التفسير المنير - ج ٩

الدكتور وهبة الزحيلي

هذا الحكم عام في جميع الحروب ، لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهو عام ، فيتناول جميع الحالات ، كل ما في الأمر أنه نزل في واقعة بدر ، والعبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب.

والآية نزلت بعد القتال وانقضاء الحرب ، وهذا رأي مالك والشافعي وأكثر العلماء.

قال ابن القاسم : لا تجوز شهادة من فرّ من الزحف ، ولا يجوز لهم الفرار ، وإن فرّ إمامهم ؛ لقوله عزوجل : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) الآية : وفيها أنه استحق غضب الله ونار جهنم. وقال أيضا : ويجوز الفرار من أكثر من ضعفهم ، وهذا ما لم يبلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا ، فإن بلغ اثني عشر ألفا ، لم يحل لهم الفرار ، وإن زاد عدد المشركين على الضعف ؛ لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه أبو بشر وأبو سلمة العاملي : «ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلّة» إلا أن فيه راويا متروكا.

فإن فرّ فليستغفر الله عزوجل ، لما رواه الترمذي عن بلال بن يسار بن زيد قال : حدثني أبي عن جدّي ، سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ، وأتوب إليه ، غفر الله له ، وإن كان قد فرّ من الزحف».

٢ ـ استدل أهل السنة بقوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ؛ لأنه تعالى قال : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) ومن المعلوم أنهم جرحوا الأعداء ، فدل هذا على أن حدوث تلك الأفعال إنما حصل من الله. وقوله تعالى عن النبي عليه الصلاة والسّلام : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) أي وما رميت خلقا ولكن رميت كسبا. وعلى كل حال فمذهب أهل

٢٨١

السنة ثابت بصريح قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [الزمر ٣٩ / ٦٢].

٣ ـ المؤمن مطالب بتعاطي الأسباب الظاهرية ، والقيام بالتكليف الذي كلفه الله ، ثم يتوكل على الله ويفوض الأمر إليه ، أما تحقيق النتائج والأهداف فهو متروك قطعا لله عزوجل ، لا بقوة الإنسان وقدرته ، لهذا صح النفي والإثبات في قوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) أي أن صورة الرمي صدرت من الرسول عليه الصلاة والسّلام ، وأثرها إنما صدر من الله. وحادثة رمي الأعداء بحفنة من الحصباء حدثت يوم بدر في الأصح كما قال ابن إسحاق ؛ لأن الآية نزلت عقيب بدر والسورة بدرية ، وتكررت يوم أحد ويوم حنين.

٤ ـ كان الإخلاص في الجهاد ، وصدق اللقاء ، والثقة بالله سبب رضوان الله على أهل بدر ، وإعطائهم البلاء الحسن ، أي الإنعام عليهم ، أي ينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصرة والغنيمة والأجر والثواب.

٥ ـ إن كل قوى الكفار تتبدد أمام قدرة الله وإرادته ونصره عباده المؤمنين ، فأوهن الله كيدهم وألقى الرعب في قلوبهم ، وفّق كلمتهم ، وأطلع المؤمنين على عوراتهم ، وخزاهم وأذلهم ، وهددهم بالعودة إلى خذلانهم إن عادوا لمحاربة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، وأنبأهم بدحر قواتهم مهما كثرت ، وأن الله مؤيد بنصره المؤمنين ، ولكن مع كل هذا فتح الله باب الأمل أمامهم بالعودة عن الكفر والشرك والمعاداة إلى الإيمان والطاعة والإسلام واتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومؤازرته وتأييده ، رحمة منه بعباده ، والله رؤف بالعباد.

٦ ـ لقد تحقق مطلب أبي جهل حينما قال : اللهم انصر أفضل الدينين وأحقه بالنصر ، وقول المشركين حينما أرادوا الخروج إلى بدر ، وأخذوا بأستار الكعبة :

٢٨٢

اللهم انصر أعلى الجندين ، وأهدى الفئتين ، وأكرم الحزبين ، وأفضل الدينين. وهو معنى قوله تعالى : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) أي إن تستنصروا لأهدى الفئتين وأكرم الحزبين ، فقد جاءكم النصر ، على سبيل التهكم عليهم ، ففي بدر فرق الله بين الحق والباطل لذا سميت الغزوة أو المعركة بيوم الفرقان ، وأعز الإسلام وأهله ، وهزم الكفر وأعوانه.

الأمر بطاعة الله والرسول والتحذير من المخالفة

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣))

الإعراب :

(وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) أصلها : تتولوا ، أدغمت إحدى التاءين بالأخرى. والضمير في (عَنْهُ) لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأن المعنى : وأطيعوا رسول الله ، كقوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة ٩ / ٦٢] ولأن طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد.

البلاغة :

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ ...) شبه الكفار بالبهائم ، وجعلهم من جنس البهائم ، ثم جعلهم شرا منها ، لتعطيلهم حواسهم عن سماع الحق والنطق به ، فهو وجه الشبه ، وأما أنهم شر من البهائم فلأنهم يضرون غيرهم والبهائم لا تضر.

٢٨٣

المفردات اللغوية :

(وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) تعرضوا عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بمخالفة أمره (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) القرآن والمواعظ (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) سماع تدبر واتعاظ ، وهم المنافقون أو المشركون (الدَّوَابِ) جمع دابة : وهي ما تدب على الأرض (الصُّمُ) عن سماع الحق ، جمع أصم : وهو الأطرش (الْبُكْمُ) عن النطق بالحق ، جمع أبكم : وهو الأخرس.

(خَيْراً) أي صلاحا بسماع الحق (لَأَسْمَعَهُمْ) سماع تفهم (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) على سبيل الافتراض ، وقد علم ألا خير فيهم (لَتَوَلَّوْا) أعرضوا عنه (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن قبوله عنادا وجحودا.

المناسبة :

لما خاطب الله المشركين والكفار بقوله : (وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أتبعه بتأديب المؤمنين بالأمر بطاعة الله والرسول إذا دعاهم للجهاد وغيره ؛ لأن الكلام من أول السورة إلى هنا في الجهاد. ومن عادة القرآن مقابلة الأشياء ببعضها ، فلما حذر الكافرين ، اقتضى تنبيه المؤمنين لئلا يتقاعسوا عن الدفاع عن الدين وإجابة دعوة النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

التفسير والبيان :

يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ، ويزجرهم عن مخالفته والتشبه بالكافرين المعاندين له ، فقال :

يا أيها المتصفون بالإيمان والتصديق أطيعوا الله ورسوله في الدعوة إلى الجهاد وترك المال ، ولا تتركوا طاعته أي الرسول وامتثال أوامره وترك زواجره ، فإذا أمر بالجهاد وبذل المال وغيرهما ، امتثلتم ، والحال أنكم تسمعون كلامه ومواعظه ، وتعلمون ما دعاكم إليه. والمراد بالسماع : سماع تدبر وفهم وتأمل في المسموع ، كما هو الشأن في المؤمنين أن يقولوا : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا ، غُفْرانَكَ رَبَّنا ، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة ٢ / ٢٨٥].

٢٨٤

واحذروا أن تكونوا مثل الذين قالوا : سمعنا وهم لا يسمعون ، وهم المنافقون والمشركون ، فإنهم يتظاهرون بالسماع والاستجابة ، وليسوا كذلك ، والحال أنهم لا يسمعون أبدا.

ثم أخبر الله تعالى عن هؤلاء أنهم شر الخلق والخليقة ، فقال : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ ...) أي إن شر المخلوقات التي تدب على الأرض عند الله الصم الذين لا يسمعون الحق فيتبعونه ، ولا ينطقون بالحق ولا يفهمونه ، ولا يعقلون الفرق بين الحق والباطل ، والخير والشر ، والهدى والضلال ، والإسلام والكفر ، أي فكأنهم لتعطيلهم هذه الحواس فيما فيه المنفعة والفائدة والخير ، فقدوا هذه القوى والمشاعر المدركة ، وهم لو استخدموا عقولهم متجردين عن التقليد والعصبية الجاهلية ، لاهتدوا إلى الحق والصواب ، وأدركوا الصالح المفيد لهم وهو الإسلام ، إلا أنهم في الواقع كالبهائم لا يعقلون الأمور ، كما قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ ، أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ، وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق ٥٠ / ٣٧].

ثم أخبر الله تعالى بأنهم لا فهم لهم صحيح ، ولا قصد لهم صحيح ، فلو علم الله في نفوسهم ميلا إلى الخير والاستعداد للإيمان والاهتداء بنور الإسلام والنبوة ، لأفهمهم ، وأسمعهم بتوفيقه كلام الله ورسوله سماع تدبر وتفهم واتعاظ ؛ ولكن لا خير فيهم ؛ لأنه يعلم أنه لو أسمعهم أي أفهمهم ، لتولوا عن ذلك قصدا وعنادا بعد فهمهم ذلك ، وهم معرضون عنه من قبل ذلك بقلوبهم عن قبوله والعمل به ، فهم لا خير فيهم أصلا.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى شيئين : الأمر بطاعة الله والرسول ، والتحذير من مخالفة أمرهما ونهيهما.

وشأن المؤمنين سماع الحق ، والاهتداء بنوره ، وإطاعة الأوامر ، واجتناب

٢٨٥

النواهي والزواجر. وهؤلاء هم فئة المؤمنين المصدقين ، وأكمل الناس وأرشدهم.

وطاعة الله والرسول شيء واحد ، وطاعة الرسول طاعة لله ، ونظير الآية قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) [التوبة ٩ / ٦٢] وقول المؤمن : سمعت وأطعت لا فائدة منه ما لم يظهر أثر ذلك عليه بامتثال الفعل المأمور به ، واجتناب المنهي عنه. أما من قصر في الأوامر واقتحم المعاصي فهو غير مطيع.

أما من ليسوا بمؤمنين ولا مصدقين كاليهود أو المنافقين أو المشركين ، فهم لا يسمعون الحق سماع تدبر وتفهم وتأمل ، لذا أخبر تعالى أن هؤلاء الكفار شر خلق الله ، وشر ما دبّ على الأرض.

أما المنافق فيظهر الإيمان ويسرّ الكفر ، فهو يتظاهر بالسماع ، وهو في الحقيقة لا يتدبر ولا يفهم شيئا.

وأما اليهودي والنصراني فيجادل في الحق بعد ما تبين له ، تمسكا بالموروث المتداول ، فهو يصم الأذن ، ويعطل العقل عن التفكير والتأمل في الدين الحق ، إصرارا على ما توارثه.

وأما المشركون فهم معاندون لا يسمعون أبدا ، ويصدون الناس أيضا عن سماع القرآن وكلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويصمون آذانهم عن سماع الحق ، ويتمسكون بتقليد الآباء والأجداد دون تأمل.

وكل هؤلاء لا يعقلون الفروق بين الحق والباطل ، والخير والشر ، والإسلام والكفر ، لذا كانوا بحق شر خلق الله ، وشرا من الدواب ؛ لأنهم يضرون ، والبهائم لا تضر.

٢٨٦

الاستجابة لما فيه الحياة الأبدية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦))

الإعراب :

(لا تُصِيبَنَ) فيه واو محذوفة ، تقديره : ولا تصيبن ، مثل أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون أي وهم فيها خالدون ، فحذف الواو. وذكر الزمخشري في ذلك ثلاثة أوجه : إما أن يكون جوابا للأمر ، أو نهيا بعد أمر ، أو صفة لفتنة ، فإذا كان جوابا فالمعنى : إن أصابتكم لا تصب الظالمين منكم خاصة ، ولكنها تعمكم ، وجاز أن تدخل النون الثقيلة المؤكدة في جواب الأمر أو الشرط ، والنون لا تدخل إلا على فعل النهي أو جواب القسم ؛ لأن فيه معنى النهي ، كما لو قلت : «انزل عن الدابة لا تطرحك» يجوز : لا تطرحنّك. فكذلك هنا النهي للفتنة والمراد به الذين ظلموا. وإذا كانت نهيا بعد أمر ، فكأنه قيل : واحذروا ذنبا أو عقابا ، ثم قيل : لا تتعرضوا للظلم ، فيصيب العقاب أو أثر الذنب ووباله من ظلم منكم خاصة ، وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول ، كأنه قيل : واتقوا فتنة ، مقولا فيها : لا تصيبن.

البلاغة :

(يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) استعارة تمثيلية ، شبه الله تعالى تمكنه من قلوب العباد وتصريفها كما يشاء بمن يحول بين الشيء والشيء.

المفردات اللغوية :

(اسْتَجِيبُوا) أجيبوا الله والرسول بالطاعة. (لِما يُحْيِيكُمْ) من أمر الدين ويصلحكم به ؛

٢٨٧

لأنه سبب الحياة الأبدية. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) فلا يستطيع أن يؤمن أو يكفر إلا بإرادته ، قال ابن عباس : يحول بين المؤمن وبين الكفر ، وبين الكافر وبين الإيمان. (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي إليه مصيركم ومرجعكم ، فيجازيكم بأعمالكم.

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً) احذروا بلاء ومحنة إن أصابتكم بإنكار موجبها من المنكر (لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) بل تعمهم وغيرهم. (شَدِيدُ الْعِقابِ) شديد العذاب لمن خالفه وعصاه.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٥) :

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً) : تأولها الزبير بن العوام والحسن البصري والسدي وغيرهما بأنها يوم وقعة الجمل سنة ست وثلاثين. قال الزبير : نزلت فينا وقرأناها زمانا ، وما أرانا من أهلها ، فإذا نحن المعنيون بها. وقال الحسن : نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير ، وهو يوم الجمل خاصة. وقال السدي : نزلت في أهل بدر ، فاقتتلوا يوم الجمل. وروي أن «الزبير كان يساير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما إذ أقبل علي رضي‌الله‌عنه ، فضحك إليه الزبير ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كيف حبّك لعليّ؟ فقال : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، إني أحبه كحبي لولدي ، أو أشد حبا ، قال : فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله؟» (١).

وقال ابن عباس رضي‌الله‌عنه : نزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : أمر الله المؤمنين ألا يقرّوا المنكر فيما بينهم ، فيعمهم الله بالعذاب.

وعن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يكون بين ناس من أصحابي فتنة ، يغفرها الله لهم بصحبتهم إياي ، يستنّ بهم فيها ناس بعدهم ، يدخلهم الله بها النار» (٢).

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ١١

(٢) تفسير القرطبي : ٧ / ٣٩١.

٢٨٨

وهذه التأويلات تعضدها الأحاديث الصحيحة ، ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت له : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : «نعم إذا كثر الخبث». وفي صحيح الترمذي : «إن الناس إذا رأوا الظالم ، ولم يأخذوا على يديه ، أو شك أن يعمهم الله بعقاب من عنده». وفي صحيح البخاري والترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا (١) على سفينة ، فأصاب بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء ، مرّوا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ، ولم نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا ، هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا».

ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة ، وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

المناسبة :

بعد أن أمر الله تعالى المؤمنين بطاعة الله والرسول في الجهاد وبذل المال وغيرهما ، أردفه بالأمر بإجابة الله والرسول إذا دعاهم لما يحييهم حياة أبدية ، ويصلحهم بهداية الدين وأحكامه ، فكأن هذه الآيات بمثابة بيان العلة لطاعة الله والرسول ، وهو تحقيق الصلاح والخير والسعادة الأبدية في الدنيا والآخرة بالتزام الدين.

التفسير والبيان :

كرر الله النداء بلفظ الذين آمنوا هذه الآيات وما قبلها ، إشارة إلى أن وصف الإيمان موجب الامتثال والإجابة والإصغاء لما يرد بعده من الأوامر والنواهي.

__________________

(١) استهموا : اقترعوا.

٢٨٩

والمعنى : أيها المؤمنون ، أجيبوا دعوة الله ، ودعوة الرسول إذا دعاكم لما يحييكم حياة طيبة أبدية مشتملة على سعادة الدنيا والآخرة ، وفيها صلاحكم وخيركم ، وفيها كل حق وصواب ، وذلك شامل القرآن والإيمان والجهاد وكل أعمال البر والطاعة. والمراد من قوله : (لِما يُحْيِيكُمْ) الحياة الطيبة الدائمة ، قال تعالى : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل ١٦ / ٩٧]. وقال البخاري : (اسْتَجِيبُوا) : أجيبوا ، (لِما يُحْيِيكُمْ) : لما يصلحكم.

وأكثر الفقهاء على أن ظاهر الأمر للوجوب ، فالأمر هنا للوجوب حتى يكون له معنى وفائدة ، صونا للنص عن التعطيل ، ولأن قوله بعدئذ : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) جار مجرى التهديد والوعيد ، وهو لا يليق إلا بالإيجاب.

فيجب بناء عليه امتثال ما أمر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجد وعزم ونشاط من أمور الدين عبادة وعقيدة ومعاملة. أما أمور العادات كاللباس والطعام والشرب والنوم ، فليست من الدين الواجب الاقتداء به.

ومن أعرض عما أمر النبي به من الإيمان والقرآن والهدى والجهاد ، فهو ميت لا حياة طيبة أو روحية فيه ، كما قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ، وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) [الأنعام ٦ / ١٢٢].

ومعنى قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) : بادروا إلى الاستجابة قبل ألا تتمكنوا منها بزوال العقل. والقلب : موضع الفكر. قال مجاهد في الآية : (يَحُولُ ...) أي حتى يتركه لا يعقل ، والمعنى : يحول بين المرء وعقله ، حتى لا يدري ما يصنع. وفي التنزيل : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق ٥٠ / ٣٧] أي عقل.

٢٩٠

وقيل : يحول بينه وبين قلبه الموت ، فلا يمكنه استدراك ما فات ، قال في الكشاف : يعني أنه يميته فتفوته الفرصة. وقيل : المعنى يقلب الأمور من حال إلى حال ، قال القرطبي : وهذا جامع. روى الإمام أحمد بن حنبل عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه قال : كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكثر أن يقول : «يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك» فقلنا : يا رسول الله ، آمنا بك وبما جئت به ، فهل تخاف علينا؟ قال : «نعم ، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها».

واختيار الطبري : أن يكون ذلك إخبارا من الله عزوجل بأنه أملك لقلوب العباد منهم ، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء ، حتى لا يدرك الإنسان شيئا إلا بمشيئة الله عزوجل.

وأرى أن اختيار الطبري والقرطبي في تفسير الآية أسلم الآراء ، ومعناها أن الله مهيمن على قلب الإنسان وفكره وإرادته ، يقلب الأمور بيده كيف شاء من حال إلى حال ، وهو المتصرف في جميع الأشياء ، يصرف القلوب بما لا يقدر عليه صاحبها ، ويغير اتجاهاته ومقاصده ونياته وعزائمه حسبما يشاء. والمقصود من الآية الحث على الطاعة قبل وجود الموانع من مرض وموت مثلا.

وفسر بعضهم الآية بحسب الاختلاف في الجبر والقدر ، فالقائلون بالجبر : يرون أن الله يحول بين المرء الكافر وطاعته ، ويحول بين المرء المطيع ومعصيته ، فالسعيد من أسعده الله ، والشقي من أضلّه الله. وكان فعل الله تعالى ذلك عدلا فيمن أضله وخذله ، إذ لم يمنعهم حقا وجب عليه ، فتزول صفة العدل حينئذ ، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم ، لا ما وجب لهم.

وقال الجبائي من المعتزلة : إن من حال الله بينه وبين الإيمان ، فهو عاجز ، وأمر العاجز سفه ، ولو جاز ذلك لجاز أن يأمرنا الله بصعود السماء ، وقد أجمعوا

٢٩١

على أن المريض الزّمن لا يؤمر بالصلاة قائما ، فكيف يجوز ذلك على الله تعالى؟ وقد قال تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة ٢ / ٢٨٦] (١).

ومما يدل على أن المقصود من الآية الحث على الطاعة قبل فوات الأوان والفرصة ما ختمت به ، وهو قوله : (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي أسرعوا في العمل وأعدوا العدة ليوم الحشر ، فإنكم إلى الله مرجعكم ومصيركم ، فيجازيكم بأعمالكم.

وبعد أن حذر الله تعالى الإنسان أن يحال بينه وبين قلبه ، حذره من الفتن ، فقال : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً ...) أي احذروا الوقوع في الفتنة وهي الاختبار والمحنة التي يعمّ فيها البلاء المسيء وغيره ، ولا يخص بها أهل المعاصي ، ولا من ارتكب الذنب ، بل يعمهما ، حيث لم تدفع وترفع. وبعبارة أخرى : واحذروا فتنة ، إن نزلت بكم ، لم تقتصر على الظالمين خاصة ، بل تتعدى إليكم جميعا ، وتصل إلى الصالح والطالح.

وكانت فتنة عثمان أول الفتن التي ما زال أثرها قائما في التاريخ ، وكانت سببا في اقتتال المسلمين في وقعة الجمل وصفين ومقتل الحسين وغيرها ، وفي ظهور البدع والمنكرات ، واستمرت الفتن بين المسلمين ، وأخذت أشكالا متعددة ، من قومية ، وتفرق في الدين ، وانقسام إلى أحزاب دينية ، وأحزاب سياسية.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) ، أي أنه تعالى شديد العذاب في الدنيا والآخرة لمن عصاه من الأمم والأفراد ، وخالف هدي دينه وشرعه.

وهذا التحذير عام يعمّ الصحابة وغيرهم ، وإن كان الخطاب لهم أولا.

ومقتضى التحذير منع ما يؤدي إلى العذاب العام ، والعمل على إزالته ورفعه إذا وقع ، كإهمال الجهاد ، وشيوع المنكر ، وافتراق الكلمة ، والالتواء في الأمر

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٥ / ١٤٧ ـ ١٤٨.

٢٩٢

بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد وردت أحاديث كثيرة تحذر من الفتن ، منها : ما رواه أحمد وأبو داود عن المنذر بن جرير عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من قوم يعملون بالمعاصي ، وفيهم رجل أعز منهم وأمنع لا يغيره إلا عمّهم الله بعقاب ، أو أصابهم العقاب».

ثم نبّه الله تعالى عباده المؤمنين على نعمه وإحسانه عليهم ، حيث كانوا قليلين فكثرهم ، ومستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم ، وفقراء عالة فرزقهم من الطيبات ، وهذا كان حال المؤمنين قبل الهجرة من مكة إلى المدينة ، فبعد أن أمرهم بطاعة الله وطاعة الرسول ، ثم أمرهم باتقاء المعصية ، أكد ذلك التكليف بهذه الآية ، فقال : واذكروا أيها المهاجرون ، وقيل : الخطاب لجميع المؤمنين في عصر التنزيل ، اذكروا وقت أن كنتم قلة مستضعفين في مكة ، والمشركون أعزة كثرة يذيقونكم سوء العذاب ، وكنتم خائفين غير مطمئنين ، (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) ، أي يأخذكم مشركو العرب بسرعة خاطفة للقتل والسلب ، كما كان يتخطف بعضهم بعضا خارج الحرم المكي ، كما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً ، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت ٢٩ / ٦٧] وقال : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) [القصص ٢٨ / ٥٧].

(فَآواكُمْ) ، أي جعل لكم مأوى تتحصنون به في المدينة ، وأيّدكم ، أي أعانكم وقواكم يوم بدر وغيره من الغزوات بنصره المؤزر وعونه ، وسيؤيدكم بنصره على من سواكم من الروم والفرس وغيرهم ، (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) رزقا حسنا مباركا فيه وأحل لكم الغنائم ، كي تشكروا هذه النعم الجليلة ، والغرض التذكير بالنعمة لتكون حاملا لهم على إطاعة الله وشكر الفضل الإلهي.

أخرج ابن جرير الطبري عن قتادة بن دعامة السدوسي رحمه‌الله في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ) قال : كان هذا الحي من العرب أذلّ الناس ذلّا ، وأشقاه عيشا ، وأجوعه بطونا ، وأعراه جلودا ، وأبينه ضلالا ،

٢٩٣

معكوفين على رأس حجر بين فارس والروم ، لا والله ما في بلادهم ما يحسدون عليه ، من عاش منهم عاش شقيا ، ومن مات منهم ردّي في النار ، يؤكلون ولا يأكلون ، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشرّ منزلا منهم ، حتى جاء الله بالإسلام ، فمكّن به في البلاد ، ووسّع به في الرزق ، وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس ، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم ، فاشكروا لله نعمه ، فإن ربكم منعم يحب الشكر ، وأهل الشكر في مزيد من نعم الله عزوجل.

فقه الحياة أو الأحكام :

بان من الآيات العبر والعظات الكثيرة ، بالإضافة إلى الأحكام الأساسية في الإسلام وهي ما يلي :

١ ـ وجوب إجابة دعوة الله والرسول وإطاعتهما تأكيدا لما سبق ، لما فيه الخير والصلاح والحياة الطيبة الدائمة السعيدة في الدنيا والآخرة. وسبيل ذلك الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد والهدى الإلهي.

ذكر الحافظ ابن كثير والبخاري عن أبي سعيد بن المعلّى رضي‌الله‌عنه قال : كنت أصلي في المسجد ، فمرّ بي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعاني فلم أجبه ، ثم أتيته فقلت : يا رسول الله ، إني كنت أصلي. فقال : ألم يقل الله عزوجل : (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) ثم قال : لأعلمنّك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج ، فذهب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليخرج فذكرت له ذلك ، فقال : الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته». قال الشافعي : هذا دليل على أن الفعل الفرض أو القول الفرض إذا أتي به في الصلاة لا تبطل ؛ لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإجابة وإن كان في الصلاة.

٢ ـ إن الله تعالى أملك لقلوب العباد منهم ، وهو المتصرف في جميع الأشياء ، سواء أكانت من أفعال القلوب والعقول أم من أفعال الأعضاء.

٢٩٤

٣ ـ وجوب تجنب أسباب الفتنة والبلاء والعذاب ، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتوحيد الكلمة ، ومحاربة البدع ، ومقاومة الانقسام ، والمدعوة إلى الوحدة بين الأمة حكاما ومحكومين ؛ لأن وباء الفتنة لا يقتصر على الظالمين خاصة ، وإنما يعمّ الجميع. لكن يجب الكف عن الخوض في خلافات الصحابة.

٤ ـ الحث على لزوم الاستقامة خوفا من عقاب الله تعالى.

٥ ـ تذكر النعم الجليلة التي أنعم الله بها على المؤمنين ، والمبادرة إلى شكرها ، والاعتبار والاتعاظ بها ، فالله يحقق لمن امتثل أوامره سعادة الدنيا ، وعزة السلطان ، والتمكين في الأرض ، والأمن من المخاوف ، والنصر على الأعداء ، ويمنحهم أيضا الفوز والنجاة والرضوان في الآخرة. فإن تنكروا للأوامر الإلهية ولم يشكروا النعم ، كحال المسلمين اليوم ، صاروا أذلة ضعافا. وسنة الله في ذلك هي : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف ٧ / ١٢٨].

خيانة الله والرسول وخيانة الأمانة

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨))

الإعراب :

(وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) فيه وجهان :

أحدهما ـ أن يكون مجزوما بالعطف على قوله تعالى : (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ).

والثاني ـ أن يكون منصوبا بأن مضمرة بعد حتى ، على جواب النهي بالواو ، كقول الشاعر :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

٢٩٥

المفردات اللغوية :

(لا تَخُونُوا) الخيانة في الأصل : النقص وإخلاف المرتجى ، ثم استعملت في الإخلال والنقص والغدر وإخفاء الشيء الذي هو ضدّ الأمانة والوفاء ، وفيه معنى النقصان. (أَماناتِكُمْ) ما ائتمنتم عليه من الدّين وغيره من التكاليف الشرعية ، والأمانة : كل حق يجب أداؤه إلى الغير. فتنة اختبار وابتلاء بما يشق على النفس فعله أو تركه ، وهي تكون في الاعتقاد والأقوال والأفعال والأشياء ، فيمتحن الله المؤمن والكافر على السواء. (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) فلا تضيعوه بمراعاة مصالح الأموال والأولاد.

سبب النزول :

روى سعيد بن منصور وغيره عن عبد الله بن أبي قتادة قال : نزلت هذه الآية : (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) في أبي لبابة بن عبد المنذر ، سأله بنو قريظة يوم قريظة : ما هذا الأمر ، فأشار إلى حلقه ، يقول : الذبح ، فنزلت ، قال أبو لبابة : ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله.

فالآية نزلت في أبي لبابة مروان بن عبد المنذر ـ وكان حليفا لبني قريظة من اليهود ـ وقد بعثه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بني قريظة ، لينزلوا على حكمه ، فاستشاروه ، فأشار إليهم أنه الذبح ؛ لأن عياله وماله وولده كانت عندهم. وذلك بعد أن حاصرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إحدى وعشرين ليلة.

قال الزهري : فلما نزلت الآية شدّ نفسه على سارية من سواري المسجد ، وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي ، فمكث تسعة أيام ـ وفي رواية : سبعة أيام ـ لا يذوق فيها طعاما حتى خرّ مغشيا عليه ، ثم تاب الله عليه ، فقيل : يا أبا لبابة قد تيب عليك ، فقال : لا والله ، لا أحلّ نفسي حتى يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي يحلّني ، فجاءه فحلّه بيده.

ثم قال أبو لبابة : إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب ، وأن انخلع من مالي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يجزيك الثلث أن تتصدق به.

٢٩٦

وروى ابن جرير وغيره عن جابر بن عبد الله : أن أبا سفيان خرج من مكة ، فأتى جبريل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا ، فاخرجوا إليه ، واكتموا ، فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان : إن محمدا يريدكم ، فخذوا حذركم ، فأنزل الله : (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) لكنه حديث غريب جدا ، مما يدل على أن الأصح نزول الآية في أبي لبابة.

المناسبة :

لما ذكر الله تعالى أنه رزق العباد من الطيبات وأنعم عليهم بالنعم الجليلة ، منعهم هنا من الخيانة في الغنائم وغيرها من التكاليف الشرعية.

التفسير والبيان :

يوجب الله تعالى في هذه الآية أداء التكاليف الشرعية بأسرها على سبيل التمام والكمال ، من غير نقص ولا إخلال.

يا أيها المؤمنون المصدقون بالله ورسله وقرآنه ، لا تخونوا الله بأن تعطلوا فرائضه أو تتعدوا حدوده ومحارمه ، ولا تخونوا الرسول بأن لا تستنوا به ولا تأتمروا بما أمركم به أو لا تنتهوا عما نهاكم عنه ، وتتبعوا أهواءكم وتقاليد آبائكم الموروثة ، ولا تخونوا أماناتكم التي تأتمنونها فيما بينكم ، بأن لا تحفظوها ، وذلك يشمل الودائع المادية ، والأسرار العامة للأمة والخاصة بالأفراد ، فتطلعوا على الأولى الأعداء ، وتفشوا الثانية بين الناس. والأمانة : الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد من الفرائض والحدود ، وخيانتها : تعطيل فرائض الدين ، والتحلل من أحكامه والاستنان بسنته ، وتضييع حقوق الآخرين.

وأنتم تعلمون أنكم تخونون ، وتعلمون تبعة ذلك ووباله ، وتميزون بين الحسن

٢٩٧

والقبيح وتعرفون مفاسد الخيانة ، يعني أن الخيانة : هي التي توجد منكم عن تعمد ، لا عن سهو.

والخيانة : تعمّ الذنوب الصغار والكبار الملازمة للإنسان والمتعدية الضرر إلى الآخرين.

والأمانة من صفات المؤمنين ، والخيانة من صفات المنافقين ، روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال : قلما خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا قال : «لا إيمان لمن لا عهد له».

وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان ، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم».

ثم إنه لما كان سبب الإقدام على الخيانة هو حبّ الأموال والأولاد ، نبّه تعالى على أنه يجب على العاقل أن يحترز عن مضار ذلك الحب ، فقال : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) أي إن الأموال والأولاد محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدوده ، وسبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم أو العذاب ؛ لأنها تشغل القلب بالدنيا ، وتحجب عن عمل الآخرة. والسبب هو أن الإنسان مفطور على حب المال ، طماع في كسبه وادخاره ، فيبخل به ، ولا يؤدي منه حقوق الله ، ولا يحسن به إلى الفقراء ولا ينفقه في أعمال البر والخير والإحسان. وحب الأولاد مما فطر عليه الإنسان أيضا ، وقد يحمل هذا الحب إلى كسب المال الحرام من أجلهم ، لذا وجب على المؤمن الحذر من المال والولد ، فيكسب المال الحلال ، وينفقه في مستحقاته وفي سبيل البر والإحسان ، ويطعم أولاده حلالا ، حتى لا ينبت جسدهم من السحت والحرام ، ولا يكون الولد سببا للجبن والبخل ، ولا يقصر الوالد في تربية أولاده على الخلق الفاضل والالتزام بأحكام الدين ، والبعد عن المعاصي والمحرمات.

٢٩٨

ثم ختم الله تعالى الآية بخاتمة مؤثرة توقظ المقصر والمتورط فقال : (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي أن ثوابه وعطاءه وجناته خير لكم من الأموال والأولاد ، فإنه قد يوجد منهم عدو ، وأكثرهم لا يغني عنك شيئا ، والله سبحانه هو المتصرف المالك للدنيا والآخرة ، فعليكم أن تؤثروا ثواب ربكم ، بمراعاة أحكام شرعه ودينه في الأموال والأولاد ، وأن تزهدوا في الدنيا ولا تحرصوا على جمع المال وحب الولد ، حتى تورطوا أنفسكم من أجلهما ، كقوله تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) [الكهف ١٨ / ٤٦].

فقه الحياة أو الأحكام :

تؤكد هذه الآيات مضمون المجموعتين السابقتين من الآيات التي تطالب بطاعة الله وطاعة الرسول ، والاستجابة لدعوة الله والرسول ، ثم يستمر التأكيد في الآية التي بعدها التي تطالب بتقوى الله أي العمل بالمأمورات واجتناب المنهيات.

وقد دلت هذه الآيات هنا على ما يلي :

١ ـ تحريم الخيانة المتعمدة مطلقا ، وإيجاب الأمانة : وهي أداء التكاليف الشرعية ، والأعمال التي ائتمن الله عليها العباد ، أي الفرائض والحدود. وأما الخيانة : فهي الإخلال بالواجبات ، والتقصير في أداء الفرائض ، وإفشاء الأسرار ، وعدم ردّ الودائع والأمانات إلى أصحابها ، وتضييع حقوق الآخرين.

٢ ـ الأموال والأولاد فتنة واختبار يمتحن به المؤمن الصادق الإيمان ، فإن كان كسب المال حلالا وإنفاقه في وجوه الخير ، نجا صاحبه من إثمه وطغيانه ، وإن ربي الوالد ولده تربية دينية خلقية ، وأطعمه الحلال الطيب ، خلص من الحساب يوم الآخرة. وإن كان العكس في كل ذلك عرّض نفسه للعقاب والإثم.

٢٩٩

وقد عرف من سبب النزول أن وجود الأموال والأولاد لأبي لبابة في بني قريظة هو الذي حمله على ملاينتهم.

٣ ـ قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) تنبيه على أن سعادات الآخرة خير من سعادات الدنيا ؛ لأنها أعظم شرفا ، وأتم فوزا ، وأخلد مدة وأثرا ؛ لأنها تبقى بقاء لا نهاية له ، لذا وصف الله تعالى الأجر بالعظم.

٤ ـ قال الرازي : يمكن الاستدلال بهذه الآية على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالزواج (النكاح) ؛ لأن الاشتغال بالنوافل يفيد الأجر العظيم عند الله ، والاشتغال بالنكاح يفيد الولد ، ويوجب الحاجة إلى المال ، وذلك فتنة.

ولكن ذلك في تقديري حيث كان الإنسان في حال اعتدال ، ثم لا شك بأن الزواج يساعد على التقوى والعفة.

تقوى الله وفضلها

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

المفردات اللغوية :

(إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) التقوى : هي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات ؛ وسميت بذلك لأنها تقي العبد من النار. (فُرْقاناً) نصرا ونجاة ، تنجون مما تخافون ، وسمي بذلك لأنه يفرق بين الحق والباطل ، وبين الكفر بإذلال حزبه والإسلام بإعزاز أهله ، ومنه سمي يوم بدر في قوله تعالى : (يَوْمَ الْفُرْقانِ) [الأنفال ٨ / ٤١] لأنه فصل بين الحق والباطل أو يجعل لكم بيانا وظهورا يشهر أمركم ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض. ورأى بعض العلماء الجدد : أنه العلم الصحيح والحكم

٣٠٠