التفسير المنير - ج ٩

الدكتور وهبة الزحيلي

الراجح أو نور البصيرة والهداية الذي يفرق به بين الحق والباطل ، وقد أطلق هذا اللفظ على التوراة والإنجيل والقرآن ، وغلب على الكتاب الأخير ، قال تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ ، لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان ٢٥ / ١].

والخلاصة : إن الفرقان : هو الفارق الفاصل بين الحق والباطل ، وهذا تفسير أعم مما ذكر ، ويستلزم ما ذكر ، فإن من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره ، وفّق لمعرفة الحق من الباطل ، فكان ذلك سبب نصره ونجاته في الدنيا وسعادته في الآخرة ، وإثابته الثواب الجزيل.

(وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ) تكفير الذنوب : محوها. (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) غفرها : سترها عن الناس. (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) واسع الفضل عظيم العطاء ، يعطي الثواب الجزيل.

المناسبة :

لما حذر الله تعالى من الفتنة بالأموال والأولاد ، رغب في التقوى التي توجب ترك الميل والهوى في محبة الأموال والأولاد.

التفسير والبيان :

يا أيها المؤمنون المصدقون (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) باتباع أوامره واجتناب نواهيه ، يجعل لكم فارقا بين الحق والباطل وهداية ونورا ينور قلوبكم ، وهذا النور في العلم القائم على التقوى هو الحكمة في قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة ٢ / ٢٦٩] وهو المشار إليه أيضا في قوله عزوجل : (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) [الحديد ٥٧ / ٢٨].

فالمتقي الله يؤتيه فرقانا يميز به بين الرشد والغي وبين الحق والباطل وبين الإسلام الحق والكفر والضلال ، ويكون بذلك ربانيا كما أمر الله بقوله : (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ ، وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران ٣ / ٧٩].

(إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) أيضا يمح عنكم ذنوبكم وسيئاتكم السابقة ، ويسترها عن الناس ، ويؤتكم الثواب الجزيل ، والله صاحب الفضل الواسع والعطاء العظيم ،

٣٠١

ونظير الآية قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ، وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحديد ٥٧ / ٢٨].

فقه الحياة أو الأحكام :

تعددت الأوامر بالتقوى في القرآن الكريم ، ولكن جاء الأمر هنا بلفظ الشرط ؛ لأنه تعالى خاطب العباد بما يخاطب بعضهم بعضا ، فإذا اتقى العبد ربه ـ وذلك باتباع أوامره واجتناب نواهيه ـ وترك الشبهات مخافة الوقوع في المحرّمات ، وشحن قلبه بالنية الخالصة ، وجوارحه بالأعمال الصالحة ، وتحفّظ من شوائب الشرك الخفي والظاهر ، بمراعاة غير الله في الأعمال ، والركون إلى الدنيا بالعفة عن المال ، جعل له بين الحق والباطل فرقانا ، قال ابن إسحاق : (فُرْقاناً) : فضلا بين الحق والباطل ، وقال السدي : نجاة ، وقال الفرّاء : فتحا ونصرا ، وقيل : في الآخرة فيدخلكم الجنة ، ويدخل الكفار النار.

والآية ذكرت ثلاثة أنواع من الجزاء على التقوى :

النوع الأول :

(يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) : وهو يشمل جميع الفروق الحاصلة بين المؤمنين وبين الكفار ، ففي الدنيا : يخص تعالى المؤمنين بالهداية والمعرفة ، ويخص صدورهم بالانشراح كما قال : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ، فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) [الزمر ٣٩ / ٢٢] ، ويزيل الغل والحقد والحسد عن قلوبهم ، والمكر والخداع عن صدورهم ، ويخصهم بالعلو والفتح والنصر والظفر ، كما قال : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون ٦٣ / ٨] وقال: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [الصف ٦١ / ٩]. وأمر الفاسق والكافر بالعكس من ذلك.

وفي الآخرة : يكون الثواب والمنافع الدائمة والتعظيم من الله والملائكة.

٣٠٢

النوع الثاني :

(وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي أنه تعالى يزيل آثار جميع الذنوب والآثام الكبائر والصغائر ويمحوها ويسترها في الدنيا. ولا شك بأن التوبة أحد مظاهر التقوى.

النوع الثالث :

(وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أي ويزيلها يوم القيامة ؛ لأنه صاحب الفضل العظيم ، ومن كان كذلك ، فإنه إذا وعد بشيء وفّى به.

وفي الجملة : تكون التقوى نورا في الدنيا والآخرة ، وسببا للسعادة فيهما ، وتحقيق الآمال جميعها ، والنجاة من كل سوء وشر ، لذا قال تعالى : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى ، وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [البقرة ٢ / ١٩٧].

ألوان الكيد والمؤامرة من المشركين على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١))

البلاغة :

(وَيَمْكُرُ اللهُ) برد مكرهم أو بمجازاتهم عليه ، وإسناد أمثال هذا إلى الله إنما يحسن للمزاوجة ، ولا يجوز إطلاقها ابتداء لما فيه من إيهام الذم. فإضافة المكر إليه تعالى على طريق (المشاكلة) بمعنى إحباط ما دبروا من كيد ومكر ، والمشاكلة : أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى.

المفردات اللغوية :

(وَإِذْ يَمْكُرُ) أي واذكر يا محمد إذ اجتمع أهل مكة للمشاورة في شأنك بدار الندوة.

٣٠٣

والتذكير بمكر قريش ليشكر نعمة الله عليه في خلاصه من مكرهم وتدبيرهم واستيلائه عليهم. والمكر : التدبير الخفي لإيصال المكروه إلى آخر من حيث لا يشعر.

(لِيُثْبِتُوكَ) يوثقوك بالوثاق ، ويحبسوك بالقيد ، حتى لا تقدر على الحركة. (أَوْ يَقْتُلُوكَ) كلهم قتلة رجل واحد. (أَوْ يُخْرِجُوكَ) يطردوك من مكة. (وَيَمْكُرُونَ) بك. ويمكر الله بهم بتدبير أمرك بأن أوحى إليك ما دبروه وأمرك بالخروج. (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أعلمهم به ، وأفضل المدبرين.

(آياتُنا) القرآن. (قالُوا : قَدْ سَمِعْنا ، لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) قاله النضر بن الحارث ؛ لأنه كان يأتي الحيرة يتّجر ، فيشتري كتب أخبار الأعاجم ويحدث بها أهل مكة. (إِنْ) ما. (هذا) القرآن. (إِلَّا أَساطِيرُ) أكاذيب ، جمع أسطورة : وهي القصص والأحاديث التي سطرت في الكتب القديمة الأولى بدون تمحيص ولا نظام.

سبب النزول :

نزول الآية (٣٠) :

(وَإِذْ يَمْكُرُ) : أخرج ابن أبي حاتم وابن إسحاق عن ابن عباس : أن نفرا من قريش ومن أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة ، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل ، فلما رأوه قالوا : من أنت؟ قال : شيخ من أهل نجد ، سمعت بما اجتمعتم له ، فأردت أن أحضركم ، ولن يعدمكم مني رأي أو نصح ، قالوا : أجل ، فادخل ، فدخل معهم ، فقال : انظروا في شأن هذا الرجل ، فقال قائل : احبسوه في وثاق ، ثم تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء : زهير ونابغة ، فإنما هو كأحدهم.

فقال عدو الله الشيخ النجدي : لا والله ، ما هذا لكم برأي ، والله ليخرجن رائد من محبسه إلى أصحابه ، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم ، ثم يمنعوه منكم ، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم ، فانظروا في غير هذا الرأي.

٣٠٤

فقال قائل : أخرجوه من بين أظهركم ، واستريحوا منه ، فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع.

فقال الشيخ النجدي : والله ما هذا لكم برأي ، ألم تروا حلاوة قوله ، وطلاقة لسانه ، وأخذه للقلوب بما تسمع من حديثه ، والله لئن فعلتم ، ثم استعرض العرب ، ليجتمعنّ عليه ، ثم ليسيرن إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ، ويقتل أشرافكم.

قالوا : صدق والله ، فانظروا غير هذا ، فقال أبو جهل : والله لأشيرنّ عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد ، ما أرى غيره ، قالوا : وما هذا؟ قال :

تأخذون من كل قبيلة وسيطا شابا جلدا ـ قويا ـ ثم نعطي كل غلام منهم سيفا صارما يضربونه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلتموه تفرّق دمه في القبائل كلها ، فلا أظن أن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلهم ، وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل ـ الدية ـ واسترحنا وقطعنا أذاه عنا.

فقال الشيخ النجدي : هذا والله ، هو الرأي ، القول ما قال الفتى ، لا أرى غيره.

فتفرقوا على ذلك ، وهم مجمعون له ؛ فأتى جبريل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته تلك الليلة ، وأذن الله له عند ذلك في الخروج ، وأنزل عليه بعد قدومه المدينة ، يذكّره نعمته عليه : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية. هذه أسباب الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.

نزول الآية (٣١) :

(وَإِذا تُتْلى) : أخرج ابن جرير الطبري عن سعيد بن جبير قال : قتل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر صبرا (١) عقبة بن أبي معيط ، وطعيمة بن عدي ، والنّضر بن

__________________

(١) القتل صبرا : أن يحبس ويرمى حتى يموت.

٣٠٥

الحارث ، وكان المقداد أسر النضر ، فلما أمر بقتله قال المقداد : يا رسول الله ، أسيري؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول». قال وفيه نزلت هذه الآية : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا : قَدْ سَمِعْنا) الآية.

المناسبة :

لما ذكّر الله تعالى المؤمنين نعمه عليهم بقوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) كذلك ذكّر رسوله نعمه عليه ، وهو دفع كيد المشركين ، ومكر الماكرين عنه.

التفسير والبيان :

واذكر أيها النبي حينما اجتمع المشركون لتدبير مؤامرة خطيرة عليك وعلى دعوتك ، فذلك أمر يستحق الشكر على النعمة ، ويدعو للعبرة والعظة ، ويدل على صدق دعوتك وتأييد ربك لك في وقت المحنة العصيبة.

لقد دبروا لك إحدى مكائد ثلاث : إما الحبس الذي يحول بينك وبين دعوة الناس ، وإما القتل بطريق جميع القبائل ، وإما الطرد والإخراج من البلاد.

إنهم يمكرون ويدبرون في السرّ أمرا مكروها لإيقاعه بك من حيث لا تحتسب ، ولكن الله عزت قدرته يحبط مكرهم ويبطل تآمرهم ويذهب كيدهم هباء ، فقد أخرجك مهاجرا سليما من بينهم دون أي أذى ، من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ، والله خير المدبرين وأعلمهم ولا خير في مكرهم. فمعنى قوله : (وَيَمْكُرُونَ) : يخفون المكايد له ، ومعنى : (وَيَمْكُرُ اللهُ) : ويخفي الله ما أعدّ لهم حتى يأتيهم بغتة ، ومكر الله : هو جزاؤهم بالعذاب على مكرهم (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي مكره أنفذ من مكر غيره ، وأبلغ تأثيرا ، وأحق بالفعل المدبّر ؛ لأن تدبيره نصر للحق وعدل ، ولا يفعل إلا ما هو مستوجب.

٣٠٦

وفي هذا دلالة على أن موقف الكفار من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوته موقف متميز دائما بالإساءة والأذى.

وبعد أن حكى الله مكرهم لذات محمد ، حكى مكرهم لدينه وكتابه ، فقال : (وَإِذا تُتْلى ...) أي إذا تليت آيات القرآن الواضحة ، قالوا جهلا وعنادا وسفها واستكبارا : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) ، وهو اعتراف ضمني بعجزهم عن الإتيان بمثل القرآن ، وقد تحداهم للإتيان بأقصر سورة منه ، ولكنه التمويه والخداع والإيهام ، كما يفعل الضعيف الجبان أمام البطل الشجاع المغوار ، يدعي أنه قادر على قتله ، وهو مجرد كلام هراء.

وكان قائل هذا القول : هو النضر بن الحارث ، روي أن النضر بن الحارث خرج إلى الحيرة تاجرا ، واشترى أحاديث كليلة ودمنة ، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم ، فيقرأ عليهم أساطير الأولين ، وكان يزعم أنها مثل ما يذكره محمد من قصص الأولين.

إنه كان يذهب إلى أرض فارس ، فيسمع أخبارهم عن رستم وإسفنديار وكبار العجم ، ويمرّ باليهود والنصارى ، فيسمع منهم التوراة والإنجيل ، ثم يأتي ليحدث أهل مكة بما سمع.

ثم عللوا قولهم الكاذب بما هو أكذب ، فقال : ما هذا القرآن إلا أخبار وأكاذيب وأحاديث الأولين ، مثل قصص الأمم السابقين. ونظير الآية قوله تعالى : (وَقالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها ، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان ٢٥ / ٥] ومعنى (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي كتب المتقدمين اقتبسها ، فهو يتعلم منها ويتلوها على الناس. وهذا هو الكذب البحت ، كما أخبر الله عنهم في الآية التالية : (قُلْ : أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان ٢٥ / ٦].

٣٠٧

والقائل : هو النضر بن الحارث الذي أنزل فيه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً) [لقمان ٣١ / ٦] فقد اشترى قينة جميلة تغني الناس بأخبار الأمم ، لصرفهم عن سماع القرآن.

ويلاحظ أنهم نسبوا آيات القرآن إلى قصص السابقين ، ولكنهم لم يقولوا : إن محمدا افتراها أو اختلقها ؛ إذ كانوا يعتقدون صدقه وأنه ليس كذابا ، كما قال تعالى : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام ٦ / ٣٣].

وقد كان زعماء قريش كالنضر بن الحارث وأبي جهل والوليد بن المغيرة يصدون الناس عن سماع القرآن ، ثم يحاولون التنصت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلا ، حتى إن الوليد بن المغيرة أعلن كلمته بعد تأثره بآيات القرآن : «إنه يعلو ولا يعلى عليه ، وإنه يحطم ما تحته» ثم حاول إبطال هذه الكلمة كيلا تسمعها العرب بتأثير زعماء الشرك فقال : «إن هذا إلا سحر يؤثر».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية الأولى على أن حادث الهجرة كان معجزة ربانية لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد اجتمع المشركون في دار الندوة ، واتفقوا على قتله ، وانتدبوا من كل قبيلة شابا وسيطا جلدا قويا ليقتلوه بضربة رجل واحد ، ليتفرق دمه على القبائل ، فلا يستطيع قومه بنو هاشم محاربة القبائل كلها.

فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه ، ودعا الله عزوجل أن يعمي عليهم أثره ، فطمس الله على أبصارهم ، فخرج وقد غشيهم النوم ، فوضع على رؤوسهم ترابا ونهض.

فلما أصبحوا خرج عليهم علي ، فأخبرهم أن ليس في الدار أحد ، فعلموا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فد فات ونجا. والقصة معروفة في السيرة.

٣٠٨

والحاصل أنهم احتالوا على إبطال أمر محمد ، والله تعالى نصره وقواه ، فتبدد فعلهم ، وظهر صنع الله تعالى.

والمراد من قوله : (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) مع أنه لا خير في مكرهم أنه أقوى وأشد وأعلم ، لينبه بذلك على أن كل مكر ، فهو يبطل في مقابلة فعل الله تعالى. وفي الآية إيماء إلى أن شأن الكفار إيذاء دائم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن تبعه.

وكما بدد الله مكرهم لشخص محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بدد مكرهم لدينه وشرعه ، فزعموا أنه أساطير الأولين ، فردّ الله عليهم : أن الله الذي يعلم السر في السموات والأرض هو منزّل القرآن.

ودلّ قولهم : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) على أن معارضتهم للقرآن مجرد قول وادعاء ، ولم يتمكنوا بالفعل من معارضته ، ومجرد القول لا فائدة فيه.

وكان هذا وقاحة وكذبا ، وقيل : إنهم توهموا أنهم يأتون بمثل القرآن ، كما توهّمت سحرة موسى ، ثم راموا ذلك فعجزوا عنه ، وقالوا عنادا : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام ٦ / ٢٥ ومواضع أخرى]. وإلقاء مثل هذا الكلام والاتهام الباطل ينم عن الضعف والعجز ، وسطحية الجاهل العامي ، كما أنه موقف يدعو للسخرية والهزء من القائلين ؛ إذ لو كان لديهم دليل عقلي مقبول مفنّد لأعلنوه.

٣٠٩

طلب المشركين الإتيان بالعذاب ومنع تعذيبهم إكراما للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وأوضاع صلاتهم عند البيت الحرام

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥))

الإعراب :

(هُوَ الْحَقَ) خبر (كانَ) ، وهو : ضمير فصل بين الوصف والخبر عند البصريين ، وعماد عند الكوفيين. وعلى قراءة الرّفع يكون (هُوَ) مبتدأ ، و (الْحَقَ) خبره ، والجملة فيهما خبر (كانَ).

(وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) في موضع الحال.

(أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ) أن في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجرّ ، وتقديره : من ألا يعذبهم الله. وقيل : تكون زائدة. والأول أوجه. (وَهُمْ يَصُدُّونَ) في موضع نصب على الحال من ضمير (يُعَذِّبَهُمُ).

(مُكاءً) خبر (كانَ) وهو الصّفير ، وأصله (مكاو) فلما وقعت الواو طرفا وقبلها ألف زائدة قلبت همزة.

(وَتَصْدِيَةً) معناها التّصفيق ، وأصله (تصدده) من صدّى : إذا امتنع ، فأبدلوا الدّال الثّانية ياء. وقد تكون من الصّدى : وهو الصّوت الذي يعارض الصّوت ، فتكون الياء أصليّة.

٣١٠

البلاغة :

(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) أي تصفيرا وتصفيقا ، جعلوا صلاتهم عند البيت على هذا النحو ، مما يدلّ على جهلهم بمعنى العبادة وعدم معرفة حرمة بيت الله ، وكانوا أيضا يطوفون بالبيت عراة رجالا ونساء ، وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون ، وكانوا يفعلون ذلك إذا قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلاته يخلطون عليه.

المفردات اللغوية :

ان كان هذا الذي يقرؤه محمد. هو الحق المنزل. أليم مؤلم على إنكاره. قاله النّضر بن الحارث وغيره استهزاء وإيهاما أنه على بصيرة وجزم ببطلانه. (لِيُعَذِّبَهُمْ) بما سألوه. (وَأَنْتَ فِيهِمْ) لأنّ العذاب إذا نزل عمّ ، ولم تعذّب أمّة إلا بعد خروج نبيّها والمؤمنين منها. (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) حيث يقولون في طوافهم : غفرانك.

(وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) بالسّيف بعد خروجك والمستضعفين ، وقد عذّبهم الله ببدر وغيره. (وَهُمْ يَصُدُّونَ) يمنعون النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين. عن المسجد الحرام أن يطوفوا به. (لا يَعْلَمُونَ) ألا ولاية لهم عليه.

(مُكاءً) صفيرا. (وَتَصْدِيَةً) تصفيقا ، أي جعلوا ذلك موضع صلاتهم التي أمروا بها.

سبب النّزول :

نزول الآية (٣٢) :

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَ) : أخرج ابن جرير الطّبري عن سعيد بن جبير في قوله : (وَإِذْ قالُوا : اللهُمَ) قال : نزلت في النّضر بن الحارث ، لما قال : إن هذا إلا أساطير الأولين ، قال له النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ويلك إنه كلام ربّ العالمين ، فقال : اللهم إن كان هذا هو الحق».

نزول الآية (٣٣) :

(وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) : روى البخاري ومسلم عن أنس ، قال : قال أبو جهل بن هشام : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا

٣١١

حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فنزلت : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون : غفرانك غفرانك ، فأنزل الله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) الآية. والاستغفار وإن وقع من الفجّار يدفع به ضرب من الشّرور والإضرار.

والخلاصة : اختلف فيمن القائل : (وَإِذْ قالُوا : اللهُمَ) فقال مجاهد وسعيد بن جبير : قائل هذا هو النّضر بن الحارث. وقال أنس بن مالك فيما رواه البخاري ومسلم : قائله أبو جهل.

وروي أن معاوية قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملّكوا عليهم امرأة!فقال: بل أجهل من قومي قومك حين قالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَ) الآية.

نزول الآية (٣٥) :

(وَما كانَ صَلاتُهُمْ) : أخرج الواحدي عن ابن عمر قال : كانوا يطوفون بالبيت ويصفّرون ويصفّقون ، فنزلت هذه الآية (١).

وأخرج ابن جرير الطّبري عن سعيد بن جبير قال : كانت قريش يعارضون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الطّواف يستهزئون به ، ويصفّرون ويصفّقون ، فنزلت.

المناسبة :

الآيات متّصلة بما قبلها وهي قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) فلما حكى تعالى مكر المشركين بمحمد ذاته ، حتى اضطرّ إلى الهجرة ، حكى مكرهم في دين

__________________

(١) أسباب النّزول : ص ١٣٥.

٣١٢

محمد ، سواء بادّعاء القدرة على الإتيان بمثل القرآن ، أو بوصفه بأنه أساطير الأولين أي قصص السابقين المسطورة في الكتب دون تمحيص ولا تثبّت من صحّتها.

التفسير والبيان :

واذكر يا محمد حين قالت قريش : اللهم إن كان هذا القرآن هو الحقّ المنزّل من عندك ، فعاقبنا بإنزال حجارة ترجمنا بها من السّماء ، كما عاقبت أصحاب الفيل ، (أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ) مؤلم سوى ذلك.

وهذا إخبار من الله تعالى عن كفر قريش وعتوّهم وتمرّدهم وعنادهم وادّعائهم الباطل حين سماع آيات الله تتلى عليهم أنهم قالوا كما بيّنا سابقا : لو شئنا لقلنا مثل قولهم : إن القرآن أساطير الأولين ، وإن هذا مقطوع بكذبه واختلاقه ، فلو كان حقّا لأنزل علينا الحجارة أو العذاب الأليم.

ومرادهم إنكار كونه حقّا منزلا من عند الله ، وأنهم لا يتبعونه ، وإن كان هو الحقّ المنزل من عند الله ، بل يفضلون الهلاك ، وأنهم يتهكّمون بقول من يقول : القرآن حقّ ، وهو غاية الجحود والإنكار ، وهو من كثرة جهلهم وشدّة تكذيبهم وعنادهم وعتوّهم ، ومثل من أمثال حماقتهم حين طلبوا تعجيل العذاب ، وتقديم العقوبة ، كقوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ، وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ ، وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [العنكبوت ٢٩ / ٥٣] ، وقوله : (وَقالُوا : رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) [ص ٣٨ / ١٦].

ثم ذكر الله تعالى سبب إمهالهم بالعذاب ، فقال : (وَما كانَ اللهُ ...) أي وما كان من مقتضى سنّة الله ورحمته وحكمته أن يعذّبهم ، والرّسول موجود بينهم ؛ لأنه إنما أرسله رحمة للعالمين لا عذابا ونقمة ، وما عذّب الله أمّة ونبيّها فيها ، قال ابن عباس : لم يعذّب أهل قرية ، حتى يخرج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها والمؤمنون ، ويلحقوا بحيث أمروا.

٣١٣

وما كان الله ليعذبهم عذاب الاستئصال في الدّنيا الذي عذّب بمثله بعض الأمم السّالفة ، وهم يستغفرون. ومن هم المستغفرون؟ قال ابن عباس : هم الكفار ، كانوا يقولون في الطّواف : غفرانك. والاستغفار ، وإن وقع من الفجّار يدفع به ضروب من الشّرور والإضرار. وقيل : إن الاستغفار راجع إلى المسلمين المستضعفين الذين هم بين أظهرهم ، أي وما كان الله معذبهم ، وفيهم من يستغفر من المسلمين ، فلما خرجوا عذّبهم الله يوم بدر وغيره.

وقيل : إن الاستغفار هنا يزاد به الإسلام ، أي وهم يسلمون ، أي يسلم بعضهم إثر بعض ، أو يكون لهم أولاد يؤمنون بالله ويستغفرونه.

وبعد أن نفى الله عنهم عذاب الاستئصال في الدّنيا ، أثبت احتمالا آخر ، وهو إمكان تعذيبهم بعذاب دون عذاب الاستئصال عند وجود المقتضي وزوال المانع ، فقال : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ ...) أي ولم لا يعذّبهم الله بعذاب آخر ، وأي شيء يمنع من إنزال عذاب أخف من ذلك العذاب؟ بسبب أنهم يمنعون الناس عن المسجد الحرام ولو لأداء النّسك؟ فقد كانوا يمنعون المسلم من دخول المسجد الحرام ، وأخرجوا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصحبه من المسجد الحرام. فهم أهل لأن يعذّبهم الله ، ولكن لم يوقع ذلك بهم ؛ لبركة مقام الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أظهرهم.

فمن كانت هذه حالته لم يكن وليّا للمسجد الحرام ، فهم أهل للقتل بالسّيف والمحاربة ، فقتلهم الله وعذّبهم يوم بدر ، حيث قتل رؤوس الكفر كأبي جهل وأسر سراتهم ، وأعزّ الإسلام بذلك.

(وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) أي ولاة أمره وأربابه ، فإنهم كانوا يقولون : نحن أولياء البيت الحرام ، نصدّ من نشاء ، وندخل من نشاء ، فردّ الله عليهم بقوله : وما كانوا مستحقّين للولاية والإشراف عليه ، مع شركهم وعداوتهم للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وما أولياؤه وحماته إلا المتّقون من المسلمين ، فليس كلّ مسلم أيضا ممن يصلح

٣١٤

لأن يلي أمره ، إنما يستأهل ولايته من كان برّا تقيّا ، فكيف بالكفرة عبدة الأصنام؟!

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) بأن المتّقين أولياؤه ، فهم الآمنون من عذابه.

ثم بيّن الله تعالى سبب عدم أهليتهم لأن يكونوا أولياء البيت ، وهو أن صلاتهم عند البيت وتقرّبهم وعبادتهم إنما كان تصفيرا وتصفيقا ، لا يحترمون حرمة البيت ولا يعظّمونه حقّ التّعظيم. قال ابن عباس : كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفّر وتصفّق. وقال مجاهد وسعيد بن جبير : كانوا يعارضون النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الطّواف ، ويستهزئون به ، ويصفّرون ، ويخلطون عليه طوافه وصلاته. وروي مثل ذلك عن مقاتل.

فعلى قول ابن عباس : كان المكاء والتّصدية نوع عبادة لهم ، وعلى قول مجاهد ومقاتل وابن جبير : كان إيذاء للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال الرّازي : والأوّل أقرب ؛ لقوله تعالى : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً).

فذوقوا القتل والأسر يوم بدر ، بسبب كفركم وأفعالكم التي لا يقدم عليها إلا الكفرة. وهذا هو العذاب الذي طلبتموه.

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمّنت الآية بيان مدى الحماقة من المشركين ، حين استعجلوا إنزال العذاب ، وبيان كرامة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعظيمه حيث رفع عن الأمّة عذاب الاستئصال بسبب وجوده بينهم ، أو بسبب الاستغفار الحاصل من بعض الناس ، الكفار أو المؤمنين ، قال المدائني عن بعض العلماء : كان رجل من العرب في زمن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسرفا على نفسه ، لم يكن يتحرّج ؛ فلما أن توفّي النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبس الصّوف ، ورجع عمّا كان عليه ، وأظهر الدّين والنّسك. فقيل له : لو فعلت هذا والنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيّ لفرح بك. قال : كان لي أمانان ، فمضى واحد وبقي الآخر ؛

٣١٥

قال الله تبارك وتعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) فهذا أمان ، والثاني : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).

وقال ابن عباس : كان فيهم أمانان : نبيّ الله والاستغفار ، أما النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد مضى ، وأمّا الاستغفار فهو باق إلى يوم القيامة.

ودلّت الآية على أنّ الاستغفار أمان وسلامة من العذاب. وأمّا وجود النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين القوم فهو حائل من العذاب ، لا يختص ذلك بنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلا بعد أن يخرج رسولهم منهم ، كما كان في حقّ هود وصالح ولوط.

وتضمّنت الآية أيضا استحقاق كفار قريش عذابا دون عذاب الاستئصال ؛ لما ارتكبوا من القبائح والأسباب ، ولكن لكل أجل كتاب ، فعذّبهم الله بالقتل والأسر يوم بدر وغيره.

ثم أبان الله تعالى سلب الولاية والأهلية عن الكفار على المسجد الحرام ، لكفرهم وعداوتهم للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانتهاكهم حرمة البيت بالتّصفير والتّصفيق ، والطّواف به عراة ، رجالا ونساء.

إهدار ثواب الإنفاق للصّدّ عن سبيل الله

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧))

٣١٦

البلاغة :

(الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) كناية عن المؤمن والكافر ، وبين اللفظين طباق.

(أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) إشارة بالبعيد إلى الفريق الخبيث ، لبيان مدى خسارتهم الفادحة ، وبعدهم عن الرّحمة الإلهيّة.

المفردات اللغوية :

(يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) في حرب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (ثُمَّ تَكُونُ) في عاقبة الأمر. (عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) ندامة وألما ، لفواتها وتضييعها ، وفوات ما قصدوه. (ثُمَّ يُغْلَبُونَ) في الدّنيا. (يُحْشَرُونَ) يساقون. (لِيَمِيزَ) متعلّق ب (تَكُونُ) ، ومعناه يفصل (الْخَبِيثَ) الكافر. (مِنَ الطَّيِّبِ) المؤمن. (فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً) يجمعه متراكبا (بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ).

سبب النّزول :

قال محمد بن إسحاق ـ فيما يرويه عن الزّهري وجماعة ـ : لما أصيبت قريش يوم بدر ، ورجعوا إلى مكّة ، مشى عبد الله بن أبي ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أميّة ، في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم ، فكلّموا أبا سفيان ، ومن كان له في ذلك العير من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش ، إنّ محمدا قد وتركم ـ نقصكم ـ وقتل خياركم ، فأعينونا بهذا المال ـ أي مال العير الذي نجا ـ على حربه ، فلعلنا أن ندرك منه ثأرا ، ففعلوا. ففيهم كما ذكر عن ابن عباس أنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) إلى قوله (يُحْشَرُونَ) أي أنها نزلت في نفقاتهم لمعركة أحد.

روى عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما أن الآية نزلت في أبي سفيان ، وما كان من إنفاقه على المشركين في بدر ، ومن إعانته على ذلك في أحد ، لقتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأخرج ابن أبي حاتم عن الحكم بن عتيبة قال : نزلت في أبي سفيان ، أنفق

٣١٧

على المشركين أربعين أوقية من ذهب. والأوقية : أربعون مثقالا من الذّهب ، والمثقال (٢٥ ، ٤ غم).

وأخرج ابن جرير عن ابن أبزى وسعيد بن جبير قالا : نزلت في أبي سفيان ، استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش ، ليقاتل بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سوى من استجاب له من العرب.

وقال مقاتل والكلبي : نزلت في المطعمين يوم بدر ، وكانوا اثني عشر رجلا من كبار قريش (١).

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى حالة المشركين في الطاعات البدنية وهي الصّلاة بقوله : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ ...) بيّن حالهم في الطاعات المالية ، سواء في الإنفاق يوم بدر أو أحد.

التّفسير والبيان :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله يقصدون من الإنفاق صدّ الناس عن اتّباع محمد ، وهو سبيل الله تعالى.

وحين ينفقون تكون عاقبة هذا الإنفاق لحرب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصّدّ عنه في النهاية ندما وحسرة ، فكأن ذاتها تصير ندما ، وتنقلب حسرة ، أي أنها لا تحقّق المقصود ، وإنما تؤدي إلى عكسه وهو الوقوع في الحسرة والنّدامة : (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) [الكهف ١٨ / ٤٢] ، لأنها مال ضائع في سبيل

__________________

(١) وهم أبو جهل بن هشام ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، ونبيه ومنبه ابنا حجاج ، وأبو البحتري بن هشام ، والنضر بن الحارث ، وحكيم بن حزام ، وأبيّ بن خلف ، وزمعة بن الأسود ، والحارث بن عامر بن نوفل ، والعباس بن عبد المطلب ، وكلهم من قريش ، وكان يطعم كلّ واحد منهم كل يوم عشرة من الجزور.

٣١٨

الشّيطان ، ولا تؤدّي إلى النّصر ، وإنما على العكس مصيرها إلى الهزيمة. فهم يغلبون وينكسرون ، كما قال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة ٥٨ / ٢١].

هذا عذابهم في الدّنيا : ضياع المال والهزيمة ، وعذابهم في الآخرة أنهم يساقون إلى جهنّم ، إذا أصرّوا على كفرهم وماتوا وهم كفار ؛ لأن منهم من أسلم وحسن إسلامه.

أما المسلمون إذا أنفقوا أموالهم في سبيل الله ، فتحقّق إما النّصر في الدّنيا ، وإمّا الثّواب في الآخرة ، أو الأمران معا وسعادة الدّارين.

وقد كتب الله النّصر للمؤمنين ، والهزيمة للكافرين وضياع أموالهم ، وإيقاع الحسرة والألم في قلوبهم ، ليميز الفريق الخبيث من الفريق الطّيب ، أي الكافر من المؤمن ، فيميز أهل السعادة عن أهل الشّقاء ، ويجعل الخبيث بعضه متراكما فوق بعض في جهنم ، أولئك هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يأتي :

١ ـ لا يستفيد الكفار من بذلهم أموالهم في الإنفاق الذي يقصد به الصّدّ عن سبيل الله ، أي منع الناس من دعوة الإسلام ، إلا الحسرة والخيبة في الدّنيا ، والعذاب الشّديد في الآخرة ، وهو يوجب الزّجر العظيم عن ذلك الإنفاق.

٢ ـ إن الغلبة والنّصر يكونان للمؤمنين ، والهزيمة والخذلان للكافرين ، وسيكون هؤلاء يوم القيامة مسوقين في حال من الذّل والصّغار إلى جهنم ، وبئس المصير.

٣ ـ إن تحقيق الغلبة للمؤمنين ، وإيقاع الهزيمة بالكافرين إنما بقصد تمييز

٣١٩

الفريق الخبيث من الكفّار ، عن الفريق الطّيّب من المؤمنين ، فيجعل الفريق الخبيث بعضه على بعض في جهنّم ، فيركمه جميعا. ويكون قوله : (لِيَمِيزَ) متعلّقا بقوله (يُحْشَرُونَ) والمعنى : أنهم يحشرون ليميز الله الفريق الخبيث من الفريق الطّيّب.

وقيل : المراد تمييز نفقة الكافر على عداوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عن نفقة المؤمن في جهاد الكفار ، كإنفاق أبي بكر وعثمان في نصرة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ، فيضمّ تعالى تلك الأمور الخبيثة بعضها إلى بعض ، فيلقيها في جهنّم ويعذّبهم بها ، ويكون قوله (لِيَمِيزَ) متعلّقا بقوله : (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً). ثم قال : (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) وهو إشارة إلى الذين كفروا.

المغفرة للكفّار إذا أسلموا وقتالهم إذا لم يسلموا لمنع الفتنة في الدّين

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠))

المفردات اللغوية :

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) يعني أبا سفيان وأصحابه ، أي قل لأجلهم هذا القول وهو : (إِنْ يَنْتَهُوا) عن الكفر وقتال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعاداته بالدّخول في الإسلام ، وليس المراد أنك تخاطبهم به ، وإلا لقيل : إن تنتهوا يغفر لكم. (يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) من أعمالهم ، و (يُغْفَرْ) : فعل

٣٢٠