). (طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) ما قضي لهم وقدّر ، والمراد به أن شؤمهم : هو عقابهم الموعود به في الآخرة. وعند الله : أي يأتيهم به (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن ما يصيبهم به من عنده.

(الطُّوفانَ) هو ماء دخل بيوتهم ، ووصل إلى حلوق الجالسين سبعة أيّام. (الْجَرادَ) طائر معروف يأكل النبات ، وقد أكل زرعهم وثمارهم أيضا. (وَالْقُمَّلَ) هو السّوس الذي ينخر الحنطة ، وقيل : هو الدّود أو القراد الذي يأكل الزرع ، ويتبع ما أكله الجراد. (وَالضَّفادِعَ) المعروفة ، فملأت بيوتهم وطعامهم. (وَالدَّمَ) هو الرّعاف ، وقيل: هو دمّ كان يحدث في مياه المصريين. (مُفَصَّلاتٍ) بيّنات. (فَاسْتَكْبَرُوا) عن الإيمان بها.

التفسير والبيان :

هذا هو الفصل الثّامن من قصّة موسى مع فرعون ، وهو فصل الجزاء والعقاب أو الآيات التي أنزلها الله على فرعون وقومه ، فبعد أن بشّر موسى عليه‌السلام قومه بإنزال العذاب على فرعون وقومه بقوله : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ

٥٨

يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) ذكر هنا ألوان العذاب قبل حلول عذاب الاستئصال ، للتّحذير والزّجر وتنبيه السّامعين من خطر الكفر والتّكذيب. وأما عذاب الاستئصال فهو إغراق فرعون في اليمّ ونجاة بني إسرائيل.

وقد ذكر الله تعالى في سورة الإسراء أن الآيات أي آيات العقاب تسع ، بقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ...) [١٠١].

وذكر هنا سبع آيات ، ويضاف إليها المذكور في سورة يونس ، وهو : (وَقالَ مُوسى : رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [٨٨] ، والطّمس على الأموال : هو محقها وهلاكها.

وفسّر البيضاوي الآيات التّسع بأنها آيات أرسل بها موسى إلى بني إسرائيل ، وهي أحكام أمروا بالأخذ بها آيات عقاب ، عوقب بها فرعون وجنوده ، وهي : العصا ، واليد ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، وانفجار الماء من الحجر ، وفلق البحر ، ونتق الطّور على بني إسرائيل. وقيل : الطّوفان ، والسّنون ، ونقص الثّمرات ؛ مكان الثّلاث الأخيرة.

والواقع أنّ فلق البحر إنّما كان بعد تمام الآيات ، وانبجاس الحجر بالماء إنما كان بعد هلاك فرعون ، فلا يصحّ أن يكون آية لفرعون وقومه. وأمّا العصا واليد فهما معجزتان لموسى عليه‌السلام ، وليستا آيتي عذاب. فيكون في تقديري مجموع الآيات هكذا : السّنون ، نقص الأموال ، نقص الأنفس ، نقص الثّمرات ، الطّوفان ، الجراد ، القمّل ، الضّفادع ، الدّم (١). سبع منها مذكور هنا في سورة الأعراف ، وواحدة مذكورة في سورة يونس ، كما أبنت ، أمّا نقص الأنفس فهو

__________________

(١) قصص الأنبياء للنّجار : ص ١٩٨.

٥٩

ناجم عادة عن الجدب ، ونقص الثّمار ، والطّوفان ، قال مجاهد وعطاء : الطّوفان : الموت.

ومعنى الآيات هنا : ولقد اختبرنا آل فرعون وامتحنّاهم وابتليناهم بسنين الجوع بسبب قلّة الزّروع ، أي في البادية ، وبنقص الثّمرات ، أي في الأمطار ، قال رجاء بن حيوة : «كانت النّخلة لا تحمل إلا ثمرة واحدة» ، ثم قال تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي ليتذكّروا ويتّعظوا ويرجعوا عن كفرهم وتكذيبهم لآيات الله وعن ظلمهم لبني إسرائيل ، ويؤمنوا بالله ربّا ، ويستجيبوا لدعوة موسى عليه‌السلام ؛ لأنّ من سنّته تعالى أن يرسل الزّواجر تنبيهات ، ودلّت التّجارب على أنّ الشّدائد تليّن النّفوس ، فتكون المصائب والآفات ونقص الثّمرات سببا في رجوع الناس إلى الله تعالى ، فإن عادوا إلى ربّهم واهتدوا كان الخير والرّخاء ، وإن أعرضوا كان القحط والجدب والهلاك المحتوم ، وقد أعرض آل فرعون عن الاستجابة لدعوة موسى بعد أن أنذرهم ، فكانوا من الهالكين.

ثم بيّن الله تعالى أنّ المصائب زادت آل فرعون عتوّا وبغيا ، فقال : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ ...) أي إذا جاءهم الخصب والرّزق وزيادة الثّمار والمواشي قالوا : لنا هذه ، يعني هذا لنا بما نستحقّه من العمل والمعرفة والتّفوّق ، وإن أصابتهم سيئة ، أي جدب وقحط ، تشاءموا بموسى ومن معه ، وقالوا : هذا بسببهم وما جاؤوا به ، وغفلوا عن واجب شكر نعمة الله ، وعن سيئاتهم وفساد أعمالهم وشرور أنفسهم ، كما قال تعالى في حقّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا : هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا : هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ، قُلْ : كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [النساء ٤ / ٧٨].

ثمّ ردّ الله عليهم بقوله : (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) أي إن كلّ ما يصيبهم من خير أو شرّ ، فهو بقضاء الله وقدره ، فالله جعل الخير ابتلاء ليعرف الشاكر

٦٠