التفسير المنير - ج ٩

الدكتور وهبة الزحيلي

وقد تبيّن لدينا في تفسير الآية أن هذه الأصول ثلاث :

أخذ بالعفو : أي المعاملة باللين ، والبيان باللطف ، ونفي الحرج في الأخذ والإعطاء والتّكليف ، ويشمل ترك التّشدّد في كلّ ما يتعلّق بالحقوق المالية ، والتّخلّق مع الناس بالخلق الطّيّب ، وترك الغلظة والفظاظة ، والدّعوة إلى الدّين الحقّ بالرّفق واللّطف. وهذا النّوع من الحقوق مما يقبل التّساهل والتّسامح فيه.

وأمر بالمعروف : وهو كلّ ما عرف شرعا وعقلا وعادة من جميل الأفعال وألوان الخير. وهذا النّوع من الحقوق لا يقبل التّسامح والتّساهل. ويشمل كل ما أمر به الشرع ، وكل ما نهى عنه من الأقوال والأفعال. والمأمورات والمنهيّات معروف حكمها ، مستقرّ في الشّريعة موضعها ، والقلوب متّفقة على العلم بها. والفرد والجماعة مطالبان بمقتضى هذا الأمر ، والإعلان الدّائم عن المعروف والأمر به ، والنّهي عن المنكر وإخفائه.

وإعراض عن الجاهلين : وهم السّفهاء ، ففي أثناء الأمر بالمعروف والتّرغيب فيه ، والنّهي عن المنكر والتّنفير منه ، ربّما أقدم بعض الجاهلين على السّفاهة والإيذاء ، فيكون الإعراض عنهم هو المتعيّن ، اتّقاء لشرّهم ، وصيانة للدّاعية عن أذاهم ، ورفعا لقدره عن مجاوبتهم. وذلك يتناول جانب الصّفح بالصّبر.

وهذه الأوامر الخلقية الثلاث ، وإن كان الخطاب فيها من الله لنبيّه عليه الصّلاة والسّلام ، فهو تأديب لجميع خلقه.

والصحيح ـ كما ذكر المفسرون مثل القرطبي والرازي وابن كثير وغيرهم ـ أن هذا الآية محكمة غير منسوخة ، كما قال مجاهد وقتادة ، بدليل ما رواه البخاري عن عبد الله بن عباس قال : قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ، فنزل على ابن أخيه الحرّ بن قيس بن حصن ، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر ، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته ، كهولا كانوا أو شبّانا ، فقال عيينة لابن أخيه :

٢٢١

يا ابن أخي ، هل لك وجه عند هذا الأمير ، فتستأذن لي عليه. قال : سأستأذن لك عليه ؛ فاستأذن لعيينة. فلما دخل قال : يا ابن الخطاب ، والله ما تعطينا الجزل ، ولا تحكم بيننا بالعدل! قال : فغضب عمر ، حتى همّ بأن يقع به. فقال الحرّ : يا أمير المؤمنين ، إن الله قال لنبيه عليه الصلاة والسّلام : (خُذِ الْعَفْوَ ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) وإن هذا من الجاهلين. فوالله ، ما جاوزها عمر حين تلاها عليه ، وكان وقّافا (١) عند كتاب الله عزوجل. وكذلك شتم عصام بن المصطلق الحسن بن علي وشتم أباه ، فنظر إليه نظرة عاطف رؤف ، ثم قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم : (خُذِ الْعَفْوَ ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)(٢).

فالتزام عمر بالآية ، وكذا التزام الحسن بن علي بها دليل على أنها محكمة. ففي حالة التعمد بالجفاء على السلطان والاستخفاف بحقه يستحق التعزير ، وفي غير ذلك يكون الإعراض والصفح والعفو ، كما فعل عمر.

وأما بقية الآيات فجعلت الناس قسمين : المؤمنين المتقين ، وإخوان الشياطين. أما المؤمنون المتقون فإنه إذا مسهم طائف من الشيطان وألمت بهم لمّة تحملهم على المعاصي ، تذكروا أمر الله ونهيه ، وثوابه وعقابه ، فأبصروا الحق وحذروا وسلموا ، وإن تورطوا في المعصية ندموا وتابوا ورجعوا إلى الله تعالى.

والاستعاذة بالله عند وسوسة الشيطان وإغرائه بالمعصية : أن يتذكر المرء عظيم نعم الله عليه ، وشديد عقابه ، فيدعوه كل واحد من الأمرين إلى الإعراض عن هوى النفس ، والإقدام على طاعة أمر الشرع.

__________________

(١) أي لا يتجاوز حكمه ، تفسير القرطبي : ٧ / ٣٤٧ ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٧٧ وما بعدها

(٢) انظر القصة في تفسير القرطبي : ٧ / ٣٥٠ ـ ٣٥١.

٢٢٢

والخطاب وإن كان للرسول ، إلا أنه تعليم وتأديب عام لجميع الخلق. والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ينزغه الشيطان ـ والنزغ : كالابتداء في الوسوسة ـ والعلاج : الاستعاذة بالله كما دلت الآية الأولى ، وأما المتقون : فيتعرضون لما هو أزيد من النزغ ، وهو أن يمسهم طائف من الشيطان ، كما دلت آية : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا).

وقوله : (إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يدل على أن الاستعاذة باللسان لا تفيد إلا إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة ، فكأنه تعالى قال : اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك ، فإني سميع ، واستحضر معاني الاستعاذة بعقلك وقلبك ، فإني عليم بما في ضميرك.

ونظير هذه الآية : ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يأتي الشيطان أحدكم ، فيقول له : من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له : من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ، ولينته».

وأما إخوان الشّياطين : وهم شياطين الإنس أو الفجّار من ضلّال الإنس أو الكفّار والمشركون ، فتمدّهم الشّياطين في الغيّ والضّلال ، ويغوون النّاس ، فيكون ذلك إمدادا منهم لشياطين الجنّ على الإغواء والإضلال. فبين الفريقين تعاون على الضّلال والإثم. وسمّوا بإخوان الشّياطين ؛ لأنهم يقبلون منهم.

وهذا التّفسير جمع بين القولين في بيان المراد من إخوان الشياطين ، القول الأوّل وهو الأظهر عند الرّازي : أن شياطين الإنس يغوون الناس ، والقول الثاني وهو الأوجه عند الزّمخشري ؛ لأن إخوانهم في مقابلة الذين اتّقوا : وهو أن الشّياطين من الجنّ يكونون مددا لشياطين الإنس. والقولان مبنيان على أن لكل كافر أخا من الشّياطين (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٥ / ١٠٠.

٢٢٣

وعلى كل حال فإن العصاة تتمكّن الشّياطين من إغوائهم ، فيمدّونهم في غيّهم ويعضدونهم ، ولا يكفون عن ذلك ، فتراهم يستمرون في شرورهم وكفرهم وآثامهم.

وقد فسّرت الآية سابقا بالقول الثاني. والمراد من الإمداد : تقوية الوسوسة والإقامة عليها.

اتّباع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوحي الإلهي وخصائص القرآن

(وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣))

البلاغة :

(هذا بَصائِرُ) أي هذا القرآن بصائر ، تشبيه بليغ أي هذا كالبصائر ، حذفت أداة التّشبيه ووجه الشّبه ، وأصله : هذا بمنزلة بصائر القلوب.

المفردات اللغوية :

(وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ) أي وإذا لم تأت أهل مكة بآية مما اقترحوا أو بآية من القرآن. (قالُوا : لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) أي قالوا : هلا اخترعتها أو اختلقتها وأنشأتها من عندك ، أو هلا طلبتها من الله. (إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) أي إنما أنا متبع الوحي ، ولست بمختلق للآيات من عند نفسي ، أو لست بمقترح لها. (هذا بَصائِرُ) هذا القرآن بصائر للقلوب ، أي مبصّر لها ، بها يبصر الحق ، ويدرك الصواب ، وهو حجج مبيّنات.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى فيما سبق إغواء الشّياطين وإضلالهم ، بيّن في هذه الآية نوعا خاصّا من أنواع الإغواء والإضلال ، وهو أنّهم كانوا يطلبون آيات كونية

٢٢٤

معينة ، ومعجزات مخصوصة ، على سبيل التّعنّت ، كقوله تعالى حكاية عنهم : (وَقالُوا : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ ، فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً) الآيات [الإسراء ١٧ / ٩٠ ـ ٩١].

فإذا لم تأتهم بما طلبوا ، قالوا : هلا اختلقتها من عند نفسك ، جريا على اعتقادهم بأن القرآن من عند محمد : (وَقالُوا : ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) [سبأ ٣٤ / ٤٣].

التفسير والبيان :

وإذا لم تأت أيها الرّسول أهل مكة بآية مما اقترحوا حدوثه ، أو بآية من القرآن ، قالوا : هلا اختلقتها وتقولتها من تلقاء نفسك ، لزعمهم أن القرآن من عند محمد ، وأنه متمكن من الإتيان بالآيات الكونية والمعجزات المخصوصة ، أو هلا طلبتها من الله الذي يلبي لك حاجتك. فقل لهم يا محمد : إنما أنا متّبع وحي ربّي فقط ، ولست بمفتعل أو مختلق للآيات ، أو لست بمقترح لها ، ولست قادرا على إيجاد الآيات. ونظير ذلك قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ، قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا : ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ ، قُلْ : ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) [يونس ١٠ / ١٥].

ثم نبههم الحق تعالى إلى ما يحقق الهدف ، وأرشدهم إلى أن هذا القرآن أعظم المعجزات ، وكأنه قال لهم : ما لكم تطلبون شيئا لا يفيدكم؟ وإنما لديكم هذا القرآن الذي يشتمل على مبصرات للقلوب ، وحجج بيّنات ، وبراهين نيّرات ، ودلائل واضحات من الله على صدقي ، وأنه من عند الله ، بها يبصر الحق ، ويدرك الصّواب ، ويعود المؤمنون بها بصراء بعد العمى ، أو هو بمنزلة بصائر القلوب ، كما قال تعالى في موضع آخر : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ، فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ، وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) [الأنعام ٦ / ١٠٤].

٢٢٥

وهذا القرآن هدى للحيارى إلى طريق الاستقامة ، وهو أيضا رحمة في الدنيا والآخرة لمن يؤمن به ، كما قال تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ ، فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأنعام ٦ / ١٥٥] ، فمن آمن به وعمل بأحكامه ، فهو من المفلحين دون سواهم.

وهذه الخصائص الثلاث متفاوتة البيان بحسب أحوال طالبي المعارف ، فأعلاها الحق اليقين ، وثانيها منهج الاستقامة للمعتدلين ، وثالثها طريق الرّحمة العامة بالمؤمنين.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآية إلى ما يأتي :

١ ـ كان لأهل مكة مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مواقف تعنّت وتشدّد ، ومطالب شبه مستحيلة ، تهرّبا من الإيمان ، وإصرارا على الكفر ، وإمعانا في إيذاء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واتّهامه بأخطر أنواع الاتّهام ، وهو افتراء القرآن وتمكّنه من الإتيان بما شاؤوا من المعجزات وخوارق العادات.

٢ ـ تقتصر مهمّة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على اتّباع الوحي وامتثال ما أمر الله به ، فإن أظهر الله معجزة أو آية على يديه قبلها ، وإن منعها عنه لم يسأله إيّاها ، إلا أن يأذن له في ذلك ، فإنه حكيم عليم.

٣ ـ هذا القرآن أعظم المعجزات وأبين الدّلالات وأصدق الحجج والبيّنات ، فهو متّصف بخصائص ثلاث : مبصّر بالحقّ في دلالته على التّوحيد والنّبوة والمعاد وتنظيم الحياة بأحسن التّشريعات ، وهاد مرشد إلى طريق الاستقامة ، ورحمة في الدنيا والآخرة للمؤمنين به.

٢٢٦

الاستماع للقرآن وطريقة الذّكر

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦))

الإعراب :

(تَضَرُّعاً) منصوب على المصدر ، وقيل : هو في موضع الحال.

(وَالْآصالِ) جمع أصل ، وأصل : جمع أصيل ، وهو العشي.

المفردات اللغوية :

(فَاسْتَمِعُوا) الفرق بين السّمع والاستماع : أنّ الأول يحصل ولو بغير قصد ، والثاني لا يكون إلا بقصد ونيّة. (وَأَنْصِتُوا) الإنصات : هو السّكوت للاستماع ، من غير شاغل يشغل عن الإحاطة بكل ما يقرأ. (تَضَرُّعاً) تذلّلا وإظهارا للضّراعة ، أي الخضوع والضّعف. (وَخِيفَةً) خوفا وخشية من الله وعقابه. (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) أي التّوسّط في الذّكر دون الجهر برفع الصّوت ، وفوق السّر والتّخافت. (بِالْغُدُوِّ) جمع غدوة : وهي ما بين صلاة الغداة (الفجر) إلى طلوع الشّمس. (وَالْآصالِ) جمع أصيل : وهو العشي ما بعد العصر إلى غروب الشمس ، والمقصود : الذّكر أوائل النهار وأواخره ، أي في كل وقت. (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) أي الملائكة. (لا يَسْتَكْبِرُونَ) لا يتكبّرون عن عبادة الله. (وَيُسَبِّحُونَهُ) ينزّهونه عما لا يليق به. (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) أي يصلّون لله ويخصّونه بالخضوع والعبادة.

سبب النّزول :

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ) : أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن أبي هريرة قال : نزلت : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) في رفع الأصوات في الصّلاة خلف النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢٢٧

وأخرج أيضا عنه قال : كانوا يتكلّمون في الصّلاة ، فنزلت : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ) الآية.

وأخرج عن عبد الله بن مغفّل نحوه. وأخرج ابن جرير الطّبري عن ابن مسعود مثله.

وأخرج عن الزّهري قال : نزلت هذه الآية في فتى من الأنصار كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلما قرأ شيئا قرأه.

وقال سعيد بن منصور في سننه عن محمد بن كعب قال : كانوا يتلقّفون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قرأ شيئا قرءوا معه ، حتى نزلت هذه الآية التي في الأعراف : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا).

وعقب السيوطي على هذه الرّوايات فقال : ظاهر ذلك أن الآية مدنيّة.

يظهر من هذه الرّوايات أن الآية نزلت في الصّلاة ، وهو مروي عن ابن مسعود وأبي هريرة وجابر ، والزّهري وعبيد الله بن عمير ، وعطاء بن أبي رباح ، وسعيد بن المسيّب. قال سعيد : كان المشركون يأتون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا صلّى ، فيقول بعضهم لبعض بمكّة : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت ٤١ / ٢٦]. فأنزل الله جل وعز جوابا لهم : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا).

وقيل : إنها نزلت في الخطبة ، قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، وعمرو بن دينار ، وزيد بن أسلم ، والقاسم بن مخيمرة ، ومسلم بن يسار ، وشهر بن حوشب ، وعبد الله بن المبارك. قال ابن العربي : وهذا ضعيف ؛ لأن القرآن فيها قليل ، والإنصات يجب في جميعها.

٢٢٨

المناسبة :

لما ذكر الله تعالى أن القرآن بصائر للناس وآيات بيّنات للمؤمنين ، وهدى ورحمة لهم ، أمر تعالى بالإنصات عند تلاوته إعظاما له واحتراما ، وتوصّلا لنيل الرّحمة به ، والفوز بالمنافع الكثيرة التي يشتمل عليها ، لا كما كان يفعل كفار قريش في قولهم : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ).

التفسير والبيان :

إذا قرئ القرآن الكريم فأصغوا إليه أسماعكم ، لتفهموا آياته وتتعظوا بمواعظه ، وأنصتوا له عن الكلام مع السّكون والخشوع ، لتعقلوه وتتدبروه ، ولتتوصلوا بذلك إلى رحمة الله بسبب تفهّمه والاتّعاظ بمواعظه ، فإنه لا يفعل ذلك إلا المخلصون الذين استنارت قلوبهم بنور الإيمان.

والآية تدلّ على وجوب الاستماع والإنصات للقرآن ، سواء أكانت التّلاوة في الصلاة أم في خارجها ، وهي عامّة في جميع الأوضاع وكل الأحوال ، ويتأكّد ذلك في الصّلاة المكتوبة إذا جهر الإمام بالقراءة ، كما رواه مسلم في صحيحة من حديث أبي موسى الأشعري رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كبّر فكبّروا ، وإذا قرأ فأنصتوا» رواه أيضا أصحاب السّنن عن أبي هريرة.

وهذا هو المروي عن الحسن البصري ، لكن الجمهور خصّوا وجوب الاستماع والإنصات بقراءة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهده ، وبقراءة الصّلاة والخطبة من بعده يوم الجمعة ؛ لأن إيجاب الاستماع والإنصات في غير الصّلاة والخطبة فيه حرج عظيم ؛ إذ يقتضي ترك الأعمال.

وأما ترك الاستماع والإنصات للقرآن المتلو في المحافل ، فمكروه كراهة

٢٢٩

شديدة ، وعلى المؤمن أن يحرص على استماع القرآن عند قراءته ، كما يحرص على تلاوته والتّأدّب في مجلس التّلاوة.

وتستحب القراءة بالتّرتيل والنّغم الدّالة على التّأثّر والخشوع من غير تكلّف ولا تصنّع ولا تمطيط ولا تطويل في المدود ، فقد روى الشّيخان عن أبي هريرة مرفوعا : «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيّ حسن الصوت ، يتغنى بالقرآن».

وثواب الاستماع كثواب التّلاوة ، روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من استمع إلى آية من كتاب الله ، كتبت له حسنة مضاعفة ، ومن تلاها كانت له نورا يوم القيامة».

ثم أمر الله تعالى بذكره أول النّهار وآخره كثيرا ، كما أمر بعبادته في هذين الوقتين في قوله تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) [ق ٥٠ / ٣٩].

ومعنى الآية : اذكر ربك في نفسك سرّا ، بذكر أسمائه وصفاته وشكره واستغفاره ، اذكره بقلبك : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرّعد ١٣ / ٢٨] ، واذكره ضارعا متذلّلا خائفا راجيا ثوابه وفضله ، واذكره بلسانك ذكرا متوسّطا بين الإسرار والجهر : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ، وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) [الإسراء ١٧ / ١١٠] ، والخطاب قيل : للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل : لمستمع القرآن ، والأولى أن يكون عامّا.

وينبغي أن يكون ذكر اللسان مقرونا باستحضار القلب وملاحظة المعاني ، فذكر اللسان وحده لا نفع فيه ولا ثواب عليه ، فالواجب الجمع بين ذكر القلب وذكر اللسان ، وأن يكون الذّكر رغبة ورهبة.

وأنسب الأوقات للذّكر : وقت الصّباح والمساء وهو وقت الغدو والآصال ؛

٢٣٠

لأنّ بقية النهار للعمل وكسب الرّزق ، ولأنّ هذين الوقتين وقتا هجوع وسكون.

جاء في الصّحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي‌الله‌عنه قال : رفع الناس أصواتهم بالدّعاء في بعض الأسفار ، فقال لهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أيها الناس ، اربعوا على أنفسكم ، فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا ، إنّ الذي تدعونه سميع قريب ، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته».

(وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) تأكيد للأمر بالذّكر ، فهو نهي عن الغفلة عن ذكر الله ، والواجب جعل القلب على صلة دائمة مع الله ، وأن يشعر القلب الخضوع لله والخوف من قدرته وعظمته إذا غفل الإنسان عنه.

ثمّ أكّد الله تعالى الأمر والنّهي السّابقين بما يرغّب في الذّكر ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ ...) أي إنّ الملائكة المقرّبين من الله ، لا يتكبّرون عن عبادة الله ، وينزّهونه عن كلّ ما يليق بعظمته وكبريائه ، وله وحده يصلّون ويسجدون ، فلا يشركون معه أحدا.

وهذا تذكير بفعل الملائكة ، ليقتدى بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم ، لهذا شرع لنا السّجود هاهنا وفي بقية سجدات التّلاوة ، وهذه أول سجدة في القرآن فيشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع ، روى ابن ماجه عن أبي الدّرداء عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه عدّها في سجدات القرآن.

والآية ترشد إلى أن الأفضل إخفاء الذّكر ، روى أحمد وابن حبّان عن سعد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «خير الذّكر الخفي».

فقه الحياة أو الأحكام :

الأدب مع القرآن الكريم أمر مطلوب شرعا ، وتعظيم الله واجب عقلا

٢٣١

وشرعا ، وذكر الله تعالى همزة وصل القلب والنفس مع الله ، وشأن الملائكة دوام العبادة والتّسبيح (تنزيه الله عما لا يليق).

والصّحيح وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في كل الأحوال وعلى جميع الأوضاع في الصّلاة وغيرها.

لكن اختلف العلماء على آراء ثلاثة في قراءة المأموم خلف الإمام ، هل يسقط عنهم فرض القراءة في الصلاة الجهريّة والسّريّة ، أو يجب ، وهل الوجوب خاص في السّريّة دون الجهريّة؟

١ ـ الحنفيّة : رأوا أن المأموم لا يقرأ خلف الإمام مطلقا ، جهرا كان يقرأ أو سرّا ؛ لظاهر هذه الآية ، فإن الله طلب الاستماع والإنصات ، وفي الجهريّة يتحقّق الأمران معا ، وفي السّريّة يتحقق الإنصات ؛ لأنه الممكن ؛ لأن الإمام يقرأ ، فعليه التزام الصّمت. ويؤيّده

ما أخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كبّر فكبّروا ، وإذا قرأ فأنصتوا» ورواه مسلم عن أبي موسى كما تقدّم ، وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن جابر أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من كان له إمام ، فقراءته له قراءة» وهذا الحديث وإن كان مرسلا فإنه يحتج به عند الحنفيّة ، وقد رواه أبو حنيفة مرفوعا بسند صحيح.

وهو مذهب كثير من الصحابة : علي ، وابن مسعود ، وسعد ، وجابر ، وابن عباس ، وأبي الدّرداء ، وأبي سعيد الخدري ، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وأنس رضي‌الله‌عنهم.

٢ ـ المالكية والحنابلة : رأوا أن المأموم يقرأ خلف الإمام إذا أسرّ ، ولا يقرأ إذا جهر ، وهو قول عروة بن الزّبير ، والقاسم بن محمد ، والزّهري.

٢٣٢

ودليلهم حديثان : الأول ـ ما رواه مالك وأبو داود والنّسائي عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة ، فقال : هل قرأ أحد منكم آنفا؟ فقال رجل : نعم يا رسول الله ، فقال : «إني أقول ما لي أنازع القرآن؟!» فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما جهر فيه من الصّلوات بالقراءة ، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والثاني ـ ما روى مسلم عن عمران بن حصين قال : صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنا صلاة الظهر أو العصر ، فقال : «وأيّكم قرأ خلفي بسبّح اسم ربك الأعلى؟» فقال رجل : أنا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد علمت أن بعضكم خالجنيها».

وروي عن عبادة بن الصّامت قال : صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصبح ، فثقلت عليه القراءة ، فلما انصرف ، قال : «إنّي لأراكم تقرؤون وراء إمامكم؟» ، قال : قلنا : يا رسول الله ، أي والله ، قال : «فلا تفعلوا إلا بأمّ القرآن».

لكن يلاحظ أن هذين الحديثين يدلان على مذهب الشّافعية ، لا على مذهبي المالكية والحنابلة.

٣ ـ الشّافعية : يقرأ المصلّي بفاتحة الكتاب مطلقا ، سواء كان إماما أو مأموما أو منفردا ، في صلاة جهريّة أو سريّة. واستدلّوا بالحديثين السّابقين كما لاحظنا ، وبقوله تعالى: (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل ٧٣ / ٢٠] ، وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فيما رواه الجماعة : أحمد وأصحاب الكتب الستّة عن عبادة بن الصامت : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب». وهذا ما اختاره البخاري والبيهقي.

ودلّت آية : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ ...) على أن رفع الصّوت بالذّكر ممنوع.

وأرشدت آية : (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) على طلب السّجود ممن قرأ هذه الآية أو سمعها ، وقد شرع سجود التّلاوة إرغاما لمن أبى السّجود من المشركين ، واقتداء

٢٣٣

بالملائكة المقرّبين. روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا قرأ ابن آدم السّجدة ، فسجد ، اعتزل الشّيطان يبكي ، يقول : يا ويله ، أمر ابن آدم بالسّجود فسجد ، فله الجنّة ، وأمرت بالسّجود ، فأبيت فلي النّار».

وإذا سجد يقول في سجوده كما كان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول فيما رواه ابن ماجه عن ابن عباس : «اللهم احطط عني بها وزرا ، واكتب لي بها أجرا ، واجعلها لي عندك ذخرا» ، وفي رواية : «اللهم لك سجد سوادي ، وبك آمن فؤادي ، اللهم ارزقني علما ينفعني ، وعملا يرفعني».

واختلف العلماء في وجوب سجود التّلاوة ، فقال مالك والشّافعي وأحمد : ليس بواجب ؛ لحديث عمر الثابت في صحيح البخاري : أنه قرأ آية سجدة المنبر ، فنزل فسجد وسجد الناس معه ، ثم قرأها في الجمعة الأخرى ، فتهيأ الناس للسّجود ، فقال : «أيها الناس على رسلكم! إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء» وذلك بمحضر الصحابة من الأنصار والمهاجرين رضي‌الله‌عنهم.

ومواظبة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تدلّ على الاستحباب. وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أمر ابن آدم بالسّجود» فإخبار عن السّجود الواجب.

وقال أبو حنيفة : سجود التلاوة واجب ؛ لأن مطلق الأمر بالسّجود يدل على الوجوب ، ولقوله عليه الصّلاة والسّلام : «إذا قرأ ابن آدم سجدة ، اعتزل الشيطان يبكي ، يقول : يا ويله» وفي رواية أبي كريب : «يا ويلي» ، وقوله عليه الصّلاة والسّلام أيضا إخبارا عن إبليس فيما رواه مسلم : «أمر ابن آدم بالسّجود فسجد ، فله الجنة ، وأمرت بالسّجود فأبيت فلي النّار».

ولا خلاف في أنّ سجود القرآن يحتاج إلى ما تحتاج إليه الصّلاة من طهارة حدث ونجس ونيّة واستقبال قبلة ووقت.

٢٣٤

أما الوقت فقيل : يسجد في سائر الأوقات مطلقا ؛ لأنها صلاة لسبب ، وهو مذهب الشافعي والجماعة. وقيل : يسجد في غير الأوقات المكروه فيها صلاة النافلة مثل ما بعد الصّبح وما بعد العصر ، وهو مذهب الحنفية ، وفي رأي عند المالكية. وسبب الخلاف : معارضة سبب قراءة السّجدة من السّجود المرتب عليها لعموم النّهي عن الصّلاة بعد العصر وبعد الصبح ، واختلافهم في المعنى الذي لأجله نهي عن الصّلاة في هذين الوقتين.

وهل يحتاج السّاجد إلى تحريم ورفع يدين وتكبير وتسليم؟ اختلف الفقهاء في ذلك ، فذهب الشّافعي وأحمد وإسحاق إلى أنه يكبّر ويرفع للتّكبير لها أي لسجدة التّلاوة ، وروي في الأثر عن ابن عمر أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا سجد كبّر ، وكذلك إذا رفع كبّر.

ومشهور مذهب مالك أنه يكبّر لها في الخفض والرّفع في الصّلاة ، واختلف المنقول عنه في التّكبير لها في غير الصّلاة.

وقال الجمهور : ولا سلام لها ، وقال الشّافعية : لها سلام ، وهذا كما قال ابن العربي أولى ، لقوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن علي : «مفتاح الصّلاة الطّهور ، وتحريمها التّكبير ، وتحليلها التّسليم» ، وهذه عبادة لها تكبير ، فكان لها تحليل كصلاة الجنازة بل أولى ؛ لأنها فعل ، وصلاة الجنازة قول.

فإن قرأ شخص السّجدة في صلاة ، فإن كان في نافلة سجد ، وإن كان في الفريضة لم يسجد في المشهور عن مالك ؛ لكونها زيادة في أعداد سجود الفريضة ، وخوفا من التّخليط على الجماعة.

٢٣٥

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأنفال

مدنية وهي خمس وسبعون آية.

سورة الأنفال :

سورة مدنيّة تتحدّث عن أحكام تشريع الجهاد في سبيل الله ، وقواعد القتال ، والإعداد له ، وإيثار السّلم على الحرب إذا جنح لها العدوّ في دياره ، وآثار الحرب في الأشخاص (الأسرى) والأموال (الغنائم).

وسبب تسميتها بالأنفال واضح ، لسؤال الناس عن أحكامها ، والمراد بها الغنائم الحربية ، فقد ابتدئت السورة بقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ).

وقد نزلت عقب غزوة بدر الكبرى ، أول الغزوات المجيدة التي حقّقت النصر للمسلمين مع قلّتهم على المشركين مع كثرتهم ، لذا سمّيت (يوم الفرقان) لأنها فرقت بين الحقّ والباطل.

ومناسبتها لسورة الأعراف :

أنها في بيان حال الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع قومه ، وسورة الأعراف مبيّنة لأحوال أشهر الرّسل مع أقوامهم.

ما اشتملت عليه هذه السّورة :

تضمّنت سورة الأنفال أحكاما عديدة في الجهاد والغزوات ، أهمّها ما يأتي :

٢٣٦

١ ـ أمر قسمة الغنائم متروك للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأحكام مرجعها إلى الله تعالى ورسوله لا إلى غيرهما.

٢ ـ إرادة تحقيق النّصر الإلهي للمؤمنين في معركة بدر ، لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، وبيان علّة ذلك الحكم في قوله تعالى : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ، وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ).

٣ ـ الإمداد الفعلي بالملائكة للمؤمنين يقاتلون معهم : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ...).

ويفهم من هذين الحكمين أن أحكام الله معللة بمراعاة مصالح الناس.

٤ ـ النّصر الحقيقي من عند الله تعالى : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ).

٥ ـ تعليم المؤمنين قواعد القتال الحربية ، وخطابهم لترسيخ المعلومات ستّ مرات بوصف الإيمان : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في بداية الأمر بكل قاعدة أثناء سرد أحداث بدر ، وهي تحريم الفرار من المعركة ، وطاعة الله والرّسول ، والاستجابة لله وللرسول إذا دعا إلى ما فيه عزّة الحياة والسعادة ، وتحريم الخيانة بنقل أسرار الأمة للأعداء ، والأمر بالتقوى التي هي أساس الخير كله ، والثبات أمام الأعداء ، والصبر عند اللقاء ، وذكر الله كثيرا. ومن تلك القواعد كراهة مجادلة الرّسول في الحقّ بعد ما تبيّن ، أما قبل تبيّن الحق في المصلحة الحربية فالمجادلة محمودة ، إذ بها تتمّ المشاورة المطلوبة في القرآن بين المؤمنين ومع الرّسول. ومن القواعد الحربية الامتناع من التنازع والاختلاف حال القتال : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ).

٢٣٧

٦ ـ عصمة الرّسول بالهجرة من أذى قريش وتآمرهم على حبسه أو نفيه أو قتله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...).

٧ ـ رفع البلاء العام عن الناس قاطبة ما دام الرّسول فيهم : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ).

٨ ـ التّوكّل على الله بعد اتّخاذ الأسباب المطلوبة في كلّ شيء ، وبخاصة الإعداد للقتال.

٩ ـ الظّلم مؤذن بالخراب ، ومعجّل بالفناء ، ويعمّ أثره الأمّة كلها : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً).

١٠ ـ إن تغيّر أحوال الأمم من الذّل إلى العزّة ، ومن الضّعف إلى القوّة ، منوط بتغيير ما في النّفوس من عقائد فاسدة وأخلاق مرذولة.

١١ ـ الافتتان بالأموال والأولاد مدعاة للفساد : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ).

١٢ ـ إعداد مختلف القوى الماديّة والمعنويّة لقتال الأعداء : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ).

١٣ ـ إيثار السّلم على الحرب إذا مال لها العدوّ : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها).

١٤ ـ وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق ، حتى ولو مسّ ذلك مصلحة بعض المسلمين: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ).

١٥ ـ وجوب تأديب ناقضي العهد ومعاملتهم بالشّدّة : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ، لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ).

٢٣٨

١٦ ـ غاية القتال في الإسلام صون حريّة الدّين ومنع الفتنة في الدّين : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ).

١٧ ـ المسلمون أمّة واحدة والولاية والتّناصر بينهم واجب ، والكافرون أمّة واحدة ، ولا ولاية بين المؤمنين والكافرين : (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ).

السّور المكيّة والمدنيّة :

سبق في مقدّمة الجزء الأول بيان خواص السّور المكيّة والمدنيّة ، وللتّذكير بتلك الخواص بمناسبة تفسير نماذج من النّوعين أشير إلى بعض هذه الخواص ، علما بأن سورا ثلاثا مما ذكر مكيّة وهي : (الفاتحة والأنعام والأعراف) وأربعا هي مدنيّة وهي : (البقرة وآل عمران والنساء والمائدة) وكذا سورة الأنفال مدنيّة إلا الآيات (٣٠ ـ ٣٦) فمكيّة.

أما السّور المكيّة :

فموضوعاتها العقيدة والأخلاق ، ببيان أصول الإيمان من إثبات التّوحيد والنّبوة والبعث ، وقصص الرّسل مع أقوامهم في هذا المضمار ، وتقرير أصول الآداب والأخلاق ، ومحاجّة المشركين ودعوتهم إلى الإيمان بتلك الأصول.

وأما السّور المدنيّة :

فتعنى ببيان أحكام التّشريع المفصّلة ، ومحاجّة أهل الكتاب بسبب الانحراف عن هداية كتبهم ، ففي سورة البقرة محاجة اليهود ، وفي سورة آل عمران محاجّة النّصارى ، وفي سورة المائدة محاجّة الفريقين ، وفي سورتي النّساء والتوبة مجادلة المنافقين وأحكامهم ، بعد إعلان البراءة من المشركين في سورة التوبة.

وأمّا سورة الأنفال :

فهي تنظيم لقواعد السّلم والحرب بالنّسبة للمسلمين ،

٢٣٩

وسرد أحداث معركة بدر الكبرى ، ثمّ بيان إحباط مكائد المشركين ومؤامراتهم على قتل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو حبسه أو إخراجه من مكّة.

السؤال عن حكم قسمة الغنائم وبيان أوصاف المؤمنين

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤))

الإعراب :

(ذاتَ بَيْنِكُمْ) ذات : مفعول به ، وهو مضاف ، وبينكم : مضاف إليه ، وأصل ذات : ذوية ، فحذفوا اللام التي هي الياء ، كما حذفت من المذكر في «ذو» فإن أصله : ذو ، فلما حذفت الياء من ذوية ، فتحركت الواو ، وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفا ، فصار ذات. والوقف عليها بالتاء عند أكثر العلماء والقراء.

البلاغة :

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) ذكر الاسم الجليل في هذا وفي قوله (فَاتَّقُوا اللهَ) لتربية المهابة وتعليل الحكم.

(أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) الإشارة بالبعيد لعلو رتبتهم وشرف منزلتهم.

(حَقًّا) صفة لمصدر محذوف تقديره : أولئك هم المؤمنون إيمانا حقا ، أو هو مصدر مؤكد لجملة التي هي : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ).

(لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الدرجات مستعارة لمراتب الجنة ومنازلها العالية.

٢٤٠