التفسير المنير - ج ٩

الدكتور وهبة الزحيلي

المفردات اللغوية :

(يَسْئَلُونَكَ) يا محمد ، والسؤال بمعنى طلب العلم يتعدى إلى مفعولين ثانيهما ب عن ، وقد يتعدى بنفسه ، وإذا كان بمعنى طلب المال فيتعدى إلى مفعولين بنفسه ، نحو سألت زيدا مالا ، وقد يتعدى بمن مثل : سألت محمدا من ماله. والسؤال هنا سؤال استفتاء لا استعطاء ، وموجه ممن حضر معركة بدر. (عَنِ الْأَنْفالِ) غنائم بدر ، والمراد بها هنا الغنائم الحربية ، وهي ما حصل مستغنما من العدو ، بتعب كان أو بغير تعب ، قبل الظفر أو بعده. وهذا مروي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء والضحاك وقتادة وعكرمة. قال الزمخشري : النفل : الغنيمة ؛ لأنها من فضل الله تعالى. وقد يراد بالأنفال جمع نفل : ما يشترطه الإمام للمجاهد ، زيادة على سهمه. (لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي أن حكمها لله يجعلها حيث شاء ، والرسول يقسمها بأمر الله ، فقسمها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينهم على السواء ، كما رواه الحاكم في المستدرك.

(ذاتَ بَيْنِكُمْ) حقيقة ما بينكم بالمودة وترك النزاع ، وذات البين : الصلة التي تربط بين شيئين. أي الحال والصلة التي بينكم ، وتربط بعضكم ببعض وهي رابطة الإسلام ، وإصلاحها يكون بالوفاق والتعاون والمواساة والإيثار ، وترك الأثرة أو حب الذات. وقيل : إن ذات بمعنى صفة لمفعول محذوف ، أي أحوالا ذات بينكم يحصل بها اجتماعكم.

وتوسيط الأمر بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة لإظهار كمال العناية بالإصلاح.

والبين في أصل اللغة : يطلق على الاتصال والافتراق وكل ما بين طرفين ، كما قال تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام ٦ / ٩٤] برفع بين بمعنى الوصل ، وبنصبه على الظرفية بمعنى وقع التقطع بينكم. ومن استعمال البين بمعنى الافتراق والوصل قول الشاعر :

فوالله لو لا البين لم يكن الهوى

ولو لا الهوى ما حنّ للبين آلف

البين أولا : هو البعد ، والثاني : هو الوصل.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في الغنائم وفي كل أمر ونهي وقضاء وحكم. وذكر الاسم الجليل في هذا وما قبله لتربية المهابة وتعليل الحكم. وذكر الرسول مع الله تعالى لتعظيم شأنه والاعلام بأن طاعته طاعة لله تعالى.

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) متعلق بالأوامر الثلاثة ، والجواب محذوف لدلالة ما تقدم عليه ، أي فامتثلوا الأوامر الثلاثة. والمراد بالإيمان : التصديق ، وقد يراد به كمال الإيمان.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) الكاملو الإيمان. (ذُكِرَ اللهُ) أي وعيده. (وَجِلَتْ) خافت وفزعت. (زادَتْهُمْ إِيماناً) تصديقا. (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) به يثقون لا بغيره وعليه يعتمدون وإليه

٢٤١

يفوضون. (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) يأتون بها كاملة بحقوقها. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) أعطيناهم. (يُنْفِقُونَ) في طاعة الله. (أُولئِكَ) الموصوف بما ذكر. (حَقًّا) صدقا بلا شك. (لَهُمْ دَرَجاتٌ) منازل عالية رفيعة في الجنة. (عِنْدَ رَبِّهِمْ) في الجنة.

سبب النزول : نزول الآية (١) :

أخرج أحمد وابن حبان والحاكم عن عبادة بن الصامت رضي‌الله‌عنه أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كيف تقسم ، ولمن الحكم فيها ، أهي للمهاجرين ، أم للأنصار ، أم لهم جميعا؟ فنزلت.

وأخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال ، فقال : فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النّفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فانتزعه الله من أيدينا ، وجعله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقسمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المسلمين عن بواء ، أي عن سواء.

وروى أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا ، فتسارع في ذلك شبان القوم ، وبقي الشيوخ تحت الرايات ، فلما كانت المغانم ، جاؤوا يطلبون الذي جعل لهم ، فقال الشيوخ : لا تستأثروا علينا ، فإنا كنا ردءا لكم ، لو انكشفتم لفئتم إلينا ، فتنازعوا ، فأنزل الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) ـ إلى قوله ـ (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن سعد بن أبي وقاص أنه قتل سعيد بن العاص ، وأخذ سيفه ، واستوهبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمنعه إياه ، وأن الآية نزلت في ذلك ، فأعطاه إياه ؛ لأن الأمر كله إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولا تعارض بين هذه الروايات ، فالآية نزلت في شأن قسمة غنائم بدر ، لما اختلف المسلمون في قسمتها ، إلا أن بعض الروايات تذكر سببا عاما للخلاف ،

٢٤٢

وبعضها تذكر سببا خاصا ، ولا مانع من وقوع الأمرين معا. قال الجصاص : والصحيح أنه لم يتقدم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قول في الغنائم قبل القتال ، فلما فرغوا من القتال ، تنازعوا في الغنائم ، فأنزل الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) فجعل أمرها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن يجعلها لمن شاء ، فقسمها بينهم على السواء (١).

وإحلال الغنائم مما اختص الله به الأمة الإسلامية ، فهي من خصائص الإسلام بدليل ما ثبت في الصحيحين عن جابر رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ـ فذكر الحديث إلى أن قال ـ وأحلت لي الغنائم ، ولم تحل لأحد قبلي».

قال أبو عبيد : ولهذا سمي ما جعل الإمام للمقاتلة نفلا : وهو تفضيله بعض الجيش على بعض بشيء سوى سهامهم ، يفعل ذلك بهم على قدر الغناء (النفع) عن الإسلام ، والنكاية في العدو.

وفي التنفيل (إعطاء النفل لبعض المقاتلين تشجيعا على القتال) سنن أربع لكل منها موضع :

١ ـ لا خمس في النفل الذي هو السّلب ، أي ما يكون مع القتيل من سلاح ومال ومتاع.

٢ ـ النفل يكون من الغنيمة بعد إخراج الخمس المنصوص عليه في آية : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال ٨ / ٤١]. وهو أن يوجه الإمام السرايا في أرض الحرب ، فتأتي بالغنائم ، فيكون للسرية مما جاءت به الربع أو الثلث ، بعد الخمس الحديث رواه أحمد وأبو داود عن معن بن يزيد : «لا نفل إلا بعد الخمس».

٣ ـ النفل الذي يكون من الخمس نفسه : هو ما يخرجه الإمام من حصته ،

__________________

(١) أحكام القرآن : ٣ / ٤٥.

٢٤٣

وهو أن تحاز الغنيمة كلها ، ثم تخمس ، فإذا صار الخمس في يدي الإمام ، نفل منه على قدر ما يرى.

٤ ـ النفل الخارج من جملة الغنيمة قبل أن يخمس منها شيء : هو أن يعطى الأدلاء ورعاة الماشية والسواق لها (١).

واختلف الفقهاء في هذه الأحوال الأربع ، فقال الشافعي : الأنفال ألا يخرج من رأس الغنيمة قبل الخمس شيء غير السّلب. قال أبو عبيد : والوجه الثاني من النفل من خمس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن له خمس الخمس من كل غنيمة. والوجه الثالث يعطى للسرية أو الجيش الذي بعثه الإمام على وفق ما شرطه لهم. ومذهب مالك وأبي حنيفة رحمهما‌الله كالشافعي أن الأنفال مواهب الإمام من الخمس ، على ما يرى من الاجتهاد ، وليس في الأربعة الأخماس نفل ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم» وقال المالكية : النفل قسمان : جائز ومكروه ، فالجائز بعد القتال ، والمكروه أن يقال قبل القتل : من فعل كذا وكذا فله كذا. وإنما كره هذا ؛ لأن القتال فيه يكون للغنيمة.

التفسير والبيان :

يسألونك أيها الرسول عن حكم الأنفال أي الغنائم لمن هي ، وكيف تقسم؟ فقل لهم: إن حكمها لله أولا يحكم فيها بما يريد ، ثم للرسول يقسمها بينكم كما أمر الله ، فأمرها مفوض إلى الله ورسوله. وهذه الآية محكمة مجملة ، بيّن إجمالها وفصل مصارفها آية أخرى في السورة نفسها هي قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ...) [الأنفال ٨ / ٤١] فلا تكون هذه ناسخة لتلك ، وإنما توزع الغنائم ، الخمس لهؤلاء المذكورين في هذه الآية ، والأربعة الأخماس الباقية للغانمين. أما

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٨٤.

٢٤٤

اليوم بعد تنظيم الجيوش ومنح رواتب دائمة للجند فتؤول للدولة.

وللإمام بموجب هذا التفويض أن ينفل من شاء من المقاتلة تحريضا على القتال ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم حنين فيما أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي قتادة : «من قتل قتيلا فله سلبه».

وإذا كان أمر الغنائم لله ورسوله فاتقوا الله سبحانه في أقوالكم وأفعالكم ، واجتنبوا ما كنتم فيه من التنازع والاختلاف فيها ، الموجب لسخط الله وغضبه ، والموقع في الفرقة والعداوة الضارة بكم حال الحرب وغيرها.

(وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) من الأحوال ، حتى تتأكد الرابطة الإسلامية بين بعضكم ، وتشيع المحبة والمودة والوفاق والوئام بين صفوفكم ، وبعبارة أخرى : اجعلوا ما كان موصولا على أصله ، فهو سبب الوصل.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في الغنائم وفي كل ما أمر به ونهى عنه ، وقضى به وحكم.

هذه الأمور الثلاثة (تقوى الله ، وإصلاح ذات البين ، وإطاعة أوامر الله والرسول) يتوقف عليها صلاح الجماعة الإسلامية ؛ لأنها توفر معنى الانضباط والالتزام في السر والعلن لأحكام الشرع ، وتوحد الكلمة والصف ، وتكفل طاعة القيادة المخلصة الحكيمة.

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مصدّقين كلام الله وكاملي الإيمان ، فامتثلوا هذه الأوامر الثلاثة ، فإن التصديق الحق يقتضي الامتثال ، وكمال الإيمان يوجب هذه الخصال الثلاثة : الاتقاء ، والإصلاح ، وإطاعة الله تعالى ورسوله ، فالمؤمن بالله حقا يستحي من عصيانه ، ويدفعه إيمانه إلى طاعة ربه ، وإلى إصلاح ما بينه وبين الآخرين من خلاف.

وإذا كان الإيمان مستلزما للطاعة ، فإن الله تعالى ذكر خمس صفات

٢٤٥

للمؤمنين تدفعهم إلى تحقيق الخصال الثلاثة المتقدمة ، فقال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ...) وهذه الصفات هي ما يأتي :

١ ـ الخوف التام من الله : الذين إذا ذكروا الله بقلوبهم ، وأحسوا بعظمته وجلاله ، وتذكروا وعده ووعيده ، خافوا منه أتم الخوف. كما قال تعالى في آية أخرى : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ، الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ...) [الحج ٢٢ / ٣٤ ـ ٣٥].

٢ ـ زيادة الإيمان بتلاوة القرآن : الذين إذا تليت عليهم آياته القرآنية ، زادتهم إيمانا ويقينا وتصديقا ، وإقبالا على العمل الصالح ؛ لأن كثرة الأدلة والتذكير بها ، يوجب زيادة اليقين ، وقوة الاعتقاد ، فالرؤية البصرية أو الحسية مثلا تقوي القناعة الذاتية ، كما حدث لإبراهيم عليه‌السلام الذي كان مؤمنا ، وطلب من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى : (قالَ : أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ : بَلى ، وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة ٢ / ٢٦٠] وهذا يدل على أن منزلة الطمأنينة في الإيمان أقوى وأعلى من مجرد الإيمان. ونظير الآية قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) [الفتح ٤٨ / ٤] وقوله : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؟ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [التوبة ٩ / ١٢٤].

٣ ـ التوكل على الله أي الاعتماد عليه والثقة به والتفويض إليه : الذين يتوكلون على ربهم وحده ، وإليه يلجأون ، ولا يرجون غيره ، ولا يقصدون إلا إياه ، ولا يطلبون الحوائج إلا منه ، وذلك بعد اتخاذ الأسباب ، فمن تعاطى الأسباب المطلوبة منه عقلا وعادة ، ثم فوض الأمر لله ، وأيقن أن الأمر كله بيد الله ، فهو من أهل الإيمان. أما ترك الأسباب فهو جهل بمفهوم التوكل.

٤ ـ إقامة الصلاة : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) ، أي يؤدونها كاملة الأركان

٢٤٦

والشروط من قيام وركوع وسجود وتلاوة وأذكار في مواقيتها المعينة شرعا ، مع خشوع القلب ، ومناجاة الرحمن ، وتدبر قراءة القرآن.

٥ ـ الإنفاق في سبيل الله : الذين ينفقون بعض أموالهم في وجوه الخير بإخراج الزكاة المفروضة ، وأداء الصدقات التطوعية ، والنفقات الواجبة للأصول والأهل ، والمندوبة للأقارب والمحتاجين وفي مصالح الأمة وجهاد العدو ، فإن الأموال عواري وودائع عند الإنسان لا بد أن يفارقها.

وهذه الأعمال تشمل أنواع الخير كلها ، لذا قال تعالى بعد بيانها : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي أولئك الموصوفون : بما ذكرهم دون غيرهم المؤمنون حق الإيمان. وقد أشير إليهم بأولئك المفيد للبعد لبيان كمالهم وعلو منزلتهم.

روى الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصاري رضي‌الله‌عنه أنه مرّ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال له : «كيف أصبحت يا حارثة؟ قال : أصبحت مؤمنا حقا ، قال : انظر ماذا تقول ، فإن لكل شيء حقيقة ، فما حقيقة إيمانك؟ قال : عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي ، وأظمأت نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون (١) فيها ، فقال : يا حارثة ، عرفت فالزم ـ ثلاثا».

هذه صفات المؤمنين ، أما المنافقون فقال ابن عباس عنهم : المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه ، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ، ولا يتوكلون ، ولا يصلون إذا غابوا ، ولا يؤدون زكاة أموالهم ، فأخبر الله تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين ، ثم وصف الله المؤمنين ، فقال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ...).

__________________

(١) يصيحون ويبكون.

٢٤٧

ثم ذكر الله جزاء المؤمنين الموصوفين بما ذكر ، عند ربهم ، فقال : (لَهُمْ دَرَجاتٌ ...) أي لهم منازل ومقامات ودرجات في الجنات على حسب أعمالهم ونواياهم ، كما قال تعالى: (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ ، وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) [آل عمران ٣ / ١٦٣]. ولهم مغفرة أي يغفر الله لهم السيئات ، يشكر لهم الحسنات ، ولهم رزق كريم : وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة. والكريم : وصف لكل شيء حسن.

قال الضحاك في قوله : (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) : أهل الجنة (بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ) ، فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه ، ولا يرى الذي هو أسفل منه أنه فضل عليه أحد ، ولهذا جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن أهل عليين ليراهم من أسفل منهم ، كما ترون الكوكب الغابر في أفق من آفاق السماء» قالوا : يا رسول الله ، تلك منازل الأنبياء ، لا ينالها غيرهم ، فقال : «بلى والذي نفسي بيده ، رجال آمنوا بالله ، وصدقوا المرسلين».

وفي الحديث الآخر الذي رواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الدرجات العلى ، كما تراءون الكوكب الغابر في أفق السماء ، وإن أبا بكر وعمر منهم ، وأنعما».

فالمؤمنون متفاوتو الدرجة في الآخرة ، وكذلك الرسل درجات ، بدليل قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) [البقرة ٢ / ٢٥٣] وفضل الله المهاجرين المجاهدين على غيرهم ، فقال : (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) [التوبة ٩ / ٢٠].

وهناك تفاوت أيضا في درجات الدنيا ، لقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ ، وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ، لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ، إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام ٦ / ١٦٥].

٢٤٨

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى الأحكام التالية :

١ ـ ليس كل نزاع أو خلاف شرا ، فقد يؤدي الخلاف إلى خير ، وقد كان خلاف الصحابة سببا في بيان حكم الأنفال.

٢ ـ كان الصحابة حريصين على السؤال عما يهم من أمور الدين.

٣ ـ الله تعالى مصدر الأحكام الشرعية حقيقة ، ومرجع إصدار الأحكام إلى الله أولا ثم إلى الرسول ، لا إلى غيرهما ، وقسمة الغنائم فعلا مفوض أمرها إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقوله: (لِلَّهِ) استفتاح كلام ، وابتداء بالحق الذي ليس وراءه مرمى ، الكل لله. وقوله : (وَالرَّسُولِ) قيل وهو الأصح عند ابن العربي : أراد به ملكا ، وقيل : أراد به ولاية قسم وبيان حكم. ودليل الأول قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود فيكم» فهو مالك له حقيقة ، ثم يرده إلى المسلمين تفضلا.

٤ ـ صلاح الجماعة وقوة الأمة وعزتها مرهون بأمور ثلاثة : تقوى الله في السر والعلن ، وإصلاح ذات البين ، أي الحال التي يقع بها الاجتماع ، وطاعة الله والرسول.

٥ ـ امتثال أمر الله تعالى من ثمرات الإيمان ، وإن سبيل المؤمن أن يمتثل أوامر الله.

٦ ـ آية : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ ...) تحريض على إلزام طاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أمر به من قسمة الغنائم.

٧ ـ أوصاف المؤمنين الصحيحة :

٢٤٩

أولا ـ الخوف من الله ، لقوة إيمانهم ومراعاتهم لربهم ، وكأنهم بين يديه ، فسبب الخوف : كمال المعرفة وثقة القلب.

ثانيا ـ زيادة الإيمان عند تلاوة آي القرآن وقد وصف الله أهل المعرفة عند تلاوة كتابه فقال : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) [المائدة ٥ / ٨٣].

ثالثا ـ التوكل على ربهم أي لا يرجون سواه ، ولا يقصدون إلا إياه ، ولا يلوذون إلا بجنابه ، ولا يطلبون الحوائج إلا منه ، ولا يرغبون إلا إليه ، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له ، ولا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب.

رابعا ـ إقامة الصلاة : قال قتادة : إقامة الصلاة : المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها.

خامسا ـ الإنفاق مما رزق الله في سبيل الله ، أي طرق الخير والبر والإحسان.

٨ ـ دل قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) على أن لكل شيء حقيقة ، وأكد ذلك قصة حارثة. وسأل رجل الحسن فقال : يا أبا سعيد ؛ أمؤمن أنت؟ فقال له : الإيمان إيمانان ، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب ، فأنا به مؤمن. وإن كنت تسألني عن قول الله تبارك وتعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) إلى قوله ـ (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) فوالله ما أدري أنا منهم أم لا.

٩ ـ زيادة الإيمان ونقصانه : استدل أكثر الأئمة كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد والبخاري وغيرهم الذين يقولون : إن الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد

٢٥٠

والإقرار والعمل ، استدلوا بهذه الآية : (زادَتْهُمْ إِيماناً) وأشباهها على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب بزيادة الأعمال الصالحة ، ولو كان الإيمان عبارة عن المعرفة والإقرار ، لما قبل الزيادة. واستدلوا على أن الإيمان هو مجموع الأركان الثلاثة بقوله تعالى في تعداد أوصاف المؤمنين : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) وهو يدل على أن كل تلك الخصال داخل في مسمى الإيمان. ويؤيده الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «الإيمان بضع وسبعون شعبة ، فأفضلها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان».

كراهية بعض المؤمنين قتال قريش في بدر

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨))

الإعراب :

(كَما أَخْرَجَكَ) الكاف للتشبيه ، وفيها ثلاثة أوجه :

الأول ـ أنها في موضع نصب على أنه صفة لمصدر محذوف دلّ عليه الكلام ، وتقديره : قل : الأنفال ثابتة لله والرسول ثبوتا كما أخرجك ربك. فمحل الكاف صفة مصدر الفعل المقدر في قوله : (لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي الأنفال تثبت لله والرسول عليه الصلاة والسّلام مع كراهتهم ، ثباتا مثل ثبات إخراجك (رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ) ، يعني المدينة ، مع كراهتهم.

الثاني ـ أن تكون صفة لمصدر محذوف ، وتقديره : يجادلونك جدالا كما أخرجك.

٢٥١

الثالث ـ أن يكون وصفا لقوله : (حَقًّا) ، وتقديره : أولئك هم المؤمنون حقا كما أخرجك.

وذكر الزمخشري وجها آخر وهو أن يرتفع محل الكاف على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هذا الحال كحال إخراجك ، يعنى أن حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهتهم خروجك للحرب. (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) الجملة حال من كاف : (أَخْرَجَكَ).

(وَإِذْ يَعِدُكُمُ) إذ : متعلق ومنصوب بفعل مقدر ، تقديره : واذكر يا محمد إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم. و (إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) : مفعول ثان ليعد ، والمفعول الأول كاف (يَعِدُكُمُ). و (أَنَّها لَكُمْ) : بدل من قوله : (إِحْدَى) ، وهو بدل اشتمال ، تقديره : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ) أن ملك إحدى الطائفتين لكم ، ولا بد من تقدير حذف المضاف ؛ لأن الوعد إنما يقع على الأحداث لا على الأعيان. (لِيُحِقَّ الْحَقَ) متعلق بمحذوف تقديره : يفعل ما فعل.

البلاغة :

(كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) تشبيه تمثيلي.

(أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ) بينهما جناس اشتقاق.

(ذاتِ الشَّوْكَةِ) استعارة ، استعار الشوكة للسلاح بجامع الشدة والحدة والوخز بينهما.

(وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) كناية عن استئصالهم بالهلاك.

المفردات اللغوية :

(يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ) القتال. (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) ظهر لهم. (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) إليه عيانا في كراهتهم له. (إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) العير الآتية من الشام أو النفير التي جاءت من مكة للنجدة. (وَتَوَدُّونَ) تريدون. (الشَّوْكَةِ) البأس والسلاح الذي فيه الحدة والقوة ، و (غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ) هي العير. (تَكُونُ لَكُمْ) لقلة عددها وعددها بخلاف النفير. (يُحِقَّ الْحَقَ) يظهره. (بِكَلِماتِهِ) السابقة ، بظهور الإسلام. (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) يستأصل آخرهم الذي يأتي من ورائهم ، لذا أمرهم بقتال النفير. و (لِيُحِقَّ الْحَقَ) يعز الإسلام لأنه الحق. (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) يمحق الكفر والشرك ويزيله. (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) المشركون ذلك.

٢٥٢

سبب النزول :

نزول الآية (٥) :

(كَما أَخْرَجَكَ) : أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري قال : قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونحن بالمدينة ، وبلغه أن عير أبي سفيان قد أقبلت : ما ترون فيها ، لعلّ الله يغنمناها ويسلمنا؟ فخرجنا ، فسرنا يوما أو يومين ، فقال : ما ترون فيهم؟ فقلنا : يا رسول الله ، ما لنا طاقة بقتال القوم ، إنما خرجنا للعير ، فقال المقداد : لا تقولوا كما قال قوم موسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا ، إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ، فأنزل الله : (ما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ).

المناسبة :

تتضح المناسبة بين هذه الآيات وبين ما قبلها من الكاف في (كَما أَخْرَجَكَ) الذي يقتضي تشبيه شيء بهذا الإخراج ، وأحسن وجوه الربط تشبيه كراهية الصحابة لحكم الأنفال وإن رضوا به ، بكراهيتهم لخروجك من بيتك بالحق إلى القتال في بدر ، فهم رضوا بحكم الأنفال ، ولكنهم كانوا كارهين له ، كما أخرجك ربك من بيتك بالحق إلى القتال ، وإن كانوا كارهين له.

وفي وجه آخر : الأنفال ثابتة لك ، مثل إخراجك ربك من بيتك بالحق ، والمعنى : امض لأمرك في الغنائم ونفّل من شئت ، وإن كرهوا.

وقيل : (كَما أَخْرَجَكَ) متعلق بقوله : (لَهُمْ دَرَجاتٌ) والمعنى : هذا الوعد للمؤمنين حق في الآخرة ، كما أخرجك ربك من بيتك بالحق الواجب له ، فأنجزك وعده ، وأظفرك بعدوك ، وأوفى لك ، فكما أنجز هذا الوعد في الدنيا ، كذا ينجزكم ما وعدكم به في الآخرة.

٢٥٣

أضواء من السيرة على موقعة بدر :

هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصحبه الذين آمنوا به من مكة إلى المدينة ، بسبب اشتداد أذى قريش لهم ، وترك المسلمون أموالهم وأرضهم وديارهم للمشركين في مكة.

فلما سمع رسول الله بأن قافلة لقريش محملة بالمؤن والأموال الكثيرة بزعامة أبي سفيان ، قادمة من الشام ، مع أربعين نفرا من قريش ، انتدب المسلمين إليهم ، وقال : هذه عير قريش فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها ، لعلّ الله أن ينفّلكموها. فخرج معه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، واتجهوا نحو ساحل البحر على طريق بدر.

وكان أبو سفيان قد بعث حين دنا من الحجاز من يتجسس الأخبار ، فعلم بخروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طلبه ، فبعث ضمضم بن عمرو الغفاري نذيرا إلى أهل مكة ، يستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها مع أصحابه ، فنهضوا قريبا من ألف ، وتيامن أبو سفيان بالعير إلى سيف البحر (طريق الشاطئ) محاذيا له ، فنجا بالعير والتجارة ، وجاء النفير ، فوردوا ماء بدر ، وذلك بعد أن جمعوا جموعهم ، واستنفر أبو جهل الناس من فوق الكعبة قائلا : النجاء ، النجاء ، على كل صعب وذلول ، عيركم وأموالكم ، إن أصابها محمد فلن تفلحوا أبدا. وخرج أبو جهل على رأس النفير ، وهم أهل مكة ، ثم قيل له : إن العير أخذت طريق الساحل ، ونجت ، فارجع بالناس إلى مكة ، فقال : لا ، والله ، لا يكون ذلك أبدا ، حتى ننحر الجزور ، ونشرب الخمور ، وتعزف القيان ببدر ، فيتسامع جميع العرب بنا ، وبخروجنا ، وأن محمدا لم يصب العير.

فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس بما حدث واستشارهم ، فقام أبو بكر رضي‌الله‌عنه فقال فأحسن ، ثم قام عمر فقال فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو ، فقال : يا رسول الله ، امض لما أمرك الله به ، فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت

٢٥٤

بنو إسرائيل لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا ، إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) [المائدة ٥ / ٢٤] ولكن : اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق ، لو سرت بنا إلى برك الغماد (مدينة باليمن) لجالدنا معك من دونه ، حتى نبلغه.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيرا ، ودعا له بخير. وقال الأنصار : فتمنينا معشر الأنصار أن لو قلنا كما قال المقداد ، أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم.

ثم قال الرسول : «أشيروا علي أيها الناس» وكأنه يريد الأنصار ، إذ كانت بيعة العقبة معهم أن ينصروه ويدافعوا عنه في دارهم بالمدينة ، وتخوّف ألا ينصرونه خارج المدينة ، كما شرطوا ذلك في عهدهم ، فقال سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال : أجل ، فقال : قد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أمرك الله ، فوالذي بعثك بالحق ، لئن استعرضت بنا هذا البحر ، فخضته لخضناه معك ، ما يتخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك ، فسر بنا على بركة الله. فسرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقول سعد ، ونشّطه ذلك ثم قال :

«سيروا على بركة الله ، وأبشروا ، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين : العير القادمة من الشام ، وعلى رأسها أبو سفيان ، أو النفير الآتي من مكة ، لنجدتهم ، وعلى رأسهم أبو جهل ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم» (١).

__________________

(١) هذا ما رواه محمد بن إسحاق في سيرته عن عبد الله بن عباس (انظر تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٨٨ وما بعدها).

٢٥٥

التفسير والبيان :

إن حال الصحابة في كراهة تنفيل المقاتلة وقسمة الغنائم بالسوية مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب من بيتك بالمدينة أو المدينة نفسها ؛ لأنها موضع هجرته ومسكنه ، أو لأن بيته فيها ، وكان إخراجا بالحق ، أي متلبسا بالحكمة والصواب ، وكان فريق من المؤمنين يكرهون الخروج ، لعدم استعدادهم للقتال ، لذا فإنه أخرجك في حال كراهيتهم الخروج ، فالتشبيه بين الحالتين في مطلق الكراهة ؛ لأن بعض المسلمين في بدر كرهوا أمرين :

أولهما ـ كرهوا قسمة الغنيمة بينهم بالتساوي ، وكانت تلك الكراهة من الشبان فقط ؛ لأنهم هم الذين قاتلوا وغنموا.

وثانيهما ـ كرهوا قتال قريش ؛ لأنهم خرجوا من المدينة بقصد الغنيمة ولم يستعدوا للقتال.

ولكن الله تعالى قال لهم في الأمرين : كما أنكم اختلفتم في المغانم وتنازعتم فيها ، فانتزعها الله منكم ، وجعل قسمتها على يد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقسمها على العدل والتسوية ، فكان هذا هو المصلحة التامة لكم ، كذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء وقتال ذات الشوكة وهم النفير الذين خرجوا لنصر دينهم وإحراز عيرهم ، فكان عاقبة كراهتكم للقتال بأن قدره لكم ، وجمع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد ، رشدا وهدى ، ونصرا وفتحا.

والنتيجة من الأمرين : أن امتثال أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل منهما هو الخير والمصلحة والرشاد.

يجادلك المؤمنون في الحق والرأي السديد وهو تلقي النفير ، لإيثارهم عليه أخذ العير ، بسبب قلة الرجال وكثرة المال ، والخوف من قتال المشركين الأكثر عددا وعددا ، يجادلونك بعد ما تبين لهم الحق وظهر الصواب ، بإخبارك أنهم

٢٥٦

سينتصرون على كل حال ، وأن الله وعدك إحدى الطائفتين : العير أو النفير ، وبما أن العير قد نجت ، فلم يبق إلا النفير ، ولا داعي للقول بأننا لم نستعد للقتال ، ولا وجه للجدل بعد ما تبين الحق وهو إعلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنهم ينصرون ، وحينئذ لا عذر لهم إلا خوفهم من القتال وجبنهم عن مقابلة الأعداء.

ثم شبّه حالهم في فرط فزعهم ورعبهم ، وهم سائرون إلى الظفر والغنيمة بحال من يساق صاغرا إلى الموت المتيقن ، وهو مشاهد أسبابه ، ناظر إليها ، لا يشك فيها.

لكن الله تعالى وعد رسوله والمؤمنين بالنصر ، ووعده لا يتخلف ، أما الحساب الظاهري لميزان القوى ، فكثيرا ما يظهر عكسه ، إذ (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ).

واذكروا حين وعدكم الله ملك إحدى الطائفتين : العير أو النفير ، لكي تكون السلطة والغلبة لكم.

وتتمنون أن تكون غير ذات الشوكة أي السلاح والقوة والمنعة وهي العير (القافلة) لكم ؛ لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا. وقد عبر عنها بذلك تعريضا لكراهتهم القتال وطمعهم في المال. والشوكة كانت في النفير لكثرة عددهم وتفوق عدتهم وأسلحتهم.

ويريد الله لكم غير هذا وهو مقابلة النفير الذي له الشوكة والقوة ، لينهزم المشركون ، وينتصر المؤمنون ، ويثبت الله الحق ويعليه بكلماته ، أي بآياته المنزلة على رسوله في محاربة المشركين ذوي الشوكة ، وبما أمر الملائكة من نزولهم لنصرة المسلمين ، وبما قضى من أسرهم وقتلهم ، وطرحهم في قليب (بئر) بدر.

ويريد الله أن يهلك المعاندين ، ويستأصل شأفة المشركين ، ويمحق قوتهم ، ويبدد آثارهم.

٢٥٧

وقد فعل الله ما فعل ، ووعد بما وعد ، وأنجز النصر للمؤمنين ، ليحق الحق ، أي يثبت الإسلام ويظهره ، ويبطل الباطل أي يمحق الكفر والشرك ويزيله ، (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) ، أي المعتدون الطغاة. ولا يكون ذلك بمجرد الاستيلاء على العير ، بل بقتل أئمة الكفر وزعماء الشرك.

وبما أن الحق حق لذاته ، والباطل باطل لذاته ، وما ثبت للشيء لذاته ، فإنه يمتنع تحصيله بجعل جاعل ، فيكون المراد من تحقيق الحق وإبطال الباطل إظهار كون ذلك الحق حقا ، وإظهار كون ذلك الباطل باطلا ، إما بإظهار الدلائل والبينات ، وإما بتقوية رؤساء الحق ، وقهر رؤساء الباطل.

وليس هذا تكريرا لما سبق من إحقاق الحق ؛ لأن المعنيين متباينان ؛ لأن الأول لبيان مراد الله وأن هناك تفاوتا بينه وبين مرادهم ، أي الصحابة ، والثاني بيان الداعي والغرض فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم ونصرتهم عليها ، وأنه ما نصرهم ولا خذل أولئك إلا لهذا الغرض ، وهو التغلب على صاحبة القوة.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ الخير والمصلحة فيما أمر الله به ، وليس فيما يرى الإنسان ، فقد يرى ما هو ضار نافعا ، وما هو نافع ضارا.

٢ ـ فعل العبد بخلق الله تعالى في رأي أهل السنة ، بدليل قوله تعالى : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) فإنه روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما خرج من بيته باختيار نفسه ، ثم إنه تعالى أضاف ذلك الخروج إلى نفسه ، ليدل على أنه خالق أفعال العباد.

٢٥٨

والمعنى عند المعتزلة : أنه حصل ذلك الخروج بأمر الله تعالى وإلزامه ، فأضيف إليه. لكن هذا مجاز ، والأصل حمل الكلام على الحقيقة.

وتمسك أهل السنة أيضا في مسألة خلق الأفعال بقوله تعالى : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) أي أنه يوجد الحق ويكونه ، والحق ليس إلا الدين والاعتقاد ، فدلّ هذا على أن الاعتقاد الحق لا يحصل إلا بتكوين الله تعالى وخلقه.

وتمسك المعتزلة بعين هذه الآية على صحة مذهبهم ، فقالوا : هذه الآية تدل على أنه تعالى إنما يريد أبدا تحقيق الحق وإبطال الباطل ، وأنه لا صحة لقول من يقول : إنه لا باطل ولا كفر إلا والله تعالى مريد له.

وردّ أهل السنة على ذلك بأن المقرر في أصول الفقه أن المفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق ، أي أنه تعالى أراد تحقيق الحق وإبطال الباطل في هذه الصورة.

٣ ـ الحق حق أبدا ، ولكن إظهاره تحقيق له ؛ لأنه إذا لم يظهر أشبه الباطل. والإسلام هو الحق ، وهو الذي يريد الله إظهاره وإعزازه ، كما قال تعالى : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [الصف ٦١ / ٩] وقال : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) [الأنبياء ٢١ / ١٨].

٤ ـ لا قرار للباطل ، ولكن لا بد من إبطاله وإعدامه ، كما أن إحقاق الحق إظهاره ، والكفر والشرك هو الباطل ، فيريد الله استئصال أهله الكافرين بالهلاك.

٥ ـ أراد الله في بدر أن يجمع بين المؤمنين القلّة وبين الكافرين الكثر أهل الشوكة والقتال ، لينصرهم عليهم ، ويظهر دينه ، ويرفع كلمة الإسلام ، ويجعله غالبا على الأديان ، وهو أعلم بعواقب الأمور ، وهو الذي يحسن التدبير لعباده

٢٥٩

المؤمنين ، وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم ، كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ ، وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً ، وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة ٢ / ٢١٦].

٦ ـ دلّ خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلقى العير قبل معركة بدر على جواز النفير للغنيمة ؛ لأنها كسب حلال ، والله وعد المؤمنين إحدى الطائفتين : العير أو النفير.

الإمداد بالملائكة في معركة بدر وإلقاء النعاس وإنزال المطر

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤))

٢٦٠